المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل حلق اللحية تشبه بالكفار - أدلة تحريم حلق اللحية

[محمد إسماعيل المقدم]

فهرس الكتاب

- ‌تعريفات أصولية

- ‌1 - الحكم الشرعي:

- ‌2 - الواجب:

- ‌3 - المندوب:

- ‌4 - الحرام:

- ‌5 - المكروه:

- ‌المبحث الأولأدلة تحريم حلق اللحية

- ‌فصل الأمر حقيقة في الوجوب

- ‌فصل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحى

- ‌(فائدة)

- ‌فصل تحريم تشبه المسلمين بالكفار

- ‌دعاة التفرنجدعاة على أبواب جهنم

- ‌فصل حلق اللحية تشبه بالكفار

- ‌فصل تحريم تشبه الرجال بالنساء

- ‌تنبيه

- ‌فصل حلق اللحية تشبه بالنساء

- ‌فصل اللحية من نعم الله على الرجال وحلقها كفر بهذه النعمة

- ‌فصل أمر القدوة أمر لأتباعه

- ‌فصل الدليل القرآني على أن إعفاء اللحية من سمت الأنبياء عليهم السلام

- ‌تنبيه

- ‌فصل حلق اللحية رغبة عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم

- ‌فصل

- ‌فائدة

- ‌فصل إعفاء اللحية من خصال الفطرة

- ‌تنبيه

- ‌فصل تحريم تغيير خلق الله بدون إذن من الشرع

- ‌فوائد متفرقة تتعلق بالأصل السابق

- ‌فصل هل حلق اللحية من تغيير خلق الله

- ‌تنبيه

- ‌كيفية إعفاء اللحية وحف الشارب

- ‌فصل تحقيق حديث "كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها

- ‌فصل حد اللحية لغة وشرعا

- ‌تنبيه

- ‌تنبيه

- ‌استحباب تسريح اللحية وتطييبها

- ‌فصل أقوال علماء المذاهب الأربعة رحمهم الله في حكم حلق اللحية

- ‌فائدة

- ‌فتاوى بعض العلماء المعاصرين

- ‌فتوى في إمامة الحليق للصلاة

- ‌فصل هل ترد شهادة من يحلق لحيته

- ‌فتوى في حكم مهنة حلق اللحى

- ‌فصل حكم المستهزئ بإعفاء اللحية

- ‌فصل التنبيه على بعض البدع المتعلقة باللحية

- ‌لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق

- ‌فائدة

- ‌تنبيه

- ‌طاعة العلماء آكد من طاعة الوالدين

- ‌المبحث الثانيتبصير أولي الألباب ببدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب

- ‌فصل

- ‌فصل الإرتباط بين الظاهر والباطن

- ‌تقسيم الدين إلى قشر ولب بدعة عصرية

- ‌فصل دعوا السنة تمضي، لا تعرضوا لها بالرأي

- ‌{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}

- ‌خاتمة في الحث على الرفق في النصيحة

الفصل: ‌فصل حلق اللحية تشبه بالكفار

‌فصل حلق اللحية تشبه بالكفار

والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:

«خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ أَحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَأَوْفُوا اللِّحَى» (1).

قال شيخ الإسلام (2): (فأمر صلى الله عليه وسلم بمخالفة المشركين مطلقا، ثم قال: "احفوا الشوارب، وأوفوا اللحى") وهذه الجملة الثانية بدل من الأصلي، فإن الإبدال يقع في الجمل كما يقع في المفردات). قال:

(فلفظ مخالفة المشركين دليل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع، وإن عينت في هذا الفعل فإن تقديم المخالفة علة تقديم العام على الخاص كما يقال: أكرم ضيفك: أطعمه وحادثه، فأمرك بالإكرام ولا دليل على أن إكرام الضيف مقصود ثم عينت الفعل الذي يكون إكراما في ذلك الوقت، والتقرير في هذا الحديث شبيه بالتقرير من قوله: "لا يصبغون فخالفوهم") اهـ كلامه رحمه الله، وفيه رد على من ادعى عدم الربط بين الأفعال الثلاثة، على أن

