الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك أيضا بمعرفة ما يصلحه، في معاشه ومعاده والعزيمة عليه؛ ولكن الناس اختلفوا في هذا كما اختلفوا فيما قبله، فقد يعرف رشده وقد لا يعرفه، والذي يعرفه قد يعزم عليه وقد لا يعزم، فحصل التفاوت؛ فالخير لا يحصل إلا بطلب وعمل، واستعانة بالله على ذلك، وافتقار إليه وإنابة إليه وتوكل عليه؛ ومن ضيع أسباب الثبات ضاع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
سورة يوسف
ذكر ما ذكر الشيخ محمد رحمه الله، على سورة يوسف من المسائل:
{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [سورة يوسف آية: 1-3] : روى ابن جرير عن سعد بن أبي وقاص قال: "أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن فتلاه زمانا، فقالوا: يا رسول الله لو حدثتنا،" فنَزل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [سورة الزمر آية: 23] الآية.
وله عن عون بن عبد الله قال: "مل الصحابة ملة، فقالوا: يا رسول الله، حدثنا فنزل: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} ، ثم ملوا ملة، فقالوا: يا رسول، حدثنا ما فوق الحديث، ودون القرآن - يعنون القصص -، فأنزل الله أول هذه السورة، إلى قوله: {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} ".
ومما يدل على ان القرآن كاف عما سواه من الكتب:
" أن عمر أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب فقرأ عليه فغضب، فقال: أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبونه، أو بباطل فتصدقونه، والذي نفسي بيده، لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي " رواه أحمد.
وفي لفظ: " أنه استكتب جوامع من التوراة، وقال: ألا أعرضها عليك؟ وفيه: لو أصبح فيكم موسى حيا، ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين ". وقد انتفع عمر بهذا، فقال للذي نسخ كتاب دانيال:"امحه بالحميم والصوف الأبيض، وقرأ عليه أول هذه السورة، وقال: لئن، بلغني أنك قرأته، أو أقرأته أحدا من الناس، لأنهكنك عقوبة".
والمراد بأحسن القصص القرآن، لا قصة يوسف وحدها، وقوله:{تِلْكَ} أي: هذه {آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} الواضح الذي يوضح الأشياء المبهمة، وقوله:{لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: تفهمون معانيه; والقصص: مصدر قص الحديث يقصه قصصا، أي: بإيحائنا إليك هذا القرآن.
وقوله: {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} أي: الجاهلين به، وهذا مما يبين جلالة القرآن، لأن فيه دلالة على أن علمه صلى الله عليه وسلم من القرآن; وفيه دلالة على جلالة الله وقدرته، ودلالة على عظيم نعمته على نبيه صلى الله عليه وسلم؛ وفيه دلالة على كذب من ادعى أن غيره من الكتب أوضح منه.
قوله عز وجل {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدا {سورة يوسف آية: 4-5] أبوه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام; والكواكب عبارة عن إخوته، والشمس والقمر عبارة عن أبيه وأمه.
ووقع تفسيرها بعد أربعين سنة، وقيل ثمانين، حين رفع أبويه على العرش، وخروا له سجدا، ولما كان تعبيرها خضوعهم له، خشي إن حدثهم أن يحسدوه، فيبغون له الغوائل; وثبت:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر من رأى ما يحب أن يحدث به، ولا يحدث إلا من يحب; وإذا رأى ما يكره فليتحول إلى جنبه الآخر، ويتفل عن يساره ثلاثا، ويتعوذ بالله من شرها فإنها لا تضره ".
وفيها: عدم الوثوق بنفسك وبغيرك; قيل للحسن أيحسد المؤمن؟ قال: "أنسيت إخوة يوسف؟ " وفيها: التنبيه على السبب، وهو عداوة الشيطان للإنسان. وفيها: كتمان النعمة ما لم يؤمر بإظهارها. وفيها: كتمان السر.
قوله: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة يوسف آية: 6] أي: كما اختارك لهذه الرؤيا، كذلك يختارك
لنبوته {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ (، قال مجاهد وغيره: عبارة الرؤيا. {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} بإرسالك {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْل ُ (، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [سورة يوسف آية: 6] أي: عليم بمن يصلح للاجتباء، حكيم يضع الأشياء في مواضعها; وهذا من أنفع العلوم، يعني: معرفة الله تعالى؛ ولا يعتني به إلا من عرف قدره.
