الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل حلق اللحية تشبه بالنساء
قال الشيخ أبو حامد الغزالي فِى "الإحياء": (وبها -أي اللحية- يتميز الرجال من النساء) اهـ (1).
وقال المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله (2): (وأما شعر اللحية (3) ففيه منافع: منها: الزينة والوقار والهيبة، ولهذا لا يرى على الصبيان والنساء من الهيبة والوقار ما يرى على ذوي اللحى، ومنها: التمييز بين الرجال والنساء) اهـ.
وقال محدث الشام ناصر الدين الألباني حفظه الله (4): (ولا يخفى أن في حلق الرجل لحيته -التي ميزه الله بها على المرأة- أكبر تشبه بها) اهـ.
وقال الشيخ أحمد بن محمد بن الصديق: (ومن عجيب ما ظهر في الوقت تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال، فالشاب يتخنث ويحلق وجهه كل صباح، ويدلكه ويلمعه بالأدهان والسوائل المعدة لذلك كلما يفعل النساء
…
) (5) اهـ.
(1) إحياء علوم الدين (2/ 257).
(2)
التبيان في أقسام القرآن ص231.
(3)
اللحية إسم للشعر النابت على الخدين والذقن (فتح الباري 10/ 350).
(4)
آداب الزفاف في السنة المطهرة (ص122).
(5)
كتاب مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية للشيخ أحمد بن محمد بن الصديق (ص127).
شبهات وجوابها
(ا) إن حلق اللحية لا تشبه فيه بالنساء، لأن المابهة تقتضي وجود وجه يتفق فيه المتشابهان، والمرأة لا لحية لها تحلقها حتى يقال إن الرجل إذا حلقها كان متشبها بها، ولا يطلق على وجه المرأة أنه محلوق بخلاف وجه الرجل.
وجوابه: أن كل ذي بصر وبصيرة يشهد بأن عارضي حالق لحيته كعارضي المرأة في كونهما لا شعر عليهما، والعبرة بالغاية الواقعة المشاهدة لا بالوسيلة الموصلة إليها، وهذه الغاية هي كون وجه الرجل كوجه المرأة، وأما الوسيلة الموصلة إليها فإنها تحرم تبعا لا استقلالا، وإلا فأجيبونا: ما تقولون في المرأة لو اتخذت لحية مصنوعة من شعر وجعلتها في مجهها أمتشبهة هي بالرجال أم تقولون إنها ليست متشبهة لأن اللحية في وجه الرجل ليست مصنوعة فانتفى الشبه؟ هذا ما لا يقوله منصف، والمقصود أن الشبه مبني على وجود اللحية وعدم وجودها لا على الوسيلة الموصلة إلى ذلك.
قال المخالف:
(ب) لو سلمنا أن من حلق لحيته تشبه بالنساء، فإن هذا الشبه ينتفي إذا أعفى شاربه لأنه يخالف آنذاك وجه المرأة.
وجوابه: إن المحرم هو التشبه بالنساء في أي شيء تثبت به المشابهة ولو كان ذلك في أي عضو من جسده دون سائره، فمن صبغ أطرافه بالحناء كان متشبها بالنساء ولو كان ذا لحية وشارب وقميص وعمامة، ودل عيله ما روى من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفى المخنث الذي تشبه بالنساء بخضاب يديه ورجليه بالحناء (1).
قال المخالف:
علة الأمر بإعفاء اللحى منصوص عليها حيث قرن الأمر للإعفاء بالأمر بمخالفة المشركين، والحكم الواحد لا يجوز أن يعلل بعلتين، وعليه فلا يصح تعليل الأمر بإعفاء اللحى بعلة عدم مشابهة النساء.
(1) قال النووي في المجموع: وإسناده ضعيف.
