المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تقسيم الدين إلى قشر ولب بدعة عصرية - أدلة تحريم حلق اللحية

[محمد إسماعيل المقدم]

فهرس الكتاب

- ‌تعريفات أصولية

- ‌1 - الحكم الشرعي:

- ‌2 - الواجب:

- ‌3 - المندوب:

- ‌4 - الحرام:

- ‌5 - المكروه:

- ‌المبحث الأولأدلة تحريم حلق اللحية

- ‌فصل الأمر حقيقة في الوجوب

- ‌فصل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحى

- ‌(فائدة)

- ‌فصل تحريم تشبه المسلمين بالكفار

- ‌دعاة التفرنجدعاة على أبواب جهنم

- ‌فصل حلق اللحية تشبه بالكفار

- ‌فصل تحريم تشبه الرجال بالنساء

- ‌تنبيه

- ‌فصل حلق اللحية تشبه بالنساء

- ‌فصل اللحية من نعم الله على الرجال وحلقها كفر بهذه النعمة

- ‌فصل أمر القدوة أمر لأتباعه

- ‌فصل الدليل القرآني على أن إعفاء اللحية من سمت الأنبياء عليهم السلام

- ‌تنبيه

- ‌فصل حلق اللحية رغبة عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم

- ‌فصل

- ‌فائدة

- ‌فصل إعفاء اللحية من خصال الفطرة

- ‌تنبيه

- ‌فصل تحريم تغيير خلق الله بدون إذن من الشرع

- ‌فوائد متفرقة تتعلق بالأصل السابق

- ‌فصل هل حلق اللحية من تغيير خلق الله

- ‌تنبيه

- ‌كيفية إعفاء اللحية وحف الشارب

- ‌فصل تحقيق حديث "كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها

- ‌فصل حد اللحية لغة وشرعا

- ‌تنبيه

- ‌تنبيه

- ‌استحباب تسريح اللحية وتطييبها

- ‌فصل أقوال علماء المذاهب الأربعة رحمهم الله في حكم حلق اللحية

- ‌فائدة

- ‌فتاوى بعض العلماء المعاصرين

- ‌فتوى في إمامة الحليق للصلاة

- ‌فصل هل ترد شهادة من يحلق لحيته

- ‌فتوى في حكم مهنة حلق اللحى

- ‌فصل حكم المستهزئ بإعفاء اللحية

- ‌فصل التنبيه على بعض البدع المتعلقة باللحية

- ‌لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق

- ‌فائدة

- ‌تنبيه

- ‌طاعة العلماء آكد من طاعة الوالدين

- ‌المبحث الثانيتبصير أولي الألباب ببدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب

- ‌فصل

- ‌فصل الإرتباط بين الظاهر والباطن

- ‌تقسيم الدين إلى قشر ولب بدعة عصرية

- ‌فصل دعوا السنة تمضي، لا تعرضوا لها بالرأي

- ‌{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}

- ‌خاتمة في الحث على الرفق في النصيحة

الفصل: ‌تقسيم الدين إلى قشر ولب بدعة عصرية

ومنها: أن مشاركتهم في الهدى الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التمييز ظاهرا بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضالين، إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية، هذا إذا لم يكن ذلك الهدى الظاهر إلا مباحا محضا لو تجرد عن مشابهتهم، فأما إن كان من موجبات كفرهم فإنه يكون شعبة من شعب الكفر، فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع معاصيهم، فهذا أصل ينبغي أن يتفطن له اهـ.

‌تقسيم الدين إلى قشر ولب بدعة عصرية

نبغ في هذا العصر أقوام تلقوا هدى الإسلام من واقع حياتهم أولا، ولم يحيوا في جو علمي يتأثرون به في حكمهم على الأمور، فراحوا يحتجون ببعض النصوص لإثبات عكس ما وضعت له، ويسمون الأشياء بغير اسمها.

ويتضح هذا جليا فيمن لا يهتمون ببعض الشرائع الظاهرة التي يسمونها شكليات، أو قشورا، ويدندنون فقط حول التمسك باللباب.

