الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القراء الذين يقرؤون بلا فهم معنى، وفيهم قوله تعالى:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَاّ أَمَانِيَّ} [سورة البقرة آية: 78]، أي: تلاوة بلا فهم ; والمراد من إنزال القرآن: فهم معانيه والعمل، لا مجرد التلاوة. 1.
وقال ابنه الشيخ عبد الله: ثم إنا نستعين على فهم الكتاب بالتفاسير المتداولة المعتبرة، ومن أجلها لدينا: تفسير ابن جرير، ومختصره لابن
1 آخر ما وجد.
[ما في تفسير محمد صديق من بعض عبارات المتكلمين]
قال الشيخ حمد بن عتيق، رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من حمد بن عتيق، إلى الإمام المعظم، والشريف المقدم1 محمد، الملقب: صديق، زاده الله من التحقيق ; وأجاره في ماله من عذاب الحريق، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: وصل إلينا التفسير 2 فرأينا أمرا عجيبا، ما كنا نظن أن الزمان يسمح بمثله، في عصرنا وما قرب منه، لما
1 نعته بالشريف، لأنه ينتمي إلى الحسين بن علي بن أبي طالب.
2 تفسيره المسمى "فتح البيان في مقاصد القرآن".
في التفاسير التي تصل إلينا من التحريف، والخروج عن طريقة الاستقامة، وحمل كتاب الله على غير مراد الله، وركوب التعاسيف في حمله على المذاهب الباطلة، وجعله آلة لذلك.
فلما نظرنا في ذلك التفسير، تبين لنا حسن قصد منشئه، وسلامة عقيدته، وبعده عن تعمد مذهب غير ما عليه السلف الكرام، فعلمنا أن ذلك من قبيل قوله:{وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} [سورة الكهف آية: 65] ، والحمد لله رب العالمين.
وهذا التفسير العظيم وصل إلينا في شعبان، سنة سبع وتسعين ومائتين وألف، فنظرت فيه في هذا الشهر، وفي شوال، فتجهز الناس للحج، ولم أتمكن إلا من مطالعة بعضه، ومع ذلك وقفت فيه على مواضع تحتاج إلى تحقيق، وظننت أن لذلك سببين.
أحدهما: أنه لم يحصل منكم إمعان نظر، في هذا الكتاب بعد تمامه، والغالب على من صنف الكتاب كثرة ترداده، وإبقاؤه في يده سنين يبديه ويعيده، ويمحو ويثبت، ويبدل العبارات، حتى يغلب على ظنه الصحة، ولعل الأصحاب عاجلوك بتلقيه قبل ذلك.
والثاني: أن ظاهر الصنيع، أنك أحسنت الظن ببعض المتكلمين، وأخذت من عباراتهم، بعضا بلفظه، وبعضا بمعناه، فدخل عليك شيء من ذلك، لم تمعن النظر فيها ; ولهم عبارات مزخرفة تتضمن الداء العضال، وما دخل عليك من ذلك مغفور إن شاء الله، بحسن القصد واعتماد الحق،
وتحري الصدق والعدل، وهو قليل بالنسبة إلى ما وقع فيه كثير ممن صنف في التفسير وغيره، وإذا نظر السني المنصف، في كثير من التفاسير، وشروح الحديث، وجد ما قلته وما هو أكفر منه.
وقد سلكتم في هذا التفسير في مواضع منه، مسلك أهل التأويل، مع أنه قد وصل إلينا لكم رسالة في ذم التأويل مختصرة، وهي كافية ومطلعة على أن ما وقع في التفسير صدر من غير تأمل، وأنه من ذلك القبيل، وكذلك في التفسير من مخالفة أهل التأويل ما يدل على ذلك.
وأنا اجتريت عليك، وإن كان مثلي لا ينبغي له ذلك ; لأنه غلب على ظني إصغاؤك إلى التنبيه، ولأن من أخلاق أئمة الدين قبول التنبيه والمذاكرة، وذم الكبر، وإن كان القائل غير أهل ; ولأنه بلغني عن بعض من اجتمع بك، أنك تحب الاجتماع بأهل العلم، وتحرص على ذلك، وتقبل العلم، ولو ممن هو دونك بكثير، فرجوت أن ذلك عنوان التوفيق ; جعلك الله كذلك وخيرا من ذلك.
واعلم أرشدك الله أن الذي جرينا عليه، أنه إذا وصل إلينا شيء من المصنفات في التفسير، وشرح الحديث، اختبرنا واعتبرنا معتقده في العلو والصفات والأفعال، فوجدنا الغالب على كثير من المتأخرين أو أكثرهم مذهب الأشاعرة الذي حاصله نفي العلو، وتأويل الآيات في هذا
الباب، بالتأويلات الموروثة عن بشر المريسي وأضرابه من أهل البدع والضلال ; ومن نظر في شرح البخاري ومسلم ونحوهما، وجد ذلك فيها.
وأما ما صنفوا في الأصول والعقائد، فالأمر فيه ظاهر لذوي الألباب ; فمن رزقه الله بصيرة ونورا، وأمعن النظر فيما قالوه، وعرضه على ما جاء عن الله ورسوله، وما عليه أهل السنة المحضة، تبين له المنافاة بينهما، وعرف ذلك كما يعرف الفرق بين الليل والنهار؛ فأعرض عما قالوه، وأقبل على الكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة وأئمتها، ففيه الشفاء والمقنع ; وبعض المصنفين يذكر ما عليه السلف، وما عليه المتكلمون، ويختاره ويقرره. فلما اعتبرنا هذا التفسير، وجدناك وافقتهم في ذكر المذهبين ; وخالفتهم في اختيار ما عليه السلف تقرره، وليتك اقتصرت على ذلك، ولم تكبر حجم هذا الكتاب بمذهب أهل البدع، فإنه لا خير في أكثره.
وقد يكون لكم من القصد، نظير ما بلغني عن الشوكاني رحمه الله، لما قيل له: لأي شيء تذكر كلام الزيدية، في هذا الشرح؟ قال ما معناه: لا آمن الإعراض عن الكتاب، ورجوت أن ذكر ذلك أدعى إلى قبوله وتلقيه.
وقد قيض الله لكتب أهل السنة المحضة من يتلقاها، ويعتني بها، ويظهرها مع ما فيها من الرد على أهل البدع وعيبهم، وتكفير بعض دعاتهم وغلاتهم، فإن الله ضمن لهذا
الدين أن يظهره على الدين كله.
والمقصود: أن في هذا التفسير مواضع تحتاج إلى تحقيق، ونذكر لك بعض ذلك.
فمنه: أني نظرت في الكلام على آيات الاستواء، فرأيتك أطلت الكلام في بعض المواضع، بذكر كلام المبتدعة النفاة، كما تقدم.
ومنه: أن في الكلام بعض تعارض، كقولكم في آية يونس: وظاهر الآية يدل على أنه سبحانه إنما استوى على العرش بعد خلق السماوات والأرض; لأن كلمة ثم للتراخي; ثم قلتم في سورة الرعد، وثم هنا لمجرد العطف لا للترتيب، لأن الاستواء عليه غير مرتب على رفع السماوات ; وكذلك قلتم في سورة السجدة: وليست ثم للترتيب، بل بمعنى الواو.
