المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

لا يدري ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - جـ ١٣

[عبد الرحمن بن قاسم]

الفصل: لا يدري ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه

لا يدري ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يميز بين دين الرسول ودين النصارى، والله أعلم.

ص: 329

‌سورة طه

سئل رحمه الله، عن معنى هذه الآية:{قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} [سورة طه آية: 125] .

فأجاب: اعلم رحمك الله أن الله سبحانه عالم بكل شيء، يعلم ما يقع على خلقه، وأنزل هذا الكتاب المبارك الذي جعله تبيانا لكل شيء وتفصيلا لكل شيء، وجعله هدى لأهل القرن الثاني عشر ومن بعدهم، كما جعله هدى لأهل القرن الأول ومن بعدهم.

ومن أعظم البيان الذي فيه: بيان جواب الحجج الصحيحة، والجواب عما يعارضها، وبيان الحجج الفاسدة ونفيها، فلا إله إلا الله، ماذا حرمه المعرضون عن كتاب الله من الهدى والعلم؟ ! ولكن لا معطي لما منع الله.

وهذه التي سئلت عنها، فيها بيان بطلان شبه يحتج بها بعض أهل النفاق والريب في زماننا. وهذا في قضيتنا هذه; وبيان ذلك: أن هذه في آخر قصة آدم وإبليس، وفيها من العبر والفوائد العظيمة لذريتهما ما يجل عن الوصف.

فمن ذلك: أن الله أمر إبليس بالسجود لآدم، ولو فعل لكان فيه طاعة لربه وشرف له; ولكن سولت له نفسه أن

ص: 329

ذلك نقص في حقه إذا خضع لواحد دونه في السن، ودونه في الأصل على زعمه، فلم يطع الأمر، واحتج على فعله بحجة وهي: أن الله خلقه من أصل خير من أصل آدم، ولا ينبغي أن الشريف يخضع لمن دونه، بل العكس.

فعارض النص الصريح بفعل الله الذي هو الخلق، فكان في هذا عبرة عظيمة لمن رد شيئا من أمر الله ورسوله واحتج بما لا يجدي، فلما فعل لم يعذره الله بهذا التأويل; بل طرده، ورفع آدم وأسكنه الجنة.

وكان مع عدو الله من الحذق والفطنة ودقة المعرفة ما يجل عن الوصف، فتحيل على آدم حتى ترك شيئا من أمر الله، وذلك بالأكل من الشجرة، واحتج لآدم بحجج؛ فلما أكل لم يعذره الله بتلك الحجج، بل أهبطه إلى الأرض، وأجلاه عن وطنه.

ثم قال: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} [سورة طه آية: 123] يقول تعالى: لما أجليتكم عن وطنكم، فإن بعد هذا الكلام، وهو أني مرسل إليكم هدى من عندي، لا أكلكم إلى رأيكم، ولا رأي علمائكم، بل أنزل ربكم العلم الواضح الذي يبين الحق من الباطل، والصحيح من الفاسد، والنافع من الضار {لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [سورة النساء آية: 165] ومعلوم: أن الهدى هو هذا القرآن.

فمن زعم: أن القرآن لا يقدر على الهدى منه إلا من

ص: 330

بلغ رتبة الاجتهاد، فقد كذب الله في خبره أنه هدى؛ فإنه على هذا القول الباطل لا يكون هدى إلا في حق واحد من الآلاف المؤلفة، وأما أكثر الناس فليس هدى في حقهم؛ بل الهدى في حقهم أن كل فرقة تتبع ما وجدت عليه الآباء، فما أبطل هذا من قول! وكيف يصح لمن يدعي الإسلام: أن يظن في الله وكتابه هذا الظن؟ ولما عرف الله سبحانه أن هذه الأمة سيجري عليها ما جرى على من قبلها، من اختلافهم على أكثر من سبعين فرقة، وأن الفرق كلها تترك هدى الله، إلا فرقة واحدة، وأن الفرق كلها يقرون بأن كتاب الله هو الحق لكن يعتذرون بالعجز، وأنهم لو يتعلمون كتاب الله ويعملون به لم يفهموه لغموضه، قال: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [سورة طه آية: 123] : وهذا تكذيب لهؤلاء الذين ظنوا في القرآن ظن السوء; قال ابن عباس: "تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة" وبيان هذا: أن هؤلاء يزعمون أنهم لو تركوا طريقة الآباء واقتصروا على الوحي، لم يهتدوا، بسبب أنهم لا يفهمون، كما قالوا:{قُلُوبُنَا غُلْفٌ} فرد الله عليهم بقوله: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} [سورة البقرة آية: 88] فضمن لمن اتبع القرآن أنه لا يضل كما يضل من اتبع الرأي، فتجدهم في المسألة الواحدة يحكون سبعة أقوال أو ستة ليس منها قول

