الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جَوَابا فَإِنَّكُم مسؤولون مُحَاسَبُونَ، يَا مَلَائِكَتِي، أَقِيمُوا عِبَادِي صُفُوفًا عَلَى أَطْرَافِ أَنَامِلِ أَقْدَامِهِمْ لِلْحِسَابِ» (1) . قُلْتُ: هَذَا الْحَدِيثُ غَايَةٌ فِي الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَدْ كَتَبْنَاهُ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ وَمِنْهُ نَقَلْنَاهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ. وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ «صَفًّا» فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُرَادُ بِهِ صُفُوفًا. كَقَوْلِهِ فِي الْمَلَائِكَةِ:{وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} . وَنَظِيرُ الْآيَةِ قَوْلُهُ فِي الْمَلَائِكَةِ: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَاّ يَتَكَلَّمُونَ إِلَاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} .
فَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَالًا مِنْ أَحْوَالِ عَرْضِ الْخَلَائِقِ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَشْيَاءَ أُخَرَ مِنْ أَحْوَالِ عَرْضِهِمْ عَلَيْهِ. كَقَوْلِهِ: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} . وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مَا يُلَاقِيهِ الْكُفَّارُ، وَمَا يُقَالُ لَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ الْعَرْضِ عَلَى رَبِّهِمْ. كَقَوْلِهِ:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} .] (2) .
-
مَا جَاءَ فِي تطاير الصُّحُف
.
[قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
(1) - لم أَقف عَليّ إِسْنَاده لانظر فِيهِ، وَكتاب التَّوْحِيد لِابْنِ مَنْدَه لَا تطوله يَدي الْآن، وَقد علمت أَنه من مطبوعات مكتبة الْعُلُوم وَالْحكم بتحقيق د. /عَليّ الفقيهي، وَعزا المتقي الْهِنْدِيّ هَذَا الحَدِيث للديلمي فِي مُسْند الفردوس من حَدِيث معَاذ رضي الله عنه، وَقَالَ الشَّيْخ مجدي السَّيِّد فِي تَحْقِيق التَّذْكِرَة: حَدِيث ضَعِيف، قَالَ ابْن السُّبْكِيّ: لم أجد لَهُ إِسْنَادًا.
(2)
- 4/123 - 124، الْكَهْف / 48.
كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} .
فِي قَوْلِهِ جلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ} وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّائِرِ: الْعَمَلُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: طَارَ لَهُ سَهْمٌ إِذَا خَرَجَ لَهُ، أَيْ أَلْزَمْنَاهُ مَا طَارَ لَهُ مِنْ عَمَلِهِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّائِرِ مَا سَبَقَ لَهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْ شَقَاوَةٍ أَوْ سَعَادَةٍ، وَالْقَوْلَانِ مُتَلَازِمَانِ؛ لِأَنَّ مَا يَطِيرُ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ هُوَ سَبَبُ مَا يؤول إِلَيْهِ مِنَ الشَّقَاوَةِ أَوِ السَّعَادَةِ.
فَإِذَا عَرَفْتَ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَاعْلَمْ أَنَّا قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ الْآيَةَ قَدْ يَكُونُ
فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ أَوْ أَقْوَالٌ، وَكُلُّهَا حَقٌّ، وَيَشْهَدُ لَهُ قُرْآنُ فَنَذْكُرُ جَمِيعَ الْأَقْوَالِ وَأَدِلَّتَهَا مِنَ الْقُرْآنِ، لِأَنَّهَا
كُلَّهَا حَقٌّ، وَالْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ كِلَاهُمَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآن.
أما على القَوْل الأول بِأم الْمُرَادَ بِطَائِرِهِ عَمَلُهُ فَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ عَمَلَ الْإِنْسَانِ لَازِمٌ لَهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} ، وَقَوْلِهِ {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{ياأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} ، وَقَوْلِهِ:{مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا} ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {فِى عُنُقِهِ} أَيْ جَعَلْنَا عَمَلَهُ أَوْ مَا سَبَقَ لَهُ مِنْ شَقَاوَةٍ فِي عُنُقِهِ، أَيْ لَازِمًا لَهُ لُزُومَ الْقِلَادَةِ أَوِ الْغِلِّ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: تَقَلَّدَهَا طَوْقَ الْحَمَامَةِ. وَقَوْلُهُمْ: الْمَوْتُ فِي الرِّقَابِ. وَهَذَا الْأَمْرُ رِبْقَةٌ فِي رَقَبَتِهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
اذْهَبْ بِهَا اذْهَبْ بِهَا
…
طَوَّقْتَهَا طَوْقَ الْحَمَامَةِ
فَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ: اللُّزُومُ وَعَدَمُ الِانْفِكَاكِ.