وفيها: البشارة بالخير، وأنه ليس من مدح الإنسان المنهي عنه. وفيها: تولية النعمة مسديها سبحانه وتعالى. وفيها: سؤال الله تعالى تمام النعمة، وأن علم التعبير علم صحيح يمن الله به على من يشاء من عباده.
يعني: أن في ذلك عبرا وفوائد لمن يسأل; فإنه خبر يستحق السؤال {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ} شقيقه، {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أي: جماعة; وقوله: {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي: تقديمهما علينا; وقوله: {أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا} أي: ألقوه في أرض بعيدة {يَخْلُ لَكُمْ} وحدكم {وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ
بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} [سورة يوسف آية: 9] أي; تتوبون.
وقوله: {فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ} أي: أسفله. {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} أي: المارة من المسافرين. {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} أي: إن كنتم عازمين على ما تقولون; قال ابن إسحاق: لقد اجتمعوا على أمر عظيم، يغفر الله لهم {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} .
وفيها مسائل: منها: ما نبه الله تعالى عليه أن هذه القصة فيها عبر؛ قال بعضهم: فيها أكثر من ألف مسألة; وفيها: أن الذي ينتفع بالعلم، هو الذي يهتم به ويسأل عنه; وأعظم ما فيها تقرير الشهادتين بالأدلة الواضحة.
وفيها: أن الوالد يعدل بين الأولاد، لئلا تقع بينهم القطيعة، وأن ذلك ليس مختصا بالمال. وفيها: غلط العالم في الأمر الواضح; وتغليطه من لا ينبغي تغليطه، لقولهم:{وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} الآية. وفيها: أن الإنسان لا يغتر بالشيطان، إذا زين له المعصية ومناه التوبة.
وفيها: شاهد للمثل المعروف: بعض الشر أهون من بعض. وفيها: شاهد لقوله: " أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل؛ يبتلى الرجل على قدر دينه "1. وسيأتي بعض ما فيها من المسائل في مواضعه إن شاء الله تعالى.
{قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة يوسف آية: 11-12]، قال ابن عباس وغيره:" {يَرْتَعْ
1 الترمذي: كتاب الزهد (2398) ، ومسند أحمد (1/172)، ومسند الدارمي: كتاب الرقاق (2783) .
وَيَلْعَبْ} :
يسع وينبسط"، وفي قراءة:{نرتع ونلعب} فيه الرخصة في بعض اللعب خصوصا للصغار، وفيه التحفظ على الأولاد، وفيه إرسالهم مع الأمناء الناصحين، وفيه عدم الاغترار بحسن الكلام.
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ [سورة يوسف آية: 13-14]، قال: إنه ليشق علي مفارقته وقت ذهابكم به، لفرط محبته {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [سورة يوسف آية: 13] أي: تشتغلون عنه برميكم ورعيكم، فأخذوها منه، وجعلوها عذرهم; ومن الأمثال: البلاء موكل بالمنطق.
وفيه: أنه لم يتهمهم بما أرادوا، ولكن خاف من التقصير في حفظه. {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ} [سورة يوسف آية: 14] أي: إن عدا عليه فأكله ونحن جماعة، إنا إذا لعاجزون; فيه: الذم لمن ترك الحزم؛ وفيه: أن العجز هلكة.
{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة يوسف آية: 15] هذا فيه تعظيم لما فعلوا أنهم اتفقوا على إلقائه في الجب، وقد أخذوه من أبيه بذلك الكلام; وقوله:{وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} قيل: كان قد أدرك، وقيل: أوحى إليه كما أوحى إلى عيسى ويحيى.
وقوله: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي: "لا يشعرون بأنك
يوسف"، كذا روي عن ابن عباس، وقيل: لا يشعرون بإيحائنا ذلك إليه، وفيه: جواز الذنوب على الصالحين; وفيه: رجاء رحمة الله; وفيه: أن لله سبحانه وقت البلاء نعما عظيمة; وفيه: أن الماكر يصير وبال مكره عليه، ولكن لا يشعر ولو شعر لما فعل.
لما رجعوا إليه باكين إظهارا للحزن على يوسف، اعتذروا باستباقهم وهو الترامي {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ (. وقوله:
{عِنْدَ مَتَاعِنَا} أي: ثيابنا وأمتعتنا; وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أي: لست بمصدقنا ولو كنا صادقين عندك، فكيف مع التهمة؟
وقوله: {بِدَمٍ كَذِبٍ} : نسوا أن يخرقوا القميص، فعرف كذبهم; قوله:{سَوَّلَتْ} أي: زينت أو سهلت; والصبر الجميل الذي لا شكوى معه، وقوله:{تَصِفُونَ} أي: تذكرون.
