المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ سيدنا عيسى عليه السلام حي في السماء، وسينزل آخر الزمان قرب قيام الساعة - الجموع البهية للعقيدة السلفية - جـ ٢

[أبو المنذر المنياوي]

فهرس الكتاب

- ‌فصل الْعذر بِالْجَهْلِ

- ‌ مَسْأَلَة: أهل الفترة معذورون فِي الدُّنْيَا، ويختبرون فِي الْآخِرَة

- ‌فصل فِي الحاكمية

- ‌ وَقْفَة مَعَ آيَات الْمَائِدَة وَبَيَان حكم من لم يحكم بِمَا أنزل الله

- ‌ تَنْبِيه: يجب التنبه إِلَى الْفرق بَين النظام الشَّرْعِيّ، والنظام الإداري فِي الحاكمية

- ‌باب الْإِيمَان بِالْمَلَائِكَةِ

- ‌فصل - مَلَائِكَة الصعُود بالأرواح:

- ‌فصل - الْحفظَة، وَمَا تكْتب

- ‌ هَل تكْتب الْحفظَة مَا لَا ثَوَاب فِيهِ، وَلَا عِقَاب

- ‌ المفاضلة بَين الْمَلَائِكَة وصالحي الْبشر

- ‌فصل بعض أَحْكَام الْجِنّ

- ‌ هَل إِبْلِيس ملك فِي الأَصْل أم لَا؟ وَبَيَان ذُريَّته، وَكَيف تناسله

- ‌ الْجِنّ مكلفون، وَبَيَان أَن مؤمنيهم فِي الْجنَّة، وكفارهم فِي النَّار

- ‌ إِذا كَانَ الْجِنّ من نَار فَكيف تحرقه النَّار

- ‌ لَا رسل من الْجِنّ

- ‌ هَل ينْكح الْإِنْس الْجِنّ، أَو الْعَكْس، وَحكمه

- ‌باب الْإِيمَان بالكتب

- ‌ الْإِيمَان بالكتب كلهَا

- ‌ صحف إِبْرَاهِيم ومُوسَى عليهما السلام

- ‌ الْكتاب الَّذِي أَخذه يحيى عليه السلام بِقُوَّة هُوَ: التَّوْرَاة

- ‌ معنى تَنْزِيل الْقُرْآن على قلب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌باب الْإِيمَان بالرسل الْكِرَام - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام

- ‌فصل وجوب الْإِيمَان بِجَمِيعِ الرُّسُل - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام

- ‌ تَكْذِيب لرَسُول وَاحِد تَكْذِيب لجَمِيع الرُّسُل

- ‌ لَا طَرِيق لمعْرِفَة أوَامِر الله ونواهيه إِلَّا عَن طَرِيق الْوَحْي

- ‌ دُعَاء الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام - مستجاب

- ‌ مِيرَاث الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام

- ‌ غَلَبَة الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام - وَمَعْنَاهَا

- ‌ عصمَة الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام

- ‌ الله تَعَالَى يَأْمر أنبياءه عليهم السلام وينهاهم ليشرع لأممهم

- ‌ نسَاء الْأَنْبِيَاء معصومات من الزِّنَا

- ‌ التَّوْبَة دَعْوَة الرُّسُل - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام

- ‌ المعجزة

- ‌ أولُوا الْعَزْم من الرُّسُل

- ‌ المفاضلة بَين الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام

- ‌ بعض المفارقات من الْقُرْآن بَين نَبينَا صلى الله عليه وسلم وَغَيره من الرُّسُل

- ‌ الْفرق بَين النَّبِي وَالرَّسُول

- ‌ عُقُوبَة الْأُمَم المكذبة للرسل، وَبَيَان وَجه الْمُنَاسبَة بَين عَملهَا وعقابها

- ‌فصل بعض أَحْكَام الْأَنْبِيَاء

- ‌فصل الْإِيمَان بسيدنا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم

- ‌ كل نَبِي بُشِّرَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌ النَّبِي صلى الله عليه وسلم هُوَ دَعْوَة إِبْرَاهِيم عليه السلام وَمن ذُريَّته

- ‌ معرفَة أهل الْكتاب ليَوْم مولده

- ‌ بعض أَسْمَائِهِ صلى الله عليه وسلم وَصِفَاته

- ‌ عُمُوم رسَالَته صلى الله عليه وسلم وَوُجُوب الْإِيمَان بِهِ

- ‌ إتباع النَّبِي صلى الله عليه وسلم مُوجب لمحبة الله جلّ وَعلا لذَلِك المُتتَّبِع

- ‌ تَعْظِيمه صلى الله عليه وسلم بإتباعه

- ‌ حرمته صلى الله عليه وسلم حَيا كحرمته مَيتا

- ‌ الْهدى الْعَام وَالْخَاص

- ‌ بَيَان الرضي فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}

- ‌ بَيَان الْخَيْر الْكثير الَّذِي أعْطِيه النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌ الْإِسْرَاء والمعراج

- ‌ هَل يَقع الِاجْتِهَاد من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌ عصمته صلى الله عليه وسلم

