المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ سورة الذاريات - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - جـ ١٣

[عبد الرحمن بن قاسم]

الفصل: ‌ سورة الذاريات

ومن‌

‌ سورة الذاريات

وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: وأما ما ذكرت من كلام ابن العربي المالكي في معنى قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] : تأملته فوجدته قد اعتمد وعول في معنى هذه الآية على كلام القدرية المجبرة، وغلط في زعمه أن معناه لبعض أهل السنة.

وابن العربي إن لم يكن موافقا لهم في أصل الجبر والقول به، فقد يدخل عليهم كلامهم وكلام نظائرهم، ولا ينكره، بل يأخذ به ويقرره، إما جهلا منه بأنه مخالف لقول أهل السنة، أو تقليدا لمن يحسن به الظن، أو لأسباب أخر; وليس هذا خاصا به؛ بل قد وقع فيه كثير من أتباع الأئمة، المنتسبين إلى السنة; فإن قوله في تفسير قوله تعالى:{إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} أي: إلا لتجري أفعالهم على مقتضى حكم المولى، وإنما يخرج فعل العبد عن حكم المولى إذا كان مغلوبا؛ والغالب لا يخرج شيء عن فعله، وهو الله وحده. انتهى.

وهذا الكلام بعينه هو كلام القدرية المجبرة فيما حكاه عنهم غير واحد، وهذا التعليل هو تعليلهم بعينه.

وهذا القول يقتضي أنه سبحانه خلق الشاكر ليشكر، والفاجر ليفجر، والكافر ليكفر، فما خرج أحد عما خلق له على هذا القول، لأن القدر جاء بذلك كله.

ص: 403

والقدرية المجبرة دعاهم لهذا فيما يزعمون إبطال قول القدرية النفاة، ومصادمتهم في قولهم: إن الإرادة هي الأمر، يأمر بها الطائفتين؛ فهؤلاء عبدوه بأن أحدثوا إرادتهم وطاعتهم; وهؤلاء عصوه بأن أحدثوا إرادتهم ومعصيتهم.

وحاصل قولهم: إنكار القدر، وأن الأمر أنف; فقابلهم أولئك بالقول بالجبر; وأنهم لا يخرجون من قدره وقضائه، نظرا منهم إلى أن الأمر كائن بمشيئة الله وقدره، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. وأنه تعالى خالق كل شيء، وربه ومليكه، ولا يكون في ملكه شيء إلا بقدرته وخلقه ومشيئته، كما قال تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [سورة القمر آية: 49]، {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [سورة الأنعام آية: 111] ، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [سورة الأنعام آية: 112] ، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [سورة الإنسان آية: 30] ، ونحو ذلك من الآيات.

ولا ريب أن هذا أصل عظيم من أصول الإيمان، لا بد منه في حصول الإيمان؛ وبإنكاره ضلت القدرية النفاة، وخالفوا جميع الصحابة وأئمة الإسلام؛ ولكن لا بد معه من الإيمان بالإرادة الشرعية الدينية التي نزلت بها الكتب السماوية، ودلت عليها النصوص النبوية. وأئمة المسلمين قد أثبتوا هذه وهذه، وذكروا الجمع بينهما; وآمنوا بكلا الأصلين، وفرقوا بين لام العلة الباعثة الفاعلة، وبين لام الغاية والصيرورة والعاقبة.

ص: 404

والقرآن قد جاء ببيان اللامين:

الأولي: في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56]، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [سورة النساء آية: 64] ، {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [سورة البقرة آية: 185] .

والثانية: في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [سورة القصص آية: 8]، {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً} [سورة الأعراف آية: 179] ، {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [سورة هود آية: 119] على أحد القولين فمن نفى الإرادة الشرعية الأمرية فهو جبري ضال مبتدع، ومن نفى الإرادة الكونية القدرية فهو قدري ضال مبتدع.

ومن قال: إن العبادة في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] بمعنى: إلا لتجري أفعالهم على مقتضى إرادتي الكونية، فقد أدخل جميع الخلق، مؤمنهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، في هذه العبادة; وجعل عابد الأصنام والشيطان والأوثان، عابدا للرحمن، قائما بما خلق الله له الإنس والجان، لكن بمعنى جريان الإرادة القدرية الكونية عليهم، لا بمعنى الاتحاد والحلول الذي قاله صاحب الفصوص وطائفة الاتحاد الكفار.