وَقَوْلُهُ جلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} ذَكَرَ جلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ الَّذِي أَلْزَمَ الْإِنْسَانَ إِيَّاهُ يُخرجهُ لَهُ يَوْم الْقِيَامَة مَكْتُوبًا فِي كِتَابٍ يَلْقَاهُ مَنْشُورًا، أَيْ مَفْتُوحًا يَقْرَؤُهُ هُوَ وَغَيْرُهُ.
وَبَيَّنَ أَشْيَاءَ مِنْ صِفَاتِ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي يَلْقَاهُ مَنْشُورًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ، فَبَيَّنَ أَنَّ مِنْ صِفَاتِهِ: أَنَّ الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقُونَ أَيْ خَائِفُونَ مِمَّا فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا يَتْرُكُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا، وَأَنَّهُمْ يَجِدُونَ فِيهِ جَمِيعَ مَا عَمِلُوا حَاضِرًا لَيْسَ مِنْهُ شَيْءٌ غَائِبًا، وَأَنَّ اللَّهَ جلَّ وَعَلَا لَا يَظْلِمُهُمْ فِي الْجَزَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ جلَّ وَعَلَا:{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياوَيْلَتَنَا مَا لِهذا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} .
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يُؤْتَى هَذَا الْكُتَّابُ بِيَمِينِهِ جَعَلَنَا اللَّهُ وَإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ.
وَأَنَّ مَنْ أُوتِيَهُ بِيَمِينِهِ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا، وَأَنَّهُ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ. قَالَ تَعَالَى:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} ، وَقَالَ تَعَالَى:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ إِنِّى ظَنَنتُ أَنِّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} .
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ مَنْ أُوتِيَهُ بِشَمَالِهِ يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يُؤْتَهُ، وَأَنَّهُ يُؤْمَرُ بِهِ فَيَصْلَى الْجَحِيمَ، وَيُسْلَكُ فِي سِلْسِلَةٍ مِنْ سَلَاسِلِ النَّارِ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا،
وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَآ أَغْنَى عَنِّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّى سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ} أعذانا اللَّهُ وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ مِنَ النَّارِ، وَمِمَّا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ.
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: أَنَّ مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ يَصْلَى السَّعِيرَ، وَيَدْعُو الثُّبُورَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:{وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى سَعِيراً} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} يَعْنِي أَنَّ نَفْسَهُ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَظْلِمْ، وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْهِ إِلَّا مَا عَمِلَ؛ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَتَذَكَّرُ كُلَّ مَا عَمِلَ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهِ إِلَى آخِرِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى:{يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} .] (1) .
وَقَالَ صَاحب التَّتِمَّة رحمه الله: [قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى سَعِيراً إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُوراً إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} . فِي هَذَا التَّفْصِيلِ بَيَانٌ لِمَصِيرِ الْإِنْسَانِ نَتِيجَةَ كَدْحِهِ، وَمَا سُجِّلَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ أَعْمَالِهِ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ فِي الِانْفِطَارِ قَوْلَهُ:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ} .
وَجَاءَ فِي الْمُطَفِّفِينَ {كَلَاّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ} ثُمَّ بَعْدَهُ {كَلَاّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ} .
جَاءَ هُنَا بَيَانُ إِتْيَانِهِمْ هَذِهِ الْكُتُبَ مِمَّا يُشِيرُ إِلَى ارتباط هَذِه السُّور بَعْضهَا
(1) - 3/423: 425، بني إِسْرَائِيل / 13، 14، وَانْظُر أَيْضا:(4/127)(الْكَهْف/49) .
بِبَعْضٍ، فِي بَيَانِ مَآلِ الْعَالَمِ كُلِّهِ وَمَصِيرِ الْإِنْسَان نتيجة عمله
…
وَقَوْلُهُ: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} ، فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَهُنَا ذَكَرَ سبحانه وتعالى حَالَةً مِنْ حَالَاتِ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ.
فَالْأُولَى: يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَهُوَ الْعَرْضُ فَقَطْ دُونَ مُنَاقَشَةٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها «مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عذَّب» (1) .