- ‌ أمة النَّبِي صلى الله عليه وسلم أفضل الْأُمَم

- ‌فصل سيدنَا آدم عليه السلام

- ‌ أَمر الله - تَعَالَى - الْمَلَائِكَة كلهم بِالسُّجُود لسيدنا آدم عليه السلام

- ‌ سيدنَا آدم عليه السلام لَيْسَ من أولي الْعَزْم من الرُّسُل

- ‌ سيدنَا آدم عليه السلام رَسُول، وَنَبِي مُكَلم

- ‌فصل سيدنَا إِدْرِيس عليه السلام

- ‌فصل سيدنَا نوح عليه السلام

- ‌ إِبْرَاهِيم من ذريّة نوح، وَبَعض الْأَنْبِيَاء من ذرّية نوح دون إِبْرَاهِيم عليهم السلام

- ‌فصل سيدنَا إِبْرَاهِيم عليه السلام

- ‌ مِلَّة سيدنَا إِبْرَاهِيم عليه السلام هِيَ دين الْإِسْلَام

- ‌ صحف سيدنَا إِبْرَاهِيم عليه السلام

- ‌ شدَّة صدق سيدنَا إِبْرَاهِيم عليه السلام

- ‌ ذُريَّته عليه السلام

- ‌فصل سيدنَا لوط عليه السلام

- ‌فصل سيدنَا أَيُّوب عليه السلام

- ‌فصل سيدنَا يُونُس عليه السلام

- ‌فصل سيدنَا مُوسَى عليه السلام

- ‌ الْآيَات التسع لسيدنا مُوسَى عليه السلام

- ‌فصل سيدنَا الْخضر عليه السلام

- ‌ نسب سيدنَا الْخضر عليه السلام

- ‌ سَبَب تَسْمِيَته بالخضر

- ‌ هَل كَانَ الْخضر رَسُولا أم نَبيا أم وليا أم ملكا

- ‌ هَل الْخضر عليه السلام حَيّ حَتَّى الْآن

- ‌فصل سيدنَا دَاوُد عليه السلام

- ‌فصل سيدنَا سُلَيْمَان بن دَاوُد عليهما السلام

- ‌ مَا هِيَ فتْنَة سُلَيْمَان عليه السلام

- ‌ تسخير اللهُ لِسُلَيْمَان الرّيح وَالشَّيَاطِين

- ‌فصل سيدنَا زَكَرِيَّا وَابْنه سيدنَا يحيى عليهما السلام

- ‌فصل سيدنَا يحيى وَعِيسَى عليهما السلام ابْني الْخَالَة

- ‌ بعض صِفَات سيدنَا يحيى عليه السلام

- ‌فصل سيدنَا عِيسَى عليه السلام

- ‌ مناظرة بَين عَالم مُسلم وَنَصْرَانِي

- ‌ سيدنَا عِيسَى عليه السلام حيّ فِي السَّمَاء، وسينزل آخر الزَّمَان قرب قيام السَّاعَة

- ‌بَاب الْإِيمَان بِالْيَوْمِ الآخر

- ‌ من يقبض الْأَرْوَاح

- ‌فصل: الْقَبْر

- ‌ الأَرْض لَا تَأْكُل أجساد الْأَنْبِيَاء، وَهل تَأْكُل أجساد الشُّهَدَاء

- ‌ هَل يسمع الْمَوْتَى؟ وَالْكَلَام على تلقين الْمَوْتَى

- ‌ عَذَاب الْقَبْر

- ‌ الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله عَلَيْهِ

- ‌ زِيَارَة الْقُبُور

- ‌فصل: يَوْم الْقِيَامَة

- ‌ بعض أَسْمَائِهِ

- ‌ إِنْكَار الْكفَّار ليَوْم الْقِيَامَة وتوعدهم على ذَلِك بالسعير

- ‌ مُدَّة يَوْم الْقِيَامَة

- ‌بعض أَشْرَاط السَّاعَة

- ‌ القحطاني

- ‌ الدَّجَّال، وَبَيَان أَنه حيّ حَتَّى الْآن

- ‌ يَأْجُوج وَمَأْجُوج

- ‌من آثَار يَوْم الْقِيَامَة

- ‌ تشقق السَّمَاء

- ‌ تسيير الْجبَال وبروز الأَرْض

- ‌فصل الْبَعْث

- ‌ إِنْكَار الْكفَّار للبعث

- ‌ إِنْكَار الْبَعْث سَببا لدُخُول النَّار

- ‌ براهين الْبَعْث

- ‌ نفخة الْبَعْث، وخروجهم مُسْرِعين لِلْحسابِ

- ‌ كَيفَ يُحشر المتقون، ويُساق المجرمون

- ‌ زَلْزَلَة السَّاعَة

- ‌ الْحَشْر يكون لجَمِيع الْمَخْلُوقَات

- ‌ بَيَان كَيْفيَّة الْعرض

- ‌ مَا جَاءَ فِي تطاير الصُّحُف

- ‌ يَوْم الْقِيَامَة يدعى كل أنَاس بإمامهم

- ‌ من أَسبَاب اسوداد الْوُجُوه يَوْم الْقِيَامَة

- ‌ السُّؤَال يَوْم الْقِيَامَة

- ‌ الشُّهُود يَوْم الْقِيَامَة

- ‌ الْمِيزَان

- ‌ الْفرق بَين الْكتاب وَالْمِيزَان

- ‌فصل: الْجنَّة وَالنَّار

- ‌ دُخُول الْجنَّة بِفضل من الله - تَعَالَى-، وتفاوت الْمنَازل بِحَسب الْأَعْمَال