وقال قائلون بالجبر: لا شك أن الخلق يعبدون بجريان الأقدار عليهم، يريدون أن ذلك هو المقصود بالآية،

ص: 405

كما سيأتي في حكاية هذا عن غيرهم.

والعبادة وإن كانت لغة: أقصى غاية الذل والخضوع مطلقا، كما في قوله:

تباري عتاقا ناجيات وأتبعت

وظيفا وظيفا فوق مور معبد 1

فهي في الشرع أخص من ذلك، لأنها اسم للطاعة والانقياد للأوامر الشرعية الدينية التي دعت إليها الرسل، ودلت عليها الكتب السماوية، كما فسر ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [سورة البقرة آية: 21] بتوحيده، وإخلاص العبادة له، نظرا منه إلى الحقيقة الشرعية، لا إلى أصل الأوضاع اللغوية؛ وقد اعترضه ابن جرير هنا، بأصل الوضع واللغة.

والحق ما قاله ابن عباس، خلافا لابن جرير، بدليل قوله تعالى:{وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [سورة الكافرون آية: 3] وتعليلهم ما قالوه: بأن العبد لا يخرج عن فعل المولى، إلا إذا كان المولى مغلوبا، والله تعالى هو الغالب وحده، أو نحو هذا التعليل. فهذا قد احتجوا به على القدرية النفاة، وهو احتجاج صحيح على من نفى القدر، وزعم أن العبد يخلق أفعال نفسه، لأن الله تعالى لا يعصى عنوة، بل علمه وقدرته وعزته، وحكمته وربوبيته العامة، وكلماته التامة، التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، مانعة ومبطلة لقول القدرية النفاة.

1 وتقدم ذكر قائله ومقصوده، في صفحة 378/ج/12.

ص: 406

فإن الصحابة قاطبة، وسائر أهل السنة والجماعة متفقون على أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ويؤمنون بأن الله تبارك وتعالى عالم بجميع الكائنات قبل أن تكون كيف تكون؛ وغلاة منكري القدر قد أنكروا هذا العلم، فكفرهم بذلك الأئمة: أحمد وغيره.

وأما من قال بإثبات القدر خيره وشره، حلوه ومره، فلا يلزمه ولا يرد عليه ما ورد على القدرية النفاة، من لزوم خروج العبد عن فعل المولى.

وإن قال: إن العبد قد يخرج عن الإرادة الدينية الشرعية إلى ما يضادها من المعاصي والكفر والفسوق، فيكون بذلك مخالفا للأوامر الشرعية وإن كان داخلا تحت المشيئة الكونية القدرية; فالخروج عن القدر والمشيئة نوع، والخروج عن الأوامر الشرعية نوع آخر.

فالأول غير ممكن لجميع المخلوقات، لجريان الأقدار عليهم طوعا وكرها; وأما الثاني فيقع من الأكثر {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [سورة يوسف آية: 103] . ولله سبحانه وتعالى في خروج الأكثر عن أمره حكمة يحبها ويرضاها، لائقة بعلمه وحكمته، وعدله وربوبيته، يستحق أن يحمد عليها.

وقد رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، كلاما حسنا في معنى قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] ذكر فيه ستة أقوال:

أحدها: قول نفاة الحكم كالأشاعرة ومن وافقهم، كالقاضي

ص: 407

أبي يعلى، وابن الزاغوني، والجويني، والباجي. وهو قول جهم بن صفوان ومن اتبعه من المجبرة القائلين بنفي الحكمة، وأنها تفضي إلى الحاجة، فنفوا أن يكون في القرآن لام كي، وقالوا: يفعل ما يشاء لا لحكمة، فأثبتوا القدرة والمشيئة، وهذا تعظيم، ونفوا الحكمة لظنهم أنها تستلزم الحاجة.

الثاني. قول المعتزلة ومن وافقهم، وهو: أن الله تعالى يخلق ويأمر، لحكمة تعود إلى العباد، وهي نفعهم والإحسان إليهم؛ فلم يخلق ولم يأمر إلا لذلك، لكن قالوا بأنه يخلق من يتضرر بالخلق، فتناقضوا بذلك. ثم افترقوا على قولين: من أنكر القدر ووضع لربه شرعا بالتجويز والتعديل، وهذا هو قول القدرية; ومنهم من أقر بالقدر، وقال: حكمته خفيت علينا، وهذا قول ابن عقيل وغيره من المثبتين للقدر; فهم يوافقون المعتزلة على إثبات الحكم، وأنها ترجع إلى المخلوق، ويقرون بالقدر.

