الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد اشتد جهدها، فمكثت يوما آخر وليلة لا تأكل، فأصبحت وقد اشتد جهدها; فقلت: يا أمه، والله لو كان لك مائة نفس، فخرجت نفسا نفسا، ما تركت ديني هذا لشيء; فإن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلي. فأكلت".
ورواه مسلم في صحيحه، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا زهير، حدثنا سماك بن حرب، حدثني مصعب بن سعيد عن أبيه، فذكره بنحو هذا السياق; وفيه:"فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها بعصا، ثم أوجروها; فنَزلت {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} [سورة الأحقاف آية: 15] الآية".
سورة هود
[ذكر ما في سورة هود من العلوم]
قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب:
ذكر: ما في سورة هود من العلوم: الأولى: علم معرفة الله: ذكر أنه حكيم. الثانية: أنه خبير. الثالثة: أنه قدير. الرابعة: أنه ذكر شيئا من تفصيل العلم في قوله: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} [سورة هود آية: 5] الآية. الخامسة: ذكر شيء من تفاصيل القدر، في قوله:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ} [سورة هود آية:6] الآية. السادسة: خلق السماوات والأرض في ستة أيام. السابعة: كون عرشه على الماء. الثامنة: ذكر شيء من تفصيل الحكمة في قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}
[سورة الملك آية: 7] . التاسعة: كونه وكيلا على كل شيء.
الثاني: الإيمان باليوم الآخر: وذكر أنه إليه المرجع. الثانية: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ} [سورة هود آية: 7] . الثالثة: ذكر الجنة والنار. الرابعة: ذكر العرض عليه. الخامسة: كلام الأشهاد. السادسة: ضل عنهم افتراؤهم. السابعة: كونهم الأخسرون في الآخرة.
الثالث: تقرير الرسالة: ذكر أولا المسألة الكبرى. الثانية: أنه نذير من الله وبشير لنا. الثالثة: تقرير صحة رسالته، باعتراضهم بقولهم: إنها {سِحْرٌ مُبِينٌ} مع موافقتها للعقل. الرابعة: تقريرها بقولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} [سورة هود آية: 12] . الخامسة: تقريرها بمعرفة العلماء بها. السادسة: تقريرها بالتحدي. السابعة: تقريرها بأنها الحق من الله.
الرابع: ذكر الوعد والوعيد، وذكر المتاع الحسن لمن قبله. الثانية: ذكر عذاب اليوم الكبير لمن أبى. الثالثة: {يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} [سورة هود آية: 8] الرابعة: وعيد من أراد الدنيا. الخامسة: وعيد من افترى عليه. السادسة: وعد المؤمنين المخبتين. السابعة: وعيد من استهزأ بالقرآن.
الخامس: ذكر الأمر والنهي، فذكر النهي عن الشرك، والأمر بالإخلاص. الثانية: الأمر بالاستغفار والتوبة. الثالثة: الأمر بالمضي على أمر الله وإن اعترضوا بالشبهة
الفاسدة. الرابعة: أمره بالتحدي. الخامسة: نهيه عن المرية فيه.
السادس: أمور مدحها لنفعلها: منها الصبر. الثانية: عمل الصالحات. الثالثة: مدح العلم الصادر عن اليقين. الرابعة: مدح معرفة القرآن. الخامسة: ذكر نتيجة الأمرين. السادسة: الإيمان الإخبات إلى الله.
السابع: أمور كرهها، ذكرها لتترك: منها التولي. الثانية: ثني الصدر. الثالثة: الاعتراض على الحق الصريح، بالجهل الصريح. الرابعة: استبطاء وعيد الله. الخامسة: كون الإنسان يؤوسا عند الضراء. السادسة: كونه كفورا عندها. السابعة: كونه فرحا عند النعماء. الثامنة: فخورا عندها ولو كانت بعد ضراء، والتي قبلها ولو كانت بعد سراء. التاسعة: نتيجة معرفة الآية. العاشرة: فائدة النتيجة. الحادية عشر: كونه يريد الدنيا. الثانية عشر: كونه يفتري على الله الكذب. الثالثة عشر: من المكروه الصد عن سبيل الله. الرابعة عشر: بغي العوج لها.
