المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل سيدنا عيسى عليه السلام - الجموع البهية للعقيدة السلفية - جـ ٢

[أبو المنذر المنياوي]

فهرس الكتاب

- ‌فصل الْعذر بِالْجَهْلِ

- ‌ مَسْأَلَة: أهل الفترة معذورون فِي الدُّنْيَا، ويختبرون فِي الْآخِرَة

- ‌فصل فِي الحاكمية

- ‌ وَقْفَة مَعَ آيَات الْمَائِدَة وَبَيَان حكم من لم يحكم بِمَا أنزل الله

- ‌ تَنْبِيه: يجب التنبه إِلَى الْفرق بَين النظام الشَّرْعِيّ، والنظام الإداري فِي الحاكمية

- ‌باب الْإِيمَان بِالْمَلَائِكَةِ

- ‌فصل - مَلَائِكَة الصعُود بالأرواح:

- ‌فصل - الْحفظَة، وَمَا تكْتب

- ‌ هَل تكْتب الْحفظَة مَا لَا ثَوَاب فِيهِ، وَلَا عِقَاب

- ‌ المفاضلة بَين الْمَلَائِكَة وصالحي الْبشر

- ‌فصل بعض أَحْكَام الْجِنّ

- ‌ هَل إِبْلِيس ملك فِي الأَصْل أم لَا؟ وَبَيَان ذُريَّته، وَكَيف تناسله

- ‌ الْجِنّ مكلفون، وَبَيَان أَن مؤمنيهم فِي الْجنَّة، وكفارهم فِي النَّار

- ‌ إِذا كَانَ الْجِنّ من نَار فَكيف تحرقه النَّار

- ‌ لَا رسل من الْجِنّ

- ‌ هَل ينْكح الْإِنْس الْجِنّ، أَو الْعَكْس، وَحكمه

- ‌باب الْإِيمَان بالكتب

- ‌ الْإِيمَان بالكتب كلهَا

- ‌ صحف إِبْرَاهِيم ومُوسَى عليهما السلام

- ‌ الْكتاب الَّذِي أَخذه يحيى عليه السلام بِقُوَّة هُوَ: التَّوْرَاة

- ‌ معنى تَنْزِيل الْقُرْآن على قلب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌باب الْإِيمَان بالرسل الْكِرَام - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام

- ‌فصل وجوب الْإِيمَان بِجَمِيعِ الرُّسُل - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام

- ‌ تَكْذِيب لرَسُول وَاحِد تَكْذِيب لجَمِيع الرُّسُل

- ‌ لَا طَرِيق لمعْرِفَة أوَامِر الله ونواهيه إِلَّا عَن طَرِيق الْوَحْي

- ‌ دُعَاء الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام - مستجاب

- ‌ مِيرَاث الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام

- ‌ غَلَبَة الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام - وَمَعْنَاهَا

- ‌ عصمَة الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام

- ‌ الله تَعَالَى يَأْمر أنبياءه عليهم السلام وينهاهم ليشرع لأممهم

- ‌ نسَاء الْأَنْبِيَاء معصومات من الزِّنَا

- ‌ التَّوْبَة دَعْوَة الرُّسُل - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام

- ‌ المعجزة

- ‌ أولُوا الْعَزْم من الرُّسُل

- ‌ المفاضلة بَين الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام

- ‌ بعض المفارقات من الْقُرْآن بَين نَبينَا صلى الله عليه وسلم وَغَيره من الرُّسُل

- ‌ الْفرق بَين النَّبِي وَالرَّسُول

- ‌ عُقُوبَة الْأُمَم المكذبة للرسل، وَبَيَان وَجه الْمُنَاسبَة بَين عَملهَا وعقابها

- ‌فصل بعض أَحْكَام الْأَنْبِيَاء

- ‌فصل الْإِيمَان بسيدنا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم

- ‌ كل نَبِي بُشِّرَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌ النَّبِي صلى الله عليه وسلم هُوَ دَعْوَة إِبْرَاهِيم عليه السلام وَمن ذُريَّته

- ‌ معرفَة أهل الْكتاب ليَوْم مولده

- ‌ بعض أَسْمَائِهِ صلى الله عليه وسلم وَصِفَاته

- ‌ عُمُوم رسَالَته صلى الله عليه وسلم وَوُجُوب الْإِيمَان بِهِ

- ‌ إتباع النَّبِي صلى الله عليه وسلم مُوجب لمحبة الله جلّ وَعلا لذَلِك المُتتَّبِع

- ‌ تَعْظِيمه صلى الله عليه وسلم بإتباعه

- ‌ حرمته صلى الله عليه وسلم حَيا كحرمته مَيتا

- ‌ الْهدى الْعَام وَالْخَاص

- ‌ بَيَان الرضي فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}

- ‌ بَيَان الْخَيْر الْكثير الَّذِي أعْطِيه النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌ الْإِسْرَاء والمعراج

- ‌ هَل يَقع الِاجْتِهَاد من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

- ‌ عصمته صلى الله عليه وسلم

- ‌ أمة النَّبِي صلى الله عليه وسلم أفضل الْأُمَم

- ‌فصل سيدنَا آدم عليه السلام

- ‌ أَمر الله - تَعَالَى - الْمَلَائِكَة كلهم بِالسُّجُود لسيدنا آدم عليه السلام

- ‌ سيدنَا آدم عليه السلام لَيْسَ من أولي الْعَزْم من الرُّسُل

- ‌ سيدنَا آدم عليه السلام رَسُول، وَنَبِي مُكَلم

- ‌فصل سيدنَا إِدْرِيس عليه السلام

- ‌فصل سيدنَا نوح عليه السلام

- ‌ إِبْرَاهِيم من ذريّة نوح، وَبَعض الْأَنْبِيَاء من ذرّية نوح دون إِبْرَاهِيم عليهم السلام

- ‌فصل سيدنَا إِبْرَاهِيم عليه السلام

- ‌ مِلَّة سيدنَا إِبْرَاهِيم عليه السلام هِيَ دين الْإِسْلَام

- ‌ صحف سيدنَا إِبْرَاهِيم عليه السلام

- ‌ شدَّة صدق سيدنَا إِبْرَاهِيم عليه السلام

- ‌ ذُريَّته عليه السلام

- ‌فصل سيدنَا لوط عليه السلام

- ‌فصل سيدنَا أَيُّوب عليه السلام

- ‌فصل سيدنَا يُونُس عليه السلام

- ‌فصل سيدنَا مُوسَى عليه السلام

- ‌ الْآيَات التسع لسيدنا مُوسَى عليه السلام

- ‌فصل سيدنَا الْخضر عليه السلام

- ‌ نسب سيدنَا الْخضر عليه السلام

- ‌ سَبَب تَسْمِيَته بالخضر

- ‌ هَل كَانَ الْخضر رَسُولا أم نَبيا أم وليا أم ملكا

- ‌ هَل الْخضر عليه السلام حَيّ حَتَّى الْآن

- ‌فصل سيدنَا دَاوُد عليه السلام

- ‌فصل سيدنَا سُلَيْمَان بن دَاوُد عليهما السلام

- ‌ مَا هِيَ فتْنَة سُلَيْمَان عليه السلام

- ‌ تسخير اللهُ لِسُلَيْمَان الرّيح وَالشَّيَاطِين

- ‌فصل سيدنَا زَكَرِيَّا وَابْنه سيدنَا يحيى عليهما السلام

- ‌فصل سيدنَا يحيى وَعِيسَى عليهما السلام ابْني الْخَالَة

- ‌ بعض صِفَات سيدنَا يحيى عليه السلام

- ‌فصل سيدنَا عِيسَى عليه السلام

- ‌ مناظرة بَين عَالم مُسلم وَنَصْرَانِي

- ‌ سيدنَا عِيسَى عليه السلام حيّ فِي السَّمَاء، وسينزل آخر الزَّمَان قرب قيام السَّاعَة

