الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا ذُكر الْقَضَاءُ فأمسِكوا» (1) وَلَكِنْ عَلَى الْمُسْلِمِ النَّظَرُ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ وَحْيٍ وَبَعَثَ مِنْ رُسُلٍ.
وَأَهَمُّ مَا فِي الْأَمْرِ هُوَ جَرْيُ الْأُمُورِ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ وَقَدْ جَاءَ مَوْقِفٌ عَمَلِيٌّ فِي قِصَّةِ بَدْرٍ، يُوَضِّحُ حَقِيقَةَ الْقَدَرِ وَيُظْهِرُ غَايَةَ الْعِبَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِى الأَمْرِ وَلكن اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
فَهُوَ تَعَالَى الَّذِي سَلَّمَ مِنْ مُوجِبَاتِ التَّنَازُعِ وَالْفَشَلِ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ بِذَاتِ الصُّدُورِ.
ثُمَّ قَالَ: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِىَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} ، فَقَدْ أَجْرَى الْأَسْبَابَ عَلَى مُقْتَضَى إِرَادَتِهِ فَقَلَّلَ كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي أَعْيُنِ الْآخَرِ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ مَفْعُولًا، ثُمَّ بَيَّنَ الْمُنْتَهَى، {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} ، وَالْعلم عِنْد الله تَعَالَى.] (2) .
-
الرَّد على مَذْهَب الجبرية، وَتَقْرِير مَذْهَب السّلف
.
[مُرَادَ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِمْ {لَوْ شَآءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} وَقَوْلِهِمْ {لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا} مُرَادَهُمْ بِهِ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى مَنْعِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَهِدَايَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنَ الشِّرْكِ. دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنه رَاض مِنْهُم
(1) - رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ (10/198)(10448) ، والْحَارث فِي "مُسْنده"(2/748 - بغية)(1427) من حَدِيث ابْن مَسْعُود بِلَفْظ " إِذا ذكر الْقدر فامسكوا " وَحسنه الْحَافِظ فِي الْفَتْح (11/477) وَله شَوَاهِد عَن ثَوْبَان وَغَيره، والْحَدِيث صَححهُ الشَّيْخ الألباني رحمه الله وَانْظُر الصَّحِيحَة (34) .
(2)
- 8/332: 337، التغابن / 2:4.
بِالشِّرْكِ فِي زَعْمِهِمْ.
قَالُوا لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِهِ، لَصَرَفَنَا عَنْهُ، فَتَكْذِيبُ اللَّهِ لَهُم فِي الْآيَات الْمَذْكُورَة فنصب عَلَى دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ رَاضٍ بِهِ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا يُكَذِّبُ هَذِهِ الدَّعْوَى فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ وَفِي قَوْلِهِ {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} .
فَالْكُفَّارُ زَعَمُوا أَنَّ الْإِرَادَةَ الْكَوْنِيَّةَ الْقَدَرِيَّةَ، تَسْتَلْزِمُ الرِّضَى وَهُوَ زَعْمٌ بَاطِلٌ، وَهُوَ الَّذِي كَذَّبَهُمُ اللَّهُ فِيهِ من الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ.
وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، حَيْثُ قَالَ فِي آيَةِ الزُّخْرُفِ:{أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} أَيْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّا رضوَان مِنْهُمْ بِذَلِكَ الْكُفْرِ، ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ هَذَا إِضْرَابَ إِبْطَالٍ مُبَيِّنًا أَنَّ مُسْتَنَدَهُمْ فِي تِلْكَ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ هُوَ تَقْلِيدُ آبَائِهِمُ التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ {بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} أَيْ شَرِيعَةٍ وَمِلَّةٍ وَهِيَ الْكُفْرُ وَعِبَادَةُ الْأَوْثَانِ {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} .
