المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ووجوب توحيده، تعالى وتقدس عن أن يكون له شريك. - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - جـ ١٣

[عبد الرحمن بن قاسم]

الفصل: ووجوب توحيده، تعالى وتقدس عن أن يكون له شريك.

ووجوب توحيده، تعالى وتقدس عن أن يكون له شريك.

ص: 60

‌سورة الفاتحة

قال شيخ الإسلام: محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله ورضي عنه بمنه وكرمه: اعلم أرشدك الله لطاعته، وأحاطك بحياطته، وتولاك في الدنيا والآخرة: أن مقصود الصلاة وروحها ولبها، هو إقبال القلب على الله تعالى فيها، فإذا صليت بلا قلب فهي كالجسد الذي لا روح فيه.

ويدل على هذا قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [سورة الماعون آية: 4-5] ، ففسر السهو بالسهو عن وقتها - أي إضاعته -، والسهو عن ما يجب فيها، والسهو عن حضور القلب. ويدل على ذلك الحديث الذي في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان، قام فنقر أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا " 1 فوصفه بإضاعة الوقت، بقوله:" يرقب الشمس " 2 وبإضاعة الأركان بذكره النقر، وبإضاعة حضور القلب بقوله:" لا يذكر الله فيها إلا قليلا "3.

1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (622)، والترمذي: الصلاة (160)، والنسائي: المواقيت (511)، وأبو داود: الصلاة (413) ، وأحمد (3/102، 3/149، 3/185)، ومالك: النداء للصلاة (512) .

2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (622)، والترمذي: الصلاة (160) .

3 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (622)، والترمذي: الصلاة (160) .

ص: 60

إذا فهمت ذلك، فافهم نوعا واحدا من الصلاة، وهو قراءة الفاتحة، لعل الله أن يجعل صلاتك في الصلوات المقبولة المضاعفة، المكفرة للذنوب.

ومن أحسن ما يفتح لك الباب في فهم الفاتحة، حديث أبي هريرة الذي في صحيح مسلم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الفاتحة آية:1] قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [سورة الفاتحة آية:2.] قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية:3] قال الله: مجدني عبدي، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية:4] قال الله: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [سورة الفاتحة آية:5] قال الله: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل "1 انتهى الحديث.

فإذا تأمل العبد هذا، وعلم أنها نصفان: نصف لله، وهو أولها إلى قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [سورة الفاتحة آية: 6 – 7] ونصف للعبد دعاء يدعو به لنفسه ; وتأمل أن الذي علمه هذا هو الله تعالى، وأمره أن يدعو به، ويكرره في كل ركعة، وأنه سبحانه من فضله وكرمه ضمن إجابة هذا الدعاء إذا دعاه بإخلاص وحضور قلب، تبين له ما أضاع أكثر الناس.

قد هيؤوك لأمر لو فطنت له

فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

1 مسلم: الصلاة (395)، والترمذي: تفسير القرآن (2953) ، وأحمد (2/241، 2/285، 2/460)، ومالك: النداء للصلاة (189) .

ص: 61

وها أنا أذكر لك بعض معاني هذه السورة العظيمة، لعلك تصلي بحضور قلب، ويعلم قلبك ما نطق به لسانك; لأن ما نطق به اللسان ولم يعقد عليه القلب ليس بعمل صالح، كما قال تعالى:{يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [سورة الفتح آية: 11] وأبدأ بمعنى الاستعاذة، ثم البسملة، على طريق الاختصار والإيجاز.

فمعنى: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم": ألوذ بالله وأعتصم بالله، وأستجير بجنابه من شر هذا العدو، أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه، لأنه أحرص ما يكون على العبد، إذا أراد عمل الخير، من صلاة أو قراءة أو غير ذلك، وذلك أنه لا حيلة لك في دفعه إلا بالاستعاذة بالله، لقوله تعالى:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [سورة الأعراف آية: 27] ؛ فإذا طلبت من الله أن يعيذك منه، واعتصمت به، كان هذا سببا في حضور القلب. فاعرف معنى هذه الكلمة، ولا تقلها باللسان فقط، كما عليه أكثر الناس.

وأما البسملة: فمعناها: أدخل في هذا الأمر من قراءة أو دعاء أو غير ذلك {بِسْمِ اللَّهِ} ، لا بحولي ولا بقوتي، بل أفعل هذا الأمر مستعينا بالله، متبركا باسمه تبارك وتعالى، هذا في كل أمر تسمي في أوله، من أمر الدين أو أمر الدنيا.

فإذا أحضرت في نفسك: أن دخولك في القراءة بالله،

ص: 62

مستعينا به، متبرئا من الحول والقوة، كان هذا أكبر الأسباب في حضور القلب، وطرد الموانع من كل خير. {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [سورة الفاتحة آية: 1] : اسمان مشتقان من الرحمة، أحدهما أبلغ من الآخر، مثل: العلام والعليم ; قال ابن عباس: "هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر"، أي: أكثر من الآخر رحمة.