وتقسيم الدين إلى قشر ولب تقسيم غير مستساغ، بل هو محدث ودخيل على الفهم الصحيح للكتاب والسنة، ولم يعرفه سلفنا الصالح الذين كل الخير والنجاة في اتباعهم واقتفاء آثارهم {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} (1) وهذه القسمة إلى قشر ولب، وظاهر باطن يتبعها المناداة بإهمال الظاهر احتجاجا بصلاح الباطن تلقى رواجا عند المستهترين والمخدوعين. حينما يرون علمائهم يسمون المعاصي بغير اسمها فيقولون لهم -مثلا- إن إعفاء اللحية من سنن العادة، وقد عد بعضهم (عفا الله عنه) إعفاء اللحية وقص الشارب من الأمور العادية التي لا صلة لها بتبليغ الرسالة وبيان الشرع، وعد ذلك من قبيل المندوب بل في ثالث مراتبه بعد السنن المؤكدة وغير المؤكدة، بل قال: ومن أخذ به على أنه جزء من

(1) النجم: 23.

ص: 112

الدين، أو على أنه أمر مطلوب على وجه الجزم فإنه يبتدع في الدين ما ليس منه (1) اهـ.

وهؤلاء يكتفون بمثل هذه الدعاوى دون أن يطرقوا الأدلة السابقة، ومن عادة أهل العلم أنه إذا كان في المسالة خلاف بين العلماء فإنهم يقيمون الأدلة الصحيحة على فتواهم، ويجيبون عن أدلة مخالفيهم، وهؤلاء أئمة المذاهب الأربعة وأتباعهم القدامى متفقون على وجوب إعفاء اللحية، وهذا المستهتر الذي يطيح بلحيته مذكور حتى اليوم في كتب الفقه وموصوف بأنه فاسق لا تقبل شهادته، وذلك أن الفاسق هو الذي يعلن على الملأ ارتكابه لأمر حرام.

وممن أفتى برد شهادته الشيخ محمد حبيب الله رحمه الله ونص في كتابه فتح المنعم: على منع حلق اللحية، ثم لم يلبث أن حاد عن المنهج العلمي في التحقيق حين قال عقيب ذلك مباشرة:

ولما عمت البلوى بحلقها في البلاد المشرقية حتى إن كثيرا من أهل الديانة قلد فيه غيره خوفا من ضحك العامة منه لاعتيادهم (2) حلقها في عرفهم (3) بحثت غاية البحث عن أصل أخرج عليه جواز حلقها حتى يكون

(1) أصول الفقه للشيخ محمد أبي زهرة ص (39 - 40) والقول بأن إعفاء اللحية من العادات التي قد تجري بها أعراف الناس باطل، لأن ما تجرى به العادة قسمان: قسم سكت عنه الشارع ولم يتعرض له بوجوب ولا تحريم فهذا مباح لا لوم على فاعله، والثاني: ما أوجبه الشارع وأمر به أو حرمه ونهى عنه. فهذا القسم لما تعرض له الشارع بالإيجاب أو التحريم صار من الدين، وما أكثر الأعمال التي كانت تجرى مجرى العادات قبل البعثة، ثم دخلت في حدود المناهي التي حرمها الشارع فأصبح اجتنابها من الدين كالوشم والتنميص ووصل الشعر والنياحة والميسر وغير ذلك.

(2)

في الأصل: لأعيادهم.

(3)

هذا عرف كاذب يصادم الأدلة الشرعية فلا عبرة به وكان الأولى بالشيخ أن يحث هؤلاء الخواص من الأفاضل فضلا عن غيرهم على الصبر على الدين والقبض على الجمر إظهارا للشرائع، وطاعة الله ورسوله، وإلا فأين تقع النصوص التي تصف غربة الإسلام في آخر الزمان، كقوله صلى الله عليه وسلم:"طوبي للغرباء أناس صالحون في أناس سؤ كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم" رواه الإمام أحمد وابن المبارك بسند صحيح فأين تقع هذه النصوص موقعها من الترغيب إن لم يكن الاستمساك بالنصوص هو التمعين.