ص: 331

صحيح، والذي ذكر الله في كتابه في تلك المسألة بعينها لا يعرفونه.

والحاصل، أنهم يقولون: لم نترك القرآن إلا خوفا من الخطأ، ولم نقبل على ما نحن فيه إلا للعصمة، فعكس الله كلامهم، وبين أن العصمة في اتباع القرآن إلى يوم القيامة. وأما قوله تعالى: {وَلا يَشْقَى (: فهم يزعمون أن الله يرضى بفعلهم ويثيبهم عليه في الآخرة ولو تركوه واتبعوا القرآن لغلطوا وعوقبوا، فذكر الله أن من اتبع القرآن أمن من المحذور، الذي هو الخطأ عن الطريق وهو الضلال، وأمن من عاقبته وهو الشقاء في الآخرة.

ثم ذكر الفريق الآخر الذي أعرض عن القرآن، فقال:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [سورة طه آية: 124] : وذكر الله هو القرآن الذي بين الله فيه لخلقه ما يحب ويكره، كما قال تعالى:{َمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [سورة الزخرف آية: 36] الآيتين.

فذكر الله لمن أعرض عن القرآن، وأراد الفقه من غيره عقوبتين: إحداهما: المعيشة الضنك، وفسرها السلف بنوعين: الأول: ضنك الدنيا; وهو: أنه إن كان غنيا سلط الله عليه خوف الفقر، وتعب القلب والبدن في جمع الدنيا، حتى يأتيه الموت ولم يتهن بعيش; والثاني: الضنك في البرزخ وعذاب القبر.

وفسر الضنك في الدنيا أيضا بالجهل; فإن الشك

ص: 332

والحيرة لها من القلق وضيق الصدر ما لها; فصار في هذا مصداق قوله في الحديث عن القرآن: " من ابتغى الهدى من غيره أضله الله " 1 عاقبهم بضد قصدهم.

فإنهم قصدوا معرفة الفقه، فجازاهم بأن أضلهم; وكدر عليهم معيشتهم بعذاب قلوبهم بخوف الفقر، وقلة غناء أنفسهم، وعذاب أبدانهم بأن سلط عليهم الظلمة والغبرة; وأغرى بينهم العداوة والبغضاء؛ فإن أعظم الناس تعاديا، هؤلاء الذين ينتسبون إلى المعرفة. ثم قال:{وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} والعمى، نوعان: عمى القلب، وعمى البصر; فهذا المعرض عن القرآن، لما عميت بصيرته في الدنيا عن القرآن، جازاه الله بأن حشره يوم القيامة أعمى.

قال بعض السلف: أعمى عن الحجة، لا يقدر على المجادلة بالباطل، كما كان يصنع في الدنيا. {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً [سورة طه آية: 125] فذكر الله أنه يقال له: هذا بسبب إعراضك عن القرآن في الدنيا، وطلبك العلم من غيره.

قال ابن كثير في الآية: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} [سورة طه آية: 124] أي: خالف أمري وما أنزلته على رسولي، أعرض عنه وتناساه; وأخذ من غيره هداه، {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [سورة طه آية: 124] أي: في الدنيا، فلا طمأنينة له ولا انشراح ولا تنعم; ظاهره: أن قوما أعرضوا عن الحق، وكانوا في سمعة من الدنيا، فكانت معيشتهم ضنكا؛ وذلك أنهم كانوا يرون أن الله ليس مخلفا

1 الترمذي: فضائل القرآن (2906)، والدارمي: فضائل القرآن (3331) .

ص: 333

لهم معاشهم، مع سوء ظنهم بالله; ثم ذكر كلاما طويلا، وذكر ما ذكرته من أنواع الضنك، والله أعلم.