وأما الفاتحة، فهي سبع آيات: ثلاث ونصف لله، وثلاث ونصف للعبد ; فأولها:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الفاتحة آية: 2] .

فاعلم أن الحمد هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري، فأخرج بقوله: الثناء باللسان، الثناء بالفعل الذي يسمى لسان الحال، فذلك من نوع الشكر. وقوله: على الجميل الاختياري، أي: الذي يفعله الإنسان بإرادته، وأما الجميل الذي لا صنع له فيه، مثل الجمال ونحوه، فالثناء به يسمى مدحا لا حمدا.

والفرق بين الحمد والشكر: أن الحمد يتضمن المدح والثناء على المحمود بذكر محاسنه، سواء أكان إحسانا إلى الحامد أو لم يكن، والشكر لا يكون إلا على إحسان المشكور، فمن هذا الوجه الحمد أعم من الشكر; لأنه يكون على المحاسن والإحسان; فإن الله يحمد على ما له من الأسماء الحسنى، وما خلقه في الآخرة والأولى. ولهذا قال:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} [سورة الإسراء آية: 111] الآية، وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ

ص: 63

وَالْأَرْضَ} [سورة الأنعام آية: 1] ،

إلى غير ذلك من الآيات.

وأما الشكر: فإنه لا يكون إلا على الإنعام ; فهو أخص من الحمد من هذا الوجه ; لكنه يكون بالقلب واليد واللسان، ولهذا قال تعالى:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سورة سبأ آية: 13] ، والحمد إنما يكون بالقلب واللسان، فمن هذا الوجه الشكر أعم من جهة أنواعه، والحمد أعم من جهة أسبابه.

والألف واللام في قوله: {الْحَمْدُ} للاستغراق، أي: جميع أنواع الحمد لله لا لغيره، فأما الذي لا صنع للخلق فيه، مثل خلق الإنسان، وخلق السمع والبصر، والسماء والأرض، والأرزاق، وغير ذلك فواضح.

وأما ما يحمد عليه المخلوق، مثل ما يثنى به على الصالحين والأنبياء والمرسلين، وعلى من فعل معروفا، خصوصا إن أسداه إليك، فهذا كله لله أيضا، بمعنى أنه خلق ذلك الفاعل، وأعطاه ما فعل به ذلك، وحببه إليه وقواه عليه، وغير ذلك من إفضال الله الذي لو يختل بعضها، لم يحمد ذلك المحمود، فصار الحمد كله لله بهذا الاعتبار.

وأما قوله: {لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة الفاتحة آية: 2] فالله عَلَم على ربنا تبارك وتعالى، ومعناه: الإله، أي: المعبود، لقوله:{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [سورة الأنعام آية: 3] أي: المعبود في السماوات، والمعبود في الأرض {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [سورة مريم آية: 93] الآيتين.

وأما الرب، فمعناه: المالك المتصرف، وأما

ص: 64

{الْعَالَمِينَ}

فهو اسم لكل ما سوى الله تبارك وتعالى؛ فكل ما سواه من ملك ونبي، وإنسي وجني وغير ذلك، مربوب مقهور يتصرف فيه، فقير محتاج، كلهم صامدون إلى واحد لا شريك له في ذلك، وهو الغني الصمد. ""

وذكر بعد ذلك: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] ، وفي قراءة أخرى {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فذكر في أول هذه السورة، التي هي أول المصحف، الألوهية والربوبية والملك ; كما ذكره في آخر سورة في المصحف {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ} [سورة الناس آية: 1-2-3] : فهذه ثلاثة أوصاف لربنا تبارك وتعالى، ذكرها مجموعة في موضع واحد في أول القرآن ; ثم ذكرها مجموعة في موضع واحد، في آخر ما يطرق سمعك من القرآن، فينبغي لمن نصح نفسه أن يعتني بهذا الموضع، ويبذل جهده في البحث عنه، ويعلم أن العليم الخبير، لم يجمع بينهما في أول القرآن، ثم في آخره إلا لما يعلم من شدة حاجة العباد إلى معرفتها، ومعرفة الفرق بين هذه الصفات ; فكل صفة لها معنى غير معنى الصفة الأخرى، كما يقال: محمد رسول الله، وخاتم النبيين، وسيد ولد آدم، فكل وصف له معنى غير ذلك الوصف الآخر.

إذا عرفت: أن معنى "الله" هو الإله، وعرفت أن الإله هو المعبود، ثم دعوت الله، أو ذبحت له، أو نذرت له،

ص: 65

فقد عرفت أنه الله، فإن دعوت مخلوقا طيبا أو خبيثا، أو ذبحت له أو نذرت له، فقد زعمت أنه هو الله.

فمن عرف أنه قد جعل شمسان، أو تاجا برهة من عمره هو الله، عرف ما عرفت بنو إسرائيل لما عبدوا العجل، فلما تبين لهم ارتاعوا، وقالوا ما ذكر الله عنهم:{وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [سورة الأعراف آية: 149] .