الثامن: المنثور1: ذكر أن الأكثر لا يؤمنون. الثانية: ذكر مثل المؤمنين. الثالثة: ذكر مثل الكافرين. الرابعة: التنبيه على التذكير بالحالين. الخامسة: كونهم لا يستطيعون
1 أي: من العلوم في مواضع من صدر هذه السورة.
السمع. السادسة: الفرق بين العالم والجاهل. السابعة: كون عرشه على الماء. الثامنة: من الوعد {أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [سورة هود آية: 11] .
[ما يستفاد من قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا}
وقال أيضا الشيخ محمد رحمه الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَاّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة هود آية: 15-16] : قد ذكر عن السلف من أهل العلم فيها أنواع مما يفعل الناس اليوم ولا يعرفون معناه.
الأول: من ذلك العمل الصالح الذي يفعل كثير من الناس ابتغاء وجه الله، من صدقة وصلة وإحسان إلى الناس، ونحو ذلك; وكذلك ترك ظلم، أو كلام في عرض، ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصا لله، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة؛ إنما يريد أن الله يجازيه بحفظ ماله وتنميته، وحفظ أهله وعياله، وإدامة النعمة عليهم ونحو ذلك؛ ولا همة له في طلب الجنة، ولا الهرب من النار. فهذا يعطى ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة نصيب.
وهذا النوع ذكر عن ابن عباس في تفسير الآية، وقد غلط بعض مشائخنا بسبب عبارة في شرح الإقناع، في أول باب النية، لما قسم الإخلاص مراتب، وذكر هذا منها، ظن أنه يسميه إخلاصا مدحا له، وليس كذلك; وإنما أراد أنه
لا يسمى رياء، وإلا فهو عمل حابط في الآخرة.
والنوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو الذي ذكر مجاهد أن الآية نزلت فيه، وهو أن يعمل أعمالا صالحة ونيته رئاء الناس، لا طلب ثواب الآخرة; وهو يظهر أنه أراد وجه الله، وإنما صلى، أو صام، أو تصدق، أو طلب العلم، لأجل أن الناس يمدحونه ويجل في أعينهم، فإن الجاه من أعظم أنواع الدنيا.
"ولما ذكر لمعاوية حديث أبي هريرة، في الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار، وهم: الذي تعلم العلم ليقال عالم حتى قيل، وتصدق ليقال جواد، وجاهد ليقال شجاع، بكى معاوية بكاء شديدا، ثم قرأ هذه الآية".
النوع الثالث: أن يعمل الأعمال الصالحة، ومقصده بها مالا، مثل أن يحج لمال يأخذه لا لله، أو يهاجر لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، أو يجاهد لأجل المغنم، فقد ذكر هذا النوع أيضا في تفسير هذه الآية، كما في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة" إلخ.
وكما يتعلم العلم لأجل مدرسة أهله، أو مكسبهم أو رياستهم، أو يقرأ القرآن ويواظب على الصلاة، لأجل وظيفة المسجد، كما هو واقع كثيرا; وهؤلاء أعقل من الذين قبلهم، لأنهم عملوا لمصلحة يحصلونها; والذين قبلهم
عملوا لأجل المدح والجلالة في أعين الناس، ولا يحصل لهم طائل.
والنوع الأول أعقل من هؤلاء كلهم، لأنهم عملوا لله وحده لا شريك له، لكن لم يطلبوا منه الخير العظيم وهو الجنة، ولم يهربوا من الشر العظيم وهو العذاب في الآخرة.
النوع الرابع: أن يعمل الإنسان بطاعة الله، مخلصا في ذلك لله وحده لا شريك له، لكنه على عمل يكفره كفرا يخرجه عن الإسلام، مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله وتصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة.
ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم شرك أكبر أو كفر أكبر، يخرجهم عن الإسلام بالكلية، إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة، لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم؛ فهذا النوع أيضا قد ذكر في الآية عن أنس بن مالك وغيره؛ وكان السلف يخافون منه.
قال بعضهم: لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت، لأن الله يقول:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [سورة المائدة آية: 27] . فهذا قصد وجه الله والدار الآخرة، لكن فيه من حب الدنيا والرياسة والمال ما حمله على ترك كثير من أمر الله ورسوله، أو أكثره، فصارت الدنيا أكبر قصده.