وَالثَّانِيَةُ: يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ بِالثُّبُورِ وَهُوَ الْهَلَاكُ، وَمِنْهُ: الْمُوَاطَأَةُ عَلَى الشَّيْءِ سُمِّيَتْ مُثَابَرَةً، لِأَنَّهُ كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُهْلِكَ نَفْسَهُ فِي طَلَبِهِ.
وَهُنَا مُقَابَلَةٌ عَجِيبَةٌ بَالِغَةُ الْأَهَمِّيَّةِ، وَذَلِكَ بَيْنَ سُرُورَيْنِ أَحَدُهُمَا آجِلٌ والآخِر عَاجِلٌ.
فَالْأَوَّلُ فِي حَقِّ مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، أَنَّهُ يَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورا يُنَادي فَرحا {هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ} ، وَأَهْلُهُ آنَذَاكَ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْحُورِ وَالْوِلْدَانِ، وَمِنْ أَقَارِبِهِ الَّذِينَ دَخَلُوا الْجَنَّةَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} .
وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} ، فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُلْحَقِينَ بِهِمْ إِلَّا أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِهِمْ، وَهَذَا مِنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ أَنْ يُعْلِمَ بِهَا مَنْ يَعْرِفُهُ مِنْ أَهْلِهُ، وَهَذَا مِمَّا يَزِيدُ سُرُورَ الْعَبْدِ، وَهُوَ السُّرُورُ الدَّائِمُ.
وَالْآخَرُ سُرُورٌ عَاجِلٌ، وَهُوَ لِمَنْ أُعْطُوا كُتُبَهُمْ بِشِمَالِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَمَلِهِمْ مَسْرُورِينَ فِي الدُّنْيَا، وَشَتَّانَ بَيْنَ سُرُورٍ وَسُرُورٍ.
وَقَدْ بَيَّنَ هُنَا نَتِيجَةَ سُرُورِ أُولَئِكَ فِي الدُّنْيَا، بِأَنَّهُمْ يَصِلُونَ سَعِيرًا، وَلَمْ يُبَيِّنْ سَبَبَ سُرُورِ الْآخَرِينَ، وَلَكِنْ بَيَّنَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ خَوْفُهُمْ مِنَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ
اللَّهُ عَلَيْنَا
(1) - أخرجه البُخَارِيّ (1/51)(103) ، وَمُسلم (4/2204)(2876) .
وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} .
وَهُنَا يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْمَعْ عَلَى عَبْدِهِ خَوْفَانِ، وَلَمْ يُعْطِهِ الْأَمْنَانِ مَعًا، فَمَنْ خَافَهُ فِي الدُّنْيَا أَمَّنَهُ فِي الْآخِرَةِ {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} ، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى} .
وَمِنْ أَمِنَ مَكْرَ اللَّهِ وَقَضَى كُلَّ شَهَوَاتِهِ وَكَانَ لَا يُبَالِي فَيُؤْتَى كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ وَيَصْلَى سَعِيرًا، كَمَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لَاّ بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} ، تَكْذِيبًا لِلْبَعْثِ، وَقَوْلُهُ هَذَا هُوَ بِعَيْنِهِ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} .
وَقَوْلُهُ: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} ، هَذَا الظَّنُّ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي حَقِّ الْمُطَفِّفِينَ {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} ، مِمَّا يُشْعِرُ أَنَّ عَدَمَ الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ أَوِ الشَّكَّ فِيهِ، هُوَ الدَّافِعُ لِكُلِّ سُوءٍ وَالْمُضَيِّعُ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ هُوَ الْمُنْطَلَقُ لِكُلِّ خَيْرٍ وَالْمَانِعُ لِكُلِّ شَرٍّ، وَالْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ هُوَ مُنْطَلَقُ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَمَا فِي مُسْتَهَلِّ الْمُصْحَفِ {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} .] (1) .
- وَقَالَ أَيْضا رحمه الله: [وَقَوْلِهِ: {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} ، فَهُوَ كِتَابٌ مَكْتُوبٌ يُنْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقْرَؤُهُ كُلُّ إِنْسَانٍ بِنَفْسِهِ مِمَّا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ يَجْعَلُ أَخْذَ الْكِتَابِ بِالْيَمِينِ أَوِ الشِّمَالِ كِنَايَةً عَنِ الْيُمْنِ وَالشُّؤْمِ، وَهَذَا فِي الْوَاقِعِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ شُؤْمِ التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ وَبِدُونِ دَلِيل
(1) - 9/116: 118، الانشقاق / 7:14.