وأما "الرب" فمعناه: المالك المتصرف ; فالله تعالى مالك كل شيء، وهو المتصرف فيه، وهذا حق، ولكن أقر به عباد الأصنام الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكر الله عنهم في القرآن في غير موضع، كقوله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [سورة يونس آية: 31] إلى قوله: {فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس آية: 31] . فمن دعا الله في تفريج كربته وقضاء حاجته، ثم دعا مخلوقا في ذلك، خصوصا إن اقترن بدعائه نسبة نفسه إلى عبوديته، مثل قوله في دعائه: فلان عبدك ; أو قول: عبد علي، أو عبد النبي أو الزبير، فقد أقر له بالربوبية. وفي دعائه عليا أو الزبير، بدعائه الله تبارك وتعالى وإقراره له بالعبودية، ليأتي له بخير أو ليصرف عنه شرا مع تسمية نفسه عبدا له، قد أقر له بالربوبية، ولم يقر لله بأنه رب العالمين كلهم، بل جحد بعض ربوبيته. فرحم الله عبدا نصح نفسه، وتفطن لهذه المهمات،

ص: 66

وسأل عن كلام أهل العلم، وهم أهل الصراط المستقيم، هل فسروا السورة بهذا أم لا؟ وأما " الملك " فيأتي الكلام عليه ; وذلك أن قوله:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] وفي القراءة الأخرى {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فمعناه عند جميع المفسرين كلهم، فسره الله في قوله:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الإنفطار آية: 17-18-19] فمن عرف تفسير هذه الآية، وعرف تخصيص الملك بذلك اليوم، مع أنه سبحانه مالك كل شيء ذلك اليوم وغيره، عرف أن التخصيص لهذه المسألة الكبيرة العظيمة، التي بسبب معرفتها دخل الجنة من دخلها، وبسبب الجهل بها دخل النار من دخلها.

فيا لها من مسألة لو رحل الرجل فيها أكثر من عشرين سنة لم يوفها حقها، فأين هذا المعنى والإيمان بما صرح به القرآن، مع قوله صلى الله صلى الله عليه وسلم " يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا "1 من قول صاحب البردة؟

ولن يضيق رسول الله جاهك بي

إذا الكريم تحلى باسم منتقم

فإن لي ذمة منه بتسميتي

محمدا وهو أوفى الخلق بالذمم

إن لم تكن في معادي آخذا بيدي

فضلا وإلا فقل يا زلة القدم

فليتأمل: من نصح نفسه هذه الأبيات ومعناها، ومن فتن بها من العباد، وممن يدعي أنه من العلماء، واختاروا

1 البخاري: الوصايا (2753)، ومسلم: الإيمان (206)، والنسائي: الوصايا (3646، 3647) ، وأحمد (2/448، 2/519)، والدارمي: الرقاق (2732) .

ص: 67

تلاوتها على تلاوة القرآن ; هل يجتمع في قلب عبد التصديق بهذه الأبيات والتصديق بقوله: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار آية: 19] وقوله " يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا" 1؟ لا والله! لا والله! لا والله! إلا كما يجتمع في قلبه أن موسى صادق، وأن فرعون صادق، وأن محمدا صادق على الحق، وأن أبا جهل صادق على الحق.

لا والله ما استويا ولن يتلاقيا

حتى تشيب مفارق الغربان

فمن عرف هذه المسألة وعرف البردة، ومن فتن بها عرف غربة الإسلام، وعرف أن العداوة واستحلال دمائنا وأموالنا ونسائنا ليس عند التكفير والقتال، بل هم الذين بدؤونا بالتكفير والقتال، بل عند قوله:{فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [سورة الجن آية: 18]، وعند قوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [سورة الإسراء آية: 57]، وقوله:{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [سورة الرعد آية: 14] . فهذا بعض المعاني في قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [سورة الفاتحة آية: 4] بإجماع المفسرين كلهم، وقد فسرها الله سبحانه في سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [سورة الانفطار آية: 1] كما قدمت لك. واعلم أرشدك الله

1 البخاري: الوصايا (2753)، ومسلم: الإيمان (206)، والنسائي: الوصايا (3646، 3647) ، وأحمد (2/448، 2/519)، والدارمي: الرقاق (2732) .

ص: 68

أن الحق لا يتبين إلا، بالباطل، كما قيل 1:

............

وبضدها تتبين الأشياء

فتأمل ما ذكرت لك: ساعة بعد ساعة، ويوما بعد يوم، وشهرا بعد شهر، وسنة بعد سنة، لعلك أن تعرف ملة أبيك إبراهيم ودين نبيك فتحشر معهما ; ولا تصد عن الحوض يوم الدين، كما يصد عنه من صد عن طريقهما.