(1) أخرجه البخاري ومسلم وأبو عوانة والبيهقي من طريق نافع عن ابن عمر، إلا أن أبا عوانة قال:"المجوس" بدل "المشركون" ويشهد له ما أخرجه البيهقي من طريق ميمون بن مهران عن عبد الله بن عمر قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس فقال: "إنهم يوفرون سبالهم ويحلقون لحاهم فخالفوهم". ويشهد له أيضا حديث أبي هريرة الآتي بعده وفيه "خالفوا المجوس" ولهذا قال الحافظ في "الفتح": (وهو المراد في حديث ابن عمر فإنهما كانوا يقصون لحاهم، ومنهم من كان يحلقها) وظاهر قوله "يقصون" يدل على أنهم كانوا لا يحلقونها كلهم بدليل قوله في آخر النص "ومنهم من كان يحلقها" فالعطف هنا يقتضي المغايرة، فيفهم من ذلك أن تقصير اللحية بحيث تكون قريبة من الحلق هو من هديهم الذي لا يتحقق مخالفتهم فيه إلا بالتوفير والإعفاء كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم.

(2)

اقتضاء الصراط المستقيم ص58 - 59.

ص: 28

افتراض ذلك لا يضر إذ صيغة الأمر الواردة في كل فعل على حدة حقيقة في وجوب امتثاله كما مر آنفا، والله أعلم.

ومن الأدلة الواردة في ذلك أيضا ما رواه أبو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «جُزُّوا الشَّوَارِبَ، وَأَرْخُوا اللِّحَى خَالِفُوا الْمَجُوسَ» (1).

قال شيخ الإسلام رحمه الله (2): (فعقب الأمر بالوصف المشتق المناسب، وذلك دليل على أن مخالفة المجوس أمر مقصود للشارع، وهو العلة في هذا الحكم أو علة أخرى أو بعض علة، وإن كان الأظهر عند الإطلاق أنه علة تامة) وفي حديث أبي إمامة رضي الله عنه قول بعض مشيخة الأنصار رضي الله عنهم: ( .. يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَقُصُّونَ عَثَانِينَهُمْ وَيُوَفِّرُونَ سِبَالَهُمْ. قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «قُصُّوا سِبَالَكُمْ وَوَفِّرُوا عَثَانِينَكُمْ وَخَالِفُوا أَهْلَ الْكِتَابِ» (3).

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أهل الشرك يعفون شواربهم ويحفون لحاهم فخالفوهم فاعفوا اللحى وأحفوا الشوارب"(4) والحاصل أن حلق اللحية مرتبط بهذا الأصل العظيم الذي ذهل عنه المسلمون وأضاعوه، فقد حذر الإسلام من موافقة هؤلاء الكفار في زيهم وأعمالهم وهديهم، ونحن نرى المسلمين اليوم يلهثون وراء أعدائهم، فقد أولعوا بمحاكاتهم وأشربوا في قلوبهم الافتتان بسبيلهم.

وقد كان المسلمون إلى عهد قريب يوفرون لحاهم، ويرون حلقها عيبا ومنقصة، فأصبحوا يعدون الحلق زينة وكمالا، وقال الشيخ على محفوظ رحمه

(1) أخرجه مسلم وأبو عوانة والبيهقي والإمام أحمد.

(2)

اقتضاء الصراط المستقيم.

(3)

قطعة من حديث أخرجه الإمام أحمد، وقد حسنه الحافظ في الفتح وقال (وأخرج الطبراني نحوه من حديث أنس).

(4)

رواه البزار بسند حسن.

ص: 29

الله (ومن أقبح العادات ما اعتاده الناس اليوم من حلق اللحية وتوفير الشارب، وهذه بدعة سرت إلى المصريين من مخالطة الأجانب واستحسان عوائدهم، حتى استقبحوا محاسن دينهم وهجروا سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم اهـ.