فالنظر في هذا من وجهين; أحدهما: أن ظاهره التعارض; الثاني: أن القول بأن ثم لمجرد العطف لا للترتيب في هذه الآيات، إنما يقوله من فسر الاستواء بالقهر والغلبة، وعدم الترتيب ظاهر على قولهم.
وأما السلف وأئمة السنة وأهل التحقيق، فقد جعلوا اطراد الآيات في جميع المواضع، دليلا على ثبوت الترتيب; وردوا به على نفاة الاستواء، وأبطلوا به تأويلاتهم، كما هو معروف مقرر في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره; فانظر من أين دخلت عليك هذه العبارات، وقد رأيت للرازي عبارة
في التفسير تفهم ذلك، فلعلك بنيت على قوله. وهذا الرجل وإن كان يلقب بالفخر، فله كلام في العقائد قد زل فيه زلة عظيمة، وآخر أمره الحيرة ; نرجو أنه تاب من ذلك، ومات على السنة، فلا تغتر بأمثال هؤلاء.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: في المحصل، وسائر كتب الكلام المختلف أهلها، مثل كتب الرازي وأمثاله، وكتب المعتزلة والشيعة والفلاسفة ; ونحو هؤلاء، لا يوجد فيها ما بعث الله به رسله، في أصول الدين، بل وجد فيها حق ملبوس بباطل، انتهى من منهاج السنة.
قال: وقد قال بعض العلماء في المحصل:
محصل في أصول الدين حاصله
…
أصل الضلالات والشرك المبين وما
من بعد تحصيله جهل بلا دين
…
فيه فأكثره وحي الشياطين
وهذا من أجل كتبه، فكيف تسمح نفس عاقل أن يعتمد على قول مثل هؤلاء؟ !.
ومن ذلك أنكم قلتم في سورة يونس أيضا: استوى على العرش، استواء يليق به، وهذه طريقة السلف المفوضين، وقد تقدس الديان عن المكان، والمعبود عن الحدود، انتهى.
فإن كان المراد بالتفويض ما يقوله بعض النفاة، وينسبونه إلى السلف; وهو أنهم يمرون الألفاظ ويؤمنون بها، من غير أن يعتقدوا لها معان تليق بالله; أو أنهم
لا يعرفون معانيها، فهذا كذب على السلف من النفاة.
وإذا قال السلف: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإنما نفوا حقيقة الصفة ; ولو كانوا قد آمنوا باللفظ المجرد، من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله، لما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول ; وأمروها كما جاءت بلا كيف، فإن الاستواء لا يكون حينئذ معلوما، بل مجهولا بمنْزلة حروف المعجم.
وأيضا فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم من اللفظ معنى ; وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا ثبتت الصفات ; هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولا نشك أن هذا اعتقادك ; ولكن المراد: أنه دخل عليك بعض الألفاظ من كلام أهل البدع، لم تتصور مرادهم، فانتبه لمثل ذلك.
وأما قول القائل: يتقدس الديان عن المكان، فهذا لم ينطق السلف فيه بنفي ولا إثبات، وهو من عبارات المتكلمين، ومرادهم به نفي علو الله على خلقه ; لأن لفظ المكان فيه إجمال يحتمل الحق والباطل، كلفظ الجهة ونحوه، والكلام في ذلك معروف في كتب شيخ الإسلام وابن القيم، فارجع إلى ذلك تجده، ولا نطيل به.
وحسب العبد الاقتصار في هذا الباب على ما ورد في الكتاب والسنة، كما قال الإمام أحمد: لا يوصف الله إلا بما
وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث.
ومن ذلك ما ذكرتم، عند قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [سورة البقرة آية: 29] وقد قيل: إن خلق جرم الأرض متقدم على السماء، ودحوها متأخر، وقد ذكر هذا جماعة من أهل العلم، وهذا جمع جيد يجب المصير إليه.
وفي حم السجدة، الجواب: أن الخلق ليس عبارة عن الإيجاد والتكوين فقط، بل عبارة عن التقدير أيضا ; والمعنى: قضى أن يحدث الأرض في يومين، بعد إحداث السماء ; والجواب المشهور: أنه خلق الأرض أولا، ثم خلق السماء بعدها، ثم دحا الأرض ومدها ; والأول أولى، ففي هذا نوع تعارض.
ومن ذلك قولكم في الكلام على البسملة: والرحمة إرادة الخير والإحسان لأهله ; وقيل: ترك عقوبة من يستحق العقاب، وإسداء الخير والإحسان إلى من لا يستحقه، فهو على الأول صفة ذات ; وعلى الثاني صفة فعل، انتهى.
وهذا هو التأويل المعروف عن بعض أهل البدع، يردون هذه الصفات إلى الإرادة، فرارا مما فهموه، حيث قالوا: إن الرحمة رقة في القلب لا يصلح نسبتها إلى الله تعالى ; فقال لهم أهل السنة: هذه رحمة المخلوق، ورحمة الرب تليق بجلاله، لا يعلم كيف هي إلا هو.
ويلزمهم في الإرادة نظير ما فروا منه في الرحمة ; فإن
الإرادة هي ميل القلب، فإما أن تثبت إرادة تليق بالرب تعالى، وهو الحق في جميع الصفات، وإما أن تقابل بالتأويل وهو الباطل؛ والآفة دخلت على النفاة، من جهة أنهم لم يفهموا من صفات الرب إلا ما يليق بالمخلوق، فذهبوا لينفوا ذلك، ويقابلوه بالتأويلات.
قال شيخ الإسلام: إنهم شبهوا أولا فعطلوا آخرا، وأهل السنة والجماعة أثبتوا لله جميع الصفات على ما يليق بجلاله، ونفوا عنه مشابهة المخلوقين، فسلموا من التشبيه والتعطيل. ومن ذلك: أنكم أكثرتم في هذا التفسير من حمل بعض الآيات على المجاز وأنواعه، وقد علمتم أن تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز، حدث بعد القرون المفضلة، ولم يتكلم الرب به ولا رسوله، ولا أصحابه ولا التابعون لهم بإحسان.
والذي تكلم به من أهل اللغة، يقول في بعض الآيات: وهذا من مجاز اللغة ; ومراده: أن هذا مما يجوز في اللغة، لم يرد هذا التقسيم الحادث، ولا خطر بباله، لا سيما وقد قالوا: إن المجاز يصح نفيه، فكيف يليق حمل الآيات القرآنية على مثل ذلك؟ !.
وقد أتى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب الإيمان الكبير، بما كفى وشفى، وذكر الآيات التي استدلوا بها، وبعض الأمثلة التي ذكروها ; وأجاب عن ذلك بما إذا طالعه المنصف، عرف الصواب.
ومن قواعده: أن المجاز لا يدخل في النصوص، ولا يهولنك إطباق المتأخرين عليه، فإنهم قد أطبقوا على ما هو شر منه، والعاقل يعرف الرجال بالحق، لا الحق بالرجال.