فلذلك قيل قصد الدنيا، وصار ذلك القليل كأنه لم
يكن، كقوله صلى الله عليه وسلم:" صل فإنك لم تصل ". والأول أطاع الله ابتغاء وجهه، لكن أراد من الله الثواب في الدنيا; وخاف على الحظ والعيال، مثل ما يقول الفسقة، فصح أن يقال: قصد الدنيا. والثاني والثالث واضح.
لكن بقي أن يقال: إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج ابتغاء وجه الله، طالبا ثواب الآخرة، ثم بعد ذلك عمل أعمالا كثيرة أو قليلة قاصدا بها الدنيا، مثل أن يحج فرضه لله، ثم يحج بعده لأجل الدنيا، كما هو الواقع كثيرا.
فالجواب: أن هذا عمل للدنيا والآخرة، ولا ندري ما يفعل الله في خلقه; والظاهر: أن الحسنات والسيئات تدافع، وهو لما غلب عليه منهما; وقد قال بعضهم: إن القرآن كثيرا ما يذكر أهل الجنة الخلص، وأهل النار الخلص، ويسكت عن صاحب الشائبتين، وهو هذا وأمثاله; ولهذا خاف السلف من حبوط الأعمال. وأما الفرق بين الحبوط والبطلان، فلا أعلم بينهما فرقا بينا، والله أعلم.
[المسائل المستنبطة من قوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ} ]
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: قوله عز وجل لما ذكر قصة نوح: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة هود آية: 49] : إذا تأمل الإنسان حاله أولاً، وما تعلم من العلوم من أهله، ثم تفكر في هذه القصة، هل علم منها زيادة على ما عنده أو لا؟ عرف مسائل:
الأولى: عظمة الشرك، ولو قصد صاحبه التقرب إلى الله، وذلك مما فعل الله بأهل الأرض لما عبدوا ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا.
الثانية: شدة بطش الله وعقوبته، حيث أرسل الطوفان فأهلك الطيور والدواب وغير ذلك.
الثالثة: معرفة آيات رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث وافق ما قصه مع كونه لم يعلم.
الرابعة: التحقيق يكون المخلوق ليس له من الأمر شيء، ولو كان نبيا مرسلا، بسبب ما فيها من قصة ابن نوح.
الخامسة: تبيين الله الحجج الباطلة والتحذير منها; مع أنها عندنا أوهام، وعند أكثر الناس حجج صحيحة.
السادسة: تبرؤ الرسل من دعوى أن عندهم خزائن الله وعلم الغيب، مع أن الطواغيت في زمننا ادعوا ذلك، وصدقوا وعبدوا لأجل ذلك.
السابعة: التحذير من استحقار الفقراء والضعفاء، لقوله:{وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة هود آية: 31] ، مع أنه سائغ ممن يدعي العلم، ويستحسنه الناس منهم.
الثامنة: وهي من أعظم الفوائد: التحذير من الشبهة التي أدخلت أكثر الناس النار، وهي السواد الأعظم، والنفرة من القليل، لقوله:{وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ} [سورة هود آية: 40] .
التاسعة: معرفة شيء من عظمة الله في تأديبه الرسل، لما قال لنوح:{إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [سورة هود آية:
46] .
العاشرة: وهي من أهمها: أن فيها شاهدا لقول الحسن: نضحك ولعل الله اطلع على بعض أعمالنا، وقال: لا أغفر لكم، وذلك من قوله:{أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاّ مَنْ قَدْ آمَنَ} [سورة هود آية: 36] مع سخريتهم منه.
الحادية عشر: التحذير من اتباع رؤساء الدنيا، وقبول حججهم، لقوله:{فَقَالَ الْمَلأ} . وهم الأشراف والرؤساء.
الثانية عشر: بيان الله تعالى لتلك الحجج، فقولهم:{مَا نَرَاكَ إِلاّ بَشَراً مِثْلَنَا} فيه القياس الفاسد، وقولهم:{وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} احتجاج بما ليس حجة.