فَقَوله عَنْهُم مهتدون هُوَ مَصَبُّ التَّكْذِيبِ، لِأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا يَرْضَى بِالِاهْتِدَاءِ لَا بِالضَّلَالِ.
فَالِاهْتِدَاءُ الْمَزْعُومُ أَسَاسُهُ تَقْلِيدُ الْآبَاءِ الْأَعْمَى، وَسَيَأْتِي إِيضَاحُ رَدِّهِ عَلَيْهِمْ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةِ النَّحْلِ بَعْدَ ذِكْرِهِ دَعْوَاهُمُ الْمَذْكُورَةَ: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} .
فَأَوْضَحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِكُفْرِهِمْ، وَأَنَّهُ بَعَثَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا، وَأَمَرَهُمْ عَلَى لِسَانِهِ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَيَجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ أَيْ يَتَبَاعَدُوا عَنْ عِبَادَةِ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ.
وَأَنَّ اللَّهَ هَدَى بَعْضَهُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَأَنْ بَعْضَهُمْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ
أَيْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ وَالشَّقَاءُ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} .
فَمِلْكُهُ تَعَالَى وَحْدَهُ لِلتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ، هُوَ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَى خَلْقِهِ، يَعْنِي فَمَنْ هَدَيْنَاهُ وَتَفَضَّلْنَا عَلَيْهِ بِالتَّوْفِيقِ، فَهُوَ فَضْلٌ مِنَّا وَرَحْمَةٌ.
وَمَنْ لَمْ نَفْعَلْ لَهُ ذَلِكَ فَهُوَ عَدْلٌ مِنَّا وَحِكْمَةٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْنَا وَلَا وَاجِبًا مُسْتَحَقًّا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْنَا، بَلْ إِنْ أَعْطَيْنَا ذَلِكَ فَفَضْلٌ، وَإِنْ لَمْ نُعْطِهِ فَعَدْلٌ.
وَحَاصِلُ هَذَا: أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ، قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ، وَعَلِمَ أَنَّ قَوْمًا صَائِرُونَ إِلَى الشَّقَاءِ وَقَوْمًا صَائِرُونَ إِلَى السَّعَادَةِ، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ.
وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَى الْجَمِيعِ، بِبَعْثِ الرُّسُلِ وَتَأْيِيدِهِمْ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي لَا تَتْرُكُ فِي الْحَقِّ لَبْسًا فَقَامَتْ عَلَيْهِمْ حُجَّةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ بِذَلِكَ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَفَّقَ مَنْ شَاءَ تَوْفِيقَهُ، وَلَمْ يُوَفِّقْ مَنْ سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِ الشَّقَاءُ الْأَزَلِيُّ، وَخَلَقَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قُدْرَةً وَإِرَادَةً يَقْدِرُ بِهَا عَلَى تَحْصِيلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَصَرَفَ قدرهم وَإِرَادَاتِهِمْ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ إِلَى مَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِ، مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ الْمُسْتَوْجِبَةِ لِلسَّعَادَةِ وَأَعْمَالِ الشَّرِّ الْمُسْتَوْجِبَةِ لِلشَّقَاءِ.
فَأَتَوْا كُلَّ مَا أَتَوْا وَفَعَلُوا كُلَّ مَا فَعَلُوا، طَائِعِينَ مُخْتَارِينَ، غَيْرَ مَجْبُورِينَ، وَلَا مَقْهُورِينَ {وَمَا تَشَآءُونَ إِلَاّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} . {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} .
وَادِّعَاءُ أَنَّ الْعَبْدَ مَجْبُورٌ لَا إِرَادَةَ لَهُ ضَرُورِيُّ السُّقُوطِ عِنْدَ عَامَّة الْعُقَلَاء.
وَمن أعظم الضرويات الدَّالَّةِ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ بَين الْحَرَكَة
الِاخْتِيَارِيَّةِ وَالْحَرَكَةِ الِاضْطِرَارِيَّةِ، كَحَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ فَرْقًا ضَرْورِيًا، لَا يُنْكِرُهُ عَاقِلٌ.