الثالث: قول من أثبت حكمة تعود إلى الرب، لكن بحسب علمه، فقال: خلقهم ليعبدوه ويحمدوه، فمن وجد منه ذلك فهو مخلوق، وهم المؤمنون، ومن لم يوجد منه ذلك فليس بمخلوق له; قالوا: وهذه حكمة مقصودة، وهي واقعة، بخلاف الحكمة التي أثبتها المعتزلة، فإنهم أثبتوا حكمة هي نفع للعباد; ثم قالوا: خلق من علم أنه لا ينتفع

ص: 408

بالخلق، بل يتضرر، فتناقضوا، كما تقدم. ونحن أثبتنا حكمة علم أنها تقع، فوقعت، وقد يخلق ما يتضرر بالخلق لنفع الآخرين؛ وفعل الشر القليل لأجل الخير الكثير حكمة، كإنزال المطر لنفع العباد، وإن تضرر البعض. قالوا: وفي خلق الكفار وتعذيبهم اعتبار للمؤمنين وجهادهم ومصالحهم؛ وهذا اختيار القاضي أبي حازم بن القاضي أبي يعلى. قالوا: فقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] هو مخصوص بمن وقعت منه العبادة، وهذا قول طائفة من السلف والخلف، وهو قول الكرامية. وعن سعيد بن المسيب في معنى الآية قال: ما خلقت من يعبدني إلا ليعبدني، كذلك قال الضحاك والفراء وابن قتيبة; هذا خاص بأهل طاعته. قال الضحاك: هي للمؤمنين، وهذا اختيار أبي بكر بن الطيب، وأبي يعلى، وغيرهما ممن يقول: إنه لا يفعل لعلة. قالوا: - واللفظ لأبي يعلى-: هذا بمعنى الخصوص لا العموم، لأن البله والأطفال والمجانين لا يدخلون تحت الخطاب، وإن كانوا من الإنس، وكذلك الكفار، بدليل قوله تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} [سورة الأعراف آية: 179] ؛ فمن خلق للشقاء لجهنم يخلق للعبادة. قلت: قوله: وهذا قول طائفة من السلف والخلف،

ص: 409

يعني: القول بالتخصيص في الآية، لا أصل القول الثالث.

ثم قال شيخ الإسلام: قلت قول الكرامية ومن وافقهم، وان كان أرجح من أقوال المعتزلة، لما أثبتوه من حكمة الله؛ وقولهم في تفسير الآية، وإن وافقوا فيه بعض السلف، فهو قول ضعيف مخالف لقول الجمهور.

والقول الرابع: أنه على العموم، لكن المراد بالعبادة تعبيده لهم وقهرهم، ونفوذ قدرته ومشيئته فيهم، وأنه أصارهم إلى ما خلقوا له من السعادة والشقاوة؛ وفسروا العبادة بالتعبيد القدري؛ وهذا يشبه قول من يقول من المتأخرين: أنا كافر برب يعصى؛ فإنه جعل كل ما يقع من العباد طاعة، كما قال قائلهم:

أصبحت منفعلا لما يختاره

مني ففعلي كله طاعات

وأما هؤلاء: فجعلوا عبادة الله كون العباد تحت المشيئة; وكان بعض شيوخهم يقول عن إبليس: إن كان قد عصى الأمر فقد أطاع القدر والمشيئة; وما رواه ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم، في قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] قال: "جبلهم على الشقاء والسعادة".

وقال وهب: جبلهم على الطاعة وجبلهم على المعصية، وقد روي أيضا عن طائفة نحوه; وهؤلاء وإن وافقوا من قبلهم في معنى الآية، فهم – أعنى زيد بن أسلم، ووهب بن منبه - من أعظم الناس تعظيما للأمر

ص: 410

والنهي، والوعد والوعيد؛ وأما من قبلهم فهم إباحية، يسقطون الأمر والنهي.

والقول الخامس: قول من يقول: إلا ليخضعوا لي ويذلوا; قال: ومعنى العبادة في اللغة: الذل والانقياد، وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله ومتذلل لمشيئته، لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق له.

وقد ذكر أبو الفرج عن ابن عباس: "إلا ليقروا بالعبادة طوعا وكرها"، قال: وبيان هذا قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [سورة لقمان آية: 25]، وهذه الآية توافق قول من قال: إلا ليعرفوني، كما سيأتي.