وفيه من الفوائد: عدم الاعتذار ببكاء الخصم، وعدم الاغترار بزخرف القول، وما يجعل الله على الباطل من العلامات، وفيه: الاستدلال بالقرائن; وفيه: ما ينبغي
استعماله عند المصائب، وهو الصبر الجميل، والاستعانة بالله؛ وأن التكلم بذلك حسن.
{وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [سورة يوسف آية: 19-20] السيارة: الرفقة السائرون، والوارد: الذي يرد الماء يستسقي للقوم، وقوله:{وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} أي: أظهروا أنهم أخذوه بضاعة من أهل الماء.
وقوله: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ} أي: باعوه في مصر بثمن قليل، لأنهم لم يعلموا حاله; وفيه من الفوائد: أن الله يبتلي أحب الناس إليه بمثل هذا البلاء العظيم عليه وعلى أبيه; ومن ذلك البلاء: أنه سلط عليه من يبيعه بيع العبد. وفيه: أنه لا ينبغي للعاقل أن يستحقر أحدا، فقد يكون زاهدا فيه وهو لا يعلم.
{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 21] قال ابن مسعود: "أفرس الناس ثلاثة: العزيز حيث تفرس في يوسف; والمرأة حين قالت: يا أبت استأجره؛ وأبو بكر في عمر".
وقوله: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} أي: كما أنجيناه من كيد إخوته، ومن الجب، وجعلناه عند من يكرمه، مكنا له.
{وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} أي: إنما فعلنا ذلك لحكمة، وهي: إعطاؤنا إياه العلم والعمل.
وقوله: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} أي: الذي يجري ما أراد، لا ما أراد العباد، كما لم يعمل كيدهم في يوسف; وقوله:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 21] ما أعظمها من فائدة لمن فهمها!
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين} [سورة يوسف آية: 22] : تقول العرب: بلغ أشده، أي: منتهى شبابه، قيل: الحلم; وقيل: أكثر من ذلك. قوله: {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} (: العلم: معرفة الأشياء، والحكم: العمل به، وإصابة الحق.
وقوله: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} يعني أن هذا ليس مختصا بيوسف، بل الله سبحانه يجازي المحسنين بخير الدنيا والآخرة، ومن ذلك أنه يجازي المحسنين بإعطائه العلم والحكمة.
{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [سورة يوسف آية: 23] :
فيه مسائل:
الأولى: قوله: {إِنَّهُ رَبِّي} أن هذا جائز في شريعتهم، بخلاف شريعتنا، لأنها لو كانت سمحة في العمل فهي حنيفية في التوحيد.
الثانية: مراعاة حق المخلوق.
الثالثة: شكر نعمة المخلوق، لقوله:{أَحْسَنَ مَثْوَايَ} .
الرابعة: القاعدة الكلية {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} .
الخامسة: التنبيه على عدم مخالطة الخدم للنساء، خصوصا إذا كان في الخادم داعية.
السادسة: معرفة كمال يوسف عليه السلام، فإن صبره لا يعرف له نظير.
السابعة: براءته صلى الله عليه وسلم من الحول والقوة، لقوله:{مَعَاذَ اللَّهِ (: أعوذ بالله، {إِنَّهُ رَبِّي} أي: سيدي {أَحْسَنَ مَثْوَايَ} أي: أكرمني.
الثامنة: أن الاعتذار بحق المخلوق لا بأس به; ولو كان في القضية حق الله; ومعنى: {هَيْتَ لَكَ} أي: أقبل.
{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [سورة يوسف آية: 24] :
فيه مسائل: الأولى: أن الهم الذي لا يقترن به عمل ولا قول، لا يعد ذنبا، كما في الحديث "إن الله تجاوز لهذه الأمة عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل". الثانية: أن الذي صرفه عن ذلك، فضل تفضل الله عليه به تلك الساعة، غير إيمانه الأول؛ وهذه من أعظم ما يعرف الإنسان نفسه.
الثالثة: أن هذا الفضل سببه ما تقدم له من العمل الصالح، فمن ثواب العمل حفظ الله للعبد، كما في قوله:"احفظ الله يحفظك". الرابعة: معرفة قدر الإخلاص، حيث أثنى الله على يوسف أنه من أهله. الخامسة: السابقة التي
سبقت من الله، كما قال أبو عثمان: لأنا بأول هذا الأمر أفرح مني بآخره.