ص: 113

لبعض الأفاضل مندوحة عن ارتكاب المحرم باتفاق، فأجريته على القاعدة الأصولية وهي أن صيغة "أفعل" في قول الأكثرين للوجوب، وقيل: للندب، وقيل: للقدر المشترك بين الندب والوجوب، وقيل: بالتفصيل، فإن كانت من الله تعالى في القرآن فهي للوجوب، وإن كانت من النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث هنا على الروايتين وهما رواية: وفروا، ورواية: إعفوا- فهي للندب، وقد أشار إلى هذه الأقوال في صيغة افعل صاحب مراقي السعود في علم الأصول بقوله:

وافعل لدى الأكثر للوجوب

وقيل للندب أو المطلوب

وقيل للوجوب أمر الرب

وأمر من أرسله للندب

وهذا القول الأخير هو الذي ينبغي حمل العامة عليه لما عمت البلوى بهذه البدعة الشنيعة وهي في حق العلماء أقبح وأقبح.

وغيرهم أولى بالعذر، نسأل الله تعالى التوفيق لاتباع السنة والمحجة البيضاء (1) اهـ.

وإن تعجب فعجب قول بعضهم (2): صحيح أنه لم يقل عن أحد من السلف حلق اللحية، ولعل ذلك لأنه لم تكن بهم حاجة لحلقها وهي عادتهم اهـ.

وهذا تعليل ساقط يكفي سقوطه عن رده، وكان الأولي به أن يستدل بعدم حلق أحدهم اللحية على عدم جوازه عندهم، قال الإمام ابن حزم رحمه الله في مراتب الإجماع: واتفقوا أن حلق جميع اللحية مثلة لا تجوز اهـ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: يحرم حلق اللحية للأحاديث الصحيحة، ولم يبحه أحد اهـ.

بل كان السلف يعظمون اللحية، ويعلون من شأنها كما في قصة قيس بن سعد رضي الله عنهما فقد كان أثطا (أي أمرد لا لحية له) فقالت الأنصار:

(1) فتح المنعم (1/ 178 - 179).

(2)

الحلال والحرام في الإسلام للقرضاوي.

ص: 114

نعم السيد قيس لبطولته وشهامته ولكن لا لحية له، فوالله لو كانت اللحية تشتري بالدراهم لاشترينا له لحية ليكمل رجلا.

وقسمة الدين إلى قشر ولب تؤثر في قلوب العوام أسوأ تأثير، وتورثهم الاستخفاف بالأحكام الظاهرة، وينتج عنها الإخلال بهذه الأمور التي سميت قشورا، فلا تلتفت قلوبهم إليها، فتخلو من أضعف الإيمان ألا وهو الإنكار القلبي الذي هو فرض عين على كل مسلم تجاه المنكرات.

ونحن إذا تسامحنا معهم في هذه القسمة إلى قشر ولب، فإننا نلفت أنظارهم إلى أن قياس أمور الدين على الثمار من حيث إن لكل منهما قشرا ولبا، وظاهرا وباطنا، لا يعني أن القشرة التي أوجدها الله للثمرة إنما خلقت عبثا، حاشا وكلا بل لحكمة عظيمة وهي المحافظة على ما دونها وهو اللب نفسه، وهذا يحملنا على أن لا نستهين بالقشر من حيث كونه حارسا أمينا على اللب، وهكذا الشأن في أمور الدين الظاهرة على التفصيل الذي تقدم قريبا من كلام شيخ الإسلام رحمه الله.

ومن هذا القبيل تقسيم الدين إلى أصول وفروع، فإن العلماء الذين فعلوا ذلك لا يظن بهم أنهم قصدوا بذلك التقسيم إيجاب الاتفاق على الأصول، ثم التسامح مطلقا في الفروع، كما يظن بعض متفقهة هذا الزمان، فتراهم يميعون كل قضية فرعية بدعوى أن اختلاف الأمة ما دام في الفروع فهو رحمة، وهذا أصل قولهم:(من قلد عالما لقي الله سالما).