ولعلك أن تمر على الصراط يوم القيامة، ولا تزل عنه كما زل عن صراطهما المستقيم في الدنيا من زل، فعليك بإدامة دعاء الفاتحة، مع حضور قلب، وخوف وتضرع.

وأما قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5]، فالعبادة: كمال المحبة، وكمال الخضوع والخوف والذل ; وقدم المفعول وهو إياك، وكرر للاهتمام والحصر، أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة؛ والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين: فالأول: التبرؤ من الشرك، والثاني: التبرؤ من الحول والقوة، فقوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [سورة الفاتحة آية: 5] أي: إياك نوحد ; ومعناه: أنك تعاهد ربك أن لا تشرك به في عبادته أحدا، لا ملكا ولا نبيا، ولا غيرهما، كما قال للصحابة:{وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [سورة آل عمران آية: 80] .

1 أي: في ديوان المتنبي.

ص: 69

فتأمل هذه الآية، واعرف ما ذكرت لك في الربوبية، أنها التي نسبت إلى "تاج" و "محمد بن شمسان"؛ فإذا كان الصحابة لو يفعلونها مع الرسل كفروا بعد إسلامهم، فكيف بمن فعلها في "تاج" وأمثاله؟ ! وقوله:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] هذا فيه أمران، أحدهما: سؤال الإعانة، وهو التوكل، والتبري من الحول والقوة ; وأيضا: طلب الإعانة من الله كما مر أنها من نصف العبد.

وأما قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [سورة الفاتحة آية: 6] فهذا هو الدعاء الصريح الذي هو حظ العبد من الله، وهو التضرع إليه والإلحاح عليه أن يرزقه هذا الطلب العظيم الذي لم يعط أحد في الدنيا والآخرة أفضل منه، كما من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح بقوله:{وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [سورة الفتح آية: 2]، والهداية هاهنا: التوفيق والإرشاد.

وليتأمل العبد ضرورته إلى هذه المسألة، فإن الهداية إلى ذلك تتضمن العلم، والعمل الصالح، على وجه الاستقامة والكمال، والثبات على ذلك إلى أن يلقى الله.

والصراط: الطريق الواضح، والمستقيم: الذي لا عوج فيه ; والمراد بذلك: الدين الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [سورة الفاتحة آية: 7] ، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنت دائما في كل ركعة تسأل الله أن يهديك إلى طريقهم.

وعليك من الفرائض أن تصدق الله أنه هو المستقيم،

ص: 70

وكل ما خالفه من طريق أو علم أو عبادة فليس بمستقيم، بل معوج؛ وهذه أول الواجبات من هذه الآية، وهو اعتقاد ذلك بالقلب.

وليحذر المؤمن من خدع الشيطان، وهو اعتقاد ذلك مجملا، وتركه مفصلا; فإن أكفر الناس من المرتدين يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق، وأن ما خالفه باطل; فإذا جاء بما لا تهوى أنفسهم، فكما قال تعالى:{فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} [سورة المائدة آية: 70] .

وأما قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [سورة الفاتحة آية: 7]، فالمغضوب عليهم هم: العلماء الذين لم يعملوا بعلمهم، والضالون: العاملون بلا علم، فالأول صفة اليهود، والثاني صفة النصارى.

وكثير من الناس إذا رأى في التفسير أن اليهود مغضوب عليهم، وأن النصارى ضالون، ظن الجاهل أن ذلك مخصوص بهم، وهو يقر أن ربه فارض عليه أن يدعو بهذا الدعاء، ويتعوذ من طريق أهل هذه الصفات.

فيا سبحان الله! كيف يعلمه الله ويختار له ويفرض عليه أن يدعو به دائما، مع أنه لا حذر عليه منه، ولا يتصور أنه يفعله؟ ! هذا من ظن السوء بالله ; والله أعلم. هذا آخر الفاتحة.

وأما "آمين" فليست من الفاتحة، ولكنها تأمين على الدعاء، معناها: اللهم استجب ; فالواجب تعليم الجاهل،

ص: 71

لئلا يظن أنها من كلام الله ; والله أعلم.

[مسائل مستنبطة من سورة الفاتحة]

وهذه مسائل مستنبطة من سورة الفاتحة; استنبطها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى.

الأولى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] فيها التوحيد.

الثانية: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [سورة الفاتحة آية: 6] فيها المتابعة.

الثالثة: أركان الدين الحب والرجاء والخوف، فالحب في الأولى، والرجا في الثانية، والخوف في الثالثة.

الرابعة: هلاك الأكثر في الجهل بالآية الأولى، أعني: استغراق الحمد، واستغراق ربوبية العالمين.

الخامسة: أول المنعم عليهم، وأول المغضوب عليهم، والضالين.

السادسة: ظهور الكرم والحمد في ذكر المنعم عليهم.

السابعة: ظهور القدرة والمجد في ذكر المغضوب عليهم والضالين.

الثامنة: دعاء الفاتحة، مع قوله: لا يستجاب الدعاء من قلب غافل.