السادسة: أن العباد المضافين إليه، غير الذين قال فيهم:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [سورة مريم آية: 93] . السابعة: صرف الله عنه السوء والفحشاء، فيه رد على ما ذكر بعض المفسرين. الثامنة: أن الصارف له آية من آيات الله أراه إياها. التاسعة: عطف الفحشاء على السوء، قيل: إن السوء الذنوب كلها.
{وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة يوسف آية: 25] : تبادرا إلى الباب، إن سبق يوسف خرج، وإن سبقته أغلقت الباب لئلا يخرج، وقوله:{مِنْ دُبُرٍ} أي: من خلف. {وَأَلْفَيَا} أي: وجدا; سيدها، أي: زوجها، {لَدَى الْبَابِ} أي: عنده.
فيها مسائل: الأولى: حرصه عليه السلام على البعد عن الذنب، كما حرصت على الفعل. الثانية: لطف الله تعالى في تيسيره شق القميص من دبر. الثالثة: كشف الله ستر العاصي فيما يستبعد. الرابعة: شدة مكر النساء، كيف قويت على هذا في هذا الموضع.
الخامسة: التحرز من تظلم الشخص، فربما أنه هو الظالم; والدواء: التأني وعدم العجلة. السادسة: تسمية الزوج سيدا في كتاب الله. السابعة: ما عليه الكفار من
استعظام الفاحشة. الثامنة: الغيرة على الأهل.
{قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [سورة يوسف آية: 26-27] قوله: {مِنْ أَهْلِهَا} أي من أقاربها، وإن كان مع زوجها.
فيه مسائل: الأولى: القيام بالقسط في الشهادة، قد يكون من الكفار، والعجب أنه في مثل هذه الحادثة. الثانية: أن الشاهد إذا كان من قرابات المشهود عليه، فهو أبلغ. الثالثة: الحكم بالدلالات والقرائن.
الرابعة: ذكر الله تعالى ذلك على سبيل التصويب، فيفيد قبول الحق ممن أتى به كائنا من كان. الخامسة: أن مثل هذه القرينة يصح الحكم بها. السادسة: ألطافه تبارك وتعالى في البلوى. السابعة: أن ذكر الخصم مثل هذا عن صاحبه، لا يذم بل يحمد.
{فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [سورة يوسف آية: 28] .
فيه مسائل: الأولى: كون زوجها قبل الحق وصار مع يوسف عليها. الثانية: قلة الغيرة على أهله. الثالثة: أن قوله هذه القضية الجزئية، خارجة عن قضايا كلية. الرابعة: عظمة كيد النساء، وذكره تعالى ذلك غير منكر له، مع قول
النبي صلى الله عليه وسلم:" إنكن لأنتن صواحب يوسف ". الخامسة: أنه لم يحكم عليها إلا بعد ما رأى القد. السادسة: أمره ليوسف بكتمان السر، مع ما أنزله الله في ذلك من التغليظ إلا بأربعة شهداء. السابعة: أمره لها بالاستغفار من الذنب، مع عدم الإسلام. الثامنة: حكمه عليها أنها صارت من هؤلاء المذمومين عندهم.
{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة يوسف آية: 30] : قوله: {فَتَاهَا} أي: عبدها، وقوله:{شَغَفَهَا} الشغاف داخل القلب، أي: دخل حبه في داخل قلبها.
فيه مسائل: الأولى: أن هذا قبيح في عرفهن، ولو لم يكن مسلمات. الثانية: حب المرأة حبا عظيما من هو دون مرتبتها مما يعينه. الثالثة: أنها لم تكتم بل سعت في طلب الفاحشة بالمراودة. الرابعة: أن هذا من مثلها ضلال مبين عندهن.
فيه مسائل:
الأولى: بيان كمال عقلها الذي ينقص عنه أكثر عقول الرجال.
الثانية: ما أعطي يوسف عليه السلام، من جمال الصورة التي تبهر الناظر.
الثالثة: غيبة عقولهن
وعدم إحساسهن بقطع أيديهن، وهذه من أعجب ما سمع.
الرابعة: معرفتهن بالملائكة.
الخامسة: جلالة الملائكة عندهن، وأنهم أكمل من البشر.
