الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قولهما {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [سورة الأعراف آية: 23] فأبلغ من قولك: الإنسان لا تعذر، أقر، وهذا أصل عظيم.
وقال أيضا عفا الله عنه:
سورة الجن
بسم الله الرحمن الرحيم
روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: " انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه، عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب. قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء، إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة، إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة، عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر. فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء. فهناك حين رجعوا إلى قومهم {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} [سورة الجن آية: 1] 1 الآية، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم:{قل أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً}
1 البخاري: الأذان (773)، ومسلم: الصلاة (449)، والترمذي: تفسير القرآن (3323) ، وأحمد (1/252) .
" [سورة الجن آية: 1- 2] .
يعني أنهم لما رجعوا إلى قومهم قالوا لهم هذا وقوله: {عَجَبًا} أي: بليغا في لفظه ومعناه. {أَنَّهُ اسْتَمَعَ} بالفتح لأنه نائب فاعل أوحى، و {إِنَّا سَمِعْنَا} بالكسر لأنه محكي بعد القول; وقوله:{يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} أي: إلى الصواب وقيل: إلى التوحيد. {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} [سورة الجن آية: 3] يقول: تعالى جلال الله وعظمته وغناه، عن اتخاذ الصاحبة والولد; وذلك أنهم لما سمعوا القرآن، فهموا التوحيد وتنبهوا على الخطأ، في عدم تنْزيه الله عما لا يليق به، فاستعظموا ذلك ونزهوه عنه. وقوله:{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً} [سورة الجن آية: 4] : سفيههم: إبليس، قاله مجاهد، وقيل: هو أو غيره من مردة الجن، والشطط مجاوزة الحد في الظلم أو غيره.
وقوله: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [سورة الجن آية: 5] يعني: أن في ظننا أن أحدا من الثقلين لن يفترى على الله ما ليس بحق، فلسنا نصدقهم فيما أضافوا إليه من ذلك; فلما سمعنا القرآن، تبين لنا افتراؤهم. {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [سورة الجن آية: 6] ومعنى هذا: أن الرجل من العرب كان إذا أمسى في واد قفر، وخاف، قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يريد الجن وكبيرهم. فلما سمع
ذلك الجن استكبروا، وقالوا: سدنا الجن والإنس، فذلك الرهق; والرهق في كلام العرب: غشيان المحارم.
{وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً} [سورة الجن آية: 7] قيل: إنه مما حكى الله عن الجن; أي: أن الإنس ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا; وقيل: من كلام الله، والضمير في {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا} للجن; والخطاب في {ظَنَنْتُمْ} للإنس. {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} [سورة الجن آية: 8-9] يؤخذ من قوله: {مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} [سورة الجن آية: 8] أن الحادث الملأ والكثرة، وكذلك {مَقَاعِدَ} أي: كنا نجد بعض المقاعد خالية من الحرس، والآن ملئت المقاعد كلها; ومعنى هذا: أنهم يذكرون سبب ضربهم في البلاد، حتى عثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلموا أن الله أراد بهم رشدا.
{وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} [سورة الجن آية: 11] يقولون: منا الصالحون، ومنا قوم دون ذلك، الآية، والقدة من قد، كالقطعة من قطع، وصفت الطرائق بذلك، لدلالتها على التقطع والتفرق; قال الحسن: أمثالكم، فمنهم قدرية، ومرجئة، ورافضة; قال ابن كيسان: لكل فرقة هوى، كأهواء الناس. {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً}
[سورة الجن آية: 12] :
الظن هنا بمعنى اليقين، وهذه صفة أحوال الجن وعقائدهم، منهم أخيار وأشرار، وأنهم يعتقدون أن الله عزيز غالب لا يفوته مطلب، ولا ينجي عنه مهرب.
{وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} [سورة الجن آية: 13] يقولون: لما سمعنا القرآن آمنا به؛ وهذا يدل على أن الإيمان بالله، هو والإيمان بالقرآن متلازمان; والبخس: أن يبخس من حسناته، والرهق أن يحمل عليه ذنب غيره.
{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [سورة الجن آية: 14-15] القاسطون: الكافرون; يقال: قسط فهو قاسط، إذا ظلم; وأقسط فهو مقسط إذا عدل; وروي أن الحجاج قال لسعيد بن جبير: ما تقول في؟ قال: "قاسط عادل"، فقال القوم: ما أحسن ما قال! فقال الحجاج: يا جهلة إنه سماني ظالما مشركا; وتلا هذه الآية، وقوله:{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [سورة الأنعام آية: 1] . {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} [سورة الجن آية: 16-17] : يقول: لو استقاموا على طريقة الإسلام لوسعنا عليهم في الدنيا. وذكر الماء الغدق - وهو الكثير - لأنه سبب لسعة
الرزق {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي: لنختبرهم كيف شكرهم; قال الحسن: والله إن كان أصحاب محمد كذلك، كانوا سامعين لله مطيعين لله، فلما فتحت كنوز كسرى وقيصر، وثبوا على إمامهم وقتلوه.
وأخرج ابن جرير عن عمر: "حيث ما كان الماء، كان المال; وحيث ما كان المال كانت الفتنة".