وهؤلاء الذين أقروا بأن الله خالقهم، لم يقروا بذلك كرها، بخلاف إسلامهم وخضوعهم له، فإنه يكون كرها ; وأما نفس الإقرار، فهو فطري فطروا عليه وبذلوه طوعا. وقال السدي:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] قال: خلقهم للعبادة، ولكن العبادة عبادة تنفع؛ ومن العبادة عبادة لا تنفع {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [سورة لقمان آية: 25] الآية هذا منهم عبادة، وليس ينفعهم مع شركهم، وهذا المعنى صحيح.

ولكن المشرك يعبد الشيطان، وما عدل به الله، وهذا ليس مراد الآية؛ فإن مجرد الإقرار بالصانع لا يسمى عبادة الله مع الشرك به، ولكن يقال كما قال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [سورة يوسف آية: 106] .

ص: 411

قال الشيخ: محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب.

قوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [سورة المجادلة آية: 11] : خص سبحانه برفعه الأقدار والدرجات الذين أوتوا العلم والإيمان، واستشهد بهم في قوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ [سورة آل عمران آية: 18] .

وأخبر عنهم أنهم هم الذين يرون ما أنزل إلى رسوله هو الحق، بقوله:{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سورة سبأ آية: 6] ، فدل على أن تعلم الحجة والقيام بها يرفع الله به درجات من يرفعها، كما قال:{نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [سورة الأنعام آية: 83] . وقال زيد بن أسلم: "بالعلم ترفع الأقدار والدرجات، على قدر معاملة القلوب بالعلم والإيمان; وكم من يختم القرآن في اليوم مرة أو مرتين، وآخر لا ينام الليل، وآخر لا يفطر، وغيرهم أقل عبادة منهم، وأرفع قدرا في قلوب الأمة".

فهذا كرز ابن وبرة، وكهمس، وابن طارق، كانوا يختمون القرآن في الشهر تسعين مرة، وحال سعيد بن المسيب وابن سيرين والحسن وغيرهم في القلوب أرفع؛ ولذلك ترى كثيرا ممن يلبس الصوف، ويهجر الشهوات، ويتقشف، وغيره مما لا يدانيه في ذلك،

ص: 412

وأهل العلم والإيمان أعظم في القلوب منه وأجل عند النفوس، وما ذاك إلا لقوة المعامله الباطنة وصفائها، وخلوصها من شهوات النفوس وأكدار البشرية، وطهارتها من الذنوب التي تكدر معاملة أولئك.

وإنما نالوا ذلك بقوة يقينهم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وكمال تصديقه في قلوبهم، ووداده ومحبته، وأن يكون الدين كله لله.

فإن من أرفع درجات القلوب، فرحها التام بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وابتهاجها وسرورها، كما قال تعالى:{والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك} [سورة الرعد آية: 36]، وقال:{قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا} [سورة يونس آية: 58]، ففضل الله ورحمته: القرآن والإيمان.

فمن فرح بأعظم مفروح بغيره، فقد فرح بأعظم مفروح به; ومن فرح بغيره، فقد ظلم نفسه، ووضع الفرح في غير موضعه.

فإذا استقر في القلب، وتمكن منه العلم بكفايته لعبده، ورحمته له، وحلمه عنه، وبره به، وإحسانه إليه على الدوام، أوجب له الفرح والسرور به، أعظم من فرح كل محب بكل محبوب سواه، فلا يزال مترقيا في درجات العلوم والارتفاع بحسب رقيه في هذه المعارف، هذا في باب معرفة الأسماء والصفات.

وأما في باب فهم القرآن، فهذا دائم التفكر في معانيه

ص: 413

والتدبر لألفاظه، واستغنائه بمعاني القرآن وحكمه، عن غيره من كلام الناس؛ وإذا سمع شيئا من كلام الناس، وعلومهم عرضه على القرآن، فإن شهد له بالتزكية والعدالة قبله، وإلا رده؛ وإن لم يشهد له بقبول ولا رد وقفه.

وهمته عاكفة على مراد ربه من كلامه، ولا يجعل همته وقصده في تحصيل ما حجب به أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن بالوسوسة في خروج حروف، وترقيقها وتفخيمها وإمالتها، والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط وغير ذلك; فإن هذا حائل للقلوب، وقاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه.