[جواب الشيخ إبراهيم عن رسالة عبد الله آل جريس]

قال الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن، رحمهم الله تعالى:

بسم الله الرحمن الر حيم

من إبراهيم بن عبد اللطيف، إلى الأخ المحب الشيخ: عبد الله بن على آل جريس، سلمه الله تعالى، وجعله من الدعوة إليه وحسن البيان بمقام، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: فأحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو - وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير - على ما أولاه من سوابغ نعمائه، وجزيل فضله وعطائه; والخط وصل، وصلك الله بالرضى والكرامة، وسلك بنا وبك سبل البر والاستقامة، وجعلنا وإياك ممن صدق في رضاه بالله ربا، وذاق طعم الإيمان بذلك، ووجده لديه عذبا.

واعلم وفقك الله، أنك في زمان كثر شوكه، وقل ثمره، وأفلت شمس الحق فيه، وكسف قمره، وغلب على الأكثر الجهل بالحقائق الإيمانية، والأصول الإسلامية، وبعد العهد بآثار النبوة والرسالة، واندرست معالم العلم، وتكلم الجاهل بمحض الجهالة، واستصوب أكثر المنتسبين ما ذهب إليه وقاله، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحينئذ يبكي الإسلام،

ص: 334

من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

وأوصيك بتقوى الله، والتماس ما يقرب إليه، والتمسك بالأثر عند فساد الزمان، والعض بالنواجذ عليه، وإن رغب عنه الأكثرون وهجره الأحقرون.

وما ذكرت مما كتبه البعض، قولة عظيمة، وزلة وخيمة، لا تصدر من ذي فطرة سليمة; بل لا تصدر ممن عرف الله تعالى، وعرف ما تفرد به من الربوبية، والملك والتدبير، وما تنزه به وتقدس من أن يحتاج إلى عوين وظهير، قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سورة سبأ آية: 22] وكلام المفسرين على هذه الآية، لا يخفى على من له أدنى إلمام بطلب العلم; وتكلم عليها تقي الدين بما فيه كفاية.

والغرض التنبيه على المتكلم في التعبير، وإلا ففساد هذا وقبحه من أظهر شيء في الوجود، وعوام المسلمين بحمد الله يعلمون بطلان ذلك، بمجرد الفطرة، فضلا عن ذوي العلم والفكرة; وكذلك أهل الشرك معترفون بذلك.

وأما ما ذكرت من قوله في المذاكرة: أشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنك أنكرت عليه نسبة ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصبت وأحسنت، لأن ذلك جهل عظيم ومقال ذميم، وإضافة مثل هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول به

ص: 335

مسلم يعقل ما يقول، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل وأعظم من أن يشرك بربه تعالى وتقدس.

وإنما ذلك إلقاء من الشيطان على لسانه في نفس التلاوة ولم يعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أمسى وأتاه جبريل، فقال: يا محمد ما صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عز وجل. فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا، وخاف من الله خوفا عظيما، فأنزل الله عليه آية الحج تعزية له وتسلية، وكان به رحيما فأخبره جل وعلا: أن هذا ليس خاصا به، بل كل رسول ونبي قبله {إِذَا تَمَنَّى} أي: حدث وتلا {لْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [سورة الحج آية: 52] أي: في تلاوته; فذهب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وجده من الخوف والحزن، هذا ملخص ما ذكره أهل التفسير.

ولم يقل أحد منهم: أشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لكمال معرفتهم، وعظيم علمهم; ومن عدم العلم والخشية، وتكلم بجهل وظلم، فجنايته على الإسلام كبيرة؛ وفي مثل هؤلاء، قال قتادة:"والله ما آسى عليهم، ولكن آسى على من أهلكوا". وبالجملة: فالمتكلم بهذا يحمل على الجهل، فينبغي أن يعرف بخطئه، ويبين له برفق ولين، فإن رجح وأقر فهو المطلوب، والحق ضالة المسلم أينما وجده تبعه، وإن أبى إلا المكابرة والتعصب لصحة ما قاله والمثابرة، فيجب حينئذ على من عنده علم أن يقوم لله تعالى،

ص: 336