وَأَنَّكَ لَوْ ضَرَبْتَ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ الْخَلْقَ مَجْبُورُونَ، وَفَقَأَتْ عَيْنَهُ مَثَلًا، وَقَتَلْتَ وَلَدَهُ وَاعْتَذَرْتَ لَهُ بِالْجَبْرِ، فَقُلْتَ لَهُ: أَنَا مَجْبُورٌ وَلَا إِرَادَةَ لِي فِي هَذَا السُّوءِ الَّذِي فَعَلْتُهُ بِكَ، بَلْ هُوَ فِعْلُ اللَّهِ، وَأَنَا لَا دَخْلَ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْكَ هَذِهِ الدَّعْوَى بِلَا شَكٍّ.
بَلْ يُبَالِغُ فِي إِرَادَةِ الِانْتِقَامِ مِنْكَ قَائِلًا: إِنَّ هَذَا بِإِرَادَتِكَ وَمَشِيئَتِكَ.
وَمِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَقِلُّ بِأَفْعَالِهِ دُونَ قُدْرَةِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ، أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يُنْكِرَ عِلْمَ اللَّهِ بِكُلِّ شَيْءٍ، قَبْلَ وُقُوعِهِ وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا لَا يُنْكِرُهَا إِلَّا مُكَابِرٌ.
وَسَبْقُ عِلْمِ اللَّهِ بِمَا يَقَعُ مِنَ الْعَبْدِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى بُطْلَانِ تِلْكَ الدَّعْوَى.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ لِلْقَدَرِيِّ: إِذَا كَانَ عِلْمُ اللَّهِ فِي سَابِقِ أَزَلِهِ تَعَلَّقَ بِأَنَّكَ تَقَعُ مِنْكَ السَّرِقَةُ أَوِ الزِّنَا فِي مَحَلِّ كَذَا فِي وَقْتِ كَذَا، وَأَرَدْتَ أَنْتَ بِإِرَادَتِكَ الْمُسْتَقِلَّةِ فِي زَعْمِكَ دُونَ إِرَادَةِ اللَّهِ أَلَّا تَفْعَلَ تِلْكَ السَّرِقَةَ أَوِ الزِّنَا الَّذِي سَبَقَ بِعِلْمِ اللَّهِ وُقُوعُهُ، فَهَلْ يُمْكِنُكَ أَنْ تَسْتَقِلَّ بِذَلِكَ؟ وتُصيِّر عِلْمَ اللَّهِ جَهْلًا، بِحَيْثُ لَا يَقَعُ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وُقُوعُهُ فِي وَقْتِهِ الْمُحَدِّدِ لَهُ؟
وَالْجَوَابُ بِلَا شَكٍّ: هُوَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلَاّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} .
وَلَا إِشْكَالَ أَلْبَتَّةَ فِي أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ لِلْعَبْدِ قُدْرَةً وَإِرَادَةً يَقْدِرُ بِهَا عَلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، ثُمَّ يَصْرِفُ اللَّهُ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ قُدْرَةَ الْعَبْدِ وَإِرَادَتَهُ إِلَى مَا سَبَقَ بِهِ
عِلْمُهُ فَيَأْتِيهِ الْعَبْدُ طَائِعًا مُخَتَارًا غَيْرَ مَقْهُورٍ وَلَا يجور، وَغَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِهِ دُونَ قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمَا تَشَآءُونَ إِلَاّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ} .
وَالْمُنَاظَرَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا بَعْضُهُمْ، بَيْنَ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ الْمُعْتَزِلِيِّ تُوَضِّحُ هَذَا.
وَهِيَ أَنَّ عَبْدَ الْجَبَّارِ قَالَ: سُبْحَانَ مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الْفَحْشَاءِ يَعْنِي أَنَّ السَّرِقَةَ وَالزِّنَا لَيْسَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ فِي زَعْمِهِ أَنْزَهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرَّذَائِلُ بِمَشِيئَتِهِ.
فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ.
ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَ مَنْ لَمْ يَقَعْ فِي مُلْكِهِ إِلَّا مَا يَشَاءُ.
فَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ: أَتَرَاهُ يَشَاؤُهُ وَيُعَاقِبُنِي عَلَيْهِ.
فَقَالَ أَبُو إِسْحَاق: أتراك تَفْعَلهُ جبرا عَلَيْهِ، أَأَنْت الرَّبُّ وَهُوَ الْعَبْدُ؟
فَقَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَانِي إِلَى الْهُدَى، وَقَضَى عَلَيَّ بِالرَّدِيءِ، دَعَانِي وَسَدَّ الْبَابَ دُونِي؟ أَتَرَاهُ أَحْسَنَ أَمْ أَسَاءَ؟
فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: أَرَى أَنَّ هَذَا الَّذِي مَنَعَكَ إِنْ كَانَ حَقًّا وَاجِبًا لَكَ عَلَيْهِ فَقَدْ ظَلَمَكَ وَقَدْ أَسَاءَ، سبحانه وتعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَإِنْ كَانَ مِلْكُهُ الْمَحْضُ فَإِنْ أَعْطَاكَ فَفَضْلٌ، وَإِنْ مَنْعَكَ فَعَدْلٌ، فَبُهِتَ عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَقَالَ الْحَاضِرُونَ: وَاللَّهِ مَا لِهَذَا جَوَابٌ.
وَمَضْمُونُ جَوَابِ أَبِي إِسْحَاقَ هَذَا الَّذِي أَفْحَمَ بِهِ عَبْدَ الْجَبَّارِ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} .
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَشَكَا إِلَيْهِ أَنَّ دَابَّتَهُ سُرِقَتْ وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ لِيَرُدَّهَا إِلَيْهِ.
فَقَالَ عَمْرٌو مَا مَعْنَاهُ: اللَّهُمَّ إِنَّهَا سُرِقَتْ وَلَمْ تُرِدْ سَرِقَتَهَا، لِأَنَّكَ أَنْزَهُ
وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ تُدَبِّرَ هَذَا الْخَنَا.
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: نَاشَدْتُكَ اللَّهَ يَا هَذَا، إِلَّا مَا كَفَفْتَ عَنِّي مِنْ دُعَائِكَ هَذَا الْخَبِيثِ، إِنْ كَانَتْ سُرِقَتْ وَلَمْ يُرِدْ سَرِقَتَهَا فَقَدْ يُرِيدُ رَدَّهَا وَلَا تُرَدُّ، وَلَا ثِقَةَ لِي بِرَبٍّ، يَقَعُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يَشَاؤُهُ فَأَلْقَمَهُ حجرا.] (1) .
- الرَّد على مَذْهَب الْقَدَرِيَّة (نفاة الْقدر) .
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا} بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْهُدَى وَالْإِضْلَالَ بِيَدِهِ وَحْدَهُ جَلَّ وَعَلَا، فَمَنْ هَدَاهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ أَضَلَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} ، وَقَوْلِهِ:{مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِى وَمَن يُضْلِلْ فَأولئك هُمُ الْخَاسِرُونَ} ، وَقَوْلِهِ:{إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكن اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ} ، وَقَوْلِهِ:{وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} ، وَقَوْلِهِ:{إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَآءِ} وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالِهَا فِي الْقُرْآنِ بُطْلَانُ مَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ: أَنَّ الْعَبْدَ مُسْتَقِلٌّ بِعَمَلِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَشِيئَة الله بل بِمَشِيئَة
(1) - 7/220: 226، الزخرف / 20. وَانْظُر أَيْضا (6/300) (الْفرْقَان/17، 18) ، (7/302: 304) (الزخرف /81) ،
…
(9/635 - 636)(الفلق / 2) .