وقولهم: {بَادِيَ الرَّأْيِ} أي: ليسوا بأهل دقة نظر في أمور الدنيا، احتجاج بما ليس بحجة; وقولهم:{وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} احتجاج برأيهم، وهو من أفسد الحجج; وقولهم:{بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} احتجاج بالظن.
الثالثة عشر: أنهم لم يصرحوا بأن هذا الذي عليه نوح وأتباعه أمر الله، ثم جاهروا بعصيانه، قالوا:{بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [سورة هود آية: 27] وقالوا: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنْزَلَ مَلائِكَةً} [سورة المؤمنون آية: 24] وغير ذلك; وأنت ترى الذين يكونون من أهل العلم والعبادة، كيف يقرون ويجاهرون بالكفر {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الزخرف آية: 37] .
[ما يستفاد من قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} ]
قال بعض تلامذة الشيخ: هذه صفة مذاكرة جرت عند الشيخ محمد رحمه الله تعالى، سأله الإمام عبد العزيز بن
محمد بن سعود رحمه الله، عن هذه الآيات من آخر هود، من قوله:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [سورة هود آية: 110] إلى آخرها، وتكلم عليها كلاما حسنا، أحببت أن أنقله لكم.
ومحصل الكلام: أنه تكلم على صورة الاختلاف الذي ذمه الله في الكتاب، أنه مثل كون الخوارج يستدلون بآيات على كفر العاصي، كقوله:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [سورة المائدة آية: 44] الآية، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [سورة الأنعام آية: 57] ، {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [سورة الأنعام آية: 121] ، ويعرضون عن الآيات التي فيها عدم كفره، أو يتأولونها.
وعكسهم المرجئة: يستدلون بالآيات التي فيها أن من آمن دخل الجنة كقوله: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [سورة الحديد آية: 21] ، والإيمان عندهم مجرد التصديق فقط، ويعرضون عن الآيات المصرحة بأن الأعمال من الإيمان كقوله:{وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [سورة النور آية: 47]، وقوله:{ِإنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [سورة الأنفال آية: 2] ، وما لا يحصى إلا بكلفة، وأمثالهم من أهل البدع كالجهمية، والأشعرية.
وذكر أن الله عظم هذاالأمر بقوله: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [سورة يونس آية: 19] ، فلولا أن الله سبق منه كلام بتأخير العذاب، لكان الحكمة تقتضي تعجيل العذاب، بسبب كبر ذنبهم.
وقوله: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [سورة هود آية: 110]، ذكر رحمه الله: أن هذه مشكلة عليَّ، ولا فهمت كلام أهل التفسير فيها، لو كان الرجل يوهم عليها لأجل أن التوراة عند بني إسرائيل مثل القرآن عندنا، يشهدون أنها كلام الله، وليس عندهم في هذا شك; ولا أدري ما هذا الشك.
وقوله: {وَإِنَّ كُلاً لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} [سورة هود آية: 111] الآية، ذكر سبحانه أنه سيجازى كلا بعمله، وأنه خبير بأعمالهم دقيقها وجليلها، فلما كان الإنسان إذا عرف عيب غيره، الغالب عليه أنه يذمه ويشتغل به وينسى عيب نفسه، قال تعالى:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [سورة هود آية: 112] الآية، وذكر أن هذه من آيات الخوف.
ثم قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [سورة هود آية: 113] الآية: بعض الكفار قد يكون فيه أخلاق، مثل حاتم وعبد المطلب، فإن كان كفره بالله وإشراكه لا يشينه عندك ويغطي محاسنه، فهو من الركون إليهم، كما قال أبو العالية في الآية: لا ترضوا بأعمالهم، انتهى.
مثل كون المرأة إذا كانت زانية فسدت عند الناس، ولو كان فيها أخلاق حسنة، وفيها جمال وبنت رجال، وهذا العيب يغطي محاسنها كلها عند الناس; والإنسان قد يكون له قريب، أو رجل ينفعه، فتوعد على الركون إليهم بالنار مع أنه يقع عندنا، ولا يستنكر ولا ينتقد على فاعله.
