الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ الطَّوِيلِ الْمَشْهُورِ (1) : أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ فِيهِ: «أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ إِذَا أَخَذَ رُوحَ الْمَيِّتِ أَخَذَهَا مِنْ يَدِهِ بِسُرْعَةٍ مَلَائِكَةٌ فَصَعِدُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ» ، وَقَدْ بيَّن فِيهِ صلى الله عليه وسلم مَا تُعَامَلُ بِهِ رُوحُ الْمُؤْمِنِ وَرُوحُ الْكَافِرِ بَعْدَ أَخْذِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ مِنْ مَلَكِ الْمَوْتِ حِينَ يَأْخُذُهَا مِنَ الْبَدَنِ، وَحَدِيثُ الْبَرَاءِ الْمَذْكُورُ صَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَأَوْضَحَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ «الرُّوحِ» ، بُطْلَانَ تَضْعِيفِ ابْنِ حَزْمٍ لَهُ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ حَدِيثَ الْبَرَاءِ الْمَذْكُورَ، دلَّ عَلَى أَنَّ مَعَ مَلَكِ الْمَوْتِ مَلَائِكَةً آخَرِينَ يَأْخُذُونَ مِنْ يَدِهِ الرُّوحَ، حِينَ يَأْخُذُهُ مِنْ بَدَنِ الْمَيِّتِ. وَأَمَّا قَوْلِهِ تَعَالَى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا} ، فَلَا إِشْكَالَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَتَوَفَّوْا أَحَدًا إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ جلَّ وَعَلَا:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} .
فَتَحَصَّلَ: أَنَّ إِسْنَادَ التَّوَفِّي إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ فِي قَوْلِهِ هُنَا: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكّلَ بِكُمْ} ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ، وَأَنَّ إِسْنَادَهُ لِلْمَلَائِكَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ} ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ؛ لِأَنَّ لِمَلَكِ الْمَوْتِ أَعْوَانًا يَعْمَلُونَ بِأَمْرِهِ، وَأَنَّ إِسْنَادَهُ إِلَى اللَّه فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الاْنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا} ، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَائِنًا مَا كَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِقَضَاءِ اللَّه وَقَدَرِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّه تَعَالَى.] (2) .
فصل: الْقَبْر
-
الأَرْض لَا تَأْكُل أجساد الْأَنْبِيَاء، وَهل تَأْكُل أجساد الشُّهَدَاء
؟
اسْتدلَّ صَاحب التَّتِمَّة رحمه الله بِقصَّة الْغُلَام الَّذِي كَانَ يتَرَدَّد بَين السَّاحر
(1) - أخرجه أَحْمد (4/287)، وَقَالَ الأرناؤوط: إِسْنَاده صَحِيح.
(2)
- 6/504 - 606، السَّجْدَة / 11.
والراهب وَالَّذِي كَانَ سَببا فِي إِيمَان قريته بعد أَن أَمر الملكَ أَن يُسَمِّي باسم رب الْغُلَام ويقتله على مشْهد من النَّاس، فَفعل فَقتله؛ فَآمن النَّاس بِرَبّ الْغُلَام سبحانه وتعالى ثمَّ قَالَ: [وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْغُلَامَ دُفِنَ فَوُجِدَ زَمَنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَيَدُهُ عَلَى صُدْغِهِ، كُلَّمَا رُفعت خَرَجَ الدَّمُ مِنْ جُرْحِهِ، وَإِذَا تُركت أُعِيدَتْ عَلَى الْجُرْحِ (1) .
وَقَدْ سُقْنَا هَذِهِ الْقِصَّةَ، وَهِي من أمثل مَا جَاءَ فِي هَذِه الْمَعْنَى لِمَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ، وَالَّتِي يُمْكِنُ أَن يُسْتَفَاد مِنْهَا بعض الْأَحْكَام
…
السَّادِسَ عَشَرَ: إِبْقَاءُ جِسْمِهِ (2) حَتَّى زَمَنِ عُمَرَ رضي الله عنه إِكْرَاما لأولِياء اللَّه،
(1) - أخرج هَذِه الزِّيَادَة ابْن إِسْحَاق فِي سيرته (ص/43) ، وَعنهُ ابْن هِشَام فِي سيرته (1/152)، والطبري فِي "تَارِيخه" (1/436) عَن عبد الله بن أبي بكر بن حزم قَالَ: أَنه حُدِّث أَن رجلا من أهل نَجْرَان
…
فَذكره. وَهَذَا إِسْنَاد ضَعِيف لجَهَالَة شيخ عبد الله بن أبي بكر، وَلم يذكر ابْن إِسْحَاق هَذَا الرجل بل قَالَ نَا عبد الله بن أبي بكر بن حزم قَالَ: نهب رجل بِصَنْعَاء يحْفر خربة فَذكره، وَهَذَا إِسْنَاد مُنْقَطع لِأَن عبد الله يروي هَذِه الْقِصَّة فِي زمن سيدنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، وَهُوَ لم يُدْرِكهُ فقد ولد (65 هـ) ، وَقتل سيدنَا عمر رضي الله عنه (23 هـ) وَمتْن هَذِه الزِّيَادَة فِيهَا نَكَارَة، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبا الحَدِيث عَنْهَا - بِمَشِيئَة الله -. وأصل قصَّة هَذَا الْغُلَام بِدُونِ هَذِه الزِّيَادَة أخرجهَا مُسلم (4/2299)(3005) وَغَيره من حَدِيث صُهَيْب رضي الله عنه.
(2)
- وَأما مَسْأَلَة عدم أكل الأَرْض لأجساد الشُّهَدَاء فقد تَكَلَّمت عَلَيْهَا فِي شرحي لسنن الدَّارمِيّ (حَدِيث رقم 45) وخلاصة مَا ذكرت هُنَاكَ: أنني لم أَقف على مَا يصلح لتخصيص عُمُوم قَوْله صلى الله عليه وسلم: " كل ابْن آدم يَأْكُلهُ التُّرَاب إِلَّا عجب الذَّنب مِنْهُ خلق وَفِيه يركب " - مُتَّفق عَلَيْهِ، وَاللَّفْظ لمُسلم - إِلَّا مَا ورد فِيهِ النَّص فِي حق الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام - من أَن الله حرم على الأَرْض أَن تَأْكُل أَجْسَادهم الشَّرِيفَة، وَأما مَا نقل عَن شُهَدَاء أحد والغلام عبد الله بن الثَّامِر - على فرض صِحَة أَنه وجد على عهد سيدنَا عمر رضي الله عنه على حَالَته - فَهَذِهِ حالات خَاصَّة لَا تصلح لعُمُوم التَّخْصِيص فِي حق أمثالهم من عُمُوم الشُّهَدَاء، فقد تَأْكُل الأَرْض أَجْسَادهم وَلَكِن بعد فَتْرَة أطول من غَيرهم، وَقد يكون هَذَا خَاصّا بِمن قتل مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم دون غَيرهم من الشُّهَدَاء، أَو أَنه يكون قد كشف للنَّاس عَنْهُم كآية من الله للنَّاس، وَيحْتَمل أَن تكون طبيعة الأَرْض الَّتِي وضعُوا فِيهَا تمنع التعفن فَلَا يدود المقبور فِيهَا، وكل هَذَا مُحْتَمل، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.