وقال محدث الشام الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله في بعض محاضراته (يخطئ الذين يفتون الناس اليوم بإباحة التشبه بالكفار بصورة عامة، وبصورة خاصة فيما نحن فيه هذا (1)، والتشبه بالكفار له ارتباط وثيق جدا بقاعدة ارتباط الظاهر بالباطن فمن تشبه بالكفار معناه أنه استحسن ما هم عليه، واستقبح ما كان عليه نبيه صلى الله عليه وسلم من الهدى والنور، ولا يكاد يحس بصدى قول الرسول عليه السلام الذي نفتتح به خطبنا وأحاديثنا:

"وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم"(2)، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان له لحية جليلة عظيمة وكذلك الصحابة وكذلك السلف وكذلك الأئمة لم يوجد فيهم من حلق لحيته في حياته مرة واحدة وهذا مستحيل، بل بعض الأمراء ممن لم يكونوا متفقهين في الدين كانوا إذا رأوا أن يؤدبوا فردا من أفراد الرعية لخطأ ارتكبه يحلقون لحيته ويركبونه على دابة ويجولونه بين الناس تعييرا له، كان هذا تعييرا في الزمن الأول، وهو تعيير أي تعيير، وبخلاف الفطرة خلاف الرجولة) اهـ.

ولا شك أن ذوبان المسلمين في غيرهم من المشركين بالتشبه بهم لا تتحقق معه ملامح الشخصية الإسلامية المتميزة، وبالتالي لا يتحقق المجتمع المسلم، ومن مظاهر عزة المسلمين رجالا ونساء إظهار ملامح الشخصية الإسلامية وفرضها على المجتمع خاصة إذا خالطوا كفارا هم أحرص ما يكونون على المجاهرة بكل ما من شأنه إظهار كيانهم وفرض معالم دينهم الباطل {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} الآية (3).

شبهة:

(1) يقصد الكلام على حكم حلق اللحية.

(2)

من حديث أخرجه مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه.

(3)

المنافقون: 8

ص: 30

شبهة:

قال بعضهم: الأمر الوارد في اللحية أمر بإعفائها مخالفة للمجوس، والمخالفة علة معقولة المعنى، ومن الممكن أن تزول العلة فيزول المعلول، وبعبارة أخرى يقولون: إن كثيرا من المشركين اليوم يعفون لحاهم فينبغي لكي نخالفهم ما دام المطلوب هو المخالفة.

والجواب من وجوه:

الأول: ورد الأمر بإعفاء اللحية في بعض الأحاديث غير معلل بعلة المخالفة، ففي صحيح مسلم:(أمر بإعفاء الشوارب وإعفاء اللحى) ولم يذكر له علة.

الثاني: لا نسلم أن العلة الوحيدة في الأمر بإعفاء اللحى هي مخالفة المجوس بل ذلك بعض العلة، ومن العلل أيضا أن حلقها تغيير لخلق الله كما ذهب إليه بعض العلماء، وتشبه بالنساء وكلاهما منهي عنه متوعد فاعله باللعن.

الثالث: أن إعفاء اللحية من خصال الفطرة كما نص عليه الحديث، وهي

طريقة الأنبياء وسننهم، وهذه الفطرة لا تتبدل بتبدل الأزمان وانحراف

البعض عنها.

قال السيوطي رحمه الله (1): (وأحسن ما قيل في الفطرة أنها السنة القديمة التي اختارها الأنبياء وانفقت عليها الشرائع فكأنها أمر جبلي فطروا عليها) اهـ.

فإن أعفى المشركون لحاهم فقد سلمت فطرتهم في هذه الجزئية من سنن الفطرة ووافقوا فيها شرائع الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام وحينئذ تأتي المخالفة في وصف الفعل لا في أصله كما يأتي إن شاء الله وعلى أي حال فإنه لا يسوغ لنا رفض ما شرعه الله لنا وفطرنا عليه لمجرد أن يتلبس به بعض المخالفين لنا في الدين.

الرابع: إن حلق المشركين لحاهم مع إطالتهم شواربهم، أو توفيرهما

(1) تنوير الحوالك شرح موطأ الإمام مالك (2/ 219).

ص: 31

معا (1). من هديهم الخاص بهم، وقد أفصح الحديث النبوي عن بعض علة هذا الحكم ألا وهي تحريم التشبه بهم في خصائصهم فليس في وسع أحد أن يصرف النظر عن هذه العلة الصريحة بمجرد رأيه، وقد ذكر الإمام السندي في حاشيته على شرح السيوطي لسنن النسائي أن كثيرا من السلف فهم أن حلقها شعار كثير من الكفرة (2)، وهذا هو حال أكثرهم في هذا الزمان خلافا لما يدعيه المعترض، بل ما نقلت، إلينا هذه السنة السيئة إلا من طريقهم (3).