- ‌ التَّوَارُث بَين أهل الْجنَّة وَأهل النَّار

- ‌ بعض مَا جَاءَ فِي نعيم أهل الْجنَّة

- ‌ بعض صِفَات الْحور الْعين

- ‌ الْجنَّة لَا ليل فِيهَا، وَإِنَّمَا هِيَ نور دَائِم وضياء

- ‌النَّار

- ‌ عدد أَبْوَاب النَّار

- ‌ بعض صِفَات النَّار وَبَيَان أَنَّهَا منَازِل

- ‌ كَيفَ ينْبت الضريع فِي النَّار

- ‌ النَّار لَهَا إِدْرَاك وحس

- ‌ أَشد أهل النَّار عذَابا

- ‌ الْفرق بَين عَذَاب الْكفَّار وعصاة الْمُوَحِّدين

- ‌ خُلُود أهل الْجنَّة وخلود أهل النَّار

- ‌بَاب: الْإِيمَان بِالْقضَاءِ وَالْقدر

- ‌ الله عز وجل يَصْرِفُ الْأَشْقِيَاءَ، الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمُ الشَّقَاوَةُ فِي علمه، عَن الْحق، ويحول بَينهم وَبَينه

- ‌ أَنْوَاع الأقلام

- ‌ التَّقْدِير الحولي فِي لَيْلَة الْقدر

- ‌ الْأَمر الكوني، وَالْأَمر الشَّرْعِيّ

- ‌ الْفرق والمذاهب فِي الْقدر

- ‌ الرَّد على مَذْهَب الجبرية، وَتَقْرِير مَذْهَب السّلف

- ‌ بَيَان أَن الْأَخْذ بالأسباب لَا يُنَافِي التَّوَكُّل

- ‌بَاب: متفرقات عقائدية

- ‌الصُّوفِيَّة

- ‌ مَذْهَب الصُّوفِيَّة

- ‌بعض جهالات متأخري الصُّوفِيَّة

- ‌ اعْتِقَادهم سُقُوط التكاليف إِذا بلغ العَبْد (الْيَقِين) الْمعرفَة

- ‌ ادعاؤهم جَوَاز الْعَمَل بالإلهام

- ‌ الرقص

- ‌ الذّكر بِاللَّفْظِ الْمُفْرد

- ‌ التباهي بالزيارة

- ‌الشِّيعَة

- ‌دَعْوَة وحدة الْأَدْيَان وَبَيَان مَا فِيهَا من حق وباطل

الفصل: ‌ سيدنا عيسى عليه السلام حي في السماء، وسينزل آخر الزمان قرب قيام الساعة

مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ: نَاظِرْنِي فِي الْإِسْلَامِ وَالْمَسِيحِيَّةِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَقَالَ الْعَالِمُ لِلنَّصْرَانِيِّ: هَلُمَّ إِلَى الْمُنَاظَرَةِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ أَمِ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ؟

فَقَالَ الْعَالِمُ: الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ مِنَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ. فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ: إِذَنْ يَلْزَمُكُمُ اتِّبَاعُ عِيسَى مَعَنَا، وَتَرْكُ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ نَتَّفِقُ عَلَى نُبُوَّةِ عِيسَى، وَنُخَالِفُكُمْ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُ: أَنْتُمُ الَّذِينَ تَمْتَنِعُونَ مِنْ اتِّبَاعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ عِيسَى قَالَ لَكُمْ:{وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ} ، فَلَوْ كُنْتُمْ مُتَّبِعِينَ عِيسَى حَقًّا لَاتَّبَعْتُمْ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، فَظَهَرَ أَنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ لَمْ تَتَّبِعُوا الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ وَلَا غَيْرَهُ، فَانْقَطَعَ النَّصْرَانِيُّ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّصَارَى لَوْ كَانُوا مُتَّبِعِينَ عِيسَى؛ لَاتَّبَعُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم.] (1) .

-‌

‌ سيدنَا عِيسَى عليه السلام حيّ فِي السَّمَاء، وسينزل آخر الزَّمَان قرب قيام السَّاعَة

.

[قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا} التَّحْقِيقُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ} رَاجِعٌ إِلَى عِيسَى لَا إِلَى الْقُرْآنِ، وَلَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} عَلَى الْقَوْلِ الْحَقِّ الصَّحِيحِ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ، هُوَ أَنَّ نُزُولَ عِيسَى فِي آخِرِ الزَّمَانِ، حَيًّا عِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أَيْ عَلَامَةٌ لِقُرْبِ مَجِيئِهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَشْرَاطِهَا الدَّالَّةِ عَلَى قُرْبِهَا.

وَإِطْلَاقُ عِلْمِ السَّاعَةِ عَلَى نَفْسِ عِيسَى، جَارٍ عَلَى أَمريْن، كِلَاهُمَا أسلوب عَرَبِيّ مَعْرُوف.

(1) - 2 / 96، الْمَائِدَة / 47.

ص: 566

أَحَدُهُمَا: أَنَّ نُزُولَ عِيسَى الْمَذْكُورَ، لَمَّا كَانَ عَلَامَةً لِقُرْبِهَا، كَانَتْ تِلْكَ الْعَلَامَةُ، سَبَبًا لِعِلْمِ قُرْبِهَا، فَأُطْلِقَ فِي الْآيَةِ الْمُسَبَّبُ وَأُرِيدُ السَّبَبُ.

وَإِطْلَاقُ الْمُسَبَّبِ وَإِرَادَةُ السَّبَبِ، أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ.

وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقاً} ، فَالرِّزْقُ مُسَبَّبٌ عَنِ الْمَطَرِ وَالْمَطَرُ سَبَبُهُ، فَأُطْلِقَ الْمُسَبَّبُ الَّذِي هُوَ الرِّزْقُ وَأُرِيدَ سَبَبُهُ الَّذِي هُوَ الْمَطَرُ لِلْمُلَابَسَةِ الْقَوِيَّةِ الَّتِي بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَلَاغِيِّينَ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ، يَزْعُمُونَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ، مِنْ نَوْعِ مَا يُسَمُّونَهُ الْمَجَازَ الْمُرْسَلَ، وَأَنَّ الْمُلَابَسَةَ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ مِنْ عَلَاقَاتِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ عِنْدَهُمْ.

وَالثَّانِي مِنَ الْأَمْرَيْنِ: أَنَّ غَايَةَ مَا فِي ذَلِكَ، أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَالتَّقْدِيرُ، وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِلسَّاعَةِ، أَيْ وَإِنَّهُ لَصَاحِبُ إِعْلَامِ النَّاسِ، بِقُرْبِ مَجِيئِهَا، لِكَوْنِهِ عَلَامَةً لِذَلِكَ، وَحَذْفُ الْمُضَافِ وَإِقَامَةُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:

وَمَا يَلِي الْمُضَافَ يَأْتِ خَلَفًا

عَنْهُ فِي الْإِعْرَابِ إِذَا مَا حُذِفَا

وَهَذَا الْأَخِيرُ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ وَجَّهَ بِهِمَا عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ النَّعْتَ بِالْمَصْدَرِ كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ كَرَمٌ وَعَمْرٌو عَدْلٌ أَيْ ذُو كَرَمٍ وَذُو عَدْلٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مِّنكُمْ} ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:

وَنَعَتُوا بِمَصْدَرٍ كَثِيرًا

فَالْتَزَمُوا الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَا

أَمَّا دَلَالَةُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الصَّحِيحِ، فَفِي قَوْله تَعَالَى سُورَةِ النِّسَاءِ:{وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} أَيْ لَيُؤْمِنَنَّ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ عِيسَى حَيٌّ وَقْتَ نُزُولِ آيَةِ

ص: 567

النِّسَاءِ هَذِهِ، وَأَنَّهُ لَا يَمُوتُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِهِ إِلَى الْأَرْضِ.

فَإِنْ قِيلَ قَدْ ذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: قَبْلَ مَوْتِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْكِتَابِيِّ، أَيْ إِلَّا لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ الْكِتَابِيِّ قَبْلَ مَوْتِ الْكِتَابِيِّ.

فَالْجَوَابُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ رَاجِعًا إِلَى عِيسَى، يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ، دُونَ الْقَوْلِ الْآخَرِ، لِأَنَّهُ أَرْجَحُ مِنْهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ الْمُتَبَادَرُ مِنْهُ، وَعَلَيْهِ تَنْسَجِمُ الضَّمَائِرُ بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ.

وَإِيضَاحُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا قَتَلُوهُ} أَيْ عِيسَى، {وَمَا صَلَبُوهُ} أَيْ عِيسَى {وَلكن شُبِّهَ لَهُمْ} أَيْ عِيسَى {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ} أَيْ عِيسَى {لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ} أَيْ عِيسَى {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} أَيْ عِيسَى، {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} أَيْ عِيسَى {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ} أَيْ عِيسَى {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} أَيْ عِيسَى {قَبْلَ مَوْتِهِ} أَيْ عِيسَى {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} أَيْ يَكُونُ هُوَ، أَيْ عِيسَى عَلَيْهِمْ شَهِيدًا.

فَهَذَا السِّيَاقُ الْقُرْآنِيُّ الَّذِي تَرَى، ظَاهِرٌ ظُهُورًا لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ، فِي أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، رَاجِعٌ إِلَى عِيسَى.

الْوَجْهُ الثَّانِي: مِنْ مُرَجِّحَاتِ هَذَا الْقَوْلِ، أَنَّهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الصَّحِيحِ، فَمُفَسِّرُ الضَّمِيرِ، مَلْفُوظٌ مُصَرَّحٌ بِهِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} .

وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ فَمُفَسِّرٌ الضَّمِيرِ لَيْسَ مَذْكُورًا فِي الْآيَةِ أَصْلًا، بَلْ هُوَ مُقَدَّرٌ تَقْدِيرُهُ: مَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَحَدٌ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، أَيْ مَوْتِ

ص: 568

أَحَدِ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّرِ.

وَمِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ، أَنَّ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ، أَرْجَحَ وَأَوْلَى، مِمَّا يَحْتَاجُ إِلَى تَقْدِيرٍ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: مِنْ مُرَجِّحَاتِ هَذَا الْقَوْلِ الصَّحِيحِ، أَنَّهُ تَشْهَدُ لَهُ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ تَوَاتَرَتْ عَنْهُ الْأَحَادِيثُ بِأَنَّ عِيسَى حَيٌّ الْآنَ، وَأَنَّهُ سَيَنْزِلُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ حَكَمًا مُقْسِطًا. وَلَا يُنْكِرُ تَوَاتُرَ السُّنَّةِ بِذَلِكَ إِلَّا مُكَابِرٌ.

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ الصَّحِيحَ وَنَسَبَهُ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَا نَصُّهُ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْحَقُّ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ بَعْدُ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى اهـ.

وَقَوْلُهُ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ يَعْنِي السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ، لِأَنَّهَا قَطْعِيَّةٌ وَهُوَ صَادِقٌ فِي ذَلِكَ.