وقوله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [سورة هود آية:
114] الآية:
إذا عرفت سبب نزولها، عرفت الجهل الكثير في أكثر الناس، وعرفت أنها من عجائب القرآن، إذا جمعت بينها وبين ما ذكر الله قبلها في الركون، وتوعده عليه بالنار; فعظم الله أمر الركون؛ وأمره عندنا يسير هين، ولا يعاب على فاعله.
وفعل هذا الرجل الذي ذكر أنها نزلت فيه، لو يفعله عندنا رجل جيد عاب 1 عند الناس ولو تاب؛ فينبغي للإنسان أن يعظم ما عظم الله ورسوله، ولو كان عند الناس أمره هينا. وأيضا يعرف المؤمن عظم شأن الصلوات الخمس عند الله.
وقوله: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة هود آية: 115] : لما كان ما تقدم من الأمر والنهي خلاف طبع الإنسان، ذكر أنه لا يقدر على ذلك إلا بالصبر ورجاء ما عند الله.
وقوله: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ} [سورة هود آية: 116] الآية: لولا بمعنى: هلا، وهذه الآية يستدل بها العلماء على أن الدين غريب، لأن هذه الأمة تفعل ما فعلت الأمم قبلها، وقوله:{وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [سورة هود آية: 116] الآيتين لما كان الإنسان يتباعد هذا، ويقول: كيف أن العلماء لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، فذكر سبحانه أن الآفة استحباب الدنيا على الآخرة،
1 كذا بالأصل.
واتباع ما أترفوا فيه; فالعلماء لهم مدارس ومواكل، ولو يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر قطعت مواكلهم، فآفتهم ليست عدم العلم، بل ما ذكر الله.
وذكر أن ملكا من الملوك أراد أن يأمر بشيء في رعيته على خلاف الشرع، فجمع العلماء والفقهاء من أهل بلده يشاورهم، فلم يقولوا شيئا وسكتوا، فتبين منهم رجل وأنكر عليه، وقال: هذا لا يجوز، فقال الملك: اقطعوا علائق هذا المتفقه; فقالوا: إنه يأكل من غزل أمه; قال: فلذلك اجترأ علينا.
وقوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [سورة هود آية: 118] : ذكر سبحانه: أن المعرضين عن كتاب الله هم أهل الاختلاف إلى يوم القيامة; ولا يتصور أنهم يجتمعون على دين واحد، ولو كانوا علماء أذكياء كأهل الكلام، يتناقضون ويختلفون في دينهم أعظم تناقض واختلاف; وقد سمعتم من ذلك شيئا; وأهل السنة هم أهل الجماعة، ودينهم دين واحد من أولهم إلى آخرهم; وهذا مما يبين لك شيئا من قدرة الله عز وجل.
وقوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [سورة هود آية: 119] فيها ثلاثة أقوال، ومعناها واحد: فمن قال: إنهم خلقوا للاختلاف; ومن قال: خلقوا للرحمة; ومن قال: خلقوا لهذا وهذا; ومعناها واحد.
وقوله: {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} [سورة هود آية: 120] الآية، في هذا دليل على عدم معرفة أكثر القراء
بالقرآن، إذا كان في قصص الرسل، ما يثبت به فؤاده صلى الله عليه وسلم فكيف بغيره؟.
وقوله: {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} [سورة هود آية: 121]، قيل في هذه السورة; وهذه السورة لها شأن عند السلف; {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [سورة هود آية: 122] الآيتين: فهم ينتظرون زواله، وهو ينتظر زوالهم؛ وهذه لها أشباه; وقوله:{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [سورة هود آية: 123] الآية، مثل قوله:{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [سورة الحجرات آية: 18]، {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ} [سورة هود آية: 123] الآية: تقتضي عبادة الله والتوكل عليه; وهذا يجمع الدين كله، كقوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ، والله أعلم، وصلى الله على محمد.
[تفسير قوله تعالى {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى، عن معنى قوله تعالى:{وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [سورة هود آية: 118-119] : قال أبو البقاء: الاستثناء من ضمير الفاعل في {وَلا يَزَالُونَ} وهو الواو، وقوله:{وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} أي: للرحمة، فاسم الإشارة راجع إلى الرحمة، لأنه أقرب مذكور، قوله:{وَلِذَلِكَ} أي: للرحمة {خَلَقَهُمْ} .
