الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الكوثر
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: وهذه كلمات من كلام أبي العباس ابن تيمية، له على سورة الكوثر، لخصتها من جملة كلام له:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [سورة الكوثر آية: 1-3] ما أجلها وأغزر فوائدها على اختصارها، وحقيقة معناها تعلم من آخرها.
فإنه سبحانه بتر شانيء رسوله صلى الله عليه وسلم من كل خير; فيبتر ذكره وأهله وماله، فيخسر ذلك في الدنيا والآخرة؛ ويبتر حياته، فلا يتزود فيها عملا صالحا لمعاده؛ ويبتر قلبه فلا يعي الخير، ولا يؤهله لمحبته والإيمان به؛ ويبتر أعماله فلا يستعمله في طاعته؛ ويبتره من الأعمال، فلا يذوق لها طعما، وإن باشرها بظاهره، فقلبه شارد عنها.
وهذا جزاء من شنأ بعض ما جاء به الرسول، ورده لأجل هواه أو شيخه، أو إمامه أو أميره أو كبيره، كمن شنأ آيات الصفات وأحاديثها; وتأولها على غير مراد الله ورسوله، أو حملها على ما يوافق مذهبه، أو تمنى أن لا تكون نزلت. ومن أقوى علامات شناءتها: أنه إذا سمعها حين يستدل بها أهل السنة على ما دلت عليه من الحق، اشمأز ونفر، فأي شانئ للرسول أعظم من هذا؟ !
وكذلك أهل السماع الذين يزدحمون على سماع الغناء والدفوف، فإذا قرأ عليهم قارئ عشرا، استطالوه واستثقلوه؛ وقس على هذا سائر الطوائف في هذا الباب.
وكذلك من آثر كلام الناس وعلومهم على القرآن والسنة، فلولا أنه شانئ لما جاء به الرسول لما فعل ذلك، حتى إن بعضهم لينسى القرآن بعد أن حفظه، واشتغل بقول فلان وفلان؛ وكل من شنأ، له نصيب من الانبتار.
وهؤلاء لما شنؤوه، جازاهم الله بأن جعل الخير كله معاديا لهم، فبترهم منه؛ وخص نبيه بضد ذلك، وهو: أن أعطاه الكوثر، وهو الخير الكثير الذي آتاه الله إياه في الدنيا: الهدى، والنصر، والتأييد، وقرة العين، ونعم قلبه بذكره وحبه; وأعطاه في الآخرة الوسيلة والمقام المحمود، وجعله أول من يفتح له ولأمته باب الجنة، وأعطاه اللواء لواء الحمد، والحوض العظيم في موقف يوم القيامه.
وقولة: {إِنَّ شَانِئَكَ} أي: مبغضك. {الأَبْتَرُ (: المقطوع النسل، الذي لا يولد له، فلا يتولد عنه خير، ولا عمل صالح، ولا منفعة فيه; وأهل السنة أحيوا بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فكان لهم نصيب من قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [سورة الشرح آية: 4] ؛ وأهل البدعة شنؤوا بعض ما جاء به، فكان لهم نصيب من قوله:{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [سورة الكوثر آية: 3] .
فالحذر الحذر أيها الرجل، من أن تكره شيئا مما جاء به، أو ترده لأجل هواك، أو انتصارا لمذهبك، أو لشيخك، أو لكبيرك، أو لاشتغالك بالشهوات، أو بالدنيا; فإن الله لم يوجب على أحد إلا طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والأخذ بما جاء به، بحيث لو خالف العبد جميع الخلق واتبع
الرسول صلى الله عليه وسلم، ما سأله الله عن مخالفة أحد؛ فاعلم ذلك واسمع وأطع، واتبع; ولا تبتدع تكن ابتر مردودا عليك عملك; بل لا خير في عمل أبتر مر الاتباع، ولا خير في عامله.
وقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [سورة الكوثر آية: 2] : أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين العظيمتين، وهما: الصلاة والنسك، الدالتان على التواضع، عكس حال أهل الكفر والنفرة، وأهل الغنى عن الله، الذين لا حاجة لهم في صلاتهم، والذين لا ينحرون له خوفا من الفقر، أو لسوء ظنهم بربهم.
ولهذا جمع الله بينهما في قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} [سورة الأنعام آية: 162-163] الآية، وقوله:{وَنُسُكِي} هو: الذبيحة لله ابتغاء وجهه.
والمقصود: أن الصلاة والنسك، هما أجل ما يتقرب به إلى الله; وأجل العبادات المالية النحر، وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها من العبادات، كما عرفه أرباب القلوب الحية؛ وما يجتمع في النحر من حسن الظن، والوثوق بما في يد الله، أمر عجيب، إذا قارن ذلك الإيمان والإخلاص.
وقد امتثل صلى الله عليه وسلم أمر ربه، فكان كثير الصلاة لربه، كثير النحر له، حتى نحر بيده في حجة الوداع ثلاثا وستين بدنة; وكان ينحر في الأعياد وغيرها; وفيها: تعريض بحال الأبتر الشانئ، الذي صلاته ونسكه لغير الله. وفيها: ترك الالتفات