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ، فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الزُّخْرُفِ هَذِهِ مَا نَصُّهُ: وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، «أَنَّهُ أَخْبَرَ بِنُزُولِ عِيسَى عليه السلام قَبْلَ يَوْم الْقِيَامَة إمَاماً عَادِلاً وَحَكماً مُقْسِطاً» . اهـ مِنْهُ. وَهُوَ صَادِقٌ فِي تَوَاتُرِ الْأَحَادِيثِ بِذَلِكَ.

وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْكِتَابِ فَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، وَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: هُوَ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ الصَّحِيحَ، وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ وَلَا تَخْصِيصٍ بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْآخَرِ، فَهُوَ مُشْكِلٌ لَا يَكَادُ يَصْدُقُ، إِلَّا مَعَ تَخْصِيصٍ، وَالتَّأْوِيلَاتُ الَّتِي يَرْوُونَهَا فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَغَيْرِهِ، ظَاهِرَةُ الْبُعْدِ وَالسُّقُوطِ لِأَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ رَاجِعٌ إِلَى عِيسَى فَلَا إِشْكَالَ وَلَا خَفَاءَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَلَا إِلَى

ص: 569

تَخْصِيصٍ.

وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْكِتَابِيِّ فَإِنَّهُ مُشْكِلٌ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ لِكُلِّ مَنْ فَاجَأَهُ الْمَوْتُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَالَّذِي يَسْقُطُ مِنْ عَالٍ إِلَى أَسْفَلَ، وَالَّذِي يُقْطَعُ رَأْسُهُ بِالسَّيْفِ وَهُوَ غَافِلٌ وَالَّذِي يَمُوتُ فِي نَوْمِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا يَصْدُقُ هَذَا الْعُمُومُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ عَلَى هَذَا النَّوْعِ، مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، إِلَّا إِذَا ادَّعَى إِخْرَاجَهُمْ مِنْهُ بِمُخَصِّصٍ. وَلَا سَبِيلَ إِلَى تَخْصِيصِ عُمُومَاتِ الْقُرْآنِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ أَوِ الْمُنْفَصِلَةِ.

وَمَا يُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (1) مِنْ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الَّذِي يُقْطَعُ رَأْسُهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ إِنَّ رَأْسَهُ يَتَكَلَّمُ، بِالْإِيمَانِ بِعِيسَى، وَإِنَّ الَّذِي يَهْوِي مِنْ عَالٍ إِلَى أَسْفَلَ يُؤْمِنُ بِهِ وَهُوَ يَهْوِي، لَا يَخْفَى بَعْدُهُ وَسُقُوطُهُ، وَأَنَّهُ لَا دَلِيلَ الْبَتَّةَ عَلَيْهِ كَمَا تَرَى.

وَبِهَذَا كُلِّهِ تَعْلَمُ، أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ {قَبْلَ مَوْتِهِ} ، رَاجِعٌ إِلَى عِيسَى، وَأَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ

تُبَيِّنُ قَوْلَهُ تَعَالَى هُنَا: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} كَمَا ذَكَرْنَا.

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ لَا تَحْقِيقَ عِنْدَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى قَدْ تُوُفِّيَ، وَيَعْتَقِدُونَ مِثْلَ مَا يَعْتَقِدُهُ، ضُلَّالُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} وَقَوْلِهِ {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} .

فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي إِحْدَى الْآيَتَيْنِ الْبَتَّةَ عَلَى أَنَّ عِيسَى قَدْ تُوُفِّيَ فِعْلًا.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} فَإِنَّ دَلَالَتَهُ المزعومة على ذَلِك منفية

(1) - انْظُر تَفْسِير الطَّبَرِيّ (4/356) .

ص: 570

مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {مُتَوَفّيكَ} حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ فِي أَخْذِ الشَّيْءِ كَامِلًا غَيْرَ نَاقِصٍ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: تَوَفَّى فُلَانٌ دِينَهُ يَتَوَفَّاهُ فَهُوَ مُتَوَفٍّ لَهُ إِذَا قَبَضَهُ وَحَازَهُ إِلَيْهِ كَامِلًا مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ.

فَمَعْنَى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} فِي الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ أَيْ حَائِزُكَ إِلَيَّ، كَامِلًا بِرُوحِكَ وَجِسْمِكَ.

وَلَكِنَّ الْحَقِيقَةَ الْعُرْفِيَّةَ خَصَّصَتِ التَّوَفِّيَ الْمَذْكُورَ بِقَبْضِ الرُّوحِ دُونَ الْجِسْمِ وَنَحْوُ هَذَا مِمَّا دَارَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ الْعُرْفِيَّةِ فِيهِ لِعُلَمَاءِ الْأُصُولِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ.

الْأَوَّلُ: هُوَ تَقْدِيمُ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ، وَتَخْصِيصُ عُمُومِ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ بِهَا.

وَهَذَا هُوَ الْمُقَرَّرُ فِي أُصُولِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَهُوَ الْمُقَرَّرُ فِي أُصُولِ مَالِكٍ إِلَّا أَنَّهُمْ فِي الْفُرُوعِ رُبَّمَا لَمْ يَعْتَمِدُوهُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ.