وهذا بدوره قد أدى ببعضهم إلى اتباع الهوى والترخص دون تحري الدليل، ويلزم من ذلك القول بأن الاتفاق سخط، وهذا ما لا يقوله مسلم، ولو أنهم كانوا يرون أن الخلاف شرا كما قال ابن مسعود رضي الله عنه وغيره بل كما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، لسعوا إلى الاتفاق، ولأمكنهم ذلك في كثير من هذه المسائل المتناقضة التي لا يمكن التوفيق بينها، إلا برر بعضها المخالف للدليل وقبول البعض الآخر الموافق له، وإلا فقد نسبوا إلى الشريعة للتناقص والله عز وجل يقول:

ص: 115

{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (1).

فإذا كان الاختلاف ليس من الله فكيف يصح جعله شريعة متبعة ورحمة منزلة؟

فالواجب التخلص من الخلاف ما أمكن أو تضييق دائرته عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا"، وهذا ممكن في كثير من المسائل بما نصب الله تعالى عليها من الأدلة التي يعرف بها الصواب من الخطأ والحق من الباطل، ثم بعد تحري الدليل والعجز عن التخلص من الخلاف يعذر بعضهم بعضا فيما قد يختلفون فيه (2).

والذين قسموا الدين إلى قشر ولب استدلوا ببعض النصوص لتبرير ما ذهبوا إليه: منها ما رواه أمير المؤمنين عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى،" [الحديث أخرجه البخاري ومسلم].

ومنها ما رواه النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " الحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ "[رواه البخاري ومسلم].

ومنها ما رواه أبو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» . [رواه مسلم].

(1) النساء: 82.

(2)

الأحكام في أصول الأحكام لابن حزم. (5/ 64، 67 - 68).

ص: 116

قالوا: فهذه النصوص وأمثالها كثير تدل على أن العبرة بصلاح الباطن وصفاء النية وسلامة القلب.

وجواب ذلك أن يقال:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنا ألتزم أنه لا يحتج مبطل بآية أو حديث صحيح على باطله، إلا وفي ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله. وهذه من حكم الله الباهرة وآياته الظاهرة التي تبطل عمل المفسدين.

فقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى" لا يدل بأي وجه من وجوه الدلالات على إهدار العمل الظاهر، وعدم اعتباره، ولكنه يرشدنا إلى أحد شرطي العبادة الصحيحة، وهما شرط في الظاهر وشرط في الباطن، فأما شرط الظاهر فأن يكون العمل موافقا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم منافيا للبدع، ودليل هذا الشرط قوله صلى الله عليه وسلم:" مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ " وفي رواية: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» ، وأما شرط الباطن فهو إخلاص النية لله عز وجل المنافى للرياء ودليله قوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات".

وقد جمعها الله تبارك وتعالى في قوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} .

وقال الفضيل بن عياض رحمه الله في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} قال أخلصه وأصويه، وقال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا وصوابا، قال: والخالص إذا كان لله عز وجل، والصواب إذا كان على السنة.

فالحديث دليل على خطر النية وعظم شأنها، ولا يدل بحال على إسقاط شعائر الإسلام الظاهرة، وقوله صلى الله عليه وسلم "الأعمال بالنيات" تقديره الأعمال الواقعة بالنيات، أو الأعمال حاصلة بالنيات (1) ، أي الأعمال

(1) وفي رواية إنما العمل بالنية، (ال) للعهد وليست للاستغراق والشمول يراد منها الأعمال الصالحة.

ص: 117

الاختيارية لا تقع إلا عن قصد من العامل هو سبب وجودها وعملها، ثم يكون قوله:"وإنما لكل أمرئ ما نوى" إخبارا عن حكم الشرع، وهو أن حظ العامل من عمله بنيته فإن كانت صالحة فله أجره، وإن كانت فاسدة فعمله فاسد فعليه وزره.

بل في الحديث ما يدل على خطورتها أيضا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك "فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».