ومن عرف غربة الإسلام والسنة، لم يغتر بأقوال الناس وإن كثرت ; والله يقول:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة الأنعام آية: 116] الآية، ومن أبلغ الناس بحثا في المعاني، الزمخشري، وله في تفسيره مواضع حسنة.
ولكنه معروف بالاعتزال ونفي الصفات، والتكلف في التأويلات الفاسدة، والحكم على الله بالشريعة الباطلة، مع ما هو عليه من مسبة السلف وذمهم، والتنقص بهم، وفي تفسيره عقارب لا يعرفها إلا الخواص من أهل السنة.
وقد قال فيه بعض العلماء:
ولكنه فيه مقال لقائل
…
وزلات سوء قد أخذن المخانقا
ويسهب في المعنى القليل إشارة
…
بتكثير ألفاظ تسمى الشقاشقا
ويقول فيها الله ما ليس قائلا
…
وكان مجافي الخطابة وامقا
ويشتم أعلام الأئمة ضلة
…
ولا سيما إن أولجوه المضائقا
لئن لم تداركه من الله رحمة
…
لسوف يرى للكافرين مرافقا
والمقصود: أن الاعتماد على أقوال مثل هؤلاء، لا يليق بالمحقق، لا سيما فيما يتعلق بمعرفة الله وتوحيده، وأنت ترى مثل محمد بن جرير الطبري رحمه الله، وأقرانه ومن
قبله، ومن يقربه في أزمانه لم يعرج على هذه الأمور، وكذلك المحققون من المتأخرين كابن كثير ونحوه، وكما هو المأثور عن السلف رحمهم الله، وما استنبطوا منه. فنسأل الله تعالى أن يلحقنا بآثار الموحدين، وأن يحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة بمنه وكرمه، والله أعلم.
[استفتاء علماء نجد وغيرهم عما نقل من تفسير ثناء الله الهندي وجوابهم]
وقال الشيخ محمد بن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن، والشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن الشيخ عبد اللطيف وفقهما الله تعالى، جوابا لعلماء الهند، ما نصه:
بسم الله الرحمن الر حيم
الحمد لله ناصر الحق ورافعه، وخاذل الباطل وواضعه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من صدق إسراره إعلانه، وواطأ جنانه لسانه ; ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي أطلع الله ببعثته صبح الإسلام وأبانه ; ومحق برسالته حالك ليل الشرك وأهانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ما غردت قمرية ببانة، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فقد وقفنا على الكتاب الذي أرسله أبو يحيى محمد شريف الكهريالوي، وأصحابه من أهل الحديث الشريف، من أهل الهند، إلى إمام المسلمين، ورافع ألوية الدين: عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود، لا زال للدين ناصرا ; ولأعداء الملة المحمدية كاسرا.
يطلبون منه استفتاء علماء نجد وغيرهم، فيما شجر بينهم وبين أبي الوفاء ثناء الله، ليرشدوا إلى الصواب في تلك المسائل، التي أخذوها على ثناء الله، وانتقدوها من تفسيره، وتصفحنا النقول التي نقلت من تفسير ثناء الله، بمرسوم عبد الله كميريوري، من مضافات أوتر.
فنقول وبالله التوفيق: هذه المواضع المنقولة من تفسير أبي الوفاء ثناء الله، جمهورها، بل كلها خطأ، إلا مواضع يسيرة، ننبه عليها إن شاء الله تعالى ; وأعظمها وأكبرها: ما يتعلق بصفات الله تعالى، كإنكاره حقيقة الاستواء، بتفسيره إياه بالاستيلاء ; أو تنفيذ الأحكام والتدبير، فإنه خطأ وضلال، بل دخول فيما عليه أهل التحريف والتعطيل، من الجهمية والمعتزلة، ونحوهم ممن ضل عن سواء السبيل، وهو خلاف ما عليه أهل السنة.
فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبة، وقولهم الشامل في هذا الباب: أنهم يصفون الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه في كتابه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ووصفه به السابقون الأولون، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، لا يتجاوزون القرآن والحديث.
وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره ; وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة، مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر، في أن الله
سبحانه هو العلي الأعلى، وهو فوق كل شيء، وهو عال على كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء.
مثل قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [سورة فاطر آية: 10]، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [سورة آل عمران آية: 55] ، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [سورة الملك آية: 16-17] ، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [سورة النساء آية: 158] {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [سورة المعارج آية: 4]، {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [سورة السجدة آية: 5] ، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [سورة النحل آية: 50] ، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [سورة الأعراف آية: 54] ، في ستة مواضع {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] ، {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} [سورة غافر آية: 36-37] {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [سورة فصلت آية: 42]، {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} [سورة الأنعام آية: 114] ، إلى أمثال ذلك مما لا يكاد يحصى إلا بكلفة.
وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى إلا بكلفة، مثل قصة معراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه، ونزول الملائكة من عند الله، وصعودها إليه، وقوله في الملائكة
الذين " يتعاقبون فيكم بالليل والنهار، فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم، فيسألهم وهو أعلم بهم "1.
وفي الصحيح في حديث: " ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟ "2 إلى غير ذلك مما هو من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية، التي تورث علما يقينيا من أبلغ العلوم الضرورية، أن الرسول المبلغ عن الله ألقى إلى أمته المدعوين أن الله سبحانه على العرش، وأنه فوق السماء، كما فطر على ذلك جميع الأمم عربهم وعجمهم، في الجاهلية والإسلام، إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته. ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جمع لبلغ مئين ألوف، ولم يقل أحد منهم قط: إن الاستواء بمعنى الاستيلاء، أو تنفيذ الأحكام والتدبير.
والذين أولوا الاستواء بالاستيلاء، إنما حملهم على ذلك سوء أفهامهم ; حيث لم يفهموا من ذلك إلا التشبيه، ظنا منهم أن استواءه تعالى على العرش من جنس استواء المخلوق على ما يستوى عليه من الفلك وبهيمة الأنعام.
وخفي عليهم: أن استواء الله سبحانه وتعالى على العرش من جنس سائر الصفات الواردة في الكتاب والسنة، كوجوده تبارك وتعالى وعلمه وحياته وغير ذلك؛ فكما أن إثبات وجوده تعالى وعلمه وحياته لا يلزم منه مماثلة خلقه في الوجود والعلم والحياة، بل وجوده تعالى وعلمه وحياته
1 البخاري: مواقيت الصلاة (555)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (632)، والنسائي: الصلاة (485) ، وأحمد (2/257، 2/312، 2/344، 2/396، 2/486)، ومالك: النداء للصلاة (413) .
2 البخاري: المغازي (4351)، ومسلم: الزكاة (1064) ، وأحمد (3/4) .
تليق به وتناسبه وتختص به، فكذلك القول في الاستواء وسائر الصفات.