السادسة: معنى {حَاشَ لِلَّهِ} في هذا المقام.
السابعة: وصفهن الملك بالكرامة.
{قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} [سورة يوسف آية: 32] .
فيه مسائل:
الأولى: إظهار عذرها لما أصابهن ما ذكر.
الثانية: إقرارها أنها ستعود.
الثالثة: كما أخبرتهن بجماله الظاهر بالحسن، أخبرتهن بجماله الباطن بالعفة.
الرابعة: إخبارها أنها لا صبر لها عنه، فإن لم يفعل سعت في سجنه ومهونته.
الخامسة: معنى {استعصم} امتنع وأبى.
فيه مسائل:
الأولى: فضيلة يوسف عليه السلام، كيف اختار السجن على ما ذكر، مع قوة الدواعي وصرف الموانع، ولا يعرف لأحد نظير هذا.
الثانية: التصريح بأن النسوة دعونه من غير امرأة العزيز.
الثالثة: معرفته عليه السلام بنفسه وبربه; وأن القوة التي فيه لا تنفع إلا أن أمده الله بمدد منه.
الرابعة: أن هذا الكلام دعاء ولو كان بهذه الصيغة.
الخامسة: أن الله سبحانه ذكر أنه استجاب دعاءه، فدعاؤه عليه السلام سبب لصرف ذلك عنه.
السادسة: ختمه سبحانه ما ذكر بوصف نفسه بأنه السميع العليم.
السابعة: استفتاحه الدعاء بربه، وقوله تعالى:{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ} .
الثامنة: إثبات المكر أولا والكيد بعده لهن.
{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [سورة يوسف آية: 35] :
الآية قيل: سبب ذلك أن الحديث شاع في الناس، فأرادوا سجنه إظهارا للناس أنه المذنب {إِلَى حِينٍ} قيل: إلى أن تسكن القضية.
فيه مسائل:
الأولى: أنهم تمالؤوا على ذلك، ليس رأيا لزوجها خاصة.
الثانية: أن تلك الحيلة لم تنفع، بل أظهر الله ما يكرهونه على الرغم منهم.
الثالثة: ابتلاء الله أحب الخلق إليه وهم الأنبياء، بالسجن. الرابعة: أن السبب الذي أظهروا أكبر بلية من السجن، عند أهل المروءات. الخامسة: أن رؤية الآيات، والقطع على المسألة، لا يستلزم اتباع الحق وترك الباطل.
فيه مسائل، ونذكر القصة قبل ذلك.
قيل: إن الملك بلغه أن الخباز يريد أن يسمه، وأن
صاحب شرابه مالأه على ذلك، فحبسهما جميعا، وذلك قوله:{دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} [سورة يوسف آية: 36]، فقال الساقي:{إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [سورة يوسف آية: 36] أي: أعصر عنبا خمرا، وقال صاحب الطعام:{إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [سورة يوسف آية: 36] بتفسيره {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} تأتي الأفعال الجميلة; وقيل: ممن يحسن تعبير الرؤيا.
فيه مسائل:
الأولى عبارة الرؤيا علم صحيح، ذكره الله في القرآن; ولأجل ذلك قيل: لا يعبر الرؤيا إلا من هو من أهل العلم بتأويلها، لأنها من أقسام الوحي.
الثانية: تعبير أكل الطير من الخبز الذي فوق رأس الرجل بما ذكر.
الثالثة: تعبير عصير الخمر بسلامة الذي رآه ورجوعه إلى مرتبته.
الرابعة: فيه دلالة على قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا رأى أحدكم ما يكره فلا يذكرها "، وقوله:"الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت".
الخامسة: أن التأويل في كلام الله ولغة العرب، غير التأويل في عرف المتأخرين، ومعناه ما يؤول الأمر إليه.
السادسة: أنه لا ينبغي للإنسان أن يسأل عن مسائل العلم، إلا من رآه يحسن ذلك.
{َقالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُون َوَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ يَا
صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاّّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 37-40] .
يقول عليه السلام: إني عليم بتعبير الرؤيا هذه وغيرها، فـ {لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} [سورة يوسف آية: 37] قبل إتيانه، فكيف بغير ذلك؟
ففيه مسائل:
الأولى: ذكر العالم أنه من أهل العلم عند الحاجة، ولا يكون من تزكية النفس.
الثانية; إضافة هذه النعمة العظيمة إلى معطيها سبحانه وتعالى، لا إلى فهم الإنسان واجتهاده.