التاسعة. قوله {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [سورة الفاتحة آية: 7] فيه حجة الإجماع.

العاشرة: ما في الجملة من هلاك الإنسان إذا وكل إلى نفسه.

الحادية عشر: ما فيها من النص على التوكل.

الثانية عشر: ما فيها من التنبيه على بطلان الشرك.

الثالثة عشر: التنبيه على بطلان البدع.

الرابعة عشر: آيات الفاتحة، كل آية منها لو يعلمها الإنسان صار فقيها، وكل آية أفرد معناها بالتصانيف، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ص: 72

وله أيضا، رحمه الله تعالى:

بسم الله الرحمن الر حيم {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}

[سورة الفاتحة آية: 2-3-4] وتضمنت ثلاث الآيات ثلاث مسائل:

الآية الأولى: فيها المحبة ; لأن الله منعم، والمنعم يحب على قدر إنعامه ; والمحبة تنقسم إلى أربعة أنواع: محبة شركية، وهي محبة الذين قال الله فيهم:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [سورة البقرة آية: 165] إلى قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [سورة البقرة آية: 167] . المحبة الثانية: حب الباطل وأهله، وبغض الحق وأهله ; وهذه صفة المنافقين ; والمحبة الثالثة: طبيعية، وهي محبة المال والولد، فإذا لم تشغل عن طاعة الله، ولم تعن على محارم الله، فهي مباحة. والمحبة الرابعة: حب أهل التوحيد، وبغض أهل الشرك، وهي أوثق عرى الإيمان، وأعظم ما يعبد بها الإنسان ربه.

الآية الثانية: فيها الرجاء ; والآية الثالثة فيها الخوف ; {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [سورة الفاتحة آية: 5] أي: أعبدك يا رب بما مضى بهذه الثلاث، بمحبتك ورجائك وخوفك ; هذه الثلاث أركان العبادة، وصرفها لغير الله شرك.

ص: 73

وفي هذه الثلاث الرد على من تعلق بواحدة منها، كمن تعلق بالمحبة وحدها، أو تعلق بالرجاء وحده، أو تعلق بالخوف وحده، فمن صرف منها شيئا لغير الله فهو مشرك.

وفيها من الفوائد: الرد على ثلاث الطوائف التي كل طائفة تعلق بواحدة منها، كمن عبد الله بالمحبة وحدها، وكذلك من عبد الله بالرجاء وحده كالمرجئة، وكذلك من عبد الله بالخوف وحده كالخوارج. وأما {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] ففيها توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [سورة الفاتحة آية: 5] فيها توحيد الألوهية، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] فيها توحيد الربوبية، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [سورة الفاتحة آية: 6] فيها الرد على المبتدعين.

وأما الآيتان الأخيرتان، ففيها من الفوائد: ذكر أحوال الناس، قسمهم الله ثلاثة أصناف: منعم عليه، ومغضوب عليه، وضال; فالمغضوب عليهم أهل علم ليس معه عمل; والضالين: أهل عبادة ليس معها علم; وإن كان سبب النّزول في اليهود والنصارى، فهي لكل من اتصف بذلك; والنوع الثالث: من اتصف بالعلم والعمل، وهم المنعم عليهم. وفيها من الفوائد: التبرؤ من الحول والقوة، لأنه منعم عليك ; وكذلك فيها: معرفة الله على التمام، ونفي النقائص عنه تبارك وتعالى ; وفيها: معرفة الإنسان نفسه، ومعرفة ربه، فإنه إذا كان رب فلا بد من مربوب، وإذا كان هنا عبد فلا بد من معبود.

ص: 74

وإذا كان هنا هاد فلا بد من مهدي; وإذا كان هنا منعم عليه فلا بد من منعم، وإذا كان هنا مغضوب عليه فلا بد من غاضب; وإذا كان هنا ضال فلا بد من مضل ; فهذه السورة تضمنت الألوهية، والربوبية، ونفي النقائص عن الله ; وتضمنت معرفة العبادة وأركانها، والله أعلم.

وله أيضا، رحمه الله تعالى: 1 الخوف منه، إذا عرفت أنه لا بد أن يدين الناس بأعمالهم خيرها وشرها {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [سورة الزلزلة آية: 7-8] ، وأفادك أيضا أعظم الفوائد، وهي التوحيد، إذا عرفت أن ذلك اليوم {لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [سورة الانفطار آية: 19] .

وأما الكلمة الرابعة: فأولها، وهو قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [سورة الفاتحة آية: 5] : معاهدة منك لربك عز وجل أنك لا تشرك بعبادته أحدا، لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا، ولا غيرهما، وآخرها، وهو قوله:{وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] : سؤال منك لمولاك سبحانه أن يعينك على أمور دينك ودنياك، ولا يكلك إلى نفسك، ولا إلى أحد من خلقه، وإخبار منك أنك لا تستعين إلا به تبارك وتعالى.