- ‌بَاب الْإِيمَان بِالْيَوْمِ الآخر

- ‌ من يقبض الْأَرْوَاح

- ‌فصل: الْقَبْر

- ‌ الأَرْض لَا تَأْكُل أجساد الْأَنْبِيَاء، وَهل تَأْكُل أجساد الشُّهَدَاء

- ‌ هَل يسمع الْمَوْتَى؟ وَالْكَلَام على تلقين الْمَوْتَى

- ‌ عَذَاب الْقَبْر

- ‌ الْمَيِّت يعذب ببكاء أَهله عَلَيْهِ

- ‌ زِيَارَة الْقُبُور

- ‌فصل: يَوْم الْقِيَامَة

- ‌ بعض أَسْمَائِهِ

- ‌ إِنْكَار الْكفَّار ليَوْم الْقِيَامَة وتوعدهم على ذَلِك بالسعير

- ‌ مُدَّة يَوْم الْقِيَامَة

- ‌بعض أَشْرَاط السَّاعَة

- ‌ القحطاني

- ‌ الدَّجَّال، وَبَيَان أَنه حيّ حَتَّى الْآن

- ‌ يَأْجُوج وَمَأْجُوج

- ‌من آثَار يَوْم الْقِيَامَة

- ‌ تشقق السَّمَاء

- ‌ تسيير الْجبَال وبروز الأَرْض

- ‌فصل الْبَعْث

- ‌ إِنْكَار الْكفَّار للبعث

- ‌ إِنْكَار الْبَعْث سَببا لدُخُول النَّار

- ‌ براهين الْبَعْث

- ‌ نفخة الْبَعْث، وخروجهم مُسْرِعين لِلْحسابِ

- ‌ كَيفَ يُحشر المتقون، ويُساق المجرمون

- ‌ زَلْزَلَة السَّاعَة

- ‌ الْحَشْر يكون لجَمِيع الْمَخْلُوقَات

- ‌ بَيَان كَيْفيَّة الْعرض

- ‌ مَا جَاءَ فِي تطاير الصُّحُف

- ‌ يَوْم الْقِيَامَة يدعى كل أنَاس بإمامهم

- ‌ من أَسبَاب اسوداد الْوُجُوه يَوْم الْقِيَامَة

- ‌ السُّؤَال يَوْم الْقِيَامَة

- ‌ الشُّهُود يَوْم الْقِيَامَة

- ‌ الْمِيزَان

- ‌ الْفرق بَين الْكتاب وَالْمِيزَان

- ‌فصل: الْجنَّة وَالنَّار

- ‌ دُخُول الْجنَّة بِفضل من الله - تَعَالَى-، وتفاوت الْمنَازل بِحَسب الْأَعْمَال

- ‌ التَّوَارُث بَين أهل الْجنَّة وَأهل النَّار

- ‌ بعض مَا جَاءَ فِي نعيم أهل الْجنَّة

- ‌ بعض صِفَات الْحور الْعين

- ‌ الْجنَّة لَا ليل فِيهَا، وَإِنَّمَا هِيَ نور دَائِم وضياء

- ‌النَّار

- ‌ عدد أَبْوَاب النَّار

- ‌ بعض صِفَات النَّار وَبَيَان أَنَّهَا منَازِل

- ‌ كَيفَ ينْبت الضريع فِي النَّار

- ‌ النَّار لَهَا إِدْرَاك وحس

- ‌ أَشد أهل النَّار عذَابا

- ‌ الْفرق بَين عَذَاب الْكفَّار وعصاة الْمُوَحِّدين

- ‌ خُلُود أهل الْجنَّة وخلود أهل النَّار

- ‌بَاب: الْإِيمَان بِالْقضَاءِ وَالْقدر

- ‌ الله عز وجل يَصْرِفُ الْأَشْقِيَاءَ، الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمُ الشَّقَاوَةُ فِي علمه، عَن الْحق، ويحول بَينهم وَبَينه

- ‌ أَنْوَاع الأقلام

- ‌ التَّقْدِير الحولي فِي لَيْلَة الْقدر

- ‌ الْأَمر الكوني، وَالْأَمر الشَّرْعِيّ

- ‌ الْفرق والمذاهب فِي الْقدر

- ‌ الرَّد على مَذْهَب الجبرية، وَتَقْرِير مَذْهَب السّلف

- ‌ بَيَان أَن الْأَخْذ بالأسباب لَا يُنَافِي التَّوَكُّل

- ‌بَاب: متفرقات عقائدية

- ‌الصُّوفِيَّة

- ‌ مَذْهَب الصُّوفِيَّة

- ‌بعض جهالات متأخري الصُّوفِيَّة

- ‌ اعْتِقَادهم سُقُوط التكاليف إِذا بلغ العَبْد (الْيَقِين) الْمعرفَة

- ‌ ادعاؤهم جَوَاز الْعَمَل بالإلهام

- ‌ الرقص

- ‌ الذّكر بِاللَّفْظِ الْمُفْرد

- ‌ التباهي بالزيارة

- ‌الشِّيعَة

- ‌دَعْوَة وحدة الْأَدْيَان وَبَيَان مَا فِيهَا من حق وباطل

الفصل: ‌فصل سيدنا عيسى عليه السلام

‌فصل سيدنَا عِيسَى عليه السلام

-

- قصَّة ولادَة سيدنَا عِيسَى عليه السلام وَبَعض صِفَاته.

قَالَ الْعَلامَة الشنقيطي رحمه الله مَا ملخصه: [قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً} . أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنْ يَذْكُرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ الْقُرْآنُ «مَرْيَمَ» حِينَ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا. وَقَوْلُهُ «انْتَبَذَتْ» أَيْ تنحَّت عَنْهُمْ وَاعْتَزَلَتْهُمْ مُنْفَرِدَةً عَنْهُمْ، وَقَوْلُهُ {مَكَاناً شَرْقِياً} أَي مِمَّا يَلِي شَرْقي بَيت الْمُقَدّس

وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا شَيْئًا عَنْ نَسَبِ «مَرْيَمَ» وَلَا عَنْ قِصَّةِ وِلَادَتِهَا. وَبَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهَا ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَأَنَّ أُمَّهَا نَذَرَتْ مَا فِي بَطْنِهَا مُحَرَّرًا، تَعْنِي لِخِدْمَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، تَظُنُّ أَنَّهَا سَتَلِدُ ذَكَرًا «فَوَلَدَتْ مَرْيَمَ» . قَالَ فِي بَيَانِ كَوْنِهَا ابْنَةَ عِمْرَانَ:{وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} . وَذَكَرَ قِصَّةَ وِلَادَتِهَا فِي «آلِ عِمْرَانَ» فِي قَوْله: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاٍّنثَى وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .

وَقَوْلُهُ «مَكَانًا» مَنْصُوبٌ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا} .

أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ «رُوحَنَا» جِبْرِيلُ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} ، وَقَوْلُهُ:

{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ

ص: 546

بِالْحَقِّ} ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى اللَّهِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَتَكْرِيمٍ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} تَمَثُّلُهُ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَلَكٌ وَلَيْسَ بِآدَمِيٍّ. وَهَذَا الْمَدْلُولُ صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} . وَهَذَا الَّذِي بَشَّرَهَا بِهِ هُوَ الَّذِي قَالَ لَهَا هُنَا {إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً} . وَقَوْلُهُ {بَشَراً سَوِيّاً} حَالَانِ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ «تَمَثَّلَ لَهَا» . قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً} ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ ذَلِكَ الرُّوحَ الَّذِي هُوَ جِبْرِيلُ قَالَ لَهَا إِنَّهُ رَسُولُ رَبِّهَا لِيَهَبَ لَهَا، أَيْ لِيُعْطِيَهَا غُلَامًا أَيْ وَلَدًا زَكِيًّا، أَيْ طَاهِرًا مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، كَثِيرَ الْبَرَكَاتِ. وَبَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَثِيرًا مِنْ صِفَاتِ هَذَا الْغُلَامِ الْمَوْهُوبِ لَهَا، وَهُوَ عِيسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، كَقَوْلِهِ:{إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِين َوَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ} وَقَوْلِهِ: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيل َوَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ} ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى صِفَاتِ هَذَا الْغُلَامِ.

وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ أَبُو عَمْرٍو وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ وَقَالُونُ عَنْهُ أَيْضًا بِخُلْفٍ عَنْهُ «لِيَهَبَ» بِالْيَاءِ الْمَفْتُوحَةِ بَعْدَ اللَّامِ أَيْ لِيَهَبَ لَكِ هُوَ، أَيْ رَبُّكِ غُلَامًا زَكِيًّا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ «لِأَهَبَ» بِهَمْزَةِ الْمُتَكَلِّمِ أَيْ لأهب لَك هُوَ أَنَا أَيُّهَا الرَّسُولُ مِنْ رَبِّكِ غُلَامًا زَكِيًّا، وَفِي مَعْنَى إِسْنَادِهِ الْهِبَةَ إِلَى نَفْسِهِ عَلَى قِرَاءَة الْجُمْهُور

ص: 547

خِلَافٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ جِبْرِيلَ لَهَا {قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً} أَيْ لِأَكُونَ سَبَبًا فِي هِبَةِ الْغُلَامِ بِالنَّفْخِ فِي الدِّرْعِ الَّذِي وَصَلَ إِلَى الْفَرْجِ، فَصَارَ بِسَبَبِهِ حَمْلُهَا عِيسَى. وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «التَّحْرِيمِ» أَنَّ هَذَا النَّفْخَ فِي فرجهَا فِي قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ «فِيهِ» رَاجِعٌ إِلَى فَرْجِهَا وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي «الْأَنْبِيَاءِ» :{وَالَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} لِأَنَّ النَّفْخَ وَصَلَ إِلَى الْفَرْجِ فَكَانَ مِنْهُ حَمْلُ عِيسَى، وَبِهَذَا فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ الْآيَة.

وَقَالَ بعض الْعلمَاء: قَول جِبْرِيل {رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ} حِكَايَةٌ مِنْهُ لِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا. وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكَ، وَقَدْ قَالَ لِي أَرْسَلْتُكَ لِأَهَبَ غُلَامًا.

وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَفِي الثَّانِي بُعْدٌ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: جَعَلَ الْهِبَةَ مِنْ قِبَلِهِ لَمَّا كَانَ الْإِعْلَامُ بِهَا مِنْ قِبَلِهِ، وَبِهَذَا صَدَّرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَأَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ: وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى (1) .

(1) - وَقَالَ أَيْضا الْعَلامَة الشنقيطي رحمه الله (1/381 - 382)(النِّسَاء/171) : [قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} ، لَيْسَتْ لَفْظَةُ «مِن» فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلتَّبْعِيضِ، كَمَا يَزْعُمُهُ النَّصَارَى افْتِرَاءً عَلَى اللَّه، وَلَكِنْ «مِن» هُنَا لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، يَعْنِي: أَنَّ مَبْدَأَ ذَلِكَ الرُّوحِ الَّذِي وُلِدَ بِهِ عِيسَى حَيًّا مِنَ اللَّه تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَحْيَاهُ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ هُنَا لابتداء الْغَايَة. {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ} ، أَيْ: كَائِنًا مَبْدَأُ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْهُ جَلَّ وَعَلَا وَيَدُلُّ لِمَا ذَكَرْنَا مَا رُوِيَ عَنْ أُبيّ بْنِ كَعْبٍ، أَنَّهُ قَالَ:«خَلَقَ اللَّه أَرْوَاحَ بَنِي آدَمَ لَمَّا أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ، ثُمَّ رَدَّهَا إِلَى صُلْبِ آدَمَ، وَأَمْسَكَ عِنْدَهُ رُوحَ عِيسَى عليه الصلاة والسلام» ؛ فَلَمَّا أَرَادَ خَلْقَهُ أَرْسَلَ ذَلِكَ الرُّوحَ إِلَى مَرْيَمَ، فَكَانَ مِنْهُ عِيسَى عليه السلام، وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ لِلتَّفْضِيلِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَرْوَاحِ مِنْ خَلْقِهِ جَلَّ وَعَلَا، كَقَوْلِهِ:{وَطَهّرْ بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ} ، وَقَوله:{نَاقَةُ اللَّهِ} . وَقِيلَ: قَدْ يُسَمَّى مَنْ تَظْهَرُ مِنْهُ الْأَشْيَاءُ الْعَجِيبَةُ رُوحًا وَيُضَافُ إِلَى اللَّه، فَيُقَالُ: هَذَا رُوحٌ مِنَ اللَّه، أَيْ: مِنْ خَلْقِهِ، وَكَانَ عِيسَى يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الْمَوْتَى بِإِذن اللَّه، فاستحقّ هَذَا الِاسْم، وَقيل: سمي روحًا بِسَبَب نفخة جِبْرِيل عليه السلام الْمَذْكُورَة فِي سُورَة «الْأَنْبِيَاء» «وَالتَّحْرِيم» ، وَالْعرب تسمي النفخ روحًا؛ لِأَنَّهُ ريح تخرج من الرّوح، وَمِنْه قَول ذِي الرمة:

فَقلت لَهُ: ارفعها إِلَيْك وأحيها

بروحك واقتته لَهَا قيتة قدرا

وعَلى هَذَا القَوْل، فَقَوله:{وَرُوحٌ} مَعْطُوف على الضَّمِير الْعَائِد إِلَى اللَّه الَّذِي هُوَ فَاعل أَلْقَاهَا، قَالَه الْقُرْطُبِيّ، واللَّه

تَعَالَى أعلم.

وَقَالَ بعض الْعلمَاء: {وَرُوحٌ مّنْهُ} ، أَي: رَحْمَة مِنْهُ، وَكَانَ عِيسَى رَحْمَة من اللَّه لمن اتبعهُ، قيل وَمِنْه:{وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ} ، أَي: برحمة مِنْهُ، حَكَاهُ الْقُرْطُبِيّ أَيْضا، وَقيل، {رُوحُ مِنْهُ} ، أَي: برهَان مِنْهُ وَكَانَ عِيسَى برهانًا وَحجَّة على قومه، وَالْعلم عِنْد اللَّه تَعَالَى.] وَانْظُر أَيْضا (8/383 - 384)(التَّحْرِيم/12) .