الخامس: ومما ينبغي أن ننتبه اليه أن كثيرا من المشركين الذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم بإعفاء اللحى وحف الشوارب كانوا.

يوفرون لحاهم كما قد عرف عنهم، ومع ذلك أمرنا بمخالفتهم، أما إعفاؤهم لحاهم فهو من بقايا الدين الذي ورثوه عن إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كما ورثوا عنه الختان أيضا، فقد صح (4) عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قوله تعالى:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} قال: هي خصال الفطرة وهذا يرشدنا إلى أصل مهم وهو أن مخالفة المشركين تارة تكون

(1) قال القاضي أبو بكر ابن العربي رحمه الله عند كلامه على خصال الفطرة: (وقد اتفقت الأمة على أنها من الملة، فأما قص الشارب وإعفاء اللحية فمخالفة للأعاجم، فإنهم يقصون لحاهم أو يوفرون شواربهم، أو يوفرونهما معا، وذلك عكس الجمال والنظافة) اهـ، من أحكام القرآن (1/ 37).

(2)

وفي هذا رد على من أدعى أن مخالفة المسلمين غيرهم في شعائر دينهم فقط، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن لبس الثياب المعصفرة بل وأمره بإحراقها وعلل ذلك بأنها من ثياب الكفار وهي ليست من شعائر دينهم في رأيكم فكيف بموافقتهم في حلق اللحية؟!

(3)

وذكر ف. م. هلير في "تاريخ العالم" أن أول من أشاع حلق اللحية في أوروبا الملك بطرس ملك روسيا في أول القرن السابع عشر.

(4)

فتح الباري (10/ 335).

ص: 32

في أصل الحكم وتارة في وصفه (1) فإذا كانوا يستأصلون لحاهم وشواربهم خالفناهم في أصل ذلك الفعل بإعفاء اللحى وقص الشوارب، وإن كانوا يوفرون لحاهم وشواربهم وافقناهم في أصل إعفاء اللحى، وخالفناهم في صفة توفير الشوارب بقصها، وأخذ ما طال عن الشفة، كما بينته سنة سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى.

السادس: وإذا سلمنا أن علة هذا الحكم هو مخالفة المجوس فمخالفة المسلمين للمشركين على وجهين كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في "الاقتضاء".

الوجه الأول: تخالفهم لمجرد المخالفة كما خالف الرسول صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب في فرق الشعر بعد أن وافقهم أولا إذ كان يسدل تاليفا

(1) نظير ذلك ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه "إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبى صل الله عليه وسلم فانزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} إلى آخر الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصنعوا كل شيء إلا النكاح"، فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر فقالا: يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظنا أن قد وجد عليهما فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أن لم يجد عليهما) أخرجه مسلم وأبو عوانة والترمذي. قال شيخ الإسلام في الاقتضاء (فهذا الحديث يدل على كثرة ما شرعه الله لنبيه من مخالفة اليهود بل على أنه خالفهم في عامة أمورهم حتى قالوا: "ما يريد أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه، ثم إن المخالفة كما سنبينه تارة تكون في أصل الحكم وتارة في وصفه، ومجانبة الحائض لم يخالفوا في أصله بل خولفوا في وصفه حيث شرع الله مقاربة الحائض في غير محل الأذى، فلما أراد بعض الصحابة أن يتعدى في المخالفة إلى ترك ما شرعه الله تغير وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الباب باب الطهارة كان على اليهود فيه أغلال عظيمة، فابتدع النصارى ترك ذلك كله حتى أنهم لا ينجسون شيئا بلا شرع من الله، فهدى الله الأمة الوسط بما شرعه لها إلى الوسط من ذلك، وإن كان ما كان عليه اليهود كان أيضا مشروعا، فاجتناب ما لم يشرع الله اجتنابه مقاربة لليهود، وملابسة ما شرع الله اجتنابه مقاربة للنصارى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم اهـ.

ص: 33

لهم، فلما أصروا على الكفر خالفهم، ومثل ذلك صوم عاشوراء أمر بالمخالفة بصوم يوم قبله أو بعده مخالفة لهم لا غير (1).