1 بياض بالأصول، ويفهم من السياق أنه من أول تفسير سورة الفاتحة، وأنه في المعنى قريبا مما تقدم.

ص: 75

وفي الآية الخامسة، والسادسة، والسابعة، وهي قوله:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [سورة الفاتحة آية: 6] إلى آخرها، تسأله تعالى أن يهديك إلى طريق الجنة، الذي لا اعوجاج فيه، الذي نصبه طريقا إليها، لا طريق لها إلا هو، وهو التوحيد والبراءة من الشرك وتوابعه، وذلك مع أداء الفرائض وترك المحارم. والسادسة، وهي قوله:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [سورة الفاتحة آية: 7] تبين أن الطريق الذي طلبت من مولاك أن يهديك إليه، هو طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، الجامع لمعرفة الحق والعمل به. ثم تبين ذلك وتوضح بالآية السابعة {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [سورة الفاتحة آية: 7] : فالمغضوب عليهم، الذين وهبهم الله الفهم فعرفوا الحق من الباطل، لكن لم يعملوا، والضالون هم الذين عملوا وطلبوا الطريق، لكن بجهل. فإذا سلم العبد من آفة الجهل، وصار من أهل المعرفة ; ثم سلم من آفة الفسق وعمل بما أمره الله به، صار من الذين أنعم الله عليهم، من أهل الصراط المستقيم. وهذا الدعاء جامع لخيري الدنيا والآخرة ; أما جمعه لخير الآخرة فواضح. وأما جمعه لخير الدنيا، فلأن الله تعالى يقول:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [سورة الأعراف آية: 96] ، والإيمان والتقوى هو الصراط المستقيم، فقد أخبر أن ذلك سبب لفتح بركات السماء والأرض، هذا في الرزق.

ص: 76

وأما في النصر، فقد قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [سورة المنافقون آية: 8] فأخبر الله أن العزة تحصل بالإيمان وهو الصراط المستقيم، فإذا حصل العز والنصر، وحصل فتح بركات السماء والأرض، فهذا خير الدنيا، والله أعلم.

[معنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم]

وقال الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، رحمه الله تعالى:

بسم الله الرحمن الر حيم

وبه نستعين. معنى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أي: أستجير بجناب الله من الشيطان أن يضرني في ديني أو دنياي ; أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه. والاستعاذة هي الالتجاء إلى الله والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر؛ والعياذ يكون لدفع الشر، واللياذ لطلب الخير.

و"الشيطان" في لغة العرب، مشتق من شطن إذا بعد، فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر، وبعيد بفسقه عن كل خير. و "الرجيم" فعيل بمعنى مفعول، أي: بعد عن الخير كله. {بسم الله الرحمن الرحيم} فالمشروع ذكر اسم الله تبركا وتيمنا، واستعانة على الإتمام والتقبل. {اللَّهِ}

علم على الرب تبارك وتعالى ; ويقال: إنه

ص: 77

الاسم الأعظم، لأنه يوصف بجميع الصفات.

[جواب العلامة ابن القيم لقول من قال أن لفظ (الله) غير مشتق]

قال العلامة ابن القيم - جوابا لقول من قال {الله} غير مشتق -: إن أريد بالاشتقاق أنه مشتق من أصل آخر، فهو باطل ; وإنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى، وهي الإلهية، كسائر أسمائه الحسنى، كالعليم والقدير؛ فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها، فما كان جوابكم عن هذه الأسماء، فهو جواب القائلين باشتقاق اسم الله.

ثم الجواب عن الجميع: أنا لا نعني أسماء الاشتقاق; لأنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى، ولا أنها متولدة منها تولد الفرع من أصله، ولا محذور في اشتقاق أسماء الله تعالى بهذا المعنى.

وقال الكسائي والفراء: أصله "الإله"، حذفوا الهمزة وأدغموا اللام في اللام، فصارتا في اللفظ لاما واحدة مشددة مفخمة، وهذا هو الذي ذكره أبو جعفر ابن جرير في تفسيره ; وهو قول سيبويه وأكثر أصحابه.

وذكر ابن جرير قول ابن عباس في معنى هذا الاسم، الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين ; فإن قال لنا قائل: وما دل على أن الإلهية هي العبادة، وأن الإله هو المعبود، وأن له أصلا في "فعل" و "يفعل"، وذكر بيت رؤبة بن العجاج:.

لله در الغانيات المدّه

سبحن واسترجعن من تألُّه

يعنى: من تعبد وطلب الله بعمل ; ولا شك أن التأله

ص: 78

التفعّل، من أله يأله، وقد جاء منه مصدر يدل على أن العرب قد نطقت منه بفعل يفعل بغير زيادة، وذلك ما حدثنا به سفيان عن وكيع، ساق السند إلى ابن عباس:"أنه قرأ: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [سورة الأعراف آية: 127] قال: عبادتك، ويقول: إنه كان يُعبد ولا يَعبد". {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [سورة الفاتحة آية: 2] اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، ورحمان أشد مبالغة من رحيم، وفي الأثر عن عيسى أنه قال: الرحمن رحمن الدنيا، والرحيم رحيم الآخرة.