والجواب: لو سلمنا أن الحكم الواحد لا يعلل بعلتين فإن تعليل تحريم حلق اللحية بالتشبه بالنساء والتشبه بالكفار تعليل بعلة واحدة وهي التشبه بالغير، لكن قال ابن السبكي في "جمع الجوامع":(وجوز الجمهور التعليل للحكم الواحد بعلتين وادعوا وقوعه، كما في اللمس والمس والبول المانع كل منها من الصلاة مثلا) اهـ ممزوجا بشرح المحلى، وأنت إذا سألت عامة المسلمين من أهل السنة عن وجه الحليق من يشبه؟ لقالوا: وجه المرأة ووجه النصراني لأن كلاهما لا لحية له، والعلة متعددة، وتعدد العلة هو الكثير الواقع في الشرع، فالخمر والقمار معلل تحريمهما بإيقاع العداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وفساد العقل، وأكل مال الغير بالباطل، وتحريم الزنا معلل بفساد الأنساب وهتك الأعراض، ولكن الشارع قد يعلل الحكم بعلة ويسكت عن تعليله بأخرى لحكمة تقتضي ذلك، فمثلا قوله صلى الله عليه وسلم:«لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ، فَتُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ» (1)، يصح تعليله بعلة أخرى وهي كونه غيبة محرمة، وأذا قال صلى الله عليه وسلم:«لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا» (2)، لكن اقتضى المقام ذكر علة إذابة الأحياء بسب الأموات مثلا دون غيرها لأن ذكر تلك العلة يحمل كل من يسمعها على اعتبارها ولو كان كافرا فاسقا لأن إذاية الأحياء الحاضرين مما يورط في الشر والفتنة، وكذا هنا علل الشارع الحلق بمخالفة الكفار لأجل التنفير من حلقها، حيث إن القرآن ذم الكفار وأحوالهم فأورث ذلك في قلوب الصحابة نفورا عظيمًا وكراهية شديدة لأمورهم، فكانوا إذا علموا بالشيء أنه من فعل الكفار بادروا إلى تركه ونفروا منه وكرهوه، ألا ترى كيف نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج عن الذبح بالظفر ثم علل نهيه بأنه من فعل الكفار فقال:"أَمَّا الظُّفُرُ فَمُدَى الحَبَشَةِ"(3).
(ح) قال المخالف:
تشبه الرجل بالمرأة خاص بالزي واللباس ولا دخل للحية فيه بدليل قوله
(1) رواه الإمام أحمد والترمذي عن المغيرة وصححه الألباني.
(2)
رواه البخاري والإمام أحمد والنسائي من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3)
رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة والبيهقي وأحمد.
صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ الرَّجُلَ يَلْبَسُ لُبْسَةَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةَ تَلْبَسُ لُبْسَةَ الرَّجُلِ» (1) وأما النص العام في التشبه فيجب حمله على الخاص.
وهذه الدعوى منقوضة على وجهين:
الأول: قد تقدم الحديث الصريح في لعن المتشبه بالنساء في كل شيء في ذاته ولباسه، وقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال"، قال الحافظ:(المخنث من يشبه خلقة النساء في حركاته وكلامه وغير ذلك) اهـ.
وقال ابن علان في "شرح رياض الصالحين" في صفة المتشبه بالنساء: (إنه المحاكي لهن في أفعالهن وأقوالهن وأحوالهن) اهـ.
وقال الحافظ المنذري في "الترغيب" ما نصه: (الترهيب من تشبه الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل في لباس، أو كلام أو حركة أو نحو ذلك) اهـ.
وقال القاري في المرقاة (2) في شرح حديث ابن عباس رضي الله عنهما "لعن النبي صلى الله عليه وسلم المخنثي" بفتح النون المشددة وكسرها.
والأول أشهر أي: المتشبهين بالنساء (من الرجال) في الزي واللباس والخضاب والصوت والصورة والتكلم وسائر الحركات والسكنات، من خنث يخنث كعلم يعلم إذا لان وتكسر فهذا الفعل منهي عنه لأنه تغيير خلق الله.
وقد ثبت في الحديث أن الحناء في اليدين والرجلين تشبه بالنساء كما في قصة نفي المخنث في المدينة (3).
ونقل القاري في المرقاة عن "شرح السنة ". (ففي شرعة الإسلام الحناء سنة للنساء، ويكره لغيرهن من الرجال إلا أن يكون لعذر لأنه تشبه بهن)(4).
(1) أخرجه أبو داود والحاكم وقال: على شرط مسلم، وأقره الذهبي.
(2)
مرقاة المفاتيح: (2/ 459).
(3)
رواه أبو داود في كتاب الأدب من سننه من حديث أبي هريرة، وقال النووي رحمه الله في "المجموع"(لكن إسناده فيه مجهول).