قلت: وهذا الذي عليه أكثر المفسرين; قال ابن جرير ما معناه: اسم الإشارة راجع للاختلاف، أي: مختلفين، وهو ضعيف عند المحققين من المفسرين، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وأبي البقاء وغيرهما.
وروي عن طاووس: "أن رجلين اختصما إليه فأكثروا، فقال طاووس: اختلفتما وأكثرتما، فقال أحد الرجلين: لذلك خلقنا، فقال طاووس: كذبت أليس يقول: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} قال: لم يخلقهم ليختلفوا، ولكن خلقهم للجماعة والرحمة" وقال ابن عباس: "للرحمة خلقهم، ولم يخلقهم للعذاب"; وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة.
وعلى هذا الإشكال، فيكون كقوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ، قال العماد ابن كثير، رحمه الله: ويدل على ذلك قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [سورة البقرة آية: 185]، {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [سورة النساء آية: 27] .
وأما قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] فاللام للتعليل بلا ريب، وهو قول أهل السنة والجماعة قديما وحديثا; فدلت الآية على أن حكمة الرب في خلقه الثقلين ليعبدوه وحده.
فإنه ربهم وخالقهم ومليكهم، وهم تحت قهره وقدرته، وهو المنعم عليهم وحده، فوجب لذلك وغيره من صفات الله وعظمته أن يكون هو معبدوهم وحده دون كل ما سواه، كما قال تعالى:{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة النحل آية: 17]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ
الَّذِي خلقكم} . إلى آخر الآيات. [سورة البقرة آية: 21 - 24]
والمراد بالحكمة في هذه الآية: الدينية الشرعية; لكن من الناس من وافق هذه الحكمة بإرادته وعلمه وعمله، ومنهم من خرج عنها لعدم قبوله لما أراده الله به، وذلك بقضاء الرب وقدره، لعلمه السابق في خلقه.
لأنه تعالى يعلم ما هم عاملون قبل خلقه لهم، وهو الذي يهدي من يشاء بفضله وإحسانه، ويضل من يشاء بعدله وقدرته ومشيئته; فالأول: فضله. والثاني: عدله; قال الله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [سورة الزخرف آية: 76] .
وقد مكن عباده بأسباب يقتدر بها العبد على طاعة ربه، كما قال تعالى:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [سورة الإسراء آية: 36] وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [سورة النحل آية: 36] كما قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [سورة النساء آية: 165] .
ونظير هذه الآية، قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [سورة النساء آية: 64] ، فمنهم من أطاع ومنهم من عصى; فالفضل فضله تعالى، والحجة له بالبيان والفطرة والعقول، والعلم الذي أنزل في كتبه وعلى ألسن رسله، وبالله التوفيق.
وعلى العبد أن يتسبب بالإقبال على ذلك، وطلب ما يحبه منه ويرضاه، ويترك ما يسخطه ويأباه، وأن يكون ذلك هو أهم الأشياء لديه، {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [سورة هود آية: 88] .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد" فالمراد بالأمر الأمر الديني الشرعي، فيسأل الله تعالى الثبات عليه، بتحصيل أسبابها، فمنها معرفة الهدف بدليله، وذلك عن يقين وحسن قبول، وانقياد ومحبة، وصبر وخشية الله وخوف منه، ونحو ذلك؛ فإن الطباع البشرية تصرف القلب عن الثبات في الأمر الشرعي الديني، فيخالفه هواه.
واتباع الهوى له أسباب كثيرة، لا يدفعها عن العبد إلا قوة داعي الإيمان بالله ورسله، وتدبر كتابه، وعدم الإعراض عنه إلى غيره، قال الله تعالى:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [سورة الكهف آية: 57] ونحو ذلك في عدة مواضع من القرآن، يحذر تعالى عباده عن الإعراض، لأنه يمنع العبد من الخير كله، ويوقعه في الشر كله، ويجمع على العبد شرور نفسه وسيئات أعماله.
نسأل الله العفو والعافية، في الدنيا والآخرة; فمن أعظم أسباب الثبات، محبة الهدى والرغبة فيه، وطلبه بجهده، لما تقدم، والضد بالضد.
وأما قوله: "والعزيمة على الرشد"، فالعبد محتاج إلى