وقال ابن القيم: الرحمن دال على الصفة القائمة به ; والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم ; فإذا أردت فهم هذا، فتأمل قوله:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [سورة الأحزاب آية: 43]، {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [سورة التوبة آية: 117] ، ولم يجئ رحمن بهم، فالرحمن اسمه ووصفه، فمن حيث هو صفة جرى تابعا لاسم الله، ومن حيث هو اسم، ورد في القرآن غير تابع، بل ورود الاسم العلم كقوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه آية: 5] . انتهى ملخصا. {الْحَمْدُ لِلَّهِ}

ومعناه: الثناء بالكلام على الجميل على وجه التعظيم، فمورده اللسان والقلب، والشكر يكون باللسان والجنان والأركان، فهو أعم من الحمد متعلقا وأخص سببا; لأنه يكون في مقابلة النعمة وغيرها، فبينهما عموم وخصوص

ص: 79

وجهي، يجتمعان في مادة ; وينفرد كل واحد عن الآخر في مادة. والألف واللام في الحمد لاستغراق أجناس الحمد وأفراده لله تعالى، فلا يصلح منه شيء لغير الله، كما قال تعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [سورة النحل آية: 53] . والرب هو المالك المتصرف، ويطلق على السيد وعلى المعبود، كما قال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سورة التوبة آية: 31]، وكل ذلك صحيح. {الْعَالَمِينَ} : جمع عالم، وهو: كل موجود سوى الله تعالى ; والعوالم: أصناف المخلوقات في السماوات، وفي البر والبحر، وكل قرن وجيل يسمى عالما أيضا، والعالم مشتق من العلامة ; لأنه علم دال على وجود خالقه وصانعه، ووحدانيته، قال ابن المعتز:

فيا عجبا كيف يعصى الإله

أم كيف يجحده الجاحد

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [سورة الفاتحة آية: 1] تقدم الكلام عليه في البسملة. {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}

[سورة الفاتحة آية: 4] قرأ بعض القراء: {ملك} وقرأ آخرون: {مَالِكِ} وكلاهما صحيح متواتر في السبع، وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه; لأنه قد تقدم الإخبار بأنه رب العالمين ; وذلك عام في الدنيا والآخرة.

ص: 80

وإنما أضيف إلى يوم الدين ; لأنه لا يدعي أحد هناك شيئا، فلا يتكلم أحد إلا بإذنه، كما قال تعالى:{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} [سورة النبأ آية: 38] الآية.

و {يَوْمِ الدِّينِ} : يوم الحساب للخلائق، وهو يوم القيامة، يدينهم بأعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، إلا من عفا عنه، قاله ابن عباس وغيره من الصحابة والتابعين والسلف ; والملك في الحقيقة هو لله تعالى، قال تعالى:{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة الطلاق آية: 12]، {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة البقرة آية: 107] ، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] : العبادة في الشرع عبارة عما يجمع كمال المحبة، وكمال الخضوع والخوف; قال شيخ الإسلام، رحمه الله: العبادة أن يوافق العبد ربه فيما يحبه ويرضاه، ويحب في الله ويبغض في الله. قال العماد ابن كثير: وقدم المفعول وهو إياك، وكرر للاهتمام والحصر، أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا كمال الطاعة ; والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين.

وهذا كما قال بعض السلف: الفاتحة سر القرآن، وسرها هذه الكلمة:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [سورة الفاتحة آية: 5] : فالأول تبرؤ من الشرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة؛ وهذا في غير آية

ص: 81

من القرآن، كما قال تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [سورة هود آية: 123] . وتحول الكلام من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب، وهو مناسب ; لأنه لما أثنى على الله تعالى فكأنه قرب وحضر بين يدي الله تعالى، فلهذا قال:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [سورة الفاتحة آية: 5] كما تقدم الثناء على المسؤول تبارك وتعالى، ناسب أن يعقب بالسؤال، كما قال:" فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل " وهذا أكمل أحوال السائل: أن يمدح مسؤوله، ثم يسأله حاجته وحاجة إخوانه المؤمنين، بقوله:{اهْدِنَا} لأنه أنجح وأجمع للإجابة، ولهذا أرشد الله تعالى إليه; لأنه الأكمل ; والهداية ها هنا: الإرشاد والتوفيق.

قال العلامة ابن القيم: وكذلك اشتدت حاجة العبد بل ضرورته إلى أن يسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم، فليس العبد أحوج منه إلى هذه الدعوة، وليس شيء أنفع له منها، فإن الصراط المستقيم يتضمن علوما وإرادات وأعمالا، ومدارك ظاهرة وباطنة تجري عليه كل وقت.