ص: 548

قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} . ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَن مَرْيَمَ لَمَّا بَشَّرَهَا جِبْرِيلُ بِالْغُلَامِ الزَّكِيِّ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَتْ: {أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ} أَيْ كَيْفَ أَلِدُ غُلَامًا وَالْحَالُ أَنِّي لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ، تَعْنِي لَمْ يُجَامِعْنِي زَوْجٌ بِنِكَاحٍ، {وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} ، أَيْ لَمْ أَكُ زَانِيَةً. وَإِذَا انْتَفَى عَنْهَا مَسِيسُ الرِّجَالِ حَلَالًا وَحَرَامًا فَكَيْفَ تَحْمِلُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ اسْتِفْهَامَهَا اسْتِخْبَارٌ وَاسْتِعْلَامٌ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا حَمْلُ الْغُلَامِ الْمَذْكُورِ، لِأَنَّهَا مَعَ عَدَمِ مَسِيسِ الرِّجَالِ لَمْ تَتَّضِحْ لَهَا الْكَيْفِيَّةُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامُهَا تَعَجُّبٌ مِنْ كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا عَنْهَا: أَنَّهَا قَالَتْهُ هُنَا ذَكَرَهُ عَنْهَا أَيْضًا فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ

ص: 549

أَنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} . وَاقْتِصَارُهَا فِي آيَةِ «آلِ عِمْرَانَ» عَلَى قَوْلِهَا {وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَسِيسَ الْبَشَرِ الْمَنْفِيَّ عَنْهَا شَامِلٌ لِلْمَسِيسِ بِنِكَاحٍ وَالْمَسِيسِ بِزِنًى، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهَا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» :{وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} يَظْهَرُ فِيهِ أَنَّ قَوْلَهَا «وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا» : تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ؛ لِأَنَّ مَسِيسَ الْبَشَرِ يَشْمَلُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا {إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً} جَعَلَ الْمَسَّ عِبَارَةً عَنِ النِّكَاحِ الْحَلَالِ لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} . {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَآءَ} وَالزِّنَى لَيْسَ كَذَلِكَ، إِنَّمَا يُقَالُ فِيهِ: فَجَرَ بِهَا، وَخَبُثَ بِهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَلَيْسَ بِقَمِنٍ أَنْ تُرَاعَى فِيهِ الْكِنَايَات والآداب اهـ.

وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ، وَآيَةُ آلِ عِمْرَانَ تَدُلُّ عَلَيْهِ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ لَفْظَةَ «بَشَرٌ» نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَهِيَ تَعُمُّ كُلَّ بَشَرٍ: فَيَنْتَفِي مَسِيسُ كُلِّ بَشَرٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَالْبَغِيُّ: الْمُجَاهِرَةُ المشتهر بالزنى

قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} . ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَن مَرْيَم حملت عِيسَى. فَقَوله {حَمَلَتْهُ} أَيْ عِيسَى {فَانْتَبَذَتْ بِهِ} : أَيْ تَنَحَّتْ بِهِ وَبَعُدَتْ مُعْتَزِلَةً عَنْ قَوْمِهَا {مَكَاناً قَصِيّاً} أَيْ فِي مَكَانهَا بَعِيدٍ: وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمَكَانَ الْمَذْكُورَ بَيْتُ لَحْمٍ. وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ} أَيْ أَلْجَأَهَا الطَّلْقُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ، أَيْ جِذْعِ نَخْلَةٍ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ. وَالْعرب تَقول: جَاءَ فلَان، وأجاءه غَيْرُهُ: إِذَا حَمَلَهُ عَلَى الْمَجِيءِ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:

وَجَارٍ سَارَ مُعْتَمِدًا إِلَيْنَا

أَجَاءَتْهُ الْمَخَافَةُ والرجاء

ص: 550

وَقَوْلُ حَسَّانَ رضي الله عنه:

إِذْ شَدَدْنَا شَدَّةً صَادِقَةً

فَاجَأْنَاكُمْ إِلَى سَفْحِ الْجَبَلِ

وَالْمَخَاضُ: الطَّلْقُ، وَهُوَ وَجَعُ الْوِلَادَةِ، وَسُمِّيَ مَخَاضًا مِنَ الْمَخْضِ، وَهُوَ الْحَرَكَةُ الشَّدِيدَةُ لِشِدَّةِ تَحَرُّكِ الْجَنِينِ فِي بَطْنِهَا إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ.

وَقَوْلُهُ: {قَالَتْ يالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} تَمَنَّتْ أَنْ تَكُونَ قَدْ مَاتَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَمْ تَكُنْ شَيْئًا يُذْكَرُ. فَإِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ هُنَا لَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ حَمْلِهَا بِهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هَلْ هَذَا الَّذِي تَنَحَّتْ عَنْهُمْ مِنْ أَجْلِهِ، وَتَمَنَّتْ مِنْ أَجْلِهِ أَنْ تَكُونَ مَاتَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَكَانَتْ نَسْيًا مَنْسِيًّا: وَهُوَ خَوْفُهَا مِنْ أَنْ يَتَّهِمُوهَا بِالزِّنَى، وَأَنَّهَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْغُلَامِ مِنْ زِنًى وَقَعَتْ فِيهِ أَوْ سَلِمَتْ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ كُلَّ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ كَيْفِيَّةَ حَمْلِهَا أَنَّهُ نَفَحَ فِيهَا فَوَصَلَ النَّفْخُ إِلَى فَرْجِهَا فَوَقَعَ الْحَمْلُ بِسَبَب ذَلِك، كَمَا قَالَ:{وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} وَقَالَ {وَالَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} .

وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ النَّفْخِ نَفْخُ جِبْرِيلَ فِيهَا بِإِذْنِ اللَّهِ فَحَمَلَتْ، كَمَا تَدُلُّ لِذَلِكَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فِي قَوْلِهِ:{إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً} كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ إِسْنَادُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا النَّفْخَ الْمَذْكُورَ لِنَفَسِهِ فِي قَوْلِهِ {فَنَفَخْنَا} ؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ إِنَّمَا أَوْقَعَهُ بِإِذْنِهِ وَأَمْرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَهُوَ تَعَالَى الَّذِي خَلَقَ الْحَمْلَ مِنْ ذَلِكَ النَّفْخِ، فَجِبْرِيلُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ الْحَمْلَ مِنْ ذَلِكَ النفخ وَمن أجل كَونه بِإِذْنِهِ ومشيئته وَأمر تَعَالَى، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ النَّفْخُ الْمَذْكُورُ وَلَا وجود الْحمل مِنْهُ إِلَّا مِنْهُ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ جَلَّ وَعَلَا أَسْنَدَهُ إِلَى نَفْسِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ فَرْجَهَا الَّذِي نَفَخَ فِيهِ الْمَلَكُ هُوَ جَيْبُ دِرْعِهَا ظَاهِرُ

ص: 551

السُّقُوطِ، بَلِ النَّفْخُ الْوَاقِعُ فِي جَيْبِ الدِّرْعِ وَصَلَ إِلَى الْفَرْجِ الْمَعْرُوفِ فَوَقَعَ الْحَمْلُ.

وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي خَافَتْ مِنْهُ وَهُوَ قَذْفُهُمْ لَهَا بِالْفَاحِشَةِ قَدْ وَقَعَتْ فِيهِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ بَرَّأَهَا، وَذَلِكَ كَقَوْلِه عَنْهُم:{قَالُواْ يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} يَعْنُونَ الْفَاحِشَةَ، وَقَوْلِهِ عَنْهُمْ، {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} يَعْنُونَ فَكَيْفَ فَجَرْتِ أَنْتِ وَجِئْتِ بِهَذَا الْوَلَدِ؟ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} .

وَقَوْلُهُ: {مَكَاناً قَصِيّاً} الْقَصِيُّ، الْبَعِيدُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:

لَتَقْعُدِنَّ مَقْعَدَ الْقَصِيِّ

مِنِّيَ ذِي الْقَاذُورَةِ الْمَقْلِيِّ

أَوْ تَحْلِفِي بِرَبِّكِ الْعَلِيِّ

أَنِّي أَبُو ذَيَّالِكَ الصَّبِيِّ

وَهَذَا الْمَكَانُ الْقَصِيُّ قَدْ وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بِقَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً

وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} . وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {فَانْتَبَذَتْ بِهِ} أَيْ انْتَبَذَتْ وَهُوَ فِي بَطْنِهَا. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ هَذَا إِلَى الْحَمْلِ وَالْمَخَاضِ الَّذِي أَصَابَهَا لِلْوَضْعِ.