فهذا مثل من الأمثال والأعمال التي صورتها في الخارج واحدة ويشترك فيها المؤمنون والمنافقون، ويختلف صلاحها وفسادها باختلاف النيات، فهل يستقيم أن يستنبط إنسان من هذا ذم الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام اعتمادا على صدق النية، ألا يكون تخاذله عن هذه الهجرة من باب أولى أعظم دليل على فساد قلبه وسوء نيته؟! مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم:"أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، "أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ "".

وما قيمة هذه النية المزعومة إذا لم ينبثق عنها امتثال الأوامر واجتناب المناهي ونظير ذلك نصوص كثيرة تربط بين كافة الشرائع الظاهرة وبين النية وتعلق الفلاح على صلاح النية وصلاح العمل. قال مطرف بن عبد الله: صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النية.

من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ» رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. فقوله صلى الله عليه وسلم "وحسابهم على الله عز وجل يعني أن الشهادتين مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهي أعمال ظاهرة تعصم دم صاحبها وماله في الدنيا إلا بأن يأتي ما يبيح دمه، وأما في الآخرة فحسابه على الله عز وجل فإن كان صادقا أدخله الله بذلك الجنة، وإن كان كاذبا فإنه من

ص: 118

جملة المنافقين في الدرك الأسفل من النار، وفي بعض روايات مسلم: "ثم تلا: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} .

ومن ذلك ما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن خالد بن الوليد إستاذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتل رجل، فقال: " «لَا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي» قَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ، وَلَا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ» .

ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ غَزَا فِي سَبِيلِ اللهِ وَهُوَ لَا يَنْوِي فِي غَزَاتِهِ إِلَّا عِقَالًا فَلَهُ مَا نَوَى" أخرجه الإمام أحمد والنسائي من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ طَلَبَ العِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ العُلَمَاءَ أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ» . أخرجه الترمذي من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه.

فهذه كلها وأمثالها كثير نصوص تنبه على خطورة الإخلاص واشتراطه في الأعمال الصالحة، وإن القول بإهدار الأعمال الظاهرة قول ساقط يؤدي إلى ضياع الدين واستحلال المحرمات احتجاجا بالنية الصالحة المزعومة، وكذبوا، لو حسنت نياتهم لحسنت أعمالهم وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"أَلَا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ" فيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه واجتنابه للحرمات وانتقائه للشبهات بحسب صلاح حركة قلبه، فإن كان قلبه سليما ليس فيه إلا محبة الله ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله وخشية الوقوع فيما يكرهه صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقى الشبهات حذرا من الوقوع في المحرمات، وإن كان القلب فاسدا قد استولى عليه اتباع الهوى وطلب ما يحبه ولو كرهه الله فسدت

ص: 119

حركات الجوارح كلها وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب اتباع هوى القلب، ولهذا يقال: القلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، وهم مع هذا جنود طائعون له منبعثون في طاعته وتنفيذ أوامره. لا يخالفونه في شيء من ذلك.

والحاصل أنه يمكن الاستدلال على صلاح القلب أو فساده بمدى ما تظهره جنوده من الانقياد لشرائع الإسلام، فلا يتصور قلب صالح عامر بالعلم والإيمان ينضح منه معاندة الشرع، إذ أن الظاهر عنوان الباطن ودليل صلاحه أو فساده.

فاللحية مثلا من الجسد الذي هو مرآة القلب فمن استأصلها محتجا بصلاح قلبه كذبه ظاهره، ومن امتثل أوامر الشرع بإعفائها كانت قرينة ظاهرة في الدنيا على امتثاله لشرع الله في الظاهر وحسابه على الله في الآخرة.

والله نسال أن يجعل سرائرنا أصلح من ظواهرنا وهو وحده ولي التوفيق.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ اللهَ عز وجل لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ". فهو حجة عليهم لا لهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل "ولكن ينظر إلى قلوبكم" حتى عطف عليها "وأعمالكم" يعني التي تنبثق من تلك القلوب، والتي لا بد أن تكون صالحة موافقة لمرضاة الله عز وجل مرجوا بها وجهه سبحانه.

وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (1).

ولا شك أن هذا الأسلوب في فهم النصوص هو وحده الكفيل بأن يسد الباب في وجه الزنادقة والملاحدة الذين يتحصنون وراء دعوى حسن النية ويرتكبون المخالفات الشرعية {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} (2) ويضربون

(1) الأ نفال: 2 - 4.

(2)

البقرة: 11 - 12.

ص: 120

بالأحكام الظاهرة التي هي شعائر الإسلام وأعظم أركانه كالصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها عرض الحائط دون أن ينكر عليهم منكر وإلا لزم أيضا نسبة التناقض إلى الشرع المنزه حيث تنبني أحكامه على ما يظهره الناس في دار الدنيا ثم تهدر هذه الشرائع بحجة حسن نية ممن أهدروها، وهذا ما لم يفعله المنافقون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا يصلون معه ويحجون معه ويجاهدون معه، وكانوا يتناكحون ويتوارثون مع المسلمين وكان المسلمون يصلون عليهم ويدفنوهم معهم أخذا بما يظهرونه.

ثم نقول: أليس الذي نطق بالنصوص التي تدل على أهمية النية هو الذي نطق بالنصوص التي فيها اعتبار الظاهر {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} صلى الله عليه وسلم، وصدق الله تعالى إذ قال:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (1). وإذا كانت النصوص السابقة قد أسست فكرة الارتباط بين الظاهر والباطن فإن هناك جملة من النصوص قد فصلت هذه الفكرة وأثبتت تاثير كل منهما في الآخر:

منها ما رواه النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُسَوِّي صُفُوفَنَا حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ حَتَّى رَأَى أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ، ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا فَقَامَ، حَتَّى كَادَ يُكَبِّرُ فَرَأَى رَجُلًا بَادِيًا صَدْرُهُ مِنَ الصَّفِّ، فَقَالَ:«عِبَادَ اللهِ لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ» . وفي رواية: قلوبكم" أخرجه مسلم وأبو عوانة والراوية الأخرى لأبي داود.

فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أن الاختلاف في الظاهر ولو في تسوية الصف مما يوصل إلى اختلاف القلوب، فدل على أن الظاهر له تاثير في الباطن ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن التفرق حتى في جلوس الجماعة، فقد قال جابر بن سمرة رضي الله عنه.

(1) النساء: 82.

ص: 121

دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ وَهُمْ حِلَقٌ فَقَالَ: «مَالِي أَرَاكُمْ عِزِينَ» (1).

رواه مسلم وأبو داود.

وعن أبي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ، قَالَ: كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا - قَالَ عَمْرٌو: كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْزِلًا - تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ، إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ» . فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْزِلًا إِلَّا انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، حَتَّى يُقَالَ: لَوْ بُسِطَ عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ. أخرجه أبو داود وابن حبان والحاكم وغيرهم، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

ومما يقوى اعتبار الظاهر ما تقرر في الشريعة من وجوب مخالفة الكفار وتحريم التشبه بهم وقد مرت أدلته، وما تقرر أيضا من تحريم تشبه الرجال بالنساء والعكس بل توعد فاعل ذلك باللعن وهي من الكبائر، ولا شك أن المشاركة في الظاهر توجب الاختلاط الظاهر بين المؤمنين والكافرين، وهذا مما حرص السلف على تجنبه، وهو واضح من سلوكهم مع أهل الملل من البلاد التي فتحوها، حتى كانوا يشترطون في عقد الذمة ألا يتزيا المشركون بزي المسلمين.

وطريق الهدى أن تصلح الظاهر والباطن: نصلح ظاهرنا بإتباع السنة وباطننا بدوام مراقبة الله تعالى ولا ندع العمل الصالح حذر الرياء، ولا نعمله رئاء الناس. والله الموفق.

(1) عزين: أي متفرقين، جماعة جماعة- ومعناه النهي عن التفرق والأمر بالإجماع.

ص: 122