وهذا المحذور الذي زعموه وفروا من أجله من إثبات الاستواء، يلزمهم نظيره فيما ذهبوا إليه من الاستيلاء، أو تنفيذ الأمر والتدبير ; فإنهم إن أثبتوا الاستيلاء من جنس استيلاء المخلوقين وقعوا في نفس ما فروا منه ; وإن قالوا: استيلاء يليق بجلال الله وعظمته، فلأي شيء لم يثبتوا الاستواء ويقولوا استواء يليق بجلاله وعظمته؟ حتى يكونوا قد صدقوا الكتاب والسنة، ووافقوا في الاعتقاد ما أجمعت علية الأمة.
ولم يفهم أحد من سلف الأمة وأئمتها من قوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [سورة الفرقان آية: 2]، وقوله تعالى:{يُدَبِّرُ الأَمْرَ} [سورة يونس آية:3] ما يدل على أن الاستواء بمعنى الاستيلاء بوجه من الوجوه. ويقرب من هذا تفسيره العرش في قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [سورة هود آية: 7] وغيرها من الآيات التي ذكر بالملك والحكومة.
وتفسيره قوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ} [سورة الحاقة آية: 17] بأن ذلك كناية عن عظمة كبريائه، فإن هذا إنكار لحقيقة العرش، وإنكار لحملته، ودخول في مسالك المبتدعة المنكرين للصفات، فإنهم إنما أنكروه تذرعا إلى إنكار علو الله سبحانه على خلقه، واستوائه على عرشه.
والنصوص من الكتاب والسنة ظاهرة جلية، في إثبات
العرش ; وهو إجماع أهل السنة والجماعة، كما دلت عليه هذه الآيات الكريمات، وقوله تعالى:{وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [سورة الزمر آية: 75] وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} [سورة غافر آية: 7]، وقال صلى الله عليه وسلم في الفردوس:" إنها أعلى الجنة، ووسط الجنة، وسقفها عرش الرحمن "1.
وقال صلى الله عليه وسلم " إن الله كتب في كتاب - فهو موضوع عنده فوق العرش -: إن رحمتي تغلب غضبي " 2، وقال صلى الله عليه وسلم:" إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يرفع رأسه، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة العرش" 3 الحديث ; إلى غير ذلك مما أفاد العلم الضروري، بوجود العرش الذي هو السرير، كما هو المعروف في لغة العرب، وهو الذي فهمه الصحابة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، وتلقاه عنهم أهل العلم؛ وعقائد أهل السنة تنادي بذلك.
وكثير منهم يعقد لذلك بابا، ويقول: باب إثبات العرش، ويذكر فيه النصوص الواردة من الكتاب والسنة.
والاستدلال على أن العرش ليس هو المعروف عند سلف الأمة وأئمتها بقوله تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ} [سورة غافر آية: 16] أظهر في البطلان من أن يحتاج إلى تعريف.
وكذلك تفسيره الكتاب المذكور في قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 38] ونظائرها، بعلم الله، فجهل وضلال، ولا يتمشى هذا إلا على أصول
1 الترمذي: صفة الجنة (2529) ، وأحمد (5/240) .
2 البخاري: بدء الخلق (3194)، ومسلم: التوبة (2751)، والترمذي: الدعوات (3543)، وابن ماجه: الزهد (4295) ، وأحمد (2/257، 2/259، 2/313، 2/358، 2/397، 2/433، 2/466) .
3 البخاري: التوحيد (7428) .
القدرية المنكرين للقدر السابق ; وأما أهل السنة والجماعة فهم برآء إلى الله تبارك وتعالى، من هذا المذهب الباطل.
ونصوص الكتاب والسنة - في إثبات اللوح المحفوظ، والكتاب السابق، الذي كتبت فيه المقادير، وإثبات القلم، وأن الله تعالى لما خلقه قال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة - أشهر من أن ينبه عليها.
وهكذا قوله في قوله تعالى: {أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [سورة يس آية: 12] في صحف أعمال، هو غلط كالذي قبله، وليس في قوله:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ} [سورة الأنعام آية: 59] التي استدل بها، ما ينافي إثبات اللوح المحفوظ، والكتاب السابق المذكور في تلك الآيات.
ونظير ذلك استدلاله بقوله تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [سورة القمر آية: 52] ، بل هذه الآية نظير الآيات الأول في إثبات الكتاب السابق، وكاستدلاله أيضا بقوله تعالى:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [سورة البقرة آية: 255] وغيرها، كل ذلك لا ينافي ما تقرر فيما تقدم، بإجماع أهل العلم من المفسرين وغيرهم.
ومما يدخل في أنواع أهل البدع - كالمنكرين الصفات - تفسيره الكتابة في قوله: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [سورة الأعراف آية: 145] بالأمر بكتابة الأحكام، فإنه من تأويل آيات الصفات، وتحريفها عن ظاهرها الذي أريد منها ; وفي
الحديث: " إن الله خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده " الحديث.
ومثله أيضا قوله: إن السدرة التي في قوله تعالى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [سورة النجم آية: 14] ليست سدرة حقيقة، والمراد بالمنتهى منتهى مراتب كمال الإنسان، فإنه من أقوال منكري علو الله تبارك وتعالى، وهو خروج عن ظاهر الآية، وخلاف ما دلت عليه أحاديث الإسراء التي فيها التصريح بالمراد من الآية، وأن ذلك كله حقيقة.
وأما تفسيره قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ} [سورة الأعراف آية: 160] بإرسال السماء عليهم مدرارا، فهو خلاف ما عليه المفسرون ; والصواب الموافق للحق ما قاله في الطبع الثاني، بقوله في التيه: لدفع الشمس، إلا أنه لم يصرح بالمراد بالغمام ; وقال أيضا في آخر ذلك: لأن بني إسرائيل أقاموا في التيه أربعين سنة في الشمس، فلم يصنع حينئذ شيئا، ورجع التفسير إلى ما في الطبع الأول.
وأما تفسيره قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [سورة البقرة آية: 59] بقوله: أي: خالفوا ما أمروا به من التوكل والاستغفار ; فلا ريب أن التفسير الصحيح في ذلك هو ما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنهم دخلوا يزحفون على استاههم، وقالوا: حبة في شعرة، كما في الصحيح عن أبي هريرة مرفوعا وغيره.
لكن إن أراد أن التوكل داخل في الأمر بالدخول سجدا
من طريق اللزوم، فهو صحيح، وكذلك الاستغفار الذي ذكره، هو داخل في الحديث ; لكن قوله في الطبع الثاني: أو دخلوا يزحفون على استاههم إلى آخره، يشعر بالمغايرة، ولا مغايرة على التوجيه السابق.
وأما تفسيره الرجز المذكور في قوله: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً} [سورة البقرة آية: 59] بقوله: أي حرمناهم بفسقهم، فغلط ; وذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس: كل رجز في القرآن المراد به العذاب ; قال: وهكذا روي عن مجاهد وأبى مالك، والسدي والحسن وقتادة أنه العذاب.