وَإِلَى تَقْدِيمِ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ، عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّة أَشَارَ فِي مراقي السعودي بِقَوْلِهِ:

وَاللَّفْظُ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّرْعِيِّ

إِنْ لَمْ يَكُنْ فَمُطْلَقُ الْعُرْفِيِّ

فَاللُّغَوِيُّ عَلَى الْجَلِيِّ وَلَمْ يَجِبْ

بَحْثٌ عَنِ الْمَجَازِ فِي الَّذِي انْتُخِبْ

الْمَذْهَبُ الثَّانِي: هُوَ تَقْدِيمُ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ عَلَى الْعُرْفِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعُرْفِيَّةَ وَإِنْ تَرَجَّحَتْ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ، فَإِنَّ اللُّغَوِيَّةَ مُتَرَجِّحَةٌ بِأَصْلِ الْوَضْعِ.

وَهَذَا الْقَوْلُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله.

الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا تُقَدَّمُ الْعُرْفِيَّةُ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ، وَلَا اللُّغَوِيَّةُ عَلَى

ص: 571

الْعُرْفِيَّةِ، بَلْ يُحْكَمُ بِاسْتِوَائِهِمَا وَمُعَادَلَةِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِيهِمَا، فَيُحْكَمُ عَلَى اللَّفْظِ بِأَنَّهُ مُجْمَلٌ، لِاحْتِمَالِ هَذِهِ وَاحْتِمَالِ تِلْكَ.

وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ السُّبْكِيِّ، وَمَنْ وَافَقَهُ، وَإِلَى هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ أَشَارَ فِي مراقي السعودي بِقَوْلِهِ:

وَمَذْهَبُ النُّعْمَانِ عَكْسُ مَا مَضَى

وَالْقَوْلُ بِالْإِجْمَالِ فِيهِ مُرْتَضَى

وَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ، الَّذِي هُوَ تَقْدِيمُ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ، عَلَى الْعُرْفِيَّةِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى أَنَّهُ قَبَضَهُ إِلَيْهِ بِرُوحِهِ وَجِسْمِهِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى الْمَوْتِ أَصْلًا، كَمَا أَنَّ تَوَفِّي الْغَرِيمِ لِدَيْنِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَوْتِ دَيْنِهِ.

وَأَمَّا عَلَى الْمَذْهَب الثَّانِي: وَهُوَ تَقْدِيمُ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ، فَإِنَّ لَفْظَ التَّوَفِّي حِينَئِذٍ، يَدُلُّ فِي الْجُمْلَةِ عَلَى الْمَوْتِ.

وَلَكِنْ سَتَرَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّهُ وَإِنْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِيسَى قَدْ تُوُفِّيَ فِعْلًا.

وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا: دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ، فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَجْهَ عَدَمِ دَلَالَةِ الْآيَةِ، عَلَى مَوْتِ عِيسَى فِعْلًا، أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} فَقُلْنَا مَا نَصُّهُ: وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا، مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {مُتَوَفّيكَ} لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ الْوَقْتِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى كَونه قَدْ مَضَى.

وَأَمَّا عَطْفُهُ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ، عَلَى قَوْلِهِ: مُتَوَفِّيكَ، فَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِإِطْبَاقِ جُمْهُورِ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، عَلَى أَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَلَا الْجَمْعَ، وَإِنَّمَا تَقْتَضِي مُطْلَقَ التَّشْرِيك.

ص: 572

وَقَدِ ادَّعَى السِّيرَافِيُّ وَالسُّهَيْلِيُّ، إِجْمَاعَ النُّحَاةِ عَلَى ذَلِكَ، وَعَزَاهُ الْأَكْثَرُ لِلْمُحَقَّقَيْنِ وَهُوَ الْحَقُّ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ قُطْرُبُ وَالْفَرَّاءُ وَثَعْلَبُ وَأَبُو عَمْرٍو الزَّاهِدُ وَهِشَامٌ وَالشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّهَا تُفِيدُ التَّرْتِيبَ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِيهِ. وَقَدْ أَنْكَرَ السِّيرَافِيُّ ثُبُوتَ هَذَا الْقَوْلِ عَنِ الْفَرَّاءِ وَقَالَ لَمْ أَجِدْهُ فِي كِتَابِهِ. وَقَالَ وَلِيُّ الدِّينِ: أَنْكَرَ أَصْحَابُنَا نِسْبَةَ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى الشَّافِعِيِّ. حَكَاهُ عَنْهُ صَاحِبُ الضِّيَاءِ اللَّامِعِ.

وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» (1) يَعْنِي الصَّفَا لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى اقْتِضَائِهَا التَّرْتِيبَ. وَبَيَانُ ذَلِكَ هُوَ مَا قَالَهُ الْفِهْرَيُّ كَمَا ذَكَرَهُ عَنْهُ صَاحِبُ الضِّيَاءِ اللَّامِعِ، وَهُوَ أَنَّهَا كَمَا أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ وَلَا الْمَعِيَّةَ، فَكَذَلِكَ لَا تَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْهُمَا، فَقَدْ يَكُونُ الْعَطْفُ بِهَا مَعَ قَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِالْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ} بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ.

وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْطُوفُ بِهَا مُرَتَّبًا كَقَوْلِ حَسَّانَ: * هَجَوْتَ مُحَمَّدًا وَأَجَبْتُ عَنْهُ *

عَلَى رِوَايَةِ الْوَاوِ.

وَقَدْ يُرَادُ بِهَا الْمَعِيَّةُ كَقَوْلِهِ: {فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} وَقَوْلِهِ {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} وَلَكِنْ لَا تُحْمَلُ عَلَى التَّرْتِيبِ وَلَا عَلَى الْمَعِيَّةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى {مُتَوَفِّيكَ} أَيْ مُنِيمُكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ، أَيْ فِي تِلْكَ النَّوْمَةِ.

وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الْوَفَاةِ عَلَى النَّوْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} ، وَقَوْلِهِ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ

(1) - أخرجه مُسْلِمٍ (2/886)(1218) مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه مطولا بِهِ.

ص: 573

حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا} ، وَعَزَى ابْنُ كَثِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ لِلْأَكْثَرِينَ، وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ مُتَوَفِّيَكَ، اسْمُ فَاعِلٍ تَوَفَّاهُ، إِذَا قَبَضَهُ وَحَازَهُ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: تَوَفَّى فُلَانٌ دَيْنَهُ إِذَا قَبَضَهُ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ مَعْنَى مُتَوَفِّيكَ عَلَى هَذَا، قَابِضَكَ مِنْهُمْ إِلَيَّ حَيًّا، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ.

وَأَمَّا الْجَمْعُ بِأَنَّهُ تَوَفَّاهُ سَاعَاتٍ أَوْ أَيَّامًا، ثُمَّ أَحْيَاهُ فَلَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ، إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. اهـ. مِنْ دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ دَلَالَةَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مُتَوَفِّيكَ} عَلَى مَوْتِ عِيسَى فِعْلًا، مَنْفِيَّةٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْهَا ثَلَاثَةً، مِنْ غَيْرِ تَنْظِيمٍ، أَوَّلُهَا أَنَّ {مُتَوَفّيكَ} حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ فِي أَخْذِهِ بِرُوحِهِ وَجِسْمِهِ.

الثَّانِي: أَنَّ {مُتَوَفّيكَ} وَصْفٌ مُحْتَمِلٌ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَالْمَاضِي، وَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّوَفِّيَ قَدْ وَقَعَ وَمَضَى، بَلِ السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ وَالْقُرْآنُ دَالَّانِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، كَمَا أَوْضَحْنَا فِي هَذَا الْمَبْحَثِ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَوَفِّيَ نَوْمٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ النُّوَّمَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْوَفَاةُ، فَكُلٌّ مِنَ النَّوْمِ وَالْمَوْتِ، يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ التَّوَفِّي، وَهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْعُرْفِيِّ.

فَهَذِهِ الْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ ذَكَرْنَاهَا كُلَّهَا فِي الْكَلَامِ الَّذِي نَقَلْنَا مِنْ كِتَابِنَا دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ.

وَذَكَرْنَا الْأَوَّلَ مِنْهَا بِانْفِرَادِهِ لِنُبَيِّنَ مَذَاهِبَ الْأُصُولِيِّينَ فِيهِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى} ، فَدَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّ عِيسَى مَاتَ، مَنْفِيَّةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ عِيسَى يَقُولُ ذَلِكَ يَوْم الْقِيَامَة، وَلَا شكّ أَن يَمُوت قبل

ص: 574

يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِخْبَارُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَوْتِهِ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْآنَ قَدْ مَاتَ كَمَا لَا يَخْفَى.

وَالثَّانِي مِنْهُمَا: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ أَنَّهُ تَوَفِّيَ رَفْعٌ وقَبْضٌ لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ، لَا تَوَفِّيَ مَوْتٍ.

وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ مُقَابَلَتَهُ لِذَلِكَ التَّوَفِّي بِالدَّيْمُومَةِ فِيهِمْ فِي قَوْلِهِ: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى} ، تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَوَفِّي مَوْتٍ، لَقَالَ مَا دُمْتُ حَيًّا، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي لَأَنَّ الَّذِي يُقَابَلُ بِالْمَوْتِ هُوَ الْحَيَاةُ كَمَا فِي قَوْلِهِ:{وَأَوْصَانِى بِالصلاةِ وَالزكاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} .

أَمَّا التَّوَفِّي الْمُقَابَلُ بِالدَّيْمُومَةِ فِيهِمْ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَوَفِّي انْتِقَالٍ عَنْهُمْ، إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ.

وَغَايَةُ مَا فِي ذَلِكَ هُوَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ اللُّغَوِيَّةِ مَعَ قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ عَنْ قَصْدِ الْعُرْفِيَّةِ، وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ.

وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ، مِنَ الْأَوْجُهِ الْمَذْكُورَةِ سَابِقًا، أَنَّ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ عِيسَى قَدْ مَاتَ، قَالُوا إِنَّهُ لَا سَبَبَ لِذَلِكَ الْمَوْتِ، إِلَّا أَنَّ الْيَهُودَ قَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ، فَإِذَا تَحَقَّقَ نَفْيُ هَذَا السَّبَبِ وَقَطْعُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ بِسَبَبٍ غَيْرِهِ، تَحَقَّقْنَا أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ أَصْلًا، وَذَلِكَ السَّبَبُ الَّذِي زَعَمُوهُ، مَنْفِيٌّ يَقِينًا بِلَا شَكٍّ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا قَالَ:{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} .

وَضَمِيرُ رَفْعِهِ ظَاهِرٌ فِي رَفْعِ الْجِسْمِ وَالرُّوحِ مَعًا كَمَا لَا يَخْفَى.

وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا مُسْتَنَدَ الْيَهُودِ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، بِأَنَّ اللَّهَ أَلْقَى شَبَهَهُ عَلَى إِنْسَانٍ آخَرَ فَصَارَ مَنْ يَرَاهُ يَعْتَقِدُ اعْتِقَادًا جَازِمًا أَنَّهُ عِيسَى.