الثالثة: ذكر سبب إكرام الله له بهذا الفضل، وهو الترك والفعل: فترك الشرك الذي هو مسلك الجاهلين، واتبع التوحيد الذي هو سبيل أهل العلم، من الأنبياء وأتباعهم.
الرابعة: ذكره أنه من هؤلاء الأكرمين، فانتسب إلى البيت الذي هو أشرف بيوت أهل الأرض؛ وهذا جائز على غير سبيل الافتخار، خصوصا عند الحاجة.
الخامسة: أنه صرح لهم بأنهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب. السادسة: أن الجد يسمى أبا، كما ذكر ابن عباس، واحتج بالآية على زيد بن ثابت.
السابعة: قوله: {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}
[سورة يوسف آية: 38] :
قيل معناه: أن الله عصمنا؛ وهذه الفائدة من أكبر الفوائد وأنفعها لمن عقلها، والجهل بها أضر الأشياء وأخطرها.
الثامنة: قوله: {مِنْ شَيْءٍ} عام كل ما سوى الله؛ وهذه المسألة هي التي غلط فيها أذكياء العالم وعقلاء بني آدم، كما قال تعالى:{كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [سورة الشورى آية: 13] .
التاسعة: ذكر سبب معرفتهم بالمسألة، وعلمهم بها، وثباتهم عليها; وهو مجرد فضل الله فقط عليهم.
العاشرة: أن فضله سبحانه ليس مخصوصا بنا، بل عام للناس كلهم، لكن منهم من قبله ومنهم من رده، وذلك أنه أعطى الفطر ثم العقول، ثم بعث الرسل وأنزل الكتب.
الحادية عشر: إزالة الشبهة عن المسألة التي هي أكبر الشبه; وذلك أن الله إذا تفضل بهذا كله، خصوصا البيان، فما بال الأكثر لم يفهم ولم يتبع؟ فما أكثر الجاهلين بهذا! وما أكثر الشاكين فيه! فقد ذكر تعالى أن السبب: أن جمهور النار لم يشكر؛ فأما من عرف النعمة فلم يلتفت إليها فلا إشكال فيه، وأما من لم يعرف فذلك لإعراضه، ومن أعرض فلم يطلب معرفة دينه فلم يشكر.
الثانية عشر: دعوته إياهما عليه السلام إلى التوحيد في تلك الحال، فلم تشغله عن النصيحة والدعوة إلى الله، فدعاهما أولا بالعقل، ثم بالنقل، وهي: الثالثة عشر، الرابعة عشر: قوله: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ
الْقَهَّارُ} [سورة يوسف آية: 39] :
فهذه حجة عقلية، شرحها في قوله تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} [سورة الزمر آية: 29] الآية.
الخامسة عشر: أن الذي في الجانب الآخر، هو الذي جبلت القلوب، وأقرت الفطر أنه ليس له كفو.
السادسة عشر: أنه هو القهار، مع كونه واحدا، وما سواه لا يحصيهم إلا هو، فهذه قوته; وهذا عجزهم فكيف يعدل به واحد منهم أو عشرة أو مائة؟ ! .
السابعة عشر: بيان بطلان ما عبدوا من دونه، بأنها أسماء لا حقيقة لها.
الثامنة عشر: التنبيه على بطلانها بكونها بدعة ابتدعها من قبلكم فتبعتموهم.
التاسعة عشر: بيان الواجب على العبد في الأديان، السؤال عما أمر الله به ونهى عنه، وهو السلطان المنزل من السماء؛ لا يعبد بالظن وما تهوى الأنفس.
العشرون: القاعدة الكلية التي تفرع عنها تلك الجزئية، وهي: أن أحكام الدنيا إلى الله، لا إلى آراء الرجال، كما قال تعالى:{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [سورة الشورى آية: 10] .
الحادية والعشرون: إذا ثبت أن الحكم له وحده، دون الظن وما تهوى الأنفس، فإنه سبحانه حكم بأن العبادة كلها محصورة عليه، ليس لأحد من أهل السماء وأهل الأرض منها شيء.
الثانية والعشرون: أن هذه المسألة هي الدين القيم، وكل ما خالفها أو ليس منها فليس بقيم، بل أعوج; فعلامة
الحق: أن العقول السليمة تعرف اعوجاجه بالفطرة; ومع هذا أنزل الله السلطان من السماء، بتحقيق هذا والإلزام به، وتبطيل ذلك، وتغليظ الوعيد عليه.