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْهَا: {وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} النِّسْيُ والنِّسي بِالْكَسْرِ وَبِالْفَتْحِ: هُوَ مَا مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُطْرَحَ وَيُنْسَى لِحَقَارَتِهِ، كَخِرَقِ الْحَيْضِ، وَكَالْوَتَدِ وَالْعَصَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا ارْتَحَلُوا عَنِ الدَّارِ قَوْلُهُمْ: انْظُرُوا أَنَسَاءَكُمْ جَمْعُ نَسْيٍ؟ أَيِ الْأَشْيَاءُ الْحَقِيرَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُتْرَكَ وَتُنْسَى كَالْعَصَا وَالْوَتَدِ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَقَوْلُهَا «وَكُنْتُ نَسْيًا» أَيْ شَيْئًا تَافِهًا حَقِيرًا مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُتْرَكَ وَيُنْسَى عَادَةً. وَقَوْلُهَا «مَنْسِيًّا» تَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ التَّافِهَ الَّذِي مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يُتْرَكَ وَيُنْسَى قَدْ نُسِيَ وَطُرِحَ بِالْفِعْلِ فَوُجِدَ فِيهِ النِّسْيَانُ الَّذِي هُوَ حَقُّهُ. وَأَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي

ص: 552

الْآيَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا، وَمِنْ إِطْلَاقِ النَّسْيِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَوْلُ الْكُمَيْتِ:

أَتَجْعَلُنَا جِسْرًا لِكَلْبِ قُضَاعَةَ

وَلَسْتُ بِنَسْيٍ فِي مُعَدٍّ وَلَا دَخَلْ

فَقَوْلُهُ «بِنَسْيٍ» أَيْ شَيْءٌ تَافِهٌ مَنْسِيٌّ، وَقَوْلُ الشَّنْفَرَى:

كَأَنَّ لَهَا فِي الْأَرْضِ نَسْيًا تَقُصُّهُ

عَلَى أَمِّهَا وَإِنْ تُحَدِّثْكَ تَبْلَتِ

فَقَوْلُهُ «نَسْيًا» أَيْ شَيْءٌ تَرَكَتْهُ وَنَسِيَتْهُ. وَقَوْلُهُ «تَبْلَتِ» بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ بَعْدَهَا تَاءُ التَّأْنِيثِ أَيْ تَقْطَعُ كَلَامَهَا من الْحيَاء. والبلت فِي اللُّغَة: الْقطع

وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ الَّتِي حَمَلَتْ فِيهَا مَرْيَمُ بِعِيسَى قَبْلَ الْوَضْعِ لَمْ نَذْكُرْهَا، لِعَدَمِ دَلِيلٍ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا. وَأَظْهَرُهَا: أَنَّهُ حَمْلٌ كَعَادَةِ حَمْلِ النِّسَاءِ وَإِنْ كَانَ مَنْشَؤُهُ خَارِقًا لِلْعَادَةِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلَاّ تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} . اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ فِي هَذَا الْحَرْفِ قِرَاءَتَيْنِ سَبْعِيَّتَيْنِ: قَرَأَهُ نَافِعٌ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ} بِكَسْرِ الْمِيمِ عَلَى أَنَّ «مِنْ» حَرْفُ جَرٍّ، وَخَفْضِ تَاءِ تَحْتِهَا، لِأَنَّ الظَّرْفَ مَجْرُورٌ بِـ «مَنْ» عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ مَوْصُولٌ هُوَ فَاعِلُ نَادَى، أَن نَادَاهَا الَّذِي تَحْتَهَا. وَفَتْحِ «تَحْتَهَا» فَعَلَى الْقِرَاءَةِ فَفَاعِلُ النِّدَاءِ ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ. وَعَلَى الثَّانِيَةِ فَالْفَاعِلُ الِاسْمُ الْمَوْصُولُ الَّذِي هُوَ «مَنْ» .

وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ مُخْتَلِفُونَ فِي هَذَا الْمُنَادِي الَّذِي نَادَاهَا الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالضَّمِيرِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِالِاسْمِ الْمَوْصُولِ مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ عِيسَى. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ جِبْرِيلُ. وَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّ الَّذِي نَادَى مَرْيَمَ هُوَ جِبْرِيلُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَأَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ قَالُوا: لَمْ يَتَكَلَّمْ عِيسَى حَتَّى أَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا.

ص: 553

وَمِمَّنْ قَالَ إِن الَّذِي ناداها هُوَ عسيى عِنْدَمَا وَضَعَتْهُ: أُبَيٌّ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ وَابْنُ زَيْدٍ.

فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ الْمَلَكُ يَقُولُ: فَنَادَاهَا جِبْرِيلُ مِنْ مَكَانٍ تَحْتَهَا، لِأَنَّهَا عَلَى رَبْوَةٍ مُرْتَفِعَةٍ، وَقَدْ نَادَاهَا مِنْ مَكَانٍ مُنْخَفِضٍ عَنْهَا، وَبَعْضُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ: كَانَ جِبْرِيلُ تَحْتَهَا يَقْبَلُ الْوَلَدَ كَمَا تَقْبَلُهُ الْقَابِلَةُ. وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَعَلَى قِرَاءَةِ «فَنَادَاهَا مَنْ تَحْتَهَا» بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَاءِ «تَحْتَهَا» عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ. فَالْمَعْنَى فَنَادَاهَا الَّذِي هُوَ تَحْتَهَا أَيْ فِي مَكَانٍ أَسْفَلَ مِنْ مَكَانِهَا، أَوْ تَحْتَهَا يَقْبَلُ الْوَلَدَ كَمَا تَقْبَلُ الْقَابِلَةُ مَعَ ضَعْفِ الِاحْتِمَالِ الْأَخِيرِ كَمَا قَدَّمْنَا، أَيْ وَهُوَ جِبْرِيلُ فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ «فَنَادَاهَا» هُوَ أَيْ جِبْرِيلُ مِنْ تَحْتِهَا. وعَلى الْقِرَاءَة الثَّانِيَة «فنادها مِنْ تَحْتِهَا» أَيْ الَّذِي تَحْتَهَا وَهُوَ جِبْرِيلُ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُنَادِي هُوَ عِيسَى، فَالْمَعْنَى عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى: فَنَادَاهَا هُوَ أَيْ الْمَوْلُودُ الَّذِي وَضَعَتْهُ مِنْ تَحْتِهَا. لِأَنَّهُ كَانَ تَحْتَهَا عِنْدَ الْوَضْعِ. وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ: «فَنَادَاهَا مَنْ تَحْتَهَا» أَيْ الَّذِي تَحْتَهَا وَهُوَ الْمَوْلُودُ الْمَذْكُورُ الْكَائِنُ تَحْتَهَا عِنْدَ الْوَضْعِ. وَمِمَّنِ اخْتَارَ أَنَّ الَّذِي نَادَاهَا هُوَ عِيسَى: ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَاسْتَظْهَرَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَاسْتَظْهَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ جِبْرِيلُ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي أَنَّ الَّذِي نَادَاهَا هُوَ ابْنُهَا عِيسَى، وَتَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَرِينَتَانِ:

الْأُولَى: أَنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ صَارِفٍ عَنْ ذَلِكَ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَأَقْرَبُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ هُوَ عِيسَى لَا جِبْرِيلُ. لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ {فَحَمَلَتْهُ} يَعْنِي عِيسَى {فَانْتَبَذَتْ بِهِ} أَيْ بِعِيسَى.

ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ «فَنَادَاهَا» فَالَّذِي يَظْهَرُ وَيَتَبَادَرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّهُ عِيسَى.