وقال أبو العالية: الرجز الغضب، وقال الشعبي: الرجز إما الطاعون وإما البرد، إلى أن قال: وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، وذكر سنده إلى سعد بن مالك، وأسامة بن زيد وخزيمة بن ثابت، قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الطاعون رجز عذاب، عذب به من كان قبلكم " 1، وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان به ; وقوله {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ} [سورة المائدة آية: 26] غير خاف عدم دلالته على أن المراد بالرجز التحريم المذكور، فهذا شيء وذاك شيء آخر.
وأما تفسيره قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [سورة البقرة آية: 187] بقوله، أي: ابتداء لا بعد المنع، وقوله:{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [سورة البقرة آية: 187] أي:
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3473)، ومسلم: السلام (2218)، والترمذي: الجنائز (1065) ، وأحمد (5/213)، ومالك: الجامع (1656) .
تنقصون حظوظ أنفسكم بالمجانبة عن النساء، فهو خلاف ما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن السنة دلت على منع الصائم أولا من النساء ليلة الصيام، ثم أباح الله ذلك وأنزل قوله:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} [سورة البقرة آية: 187] الآية السابقة، كما في صحيح البخاري من حديث البراء بن عازب، قال: لما نزل صوم شهر رمضان، كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، الحديث.
فهذا ظاهر في أن الحل المذكور في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} أنه من بعد منع، وظاهر في معنى قوله تعالى:{تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} أي: بالجماع ليلة الصيام، ليس معناه تنقصون حظوظ أنفسكم بالمجانبة عن النساء.
وأما تفسيره قوله تعالى: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [سورة البقرة آية: 260] بقوله: أملها، أي: اجعلها مائلة إليك، بحيث إذا تركتها تميل إليك، {ثُمَّ} بعد ميلانها إليك تعودها، و {اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً} أي: واحدا واحدا، فهو إنكار لما ذكره المفسرون من ذبح تلك الطير وتقطيعهن، وخروج عما دلت عليه الآية الكريمة من الآية الباهرة الدالة على قدرة الله تعالى على إحياء الموتى.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} : قطعهن، قاله ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير، وأبو مالك وأبو الأسود الدؤلي، ووهب بن منبه، والحسن والسدي وغيرهم.
وقال العوفي عن ابن عباس: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [سورة البقرة آية: 260] : أوثقهن، فلما أوثقهن ذبحهن، ثم جعل على كل جبل منهن جزءا ; فذكروا: أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن، ثم قطعهن، ونتف ريشهن، ومزقهن ; وخلط بعضهن ببعض، ثم جزأهن أجزاء، وجعل على كل جبل منهن جزءا، قيل: أربعة أجبل، وقيل سبعة.
وقال ابن عباس: وأخذ رؤوسهن بيده، ثم أمره الله عز وجل أن يدعوهن، فدعاهن كما أمره الله، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدم إلى الدم، واللحم إلى اللحم، والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض، حتى قام كل طائر على حدته. وأتينه يمشين سعيا، ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها، وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم عليه السلام، فإذا قدم له غير رأسه يأباه، فإذا قدم إليه رأسه تركب مع بقية جسده، بحول الله وقوته. انتهى.
وأما قوله: إن آية: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [سورة الأنفال آية: 66] ليست بمنسوخة ; لأن كون الحكم مشروطا بشرط لا يوجد ينافي النسخ، فهو خلاف ما عليه أئمة التفسير، كابن عباس رضي الله عنهما وغيره ; وقول من قال: ليست بمنسوخة من أهل العلم لا ينافي ذلك، إذ هو مبني على خلاف في حد النسخ، لا على الوجه الذي ذكره.
ونظير هذا إنكاره النسخ في قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمَانُكُمْ} [سورة النساء آية: 33] ،
وزعمه أن المراد الزوج والزوجة، فإنه غلط خلاف ما جاءت به الآثار ونقل عن أئمة التفسير.
وأما تفسيره قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [سورة يونس آية: 26] بقوله: على قدر أعمالهم، ويشمل رؤية الله تعالى، فهذا تفسير حسن، ولا ينافي ما جاء في السنة من تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله تعالى.
قال الحافظ ابن كثير: يخبر تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح، الحسنى في الدار الآخرة، كقوله تعالى:{هَلْ جَزَاءُ الأِحْسَانِ إِلَاّ الأِحْسَانُ} [سورة الرحمن آية: 60]، وقوله تعالى:{وَزِيَادَةٌ} هي تضعيف ثواب الأعمال، بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وزيادة على ذلك أيضا، ويشمل ما يعطيهم الله في الجنان من القصور والحور، والرضى عنهم، وما أخفاه لهم من قرة أعين.
وأفضل من ذلك وأعلاه: النظر إلى وجهه الكريم، فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه، لا يستحقونها بعملهم، بل بفضله ورحمته ; ثم ذكر أحاديث النظر إلى وجه الله وأقوال الصحابة.
وقوله في قول الله تعالى: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [سورة الحجر آية: 74] أي: أسقطنا سقف بيوتهم عليهم، هذا من الخطأ الواضح، فإنه خلاف ظاهر اللفظ، وخلاف ما عليه
المفسرون، فإن قوم لوط - والعياذ بالله - قلبت ديارهم عليهم، فجعل عاليها سافلها.
وأما قوله في قوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} [سورة آل عمران آية: 37] إلى آخره: كانت عليها السلام تنسب ما كان عندها إلى الله، لقوله:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [سورة النحل آية: 53] فليس فيه دليل على أن مريم الصديقة كان يأتيها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف.
فمن المعلوم أن أئمة التفسير، كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير، وأبي الشعثاء وإبراهيم النخعي والضحاك والسدي، وقتادة والربيع بن أنس، وعطية العوفي وغيرهم، أدرى بمعاني كتاب الله ; وقد جاء عنهم: أنها عليها السلام تؤتى بفاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف ; وإثبات كرامات الأولياء من أصول أهل السنة والجماعة.
وأما تفسيره النار في قوله تعالى: {بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} [سورة آل عمران آية: 183] بقوله، أي: يحرقه الكاهن بالنار، والعجب ممن قيد النار بالسماوي! ليت شعري، من أين أخذ هذا التفسير؟ ! فيقال: ليس ذلك بتقييد، بل تفسير، والألف واللام في النار للعهد الذهني، فيكون المراد: النار المتعارفة بينهم، وجاء عن أئمة التفسير تفسيرها بالنار التي تنزل من السماء.
قال ابن كثير: يقول تعالى تكذيبا لهؤلاء، الذين زعموا
أن الله عهد إليهم في كتبهم أن لا يؤمنوا لرسول حتى يكون من معجزاته: أن من تصدق بصدقة من أمته فتقبل منه أن تنزل نار من السماء تأكلها، قاله ابن عباس والحسن وغيرهما. انتهى. ومما يشهد لذلك ويدل على صحة نزول جنس النار السماوية، الأحاديث الدالة على أن الغنائم فيمن قبل هذه الأمة تنزل عليها نار من السماء فتأكلها، وهذا نظير تفسيره قوله تعالى، {فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ} [سورة المائدة آية: 27] أنهما اطلعا بواسطة آدم، أن تقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر.