الثالثة والعشرون: المسألة الكبيرة العظيمة، التي لو تجعلها نصب عينيك ليلا ونهارا، لم يكن كثيرا، وأيضا تبين لك كثيرا من المسائل التي أشكلت على الناس، وهي: أن الله بين لنا بيانا واضحا، أن الأكثر والجمهور الذين يضيقون الديار، ويغلون الأسعار، من أهل الكتاب والأميين، لا يعلمون هذه المسألة، مع إيضاحها بالعقل والنقل والفطرة، والآيات النفسية والأفقية.
الرابعة والعشرون: أنه ينبغي للعالم إذا سأله العامي عما لا يحتاج إليه، أو سأله عما غيره أهم منه، أن يفتح له بابا إلى المهم.
الخامسة والعشرون: أنك لا تحقر عن التعليم من تظنه أبعد الناس عنه، ولا تستبعد فضل الله، فإن الرجلين من خدام الملوك الكفرة، بخلاف من يقول: ليس هذا بأهل للعلم; تعليمه إضاعة للعلم.
وقال رحمه الله، على قوله حكاية عن يوسف:{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ} [سورة يوسف آية: 39] الآية، دعاهم يوسف عليه السلام إلى التوحيد بأنواع من الأدلة.
أحدها: أنه ذكر أن هذا العلم الذي تميز به عليهما وعلى غيرهما أنه من تعليم ربه إياه، فالذي يعطي ويمنع، هو الذي يستحق العبادة.
الثاني: أنه حكيم يضع العطاء مواضعه،
فشرفني بسبب ترك الشرك وفعل التوحيد.
الثالث: أن ذلك الفعل والترك، هو ملة الأنبياء.
الرابع: أن الشرك لم يرخص فيه لأحد من الأنبياء، كما قد يرخص في غيره.
الخامس: أنه منفي عما سوى الله، فليس يصح منه شيء لغيره، ولو علت درجته.
السادس: أن الهداية إلى ذلك مجرد منة الله على العبد، وهو أفضل النعم.
السابع: أن الله إذا يسر لك المعلم لذلك، فهو من فضله عليك.
الثامن: أن الإسلام واتباع ملة الأنبياء، هو العلم بذلك والعمل به، لا مجرد العلم.
التاسع: أنه ذكر لهم ما يحرضهم على القبول، وهو: أن الداعي من أهل ذلك البيت.
العاشر: أن مع هذا البيان الواضح، أكثر الناس لا يشكر.
ثم قرره بالأدلة العقلية، وذلك من وجوه:
الأول: أن الله خير من المخلوق.
الثاني: أنه واحد، وأولئك أرباب متفرقون.
الثالث: أنه قهار وهم عاجزون.
الرابع: العجب العجاب إعراضكم عنه، وإقبالكم على أسماء لا حقيقة لها.
الخامس: أن تلك الأسماء، أنتم ابتدعتموها.
السادس: نفي الأدلة عنها، وهي: إنزال الله الحجة بذلك.
السابع: تقرير القاعدة الكلية، أن أمر التشريع إلى الله، لا إلى غيره.
الثامن: إثبات أن الذي له الحكم، حكم بهذا وألزم به، واختص به عن جميع ما سواه.
التاسع: أن هذا هو الدين الصحيح فقط.
العاشر: أنه مع
وضوحه بالنقل والعقل وغير ذلك، لا يعلمه إلا القليل.
وأما الآية التي بعدها، ففيها مسائل:
الأولى: التنبيه على الحكمة فيما تقدم.
الثانية: أن الإسلام بعض الإيمان.
الثالثة: أن هذه الدعوة فيها من الحسن والوضوح، أمر لا يتولى عنه إلا المشاق.
الرابعة: الوعيد لمن فعل.
الخامسة: أن ملاطفة الخصم، والدخول معه فيما لعلك تكرهه، قد يكون سببا لهدايته.
السادسة: أن ذلك قد يكون سببا لنصرك عليه إن لم يهتد.
السابعة: أنه سبب لكفاية الله إياك أمره.
الثامنة: أن المثل هو الشيء بعينه.
التاسعة: ختم ما تقدم بالصفات.
وأما التي بعدها، ففيها مسائل:
الأولى: إضافة الصبغة إلى الله.
الثانية: أن صبغتة لا أحسن منها.
الثالثة: أن ذلك لا يستلزم التشبيه.
الرابعة: ما فيه من البرهان الواضح.