الوجه الثاني: أن يكون الأمر الذي أمرنا بمخالفتهم فيه مضرا في ذاته منقصا، ومخالفتهم فيه كمال ومصلحة، وهذا هو الشأن في حرمة حلق اللحية ووجوب إعفائها إذ هدى المجوس فيه نقص وإضرار، ومخالفتهم كمال وصلاح لأن إعفاء اللحية من سنن الأنبياء التي اتفقت عليها الشرائع، ومما ينطبق عليه الوجه الثاني نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن الشرب والأكل في آنية الذهب والفضة الثابت في البخاري ومسلم فمع كونه من هدى الكفار إلا أن هديهم في ذلك منقصة وتركه كمال ومصلحة، والله أعلم.

شبهة:

قال بعضهم: مما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفة للكفار الصلاة في النعال وخضاب الشيب، وكلاهما ليس بواجب، وبناء عليه تتمائل الأدلة الواردة في الخضاب والصلاة بالنعال وإعفاء اللحية بجامع أن كلا منها قصد به مخالفة الكفار.

الجواب: أن هذا القياس فاسد من وجوه:

الأول: أنه قياس منصوص على منصوص، وشرط القياس أن يكون الفرع غير منصوص عليه.

الثاني: أن علة الأمر بالصلاة في النعال وتغيير الشيب بالخضاب إنما هي مجرد المخالفة لا غير في حين أن علة الأمر بإعفاء اللحية ليست المخالفة وحدها كما تقدم.

الثالث: أن الأمر بالصلاة في النعال وردت أدلة -أشهر من أن تذكر- تصرفه من الوجوب إلى الندب عند من يقول به فقد صلى الرسول صلى الله

(1) وهذه المخالفة المقصودة هي في حد ذاتها مصلحة ومنفعة للمؤمنين لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم، قال: وهذا لا يحس به إلا من نور الله قلبه حتى رأى ما اتصف به المغضوب عليهم والضالون من المرض الذي ضرره أشد من ضرر أمراض الأبدان.

ص: 34

عليه وسلم حافيا وكذلك الصحابة رضوان الله عليهم، بخلاف الأمر بإعفاء اللحية حيث لم يأت صارف يصرفه عن الوجوب إلى الندب، والمعروف أن شرط الحكم في القياس أن يكون حكم الفرع مساويا لحكم الأصل، فلا يصح قياس واجب على مندوب والعكس لعدم مساواتهما في الحكم (1).

الرابع: وقد أشار اليه شيخ الإسلام في "الاقتضاء"(2) معلقا على حديث «غَيِّرُوا الشَّيْبَ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَلَا بِالنَّصَارَى" (3)، حيث قال رحمه الله:

(وهذا اللفظ أدل على الأمر بمخالفتهم والنهى عن مشابهتهم فإنه إذا نهى عن التشبه بهم في بقاء بياض الشيب الذي ليس من فعلنا فلأن ينهى عن إحداث التشبه بهم أولى، ولهذا كان هدا التشبه بهم يكون حراما بخلاف الأول) اهـ.

وبعبارة أخرى: الأمر بالخضاب أمر بتغيير الشيب الذي نتفق مع الكفار فيه اذ نبقيه بدون صبغ، وفي هذه الحال يوافق المسلم الكافر في شيء ليس من فعله بل هو مقتضى السنن الكونية التي تسري على المسلم والكافر ومع هذا استحب له الخضاب، أما إذا وافق المسلم الكفار في حلق اللحية فقد شابههم في شيء تسبب هو في فعله وأحدثه من نفسه فإدى إلى موافقتهم فيما يصادم الفطرة والشرع معا، والعلم عند الله تعالى.

وقد نبه الإمام ابن العربي إلى نحو هذا المعنى حيث قال -فيما نقله عنه القاري في المرقاة (4) - ما نصه: (وإنما نهى عن النتف -أي نتف الشيب- دون الخضب لأن فيه تغيير الخلقة من أصلها، بخلاف الخضب فإنه لا يغير الخلقة على الناظر اليه والله الموفق) اهـ.

(1) أما خضاب الشيب فقد ذهب بعض الفقهاء إلى أنه واجب منهم الإمام أحمد في رواية عنه، أنظر فتح الباري (10/ 355).

(2)

اقتضاء الصراط المستقيم ص58.

(3)

أخرجه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

مرقاة المفاتيح (2/ 469).

ص: 35