فإنه قد جاءت الآثار هنا: أن هابيل قرب جذعة ; وقابيل: قرب حزمة سنبل، فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها، فنَزلت النار فأكلت قربان هابيل، كما في تفسير ابن جرير، وابن كثير والبغوي وغيرها من التفاسير.
وأما تفسيره قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا} [سورة الأنعام آية: 158] أنه يوم الموت، فإن الذي دلت عليه الأحاديث كحديث أبي هريرة وأبي ذر اللذين في الصحيحين وغيرهما، وحديث حذيفة عند ابن مردويه، وحديث أبي سعيد عند الترمذي، وحديث صفوان بن عسال، وحديث عبد الله بن مغفل وغيرها، أن المراد بالآيات في قوله تعالى:{أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [سورة الأنعام آية: 158] : الآيات العظام التي قرب قيام الساعة، التي هي من أشراطها، كطلوع
الشمس من مغربها وغير ذلك مما ثبت في الأحاديث. وليس ذلك هو المذكور في قوله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} [سورة الفرقان آية: 22] فإن ذلك يوم الاحتضار، كما في تفسير ابن كثير وغيره. وأما تفسيره الوزن في قوله تعالى:{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [سورة الأعراف آية: 8] أي: مقدار الأعمال بأي وجه كان ; وتفسيره خفة الموازين بحبوط الأعمال، فهذا إنكار لحقيقة وزن الأعمال الذي دل عليه الكتاب العزيز وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما تفسيره قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} [سورة يوسف آية: 26] بقوله: أي: أظهر رأيه، إلى آخره، فليس خطأ محضا، بل هو مبني على أحد القولين في ذلك الشاهد.
قال ابن كثير: واختلف في هذا الشاهد، هل هو صغير أو كبير على قولين لعلماء السلف: أحدهما أنه كبير، ذكره ابن عباس والثوري، وابن إسحاق وغيرهم.
ثم قال: وقال العوفي عن ابن عباس: كان صبيا في المهد; وكذا روي عن أبي هريرة وهلال بن يساف، والحسن وسعيد بن جبير، والضحاك بن مزاحم، أنه كان صبيا في الدار، واختاره ابن جرير، وروى فيه حديثا مرفوعا عن ابن عباس، وقال: تكلم أربعة وهم صغار، فذكر فيهم شاهد يوسف. انتهى.
لكن هذا القول الثاني أظهر للحديث.
وأما تفسير قوله تعالى: {ظِلاًّ ظَلِيلاً} [سورة النساء آية: 57] ،
وقوله: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [سورة الواقعة آية: 30] بالنعماء دون حقيقة الظل، فهو ظن منه أن الظل متوقف على الشمس، وليس الأمر كذلك، وليس في نفي الشمس المذكورة في قوله تعالى:{لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً} [سورة الإنسان آية: 13] ما ينافي الظل; نعم: الظل الموقوف على الشمس منفي، ولا يلزم من نفيه نفي ظل آخر غير موقوف على الشمس. وأما قوله في آية:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [سورة إبراهيم آية: 27] أي: ببركة التوحيد في الحياة الدنيا، لا يزيغون بإغواء المغوي، وفي الآخرة بعد الموت من القبر إلى المحشر، فليس فيه ما ينافي ما وردت به الأخبار، على أن ذلك هو التثبيت عند السؤال في القبر، لكن ينبغي الاقتصار على ما جاءت به السنة، فإن فيه غنية وكفاية.
وأما قوله في: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [سورة الإسراء آية: 78] أي: ينبغي أن يشهدها المؤمنون ; فهو خلاف ما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن المراد هو ملائكة الليل والنهار، أو شهود الله وملائكته، إلا أن يراد بذلك تنبيه الآية وإشارتها.
وأما تفسيره قوله تعالى: {فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً} [سورة الكهف آية: 61] بقوله: شقا، كما يسبح الحوت سبحا طبيعيا، وقوله:{عَجَباً} [سورة الكهف آية:63] : تعجب يوشع من سرعته، وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [سورة مريم آية: 96] أي: بينهم يوم
القيامة، ففي ما جاء من السنة في تفسير هذه الآيات غنية في رد ما ذكره، والأحاديث في ذلك معروفة.
وأما تفسيره تسبيح الجبال والطير بتذكيره ذلك، فقد رجع عنه في الطبع الثاني، بقوله: تسبيحا مناسبا بشأنها ; فلا مطعن عليه في ذلك حينئذ. وأما قوله، في قوله تعالى:{وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سورة سبأ آية: 10] أي: علمناه إلانة الحديد، فهو خلاف ظاهر الآية، وما نقل عن أئمة التفسير ; وإلانة الحديد لون، وتعليمه صنعة لبوس لون آخر.
وأما تفسيره قوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [سورة الصافات آية: 107] بأن إبراهيم أمر بأن يذبح الكبش، فكان ظاهره: أنه لم يفد بكبش منزل من السماء ; وهذا خلاف ما ثبت عن ابن عباس وغيره، من أنه فدي بكبش قد رعى في الجنة أربعين خريفا.
وأما تفسيره قوله تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} [سورة الفرقان آية: 34] بقوله: أي: يسحبون ويجرونـ وقوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [سورة الدخان آية: 29] بقوله: أي: لم يترحم عليهم أحد من أهل السماء، ولا من أهل الأرض. وقوله تعالى:{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} [سورة النمل آية: 82] بقوله: أي قامت عليهم الساعة ; وقوله تعالى: {دَابَّةً} بقوله: أن نبعث نبيهم يشهد عليهم، فهذا غلط وخلاف
قوله صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن ذلك: " إن الذي أمشاه على رجليه قادر أن يمشيه على وجهه " 1، وخلاف ما روى أبو العالية الموصلي، عن أنس مرفوعا:" ما من عبد إلا وله في السماء بابان، باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل منه عمله وكلامه، فإذا مات فقداه وبكيا عليه.. ." 2 الحديث.
والأحاديث في الدابة وخروجها قرب قيام الساعة مشهورة، كما روى أحمد ومسلم وأهل السنن - واللفظ لأحمد - عن حذيفة بن أسيد الغفاري مرفوعا: "لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة
…
" 3 الحديث.
وروى مسلم من حديث عبد الله بن عمر، وقال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لم أنسه بعد، سمعته يقول: " إن أول الآيات خروجا: طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى
…
" 4 الحديث، وغيرهما من الأحاديث. وأما قوله في الطبع الثاني:{وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} [سورة النمل آية: 82] أي: إذا شارفت الساعة عليهم بظهور علاماتها، {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ} [سورة النمل آية: 82] أية دابة، ومن أية أرض تخرج، فهذا كان رجوعا عن قوله الأول، ولكن فيه شيء.
وأما تفسيره البيت المعمور بالمساجد، فهو خلاف ما عليه المفسرون، من أنه البيت الذي في السماء، المذكور في
1 البخاري: تفسير القرآن (4760)، ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2806) ، وأحمد (3/167، 3/229) .
2 الترمذي: تفسير القرآن (3255) .