وقوله: {يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} [سورة الجن آية: 17] قال ابن عباس: "شاقا"، وأصله: أن الصعود فيه مشقة على الإنسان.
{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] قال قتادة: كان اليهود والنصارى إذا دخلوا بيعهم وكنائسهم، أشركوا بالله، فأمرنا أن نخلص لله الدعوة إذا دخلنا المساجد; وقيل: المساجد أعضاء السجود السبعة.
{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [سورة الجن آية: 19] معناه: لما قام عبد الله يعبده، كادوا يزدحمون عليه متراكمين، تعجبا مما رأوا من عبادته، وإعجابا بما تلا من القرآن، لأنهم رأوا منه ما لم يروا مثله. وعبادة عبد الله لله ليس بأمر مستبعد عن العقل، ولا مستنكر، حتى يكونوا عليه لبدا. وقيل: لما قام عبد الله وحده مخالفا للمشركين، كادوا لتظاهرهم على عداوته، يزدحمون عليه متراكمين; وعن قتادة، قال: لما قام عبد الله للدعوة، تلبدت الإنس والجن، وتظاهروا عليه، ليبطلوا الحق الذي جاءهم به، ويطفئوا
نور الله، فأبى الله إلا أن يتم هذا الأمر، وينصره على من ناواه.
{قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 20] أي: قال للمتظاهرين عليه: {إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} أي: ما أتيتكم بأمر منكر، ولا ما يوجب إطباقكم على عداوتي، إنما التعجب ممن يدعو غير الله، ويجعل له شريكا.
{قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} [سورة الجن آية: 21] المعنى: أني لا أستطيع أن أضركم أو أن أنفعكم، إنما الضار النافع الله عز وجل. {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} [سورة الجن آية: 22] ومعنى الاستثناء، قيل: إنه من {لا أَمْلِكُ} أي: لا أملك إلا بلاغا من الله، و {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي} [سورة الجن آية: 22] : جملة معترضة لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه، على معنى: أن الله إن أراد به سوءا من مرض أو موت أو غيرهما، لم يصح أن يجيره منه أحد، أو يجد من دونه ملاذا يأوي إليه; والملتحد: الملتجأ، وقيل:{بَلاغًا} بدلا من {مُلْتَحَدًا} أي: لن أجد من دونه ملتجأ، إلا أن أبلغ ما أرسلني به.
{حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً} [سورة الجن آية: 24-25] : كان الكفار يستضعفونه، ويستقلون أتباعه; وتغرهم قوتهم وكثرتهم {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا
يُوعَدُونَ} [سورة الجن آية: 24]
علموا كيف الحال، فقال المشركون: متى يكون هذا الموعود؟ إنكارا له.
فقال: قل إنه كائن لا ريب فيه؛ وأما وقته، فلا أدري متى يكون، لأن الله لم يبينه، لما له فيه من الحكمة. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} [سورة الجن آية: 28] أي: ليعلم الله أن الأنبياء بلغوا الرسالات، كقوله:{حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} [سورة محمد آية: 31]، {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} [سورة الجن آية: 28] بما عند الرسل من الحكم والشرائع، {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} [سورة الجن آية: 28] من القطر، والرمل، وورق الأشجار، وغير ذلك، فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه؟ ! والله أعلم.
وقال أيضا الشيخ: محمد، رحمه الله تعالى، على قوله تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18] : وبعد: فهذه عشر درجات:
الأولي: تصديق القلب أن دعوة غير الله باطلة، وقد خالف فيها من خالف.
الثانية: أنها منكر يجب فيها البغض; وقد خالف فيها من خالف.
الثالثة: أنها من الكبائر والعظائم المستحقة للمقت والمفارقة؛ وقد خالف فيها من خالف.
الرابعة: أن هذا هو الشرك بالله، الذي لا يغفره؛ وقد خالف فيها من خالف.
الخامسة: أن المسلم إذا اعتقده، أو دان به كفر؛
وقد خالف فيها من خالف.
السادسة: أن المسلم الصادق إذا تكلم به هازلا، أو خائفا، أو طامعا، كفر بذلك لعلمه; وأين ينزل القلب هذه الدرجة ويصدقه بها؟ وقد خالف فيها من خالف.
السابعة: أنك تعمل معه عملك مع الكفار، من عداوة الأب والابن، وغير ذلك، وقد خالف فيها من خالف.
الثامنة: أن هذا معنى لا إله إلا الله، والإله: المألوه، والإلهية عمل من الأعمال، وكونه منفيا عن غير الله، ترك من التروك.
التاسعة: القتال على ذلك حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله.
العاشرة: أن الداعي لغير الله يقبل منه الجزية، كما يقبل من اليهود، ولا تنكح نساؤهم كما تنكح نساء اليهود، لأنه أغلظ كفرا؛ وكل درجة من هذه الدرجات، إذا عملت بها تخلف عنك بعض من كان معك. والله أعلم. وقوله رحمه الله، عند كل درجة:
وقد خالف فيها من خالف: ناس يعتقدون أن دعوة غير الله جائزة، والرسول ومن آمن به مخالفون لهم. وناس ما يكفرون بالطاغوت، ولا يبغضونه؛ والرسول وأتباعه مخالفون لهم; بل ملة إبراهيم هي: الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله؛ وهكذا سائر الدرجات، والله أعلم.