ص: 554

وَالْقَرِينَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا لَمَّا جَاءَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ، وَقَالُوا لَهَا مَا قَالُوا أَشَارَتْ إِلَى عِيسَى لِيُكَلِّمُوهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهَا:{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيّاً} وَإِشَارَتُهَا إِلَيْهِ لِيُكَلِّمُوهُ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهَا عَرَفَتْ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ لِنِدَائِهِ لَهَا عِنْدَمَا وَضَعَتْهُ، وَبِهَذِهِ الْقَرِينَةِ الْأَخِيرَةِ اسْتَدَلَّ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ عَلَى أَنَّهُ عِيسَى، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَ «أَنْ» فِي قَوْلِهِ «أَلَّا تَحْزَنِي» هِيَ الْمُفَسِّرَةُ، فَهِيَ بِمَعْنَى أَيْ، وَضَابِطُ «أَنْ» الْمُفَسِّرَةِ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ كَمَا هُنَا. فَالنِّدَاءُ فِيهِ بِمَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ وَمَعْنَى كَوْنِهَا مُفَسِّرَةً: أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي بَعْدَهَا هُوَ مَعْنَى مَا قَبْلَهَا. فَالنِّدَاءُ الْمَذْكُورُ قَبْلَهَا هُوَ: لَا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكَ تَحْتَكِ سَرِيًّا.

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالسَّرِيِّ هُنَا. فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ الْجَدْوَلُ وَهُوَ النَّهْرُ الصَّغِيرُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَجْرَى لَهَا تَحْتَهَا نَهْرًا، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى:{فَكُلِى} أَيْ مِنَ الرُّطَبِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً. فَكُلِي وَاشْرَبِى} أَيْ مِنَ النَّهْرِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلَاّ تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} وَإِطْلَاقُ السَّرِيِّ عَلَى الْجَدْوَلِ مَشْهُور فِي كَلَام الْعَرَب. وَمِنْه قَول لبيد فِي مُعَلَّقَتِهِ:

فَتَوَسَّطَا عُرْضَ السَّرِيِّ وَصَدَّعَا

مَسْجُورَةً متجاوراً نلامها

وَقَوْلُ لَبِيَدٍ أَيْضًا يَصِفُ نَخْلًا نَابِتًا عَلَى مَاءِ النَّهْرِ:

سُحُقٌ يُمَتِّعُهَا الصَّفَا وَسَرِيُّهُ

عُمٌّ نواعم بَينهُنَّ كروم

وَقَول الآخر:

سهل الْخَلِيفَة مَا جد ذُو فائل

مثل السّري تمده الْأَنْهَار

فَقَوله «سريه» ، وَقَوْلُهُمَا «السَّرِيُّ» بِمَعْنَى الْجَدْوَلِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ الرَّاجِزِ:

سَلْمٌ تَرَى الدَّالِيَ مِنْهُ أَزْوَرَا

إِذَا يَعُبُّ فِي السَّرِيِّ هَرْهَرَا

ص: 555

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: السَّرِيُّ هُوَ عِيسَى. وَالسَّرِيُّ هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي لَهُ شَرَفٌ وَمُرُوءَةٌ. يُقَالُ فِي فِعْلِهِ سَرُوَ بِالضَّمِّ. وَسَرَا بِالْفَتْحِ يَسْرُو سَرْوًا فِيهِمَا. وَسَرِيَ بِالْكَسْرِ يَسْرِي سِرًى وَسِرَاءً وَسَرْوًا إِذَا شَرُفَ. وَيُجْمَعُ السَّرِيُّ هَذَا عَلَى أَسْرِيَاءَ عَلَى الْقِيَاسِ، وَسُرَوَاءَ وَسَرَاةٍ بِالْفَتْحِ. وَعَنْ سِيبَوَيْهَ أَنَّ السَّرَاةَ بِالْفَتْحِ اسْمُ جَمْعٍ لَا جَمْعٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَفْوَهِ الْأَوْدِيِّ:

لَا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ

وَلَا سَرَاةَ إِذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا

وَيُجْمَعُ السَّرَاةُ عَلَى سَرَوَاتٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الْحَطِيمِ:

وَعَمْرَةُ مِنْ سَرَوَاتِ النِّسَاءِ

تَنْفَحُ بِالْمِسْكِ أَرْدَانُهَا

وَمِنْ إِطْلَاقِ السَّرِيِّ بِمَعْنَى الشَّرِيفِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

تَلْقَى السَّرِيَّ مِنَ الرِّجَالِ بِنَفْسِهِ

وَابْنُ السَّرِيِّ إِذَا سرى أَسْرَاهُمَا

وَقَوْلُهُ «أَسْرَاهُمَا» أَيْ أَشْرَفُهُمَا. قَالَهُ فِي اللِّسَانِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي أَنَّ السَّرِيَّ فِي الْآيَةِ النَّهْرُ الصَّغِيرُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَانِ:

أَحَدُهُمَا: الْقَرِينَةُ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى:{فَكُلِى وَاشْرَبِى} قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمَأْكُولَ وَالْمَشْرُوبَ هُوَ مَا تَقَدَّمَ الِامْتِنَانُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} ، وَقَوله {مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعًا} ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:{إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} لِأَنَّ الْمَعِينَ: المَاء الْجَارِي. وَالظَّاهِر أَن الْجَدْوَلُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالسَّرِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

الْأَمْرُ الثَّانِي: حَدِيثٌ جَاءَ بِذَلِكَ عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَقَدْ جَاءَ بِذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، قَالَ الطَّبَرَانِيّ (1) :

(1) - مُعْجم الطَّبَرَانِيّ (12/346)(13303) والْحَدِيث قد نقل الماتن كَلَام الْعلمَاء عَلَيْهِ، فَلَا وَجه للتكرار.

ص: 556

حَدَّثَنَا أَبُو شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَابِلِيُّ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ نَهِيكٍ، سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ السَّرِيَّ الَّذِي قَالَ اللَّهُ لِمَرْيَمَ: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} ، نَهْرٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَهَا لِتَشْرَبَ مِنْهُ» وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَأَيُّوبُ بْنُ نَهِيكٍ هَذَا هُوَ الْحُبُلِيُّ، قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: ضَعِيفٌ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ الْأَزْدِيُّ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ. انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ. وَقَالَ ابْنُ حجر رحمه الله فِي «الْكَافِي الشَّافِ، فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْكَشَّافِ» فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ (1) ، وَابْنُ عَدِيٍّ (2) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سِنَانٍ سَعِيدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} قَالَ: «السَّرِيُّ النَّهْرُ» . قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: لَمْ يَرْفَعْهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ إِلَّا أَبُو سِنَانٍ، رَوَاهُ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ (3) ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ مَوْقُوفًا. وَكَذَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا (4) عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ. وَرَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ آدَمَ، عَنْ إِسْرَائِيلَ كَذَلِكَ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ (5) مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ مَوْقُوفًا. وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ:«إِنَّ السَّرِيَّ الَّذِي قَالَهُ لِمَرْيَمَ نَهْرٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لِتَشْرَبَ مِنْهُ» .

أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ (6) فِي تَرْجَمَةِ عِكْرِمَةَ عَن ابْن

(1) - مُعْجم الطَّبَرَانِيّ الصَّغِير (2/9)(685) .

(2)

- الْكَامِل (6/401) .

(3)

- تَفْسِير الصَّنْعَانِيّ (3/6 - 7) .

(4)

- صَحِيح البُخَارِيّ (3/1267) .

(5)

- الْمُسْتَدْرك (3/405)(3413) ، وَصَححهُ على شَرطهمَا وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيّ.

(6)

- حلية الْأَوْلِيَاء (3/346) .

ص: 557

عمر، وَرِوَايَة عَنْ عِكْرِمَةَ أَيُّوبُ بْنُ نَهِيكٍ ضَعَّفَهُ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو زُرْعَةَ انْتَهَى.