3 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2901)، والترمذي: الفتن (2183)، وأبو داود: الملاحم (4311)، وابن ماجه: الفتن (4055) ، وأحمد (4/6، 4/7) .
4 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2941)، وأبو داود: الملاحم (4310)، وابن ماجه: الفتن (4069) ، وأحمد (2/201) .
أحاديث الإسراء، كما في الصحيحين، من قوله صلى الله عليه وسلم: " ثم رفع بي إلى البيت المعمور
…
" 1 الحديث، وغيره من الأحاديث ; والله الموفق. وليعلم: أن قد تركنا التنبيه على بعض الآيات التي استشهد بها على بعض ما فسر به، لوضوح عدم دلالتها على مراده، وأنا لم ننبه على تلك الغلطات، إلا نصحا لله ولرسوله، ولكتابه، وللمسلمين، وأنه ينبغي لإخواننا أهل الحديث الهنديين، أن لا يكون قصدهم ذلك، وأن يدعوا هذا الرجل ويعاملوه باللين، لعل الله أن يمن عليه بالرجوع، فإن أصر فلا أسف عليه، ويصير حكمه حكم أمثاله المصرين على البدع، والتحريف لنصوص القرآن، لا سيما نصوص صفات الله، والله أعلم، وصلى الله على محمد.
[رسالة إلى ثناء الله الهندي تتعلق بعدم رجوعه عما انتقد في تفسيره]
ثم كتبا إلى الشيخ المذكور ما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. وصلاته وسلامه على نبيه الأمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين. من محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ، ومحمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، إلى الأخ أبي الوفاء ثناء الله الهندي، منحنا الله وإياه مزيد الدراية، وجنبنا وإياه طرق الزيغ والغواية، اللهم آمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1 البخاري: بدء الخلق (3207)، ومسلم: الإيمان (164)، والنسائي: الصلاة (448) ، وأحمد (4/207) .
أما بعد: فالحامل على هذا الكتاب، إهداء السلام إلى حضرتكم، ثم تعريفكم أنه قد صار عندنا من المعلوم، رجوعكم بعد أعوام، عن الأمور التي أخذت عليكم، وانتقدت من تفسيركم، فشكرنا لكم ذلك، ودعونا لكم.
لكن وقفنا أثناء هذا العام، في ذي القعدة سنة 1350 هجرية، على كتاب أرسله أهل الحديث من أهل الهند، إلى الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود، ذكروا فيه عدم رجوعكم، وإصراركم على تلك الأمور التي انتقدت من تفسيركم، وبطي كتابهم نصوص العبارات التي انتقدت، وطلبوا الإرشاد إلى الصواب في ذلك.
فلم يسعنا إلا النطق بالصواب، وبيان الصحيح منها من السقيم، نصحا للخلق، وقياما بما تعبدنا به من بيان الحق، وإرشادا لكم خصوصا، رجاء أن ينفعكم الله بذلك، فتتركوا ما سلكتموه من تلك المسالك; وغير خاف عليكم أن كل ذي دين وإنصاف، أبعد شيء عن الأنفة والاستنكار، ومن أحب الناس إليه، من يعرفه عيبه ويوقفه عليه.
وليكن منكم على بال، قول إمام دار الهجرة، مالك بن أنس رحمه الله: ليس منا إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولتحضرك قصة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين نهى في خطبته عن المغالاة في مهور النساء، فقالت له امرأة: يا أمير المؤمنين، ألم يقل الله تعالى:{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً}
[سورة النساء آية: 20]
فقال رضي الله عنه: أصابت امرأة، وأخطأ عمر.
ولم يزل أهل العلم يبينون غلطات من غلط ويردونها، حتى إن بعضهم يرد ذلك، ولو بعد توبة من حدث عنه، خوفا أن يغتر بتلك المقالة ; كما رد موفق الدين ابن قدامة الحنبلي غلطات أبي الوفاء ابن عقيل بعدما تاب منها.
والذي نوصيك به وأنفسنا تقوى الله عز وجل ومراقبته في السر والعلانية، والتوبة إلى الله من تلك الورطات، والرجوع إلى الحق بكتابة في ذلك، حتى يشتهر ذلك عنك ; ويحصل الاتفاق بينك وبين أهل الحديث من الهند وغيرهم.
ونوصيك أيضا: بالإكباب على كتب أهل السنة وتفاسيرهم، كالأمهات الست وغيرها من كتب الحديث، وتفسير ابن جرير وابن كثير والبغوي، وغيرها من تفاسير السلف من أهل السنة، الذين لا تروج عليهم أحداثات المحدثين، وتأويلات الجاهلين. جعلنا الله وإياك هادين مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلما لأوليائه، حربا لأعدائه، نحب بحبه من أحبه، ونعادي بعداوته من خالف أمره، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[أسئلة عن القرآن والأخذ منه والاجتماع لأجل القراءة]
[معنى حديث "القرآن ماحل مصدق"]
سئل الشيخ: علي بن الشيخ محمد، رحمهما الله تعالى، عن قوله:"القرآن ماحل مصدق" ما معناه؟ .
فأجاب: مسألتك التي سألت عنها الشيخ، وهي قوله:"القرآن ماحل مصدق" بالحاء، والماحل: نقال العلوم،
فالقرآن ماحل مصدق، أي: ناقل مصدق، لأنه نقل إلينا أخبار من قبلنا.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن، عن حديث:"خذ من القرآن ما شئت لما شئت".
فأجاب: ليس هذا بحديث، ولا يصح أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
سئل الشيخ: عبد الله بن الشيخ محمد، رحمهما الله، عن الاجتماع في رمضان لأجل قراءة القرآن، مع التدبر؟
فأجاب: لا بأس بذلك; بل ورد الحث عليه فيما رواه مسلم في صحيحه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" ما جلس قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا غشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده " 1 أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
سئل الشيخ: سعيد بن حجي، عن الكلام عند تلاوة القرآن؟
فأجاب: قال النووي رحمه الله في كتاب " التبيان ": ويتأكد الأمر باحترام القرآن من أمور; منها: اجتناب الضحك واللغط والحديث في خلال القرآن، إلا كلام يضطر إليه، وليمتثل أمر الله تعالى، قال الله تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [سورة الأعراف آية: 204] أي: اسكتوا {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [سورة آل عمران آية: 132]، وعن ابن عمر: أنه كان إذا قرأ القرآن لا يتكلم، حتى يفرغ مما أراد أن يقرأ.
1 مسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699)، والترمذي: القراءات (2945)، وأبو داود: الصلاة (1455)، وابن ماجه: المقدمة (225) ، وأحمد (2/252) .
[معنى تنكيس السور وحكمه]
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، عن تنكيس السور؟
فأجاب: أما صورة تنكيس السور، فمثل أن يقرأ سورة آل عمران قبل سورة البقرة ; وأما تنكيس الآيات، فمثل أن يقول في قراءة:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} {إِلَهِ النَّاسِ} {مَلِكِ النَّاسِ} [سورة الناس آية: 2] .