وكذلك شغل النطق بـ {أءنذرتهم} ووجوهها، وضم الميم من {عليهم} ، ووصلها بالوصل، وكسر الهاء وضمها ونحو ذلك، من شغل الزمان وتنقية النطق وصفاتها، معرضها عن المقصود، وكذلك مراعاة النغم وتحسين الصوت.

وكذلك تتبع أوجه الإعراب، واستخراج التأويلات المستكرهة، التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالبيان، وكذلك صرف الذهن إلى حكاية أقوال الناس، ونتائج أفكارهم.

وكذلك تنزيل القرآن على قول من قلده في دينه أو مذهبه، فهو يتعسف بكل طريق، حتى يجعل القرآن تبعا لمذهبهم، وتقوية لقول إمامه، وكل محجوبون بما لديهم عن فهم مراد الله من كلامه، في كثير من ذلك أو أكثره.

ص: 414

وكذلك ظن من ظن ممن لم يقدر القرآن حق قدره، أنه غير كاف ولا شاف، ولا هاد في معرفة التوحيد، والأسماء والصفات، وما يجب لله وما ينزه عنه; بل الكافي في ذلك عقول المتهوسين الحيارى، الذين كلامهم قد خالف صريح القرآن مخالفة ظاهرة; وهؤلاء من أغلظ الناس حجابا عن فهم كتاب الله.

وقال الشيخ محمد: قال شيخ الإسلام، رحمه الله: قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [سورة النساء آية: 36-37] بكل ما ينفع في الدين والدنيا، من مال أو علم أو غير ذلك، فالبخل بالعلم الذي يمنعه المختال، إما يختال فلا يطلبه، وإما يختال على بعض الناس فلا يبذله; وهذا كثيرا ما يقع، وضده التواضع في طلبه والكرم ببذله.

سئل الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى، عن قوله تعالى:{يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [سورة الممتحنة آية: 8] الآية.

فأجاب:

الذي يظهر أن هذا إخبار من الله جل ذكره لعباده المؤمنين، بأنه لم ينههم عن البر والعدل والإنصاف، ومعاملة أي كافر كان من أهل الملل إذا كان لم يقاتلهم في الدين ولم يخرجهم من ديارهم، إذ العدل والإحسان والإنصاف مطلوب محبوب شرعا; ولذا علل هذا الحكم بقوله:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [سورة الممتحنة آية: 8] .

ص: 415

وأما قوله: {أَنْ تَبَرُّوهُمْ} فقد قال بعض المعربين: إنه من الموصول بدل اشتمال، وأن ما دخلت عليه في تأويل مصدر، والتقدير {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ} [سورة الممتحنة آية: 8] بر من لم يقاتل في الدين; ولو قال هذا البعض: إنه بدل بدء، لكان أظهر، إذ لا يظهر الاشتمال بأنواعه التسعة.

هذا، والأظهر عندي أن لا بدل مطلقا، وأن الموصول معمول للمصدر المتأخر المأخوذ من أن وما دخلت عليه ; فالموصول إذا في محل نصب بالمصدر المسبوك، وتأخر العامل لا يضر، وما على البدلية، فهو في محل جر.

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [سورة الممتحنة آية: 8] أكد الجملة هنا لمناسبة مقتضى الحال، إذ المقام مظنة لغلط الأكثر، ولتوهم خلاف المراد؛ فاقتضى التأكيد، والتوفية بالأداة، كما يعلم من فن المعاني; وقوله:{فِي الدِّينِ} في سببيه كما في قوله: " دخلت النار امرأة في هرة " 1 الحديث.

وسبب النّزول: ما رواه الإمام أحمد في مسنده، حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، قالت:" قدمت أمي - وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا - فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: نعم صلي أمك " 2 وهذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم.

1 البخاري: بدء الخلق (3318)، ومسلم: التوبة (2619)، وابن ماجه: الزهد (4256) ، وأحمد (2/457) .

2 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2620)، ومسلم: الزكاة (1003)، وأبو داود: الزكاة (1668) ، وأحمد (6/344) .

ص: 416

وفي بعض الطرق: أنها جاءت لابنتها بهدية ضباب، وأقط، وسمن، فأبت أسماء أن تقبل منها وتدخل البيت، حتى سألت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية.