فَرَآهُ الْيَهُودُ لَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِ عِيسَى فَاعْتَقَدُوا لِأَجْلِ ذَلِكَ الشَّبَهِ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَيْهِ اعْتِقَادًا جَازِمًا أَنَّهُ عِيسَى فَقَتَلُوهُ.

ص: 575

فَهُمْ يَعْتَقِدُونَ صِدْقَهُمْ، فِي أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ، وَلَكِنَّ الْعَلِيمَ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ، أَوْحَى إِلَى نَبِيِّهِ، فِي الْكِتَابِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ أَنَّهُمْ لَمْ يقتلوه وَلم يصلبوه.

مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ مِنَ اللَّهِ بِأَمْرِ عِيسَى لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْيَهُودِ وَلَا النَّصَارَى كَمَا أَوْضَحَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَاّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} .

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ عَلَى التَّفْسِيرِ الصَّحِيحِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

كِلَاهُمَا دَالٌّ عَلَى أَنَّ عِيسَى حَيٌّ، وَأَنَّهُ سَيَنْزِلُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، وَأَنَّ نُزُولَهُ مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ، وَأَنَّ مُعْتَمَدَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ هُوَ إِلْقَاءُ شَبَهِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَاعْتِقَادُهُمُ الْكَاذِبُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَقْتُولَ الَّذِي شُبِّهَ بِعِيسَى هُوَ عِيسَى. وَقَدْ عَرَفْتَ دَلَالَةَ الْوَحْيِ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ، وَأَن قَوْله {مُتَوَفِّيكَ} عَلَى مَوْتِهِ فِعْلًا. وَقَدْ رَأَيْتَ تَوْجِيهَ ذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، وَأَنَّهُ عَلَى الْمُقَرَّرِ فِي الْأُصُولِ، فِي الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا عَنْهُمْ، وَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ فِعْلًا.

أَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَقْدِيمِ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، لِأَنَّ الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْمَوْتِ.

وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِالْإِجْمَالِ، فَالْمُقَرِّرُ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمَحْمِلَ، لَا يُحْمَلُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ مَعْنَيَيْهِ، وَلَا مَعَانِيهِ بَلْ يُطْلَبُ بَيَانُ الْمُرَادِ مِنْهُ، بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ.

وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ هُنَا وَالسُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَأَنَّهُ حَيٌّ.

وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَقْدِيمِ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ، فَإِنَّهُ يُجَابُ عَنْهُ مِنْ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّوَفِّيَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّوْمِ، وَحَمْلُهُ عَلَيْهِ يَدْخُلُ فِي اسْمِ

ص: 576

الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ.

وَالثَّانِي: أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ تَوَفِّي مَوْتٍ، فَالصِّيغَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِعْلًا.

الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ بِتَقْدِيمِ الْعُرْفِيَّةِ، مَحَلُّهُ فِيمَا إِذَا لَمْ يُوجَدُ دَلِيلٌ صَارِفٌ، عَنْ إِرَادَةِ الْعُرْفِيَّةِ اللُّغَوِيَّةِ، فَإِنْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ وَجَبَ تَقْدِيمُ اللُّغَوِيَّةِ قَوْلًا وَاحِدًا.

وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا دَلَالَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَلَى إِرَادَةِ اللُّغَوِيَّةِ هَنَا دُونَ الْعُرْفِيَّةِ.

وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْقَوْلَ بِتَقْدِيمِ اللُّغَوِيَّةِ عَلَى الْعُرْفِيَّةِ، مَحَلُّهُ فِيمَا إِذَا لَمْ تُتَنَاسَ اللُّغَوِيَّةُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنْ أُمِيتَتِ الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى الْعُرْفِيَّةِ إِجْمَاعًا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:

أَجَمْعٌ إِنْ حَقِيقَةٌ تُمَاتُ

عَلَى التَّقَدُّمِ لَهُ الْإِثْبَاتُ

فَمَنْ حَلِفَ لَيَأْكُلَنَّ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ، فَمُقْتَضَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ، أَنَّهُ لَا يَبَرُّ يَمِينَهُ حَتَّى يَأْكُلَ مِنْ نَفْسِ النَّخْلَةِ لَا مِنْ ثَمَرَتِهَا.

وَمُقْتَضَى الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ ثَمَرَتِهَا لَا مِنْ نَفْسِ جِذْعِهَا. وَالْمَصِيرُ إِلَى الْعُرْفِيَّةِ هُنَا وَاجِبٌ إِجْمَاعًا، لِأَنَّ اللُّغَوِيَّةَ فِي مِثْلِ هَذَا أُمِيتَتْ بِالْكُلِّيَّةِ. فَلَا يَقْصِدُ عَاقِلٌ الْبَتَّةَ الْأَكْلَ مِنْ جِذْعِ النَّخْلَةِ.

أَمَّا الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْحَقِيقَةِ الْمُمَاتَةِ كَمَا لَا يَخْفَى.

وَمِنَ الْمَعْلُومِ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْعُرْفِيَّةَ تُسَمَّى حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً وَمَجَازًا لُغَوِيًّا، وَأَنَّ اللُّغَوِيَّةَ تُسَمَّى عِنْدَهُمْ حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً، وَمَجَازًا عُرْفِيًّا. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّا أَوْضَحْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ لَا مَجَازَ فِيهِ عَلَى التَّحْقِيقِ فِي رِسَالَتِنَا الْمُسَمَّاةِ

ص: 577