(4)
مرقاة المفاتيح: (2/ 460).
وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المرأة مرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم متقلدة قوسا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله المتشبهات بالرجال) ومشابهة حالق اللحية للمرأة أوضح من مشابهة من تقلدت القوس بالرجال.
الثاني: التخصيص عند الأصوليين من الضرورات التي لا يصار إليها إلا عند الاضطرار وتعذر العمل بالنصين اللذين يخص أحدهما الأخر، أما إذا كان العمل بالنصين معا ممكنا فلا يجوز تخصيص أحدهما بالآخر لأن التخصيص نوع من النسخ، وابطال لبعض ما يدل عليه النص من المعنى، وعليه فتخصيص التشبه بأنه في اللباس فقط تحكم وإبطال لبعض مدلول النص، ولا يصح لكل من ضاق ذرعا بنص أن يدعى تخصيصه بغير ضابط.
قال المخالف:
(د) الأعمال بالنيات، ومن يحلق لحيته لا يقصد التشبه بالنساء، فكيف يستوي بمن يقصده؟
وجوابه: أن هذا مما لا يقوله عالم بل هو من التأويل المغرض، إذ أن مدار التشبه على الصورة الظاهرة بغض النظر عن قصد صاحبها لأن التشبه من الأعمال التي لا يتوقف الاتصاف بها على القصد والنية كالإتلاف والقتل والضرب، فمن فعل ذلك اتصف به وإن لم يقصده، وكذلك من صبغ يده بالحناء فهو متشبه بالنساء وإن لم يقصده، لكن الشرع رفع الإثم عن المتلف والقاتل والضارب الذين لم يتعمدوا لعدم قصدهم، وألزمهم الغرامة لأجل فعلهم، وأما المتشبه فلم يرفع عنه الإثم لعدم قصده، لأن المفسدة التي يقصد الشارع درءها بالنهى موجودة في فعله وإن لم يكن لة قصد فيها، ولذا نهي عن الأعمال التي لم يقصد عاملها التشبه ولا خطر على باله، وروى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قياما فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعودا، فلما سلم قال: إن كدتم لتفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا، ائتموا
بأئمتكم، إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا" زاد في رواية:"ولا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائها".
قال شيخ الإسلام معلقا: "ومعلوم أن المأموم إنما نوى أن يقوم لله لا لإمامه، وهذا تشديد عظيم في النهي عن القيام للرجل القاعد، ونهى أيضا عما يشبه ذلك، وإن لم يقصد به ذلك، ولهذا نهى عن السجود لله بين يدي الرجل، وعن الصلاة إلى ما عبد من دون الله كالنار ونحوها، وفي الحديث أيضا نهى عما يشبه فعل فارس والروم وإن كانت نيتنا غير نيتهم، لقوله "فلا تفعلوا" فهل بعد هذا في النهي عن مشابهتهم في مجرد الصورة غاية؟! ثم هذا الحديث سواء كان محكما في قعود الإمام أو منسوخا فالحجة منه قائمة لأن نسخ القعود لا يدل على فساد تلك العلة وإنما يقتضي أنه قد عارضها ما ترجح عليها" اهـ.
ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت الغروب معللا بأنها "تطلع وتغرب بين قرني الشيطان وإنه حينئذ يسجد لها الكفار"، ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله تعالى، وأكثر الناس لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان، ولا أن الكفار يسجدون لها، ومع ذلك نهينا عن مجرد مشابهتهم حسما للمادة وسدا للذريعة وإن لم نقصد ذلك وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:"وَنَهَانِي عَنْ نَقْرَةٍ كَنَقْرَةِ الدِّيكِ، وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ، وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ» (1)، ولا يخفى أن المصلي الذي يفعل هذا لا يقصد التشبه بالحيوانات المذكورة، وأمثلة هذا أكثر من أن تحصر ففيما ذكرناه كفاية، وقد نص الحافظ في "الفتح" على أن (من كان مخنثا بطبعه في كلامه ومشيه يجب عليه أن يتكلف ترك ذلك لئلا يكون متشبها بالنساء وإلا كان مذموما)(2) أهـ. منه بمعناه.
(1) رواه الإمام أحمد.
(2)
فتح الباري (10/ 332).