وأما قول ابن زيد وقتادة: إنها منسوخة، فلا يظهر لوجوه: منها: أن الجمع بينها وبين آية القتال ممكن غير متعذر، ودعوى النسخ يصار إليها عند التعذر، وعدم إمكان الجمع إن دل عليه دليل.

ومنها: أن السنة متظاهرة بطلب الإحسان والعدل مطلقا، ولا قائل بالنسخ، لكن قد يجاب عن ابن زيد وقتادة بأن النسخ في كلاميهما بمعنى التخصيص، وهو متجه على اصطلاح بعض السلف؛ ولا شك أن القتال بالسيف وتوابعه من العقوبات; والغلظة في محلها مخصوص من هذا العموم.

ووجه مناسبة الآية لما قبلها من الآي:

أنه لما ذكر تعالى نهيه عباده المؤمنين، عن اتخاذ عدوه وعدوهم، أولياء يلقون إليهم بالمودة، ثم ذكر حال خليله ومن آمن معه، في قولهم وبراءتهم من قومهم المشركين، حتى يؤمنوا، وذكر أن لعباده المؤمنين أسوة حسنة، خيف أن يتوهم أحد، أو يظن أن البر والعدل داخلان في ضمن ما نهى عنه من الموالاة وأمر به من البراءة، فناسب أن يدفع هذا بقوله:{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} الآية.

ص: 417

[تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية لآية: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ}

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله تعالى، قال شيخ الإسلام: هذه تفسير آيات أشكلت ومنها قوله تعالى: بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} [سورة القلم آية: 6] حار فيها كثير، والصواب المأثور عن السلف: قال مجاهد: الشيطان، وقال الحسن: هم أولى بالشيطان من نبي الله ; فبين المراد وإن لم يتكلم على اللفظ، كعادة السلف في الاختصار من البلاغة وفهم المعنى; وقال الضحاك: المجنون فإن من كان به الشيطان ففيه الجنون.

وعن الحسن: الضال، وذلك أنهم لم يريدوا بالمجنون الدي يخرق ثيابه ويهذي، بل لأن النبي صلى الله عليه وسلم خالف أهل العقل في نظرهم، كما يقال: ما لفلان عقل ; ومثل هذا رموا به أتباع الأنبياء كقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [سورة المطففين آية: 32] ، ومثله في هذه الأمة كثير، يسخرون من المؤمنين ; ويرمونهم بالجنون والعظائم، التي هم أولى بها منهم.

قال الحسن: "لقد رأيت رجالا لو رأيتموهم لقلتم مجانين، ولو رأوكم لقالوا: هؤلاء شياطين، ولو رأوا خياركم لقالوا: هؤلاء لا خلاق لهم، ولو رأوا شراركم لقالوا: هؤلاء قوم لا يؤمنون بيوم الحساب"، وهذا كثير في كلام السلف، يصفون أهل زمانهم وما هم عليه من مخالفة من تقدم، فما الظن بأهل زماننا؟

والذين لم يفهموا هذا، قالوا: الباء زائدة، قاله ابن

ص: 418

قتيبة وغيره; وهذا كثير، كقوله:{سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ} [سورة القمر آية: 26]، {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} [سورة الشعراء آية: 221] ، الآيات {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ} [سورة هود آية: 38-39] الآيتين.

[قول الشيخ ابن عبد الوهاب في السور المتواليات نوح والجن والمزمل]

وقال أيضا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، في الثلاث السور المتواليات: سورة نوح، وسورة الجن، وسورة المزمل:

الأولي. قصة يغوث ويعوق، أنهم صالحون، ولا أرادوا إلا شفاعتهم ; ما عافوا دين آدم، بل يزعمون أنهم عليه; وهذا مما يعرف الإنسان بالشرك.

وفي الثانية، والثالثة: الشهادتان: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، في قوله: لا تدعوا مع الله أحدا، وقوله:{لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} [سورة الجن آية: 21] ، وشهادة أن محمدا رسول الله، في قوله تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ} [سورة المزمل آية: 15] . وهذا أول ما يجب تعلمه، لما ذكر في سورة لقمان كلام لقمان لابنه، ذكر أن قصص القرآن للناس إلى يوم القيامة، فحال المثنى عليهم لعلك تعمل مثل عملهم، والمذمومين لعلك تجتنب فعلهم.

لكن ذكر أنه أطلق من الأمر والنهي، فكونه ذكر حال إبليس في الكبر، أبلغ من قوله لا تكبر، وحال آدم في

ص: 419