فتفاصيل الصراط المستقيم قد يعلمها العبد وقد لا يعلمها ; وقد يكون ما لا يعلمه أكثر مما يعلمه؛ وما يعلمه قد يقدر عليه وقد لا يقدر عليه، وهو من الصراط المستقيم وإن عجز عنه.

وما يقدر عليه قد تريده نفسه وقد لا تريده، كسلا

ص: 82

وتهاونا، لقيام مانع وغير ذلك ; وما يريده قد يفعله وقد لا يفعله، وما يفعله قد يقوم فيه بشروط الإخلاص وقد لا يقوم فيه.

وما يقوم فيه بشروط الإخلاص قد يقوم فيه بكمال المتابعة وقد لا يقوم، وما يقوم فيه بالمتابعة قد يثبت عليه وقد يصرف قلبه عنه؛ هذا كله واقع سار في الخلق فمستقل ومستكثر، ليس في طباع الخلق الهداية إلى ذلك، بل متى نظر إلى طباعه حيل بينه وبين ذلك كله.

فالرب تبارك وتعالى على صراط مستقيم في قضائه وقدره، ونهيه وأمره; ونصب لعباده من أمره صراطا مستقيما، ودعاهم جميعا إليه حجة منه وعدلا، وهدى من شاء منهم إلى سلوكه نعمة منه وفضلا، ولم يخرج بهذا العدل وهذا الفضل عن صراطه المستقيم الذي هو عليه، ثم صرف عنه في الدنيا، وأقام عليه من أقامه في الدنيا.

فإذا كان يوم القيامة نصب لخلقه صراطا مستقيما يوصلهم إلى جنته، وجعل نور المؤمنين به، وبرسوله وما جاء به، الذي كان في قلوبهم في الدنيا، نورا يسعى بين أيديهم وبأيمانهم في ظلمة الحشر، وحفظ عليهم الإيمان حتى لقوه ; وأطفأ نور المنافقين أحوج ما كانوا إليه في الدنيا، وأقام أعمال العصاة بجنبتي الصراط كلاليب وحسكا تخطفهم، كما خطفتهم في الدنيا عن الاستقامة عليه، وجعل

ص: 83

قوة سيرهم وسرعتهم على قدر قوة سيرهم وسرعتهم إليه في الدنيا. {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [سورة الفاتحة آية: 7] المنعم عليهم هم: كل من عرف الحق واتبعه، فهو منعم عليه، ومن لم يعرفه فهو ضال، ومن عرفه وآثر غيره فهو مغضوب عليه.

ولهذا كان النصارى أخص بالضلال لأنهم أمة جهل، واليهود أخص بالغضب لأنهم أمة عناد، ومؤمنو هذه الأمة هم المنعم عليهم. وفي المسند والترمذي من حديث عدي بن حاتم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون " 1 وقال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى.

وأما حقيقة الصراط المستقيم، فقال ابن القيم رحمه الله تعالى: ولنذكر في الصراط المستقيم قولا وجيزا، فإن الناس قد تنوعت عباراتهم عنه، بحسب صفاته ومتعلقاته ; وحقيقته شيء واحد، وهو طريق الله الذي نصبه لعباده موصلا إليه، ولا طريق لهم إليه سواه.

بل الطرق كلها مسدودة على الخلق، إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله، وجعله موصلا لعباده إليه ; وهو: إفراده بالعبودية، وإفراد رسوله بالطاعة، فلا يشرك به أحدا في عبوديته، ولا يشرك برسوله أحدا في طاعته.

1 الترمذي: تفسير القرآن (2954) ، وأحمد (4/378) .

ص: 84

فيجرد التوحيد لله ; ويجرد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا مضمون شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. فأي شيء فسر به الصراط المستقيم، فهو داخل في هذين الأصلين.

ونكتة ذلك: أن تحبه بقلبك، وترضيه بجهدك كله ; فلا يكون في قلبك موضع إلا معمورا بحبه، ولا يكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته.

فالأول: يحصل بتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله ; والثاني: يحصل بتحقيق شهادة أن محمدا رسول الله ; وهذا هو الهدى ودين الحق، وهو معرفة الحق والعمل به، وهو معرفة ما بعث الله به رسله والقيام به، وقل ما شئت من العبارات التي هذا أحسنها وقطب رحاها، انتهى 1.

وأما "آمين" فهي طابع الدعاء ومعناها: اللهم استجب ; وليست من الفاتحة، والله أعلم.

وقد اشتملت هذه السورة الكريمة، وهي سبع آيات، على حمد الله وتمجيده، والثناء عليه، بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العلى، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين، وعلى إرشاد عباده إلى سؤاله والتضرع إليه، والتبري من حولهم وقوتهم، وإلى إخلاص العبادة له، وتوحيده بالإلهية، وتنْزيهه أن يكون له شريك، أو نظير أو مماثل،

1 من بدائع الفوائد صفحة 40، 41/ج/2 لابن القيم رحمه الله.

ص: 85