فَهَذَا الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ إِلَى النَّبي صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَتْ طُرُقُهُ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ ضَعْفٍ أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ مِنْ دَعْوَى أَنَّ السَّرِيَّ عِيسَى بِغَيْرِ دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَمِمَّنِ اخْتَارَ أَنَّ السَّرِيَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ النَّهْرُ: ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَبِهِ قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَغَيْرُهُمْ. وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّهُ عِيسَى: الْحَسَنُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ. وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ قَتَادَةَ. وَقَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِى وَاشْرَبِى وَقَرِّى عَيْناً} ، لَمْ يُصَرِّحْ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِبَيَانِ الشَّيْءِ الَّذِي أَمَرَهَا أَنْ تَأْكُلَ مِنْهُ، وَالشَّيْءِ الَّذِي أَمَرَهَا أَنْ تَشْرَبَ مِنْهُ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَنَّ الَّذِي أَمَرَهَا أَنْ تَأْكُلَ مِنْهُ هُوَ «الرُّطَبُ الْجَنِيُّ» الْمَذْكُورُ، وَالَّذِي أَمَرَهَا أَنْ تَشْرَبَ مِنْهُ هُوَ النَّهْرُ الْمَذْكُورُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ «بِالسَّرِيِّ» كَمَا تَقَدَّمَ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ.

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ جِذْعَ النَّخْلَةِ الَّذِي أمرهَا أَن تهز بِهِ كَانَ جزعاً يَابِسًا؛ فَلَمَّا هَزَّتْهُ جَعَلَهُ اللَّهُ نَخْلَةً ذَاتَ رُطَبٍ جَنِيٍّ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَانَ الْجِذْعُ جِذْعَ نَخْلَةٍ نَابِتَةٍ إِلَّا أَنَّهَا غَيْرُ مُثْمِرَةٍ، فَلَمَّا هَزَّتْهُ أَنْبَتَ اللَّهُ فِيهِ الثَّمَرَ وَجَعَلَهُ رُطَبًا جَنِيًّا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَانَتِ النَّخْلَةُ مُثْمِرَةً، وَقَدْ أَمَرَهَا اللَّهُ بِهَزِّهَا لِيَتَسَاقَطَ لَهَا الرُّطَبُ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا. وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الْقُرْآنِ: أَنَّ اللَّهَ أَنْبَتَ لَهَا ذَلِكَ الرُّطَبَ عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ، وَأَجْرَى لَهَا ذَلِكَ النَّهْرَ عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ. وَلَمْ يَكُنِ الرُّطَبُ وَالنَّهْرُ

ص: 558

مَوْجُودَيْنِ قَبْلَ ذَلِكَ، سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الْجِذْعَ كَانَ يَابِسًا أَوْ نَخْلَةً غَيْرَ مُثْمِرَةٍ، إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَنَبَتَ فِيهِ الثَّمَرَ وَجَعَلَهُ رُطَبًا جَنِيًّا. وَوَجْهُ دَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:{فَكُلِى وَاشْرَبِى وَقَرِّى عَيْناً} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَيْنَهَا إِنَّمَا تَقَرُّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِالْأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُبَيِّنُ بَرَاءَتَهَا مِمَّا اتَّهَمُوهَا بِهِ. فَوُجُودُ هَذِهِ الْخَوَارِقِ مِنْ تَفْجِيرِ النَّهْرِ، وَإِنْبَاتِ الرُّطَبِ، وَكَلَامِ الْمَوْلُودِ تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ نَفْسُهَا وَتَزُولُ بِهِ عَنْهَا الربية، وَبِذَلِكَ يَكُونُ قُرَّةَ عَيْنٍ لَهَا؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مَعَ بَقَاءِ التُّهْمَةِ الَّتِي تَمَنَّتْ بِسَبَبِهَا أَنْ تَكُونَ قَدْ مَاتَتْ مِنْ قَبْلُ وَكَانَتْ نَسْيًا مَنْسِيًّا لَمْ يَكُنْ قُرَّةً لِعَيْنِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.

وَخَرْقُ اللَّهِ لَهَا الْعَادَةَ بِتَفْجِيرِ الْمَاءِ، وَإِنْبَاتِ الرُّطَبِ، وَكَلَامِ الْمَوْلُودِ لَا غَرَابَةَ فِيهِ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا فِي «آلِ عِمْرَانَ» عَلَى خَرْقِهِ لَهَا الْعَادَةَ فِي قَوْلِهِ {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قَالَ الْعُلَمَاءُ: كَانَ يَجِدُ عِنْدَهَا فَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ، وَفَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ. وَإِجْرَاءُ النَّهْرِ وَإِنْبَاتُ الرُّطَبِ لَيْسَ أَغْرَبَ مِنْ هَذَا الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ»

قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} لَمَّا اطْمَأَنَّتْ مَرْيَمُ بِسَبَبِ مَا رَأَتْ مِنَ الْآيَاتِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا آنِفًا أَتَتْ بِهِ (أَيْ بِعِيسَى) قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ غَيْرَ مُحْتَشِمَةٍ وَلَا مُكْتَرِثَةٍ بِمَا يَقُولُونَ، فَقَالُوا لَهَا:{يامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} ! قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: «فَرِيًّا» أَيْ عَظِيمًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ: «فرياً» أَي مُخْتَلفا مُفْتَعَلًا، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ:«فَرِيًّا» أَيْ عجيباً نَادرا.

ص: 559

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: الَّذِي يُفْهَمُ مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِقَوْلِهِمْ {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} أَيْ مُنْكَرًا عَظِيمًا، لِأَنَّ الْفَرِيَّ فَعِيلٌ مِنَ الْفِرْيَةِ، يَعْنُونَ بِهِ الزِّنَى؛ لِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَى كَالشَّيْءِ الْمُفْتَرَى الْمُخْتَلَقِ، لِأَنَّ الزَّانِيَةَ تَدَّعِي إِلْحَاقَهُ بِمَنْ لَيْسَ أَبَاهُ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ بِقَوْلِهِمْ «فَرِيًّا» الزِّنَى قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} لِأَنَّ ذَلِكَ الْبُهْتَانَ الْعَظِيمَ الَّذِي هُوَ ادِّعَاؤُهُمْ أَنَّهَا زَنَتْ، وَجَاءَتْ بِعِيسَى مِنْ ذَلِكَ الزِّنَى (حَاشَاهَا وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ) هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ لَهَا:{لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} ، وَيدل لذَلِك قَوْله تَعَالَى بعده:{ياأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} وَالْبَغِيُّ الزَّانِيَةُ كَمَا تَقَدَّمَ. يَعْنُونَ كَانَ أَبَوَاكِ عَفِيفَيْنِ لَا يَفْعَلَانِ الْفَاحِشَةَ، فمالك أَنْتِ تَرْتَكِبِينَهَا!! وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الزِّنَى كَالشَّيْءِ الْمُفْتَرَى قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَلَا يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} أَيْ وَلَا يَأْتِينَ بِوَلَدِ زِنًى يَقْصِدْنَ إِلْحَاقَهُ بِرَجُلٍ لَيْسَ أَبَاهُ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ.