[حكم قراءة القرآن بالألحان]
وسئل عن قراءة القرآن بالألحان؟
فاجاب: أما قراءة القرآن بالألحان فكرهها العلماء، وقال أحمد ومالك: هي بدعة ; وقال أحمد: يحسن صوته بالقرآن.
وقال الشيخ تقي الدين: التلحين الذي يشبه الغناء مكروه، والألحان التي كره العلماء قراءة القرآن بها هي التي تتضمن قصر الحرف الممدود، ومد المقصور، وتحريك الساكن، وتسكين المتحرك، ونحو ذلك ; يفعلون ذلك لموافقة نغمات الأغاني المطربة. ولها عند أهلها أسماء كالبريطي والرومي، والمكي، والإسكندراني ; والمصري، والديباجي، والياقوتي، أسماء مبتدعة ما أنزل الله بها من سلطان، فإن حصل من ذلك تغيير نظم القرآن، كجعل الحركات حروفا، فهو حرام. وسأل رجل الإمام أحمد عن ذلك، فقال للسائل: ما اسمك؟ قال: محمد ; قال: ما يسرك أن يقال: يامو حامد.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اقرؤوا القرآن بلحن العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الكتاب، وأهل الفسوق، فإنه سيجيء أقوام يرجعون بالقرآن، كترجيع الغناء والرهبانية، لا يجاوز حناجرهم ". وأما تحسين الصوت بالقرآن على غير الوجه المكروه، فمندوب إليه ; قال الإمام أحمد: يحسن صوته بالقرآن ; وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت، يتغنى بالقرآن يجهر به " 1، وفي حديث آخر:" زينوا القرآن بأصواتكم " 2 وفي حديث آخر: "حسن الصوت زينة القرآن" ومما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى: " لو رأيتني أستمع لقراءتك البارحة " فقال أبو موسى: لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا، أي: حسنته.
[حكم من يقرأ القرآن ويتتعتع فيه]
سئل الشيخ: عبد الله بن عبد العزيز العنقري، عن الذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، هل يدخل في الوعيد الوارد فيمن زاد في القرآن؟
فأجاب: لو قلنا بهذا لانسد باب تعلم القرآن ; وهذا من خرافات الجهال ; بل قد ثبت في الحديث المتفق على صحته، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من قرأ القرآن وهو ماهر فيه فهو مع السفرة الكرام البررة، ومن قرأ وهو يتتعتع فيه، وهو عليه شاق " وفي رواية " شديد، فله أجران " والزيادة في القرآن الموجبة للعنة، هي التي يتعمدها
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (792)، والنسائي: الافتتاح (1017)، وأبو داود: الصلاة (1473) ، وأحمد (2/450)، والدارمي: الصلاة (1488) وفضائل القرآن (3497) .
2 النسائي: الافتتاح (1015)، وأبو داود: الصلاة (1468)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1342) ، وأحمد (4/283، 4/304)، والدارمي: فضائل القرآن (3500) .
الإنسان، وأما الحديث المسؤول عنه: من قرأ القرآن برأيه، فلا نعلمه حديثا ; والذي يقرأ برأيه هو الذي يحدث قرآنا من عنده ; ولفظ الحديث الصحيح: " من قال في القرآن برأيه
…
" 1 الحديث.
[حكم قراءة الفاتحة كلما أراد قراءة القرآن] .
سئل الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن، عن قراءة الفاتحة كلما أراد القراءة؟
فأجاب: وأما الابتداء بفاتحة الكتاب، كلما أراد تلاوة القرآن، فلا أرى الإنكار على من فعل ذلك، لما ثبت في الحديث الصحيح، من قصة الأنصاري الذي كان يقرأ سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [سورة الإخلاص آية: 1] في كل ركعة يكررها إذا أراد القراءة بغيرها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" سلوه لم فعل ذلك؟ " فقال: إني أحبها; لأن فيها صفة الرحمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أخبروه أن الله يحبه "2. فمن قرأ فاتحة الكتاب أو غيرها بقصد يضاهي هذا ويشابهه، فلا حرج عليه; وأما إن قرأها قبل كل قراءة معتقدا أن الله أمر بذلك، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم سنه، فهذا يعرف بالسنة ويخبر بها، وأنها إنما ابتدأ بها القراءة في الصلاة، لا في سائر أحوال التلاوة.
[ما قاله الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم]
قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى: مما ذكر في الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم: فأما الشيطان الإنسي فالمصانعة تدفع شره، وأما الشيطان الجني، فلا يدفعه غير الاستعاذة بالذي خلقه.
1 الترمذي: تفسير القرآن (2951) .
2 البخاري: التوحيد (7375)، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (813) .
وجمع الله بينهما في ثلاث آيات، قوله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة الأعراف آية: 199-200] الثانية: في سورة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [سورة المؤمنون آية: 1] في قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [سورة المؤمنون آية: 96-97] الثالثة: في حم السجدة، قوله تعالى:{وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة فصلت آية: 34-35-36] .
[قول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في البسملة]
قال الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله في:{بسم الله الرحمن الرحيم} [سورة الفاتحة آية: 1] في أربعة مواضع، تدل على وجوب توحيد الله وعبادته، وحده لا شريك له.
الأول: في متعلق الباء إذا قدر متأخرا، فإنه يفيد الحصر والاختصاص، وتقديره:{بسم الله} أؤلف لا بسم غيره، لأن المشركين يستعينون بأسماء آلهتهم، كالمسيح ومريم، واللات والعزى، ونحو ذلك، والموحد يخص الله سبحانه ويفرده باستعانته، كما يخصه ويفرده بركوعه
وسجوده، وغير ذلك من عباداته.
والموضع الثاني في اسمه {الله} فإنه دال على أنه سبحانه المستحق لأن يعبد، وحده لا شريك له، بما دل عليه من المعنى الموضوع له، وهو علميته على ذي الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، كما فسره به حبر الأمة ابن عباس ; وكلام غيره يدل على ذلك أيضا.
والموضع الثالث: في صفته تعالى بـ {الرحمن} فإنه صفة ذات، دلت على أنه تعالى اتصف بغاية الرحمة ومنتهاها، ومن هذا صفته وهذه رحمته، فقصد غيره وعبادة سواه ورجاؤه، من أضل الضلال وأبطل الباطل، وأسفه السفه.
وهكذا الاستدلال بجميع صفات الكمال، كالعلم والقدرة، وغير ذلك.
الموضع الرابع: في اسمه {الرحيم} فإن معناه: الذي أوصل ويوصل إلى عباده غاية الرحمة ومنتهاها، وكل ما في الموجودات من أنواع النعيم والهداية والخيرات، فمن رحمته وفضله وإحسانه ; فمن هذا فضله بعبيده، وهذه رحمته لهم، هو الذي يستحق ويجب أن يعبد ويقصد، ويرجى ويناب إليه ; والعدول إلى غيره ضلال بعيد، وجهل عظيم، وشرك وخيم {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [سورة الأنعام آية: 1] . ومن تأمل ما في الكتاب والسنة، من صفات الكمال ونعوت الجلال، فتح له باب عظيم في معرفة الله وحقه،