وَكُلُّ عَمَلٍ أَجَادَهُ عَامِلُهُ فَقَدْ فَرَاهُ لُغَةً، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ وَهُوَ زُرَارَة بن صَعب بن دهر:

وَقد أطمعتني دَقْلًا حَوْلِيَّا

مُسَوَّسًا مُدَوَّدًا حَجَرِيَّا

قَدْ كُنْتِ تَفْرِينَ بِهِ الْفَرِيَّا

يَعْنِي تَعْمَلِينَ بِهِ الْعَمَلَ الْعَظِيم، وَالظَّاهِر أَنه يقْصد أَنَّهَا تَأْكُله أَكْلًا لَمًّا عَظِيمًا.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة: {ياأُخْتَ هَارُونَ} لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ هَارُونَ بْنَ عِمْرَانَ أَخَا مُوسَى كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الْجَهَلَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ آخَرُ

ص: 560

صَالِحٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُسَمَّى هَارُونَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ هَارُونَ أَخَا مُوسَى مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي صَحِيحِهِ (1) : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنْزِيُّ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ نُمَيْرٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: لَمَّا قدمت نَجْرَان سَأَلُونِي فَقَالُوا: إِنَّكُم تقرؤون {ياأُخْتَ هَارُونَ} وَمُوسَى قَبْلُ عِيسَى بِكَذَا وَكَذَا، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ:«إِنَّهُمْ كَانُوا يسمون بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قبلهم» . اهـ هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي الصَّحِيحِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ رَجُلٌ آخَرُ غَيْرُ هَارُونَ أَخِي مُوسَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَارُونَ أَخَا مُوسَى قَبْلَ مَرْيَم بِزَمن طَوِيل

قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ آتَانِىَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى بِالصلاةِ وَالزكاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً وَالسَّلَامُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ أَوَّلَ كَلِمَةٍ نَطَقَ لَهُمْ بِهَا عِيسَى وَهُوَ صَبِيٌّ فِي مَهْدِهِ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ زَجْرٍ لِلنَّصَارَى عَنْ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ اللَّهُ، أَوِ ابْنُهُ أَوْ إِلَهٌ مَعهَا (2) وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الَّتِي نَطَقَ بِهَا عِيسَى فِي أَوَّلِ خِطَابِهِ لَهُمْ ذَكَرَهَا اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا عَنْهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبُّى وَرَبَّكُمْ} وَقَوْلِهِ فِي «آلِ عِمْرَانَ» : {إِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} ، وَقَوْلِهِ فِي «الزُّخْرُفِ» {فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ

(1) - (3/1685)(2135) .

(2)

- وَانْظُر أَيْضا (1/380: 382)(النِّسَاء/171) لتتعرف على أَقْوَال النَّصَارَى فِي الْمَسِيح عليه السلام وَالرَّدّ عَلَيْهَا.

ص: 561

اللَّهَ هُوَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} ، وَقَوْلِهِ هُنَا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» :{وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} ، وَقَوْلِهِ:{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَاّ مَآ أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّى وَرَبَّكُمْ} . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {آتَانِىَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً} التَّحْقِيقُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ: أَنَّهُ عَبَّرَ بِالْمَاضِي عَمَّا سَيَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَنْزِيلًا لِتَحَقُّقِ الْوُقُوعِ مَنْزِلَةَ الْوُقُوعِ، وَنَظَائِرُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلَاّ مَن شَآءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِىءَ بِالنَّبِيِّيْنَ وَالشُّهَدَآءِ وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} إِلَى قَوْلِهِ {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ} .

فَهَذِهِ الْأَفْعَالُ الْمَاضِيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَاتِ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، تَنْزِيلًا لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ مَنْزِلَةَ الْوُقُوعِ بِالْفِعْلِ، وَنَظَائِرُهَا كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمَاضِيَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{آتَانِىَ الْكِتَابَ} إِلَخْ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ هُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ نُبِّئَ وَأُوتِيَ الْكِتَابَ فِي حَالِ صِبَاهُ لِظَاهِرِ اللَّفْظِ.

وَقَوْلُهُ {وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً} أَيْ كَثِيرَ الْبَرَكَاتِ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ الْخَيْرَ وَيَدْعُو إِلَى اللَّهِ، وَيُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذن الله

وَقَوله تَعَالَى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِى فِيهِ يَمْتُرُونَ} اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَرْفَ فِيهِ قِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ: قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ {قَوْلَ الْحَقِّ} بِضَمِّ اللَّامِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ

ص: 562

وَعَاصِمٌ {قَوْلَ الْحَقِّ} بِالنَّصْبِ، وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ «ذَلِكَ» رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَوْلُودِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ هَذَا.

وَقَوْلُهُ «ذَلِكَ» مُبْتَدَأٌ، «وَعِيسَى» ، خَبَرُهُ، وَ «ابْنُ مَرْيَمَ» نَعْتٌ لِـ «عِيسَى» وَقِيلَ بَدَلٌ مِنْهُ، وَقِيلَ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ.

وَقَوْلُهُ {قَوْلَ الْحَقِّ} عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَإِلَى نَحْوِهِ أَشَارَ ابْنُ مَالِكٍ بِقَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ: * وَالثَّانِي كَابْنِي أَنْتَ حَقًّا صِرْفَا *

وَقِيلَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ: وَأَمَّا على قِرَاءَة الْجُمْهُور بِالرَّفْع «فَقَوْل الْحَقِّ» خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ

هُوَ أَيْ نِسْبَتُهُ إِلَى أُمِّهِ فَقَطْ قَوْلُ الْحَقِّ، قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ.

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَارْتِفَاعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَوْ بَدَلٌ، أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَةَ «الْحَقِّ» فِي قَوْلِهِ هُنَا «قَوْلَ الْحَقِّ» فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ ضِدُّ الْبَاطِلِ بِمَعْنَى الصِّدْقِ وَالثُّبُوتِ، كَقَوْلِهِ:{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِعْرَابُ قَوْلِهِ «قَوْلَ الْحَقِّ» عَلَى قِرَاءَةِ النَّصْبِ أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ فَهُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «آلِ عِمْرَانَ» فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا:{الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ} .

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ فِي الْآيَةِ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا، لِأَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ «الْحَقَّ» كَقَوْلِهِ:{وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} ، وَقَوْلِهِ {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِعْرَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى {قَوْلَ الْحَقِّ} عَلَى قِرَاءَةِ

ص: 563

النَّصْبِ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَدْحِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ فَهُوَ بَدَلٌ مِنْ «عِيسَى» أَوْ خَبَرٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَـ «قَوْلَ الْحَقِّ» ، هُوَ «عِيسَى» كَمَا سَمَاء اللَّهُ كَلِمَةً فِي قَوْلِهِ:{وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} ، وَقَوْلِهِ:{إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ} ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ «عِيسَى» كَلِمَةً لِأَنَّ اللَّهَ أَوْجَدَهُ بِكَلِمَتِهِ الَّتِي هِيَ «كُنْ» فَكَانَ، كَمَا قَالَ:{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن} . وَالْقَوْلُ وَالْكَلِمَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ التَّفْسِيرِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

وَقَوْلُهُ: {الَّذِى فِيهِ يَمْتُرُونَ} أَيْ يَشُكُّونَ. فَالِامْتِرَاءُ افْتِعَالٌ مِنَ الْمِرْيَةِ وَهِيَ الشَّكُّ، وَهَذَا الشَّكُّ الَّذِي وَقَعَ لِلْكُفَّارِ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ} وَهَذَا الْقَوْلُ الْحَقُّ الَّذِي أَوْضَحَ اللَّهُ بِهِ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فِي شَأْنِ عِيسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ نُزُولِهِ عَلَى نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يَدْعُوَ مَنْ حَاجَّهُ فِي شَأْنِ عِيسَى إِلَى الْمُبَاهَلَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ مَا قَصَّ عَلَيْهِ مِنْ خَبَرِ عِيسَى هُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} ، وَلما نزلت ودعا للنَّبِي صلى الله عليه وسلم وَفْدَ نَجْرَانَ إِلَى المباهلة خَافُوا الْهَلَاك وأدوا كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ.

قَوْلُهُ تَعَالَى {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ لَفْظَ «مَا كَانَ» يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ، فَتَارَةً يَدُلُّ ذَلِكَ النَّفْيُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى عَلَى الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ} .

ص: 564