الخامسة: ما فيه من إزالة الشبه الفواضح.
السادسة: أن هذا من القول الذي أمرنا به.
السابعة: ذكر العبادة بعد ذكر الإسلام.
الثامنة: إخلاصها.
وأما التي بعدها، ففيها مسائل:
الأولى: الأمر بقول ماذا لهم.
الثانية: أن الكفار يدعون التقرب إلى الله بما هو أقبح شيء.
الثالثة: أنهم يعتقدون في أحسن الأشياء أنها قبيحة، لا يتقرب بها إليه.
الرابعة: الرجوع إلى العقل الصريح، الذي لا يجادل فيه إلا مكابر; وهو أنا إذا تساوينا في هذه الحجة في الأوليين، واختلفنا في الثالثة، فكيف
يشكل عليكم؟ أو كيف تجسرون على المكابرة؟ .
الخامسة: الإتيان باستفهام الإنكار.
وقال أيضا: قال شيخ الإسلام، قوله:{إِنْ هِيَ إِلاّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [سورة النجم آية: 23] إلخ: أخبر أنهم ابتدعوا أسماء لا حقيقة لها، فيعبدون أسماء لا مسميات; لأنه ليس في المسميات من الألوهية ولا العزة والتقدير شيء، ولم ينزل الله بهذه الأسماء سلطانا.
وقال رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [سورة يوسف آية: 41] : سبق ما في هذا من المسائل. لكن فيه ما لم يذكر، منها: أن المفتي يجوز له أو يستحب أن يفتى السائل بما لا يحتاج إليه. ومنها: أنه يجيب السائل بما يسوؤه إذا كانت الحال تقتضيه. ومنها: تأكيد الفتيا بما يسوء، بما ذكر من قضاء الله على ذلك.
{وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [سورة يوسف آية: 42] يعني: قال يوسف للساقي الذي ظن نجاته; قيل: الظن هنا هو اليقين; وقوله: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} أي: الملك. {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ} أي: أنسى الشيطان يوسف ذكر الله; والبضع: ما بين الثلاث إلى التسع.
فيه مسائل: الأولى: أن الرب كما يطلق على المالك،
يطلق على المخدوم.
الثانية: أن مثل هذا مما يعاقب به الأنبياء، مع كونه جائزا لغيرهم.
الثالثة: أن المقرب قد يؤاخذ بما لا يؤاخذ به من دونه.
الرابعة: أن الشيطان قد يتوصل إلى الأنبياء بمثل هذا.
الخامسة: أن ترك هذا القول والاستغناء بالله، من التوكل.
السادسة: أن من المقامات ما يحسن من شخص، ويلام في تركه ويذم من شخص آخر، كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أراد الاقتداء به في الوصال، وقال:" إني لست كهيئتكم ".
السابعة: أن هذا من أبين أدلة التوحيد لمن عرف أسباب الشرك بالمقربين، وهو أبلغ من قوله صلى الله عليه وسلم:" يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئا " وتمامها بمعرفة
الثامنة: وهي أن الله عاقبه باللبث في السجن هذه المدة الطويلة، مع أن لبث الإنسان فيه سنة واحدة من العذاب الأليم، فكيف بشاب ابن نعمة؟.
{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي
أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [سورة يوسف آية: 43-49] .
فيه مسائل:
الأولى: تسمية الله ذلك الرجل بالملك.
الثانية: أن الذي سأله عنه هو البقر، والسنابل.
الثالثة: أنه استفتى الملأ وهم الأشراف، ولكن بشرط إن كان عندهم علم.
الرابعة: جوابهم بقولهم: {أضغاث أحلام} [سورة يوسف آية: 44] يدل على: أن مما يراه النائم فيه رؤيا حق، وفيه أضغاث أحلام باطلة; وقد صح بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الخامسة: إقرارهم بعدم العلم بالتعبير، ولم يأنفوا مع أنهم الملأ.
السادسة: كلام الساقي وحذقه: كونه قطع أنها رؤيا، وأن عند يوسف تعبيرها.
السابعة: قوله: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [سورة يوسف آية: 45] أي: دهر; فيه: أن الدهر يسمى أمة.
الثامنة: أنه لم يذهب مع تحققه ما طلب الملك، إلا بعد الاستئذان.
التاسعة: قوله: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [سورة يوسف آية: 46] يدل على أنه يعرف معنى الصديقية; وأنه عرف اتصاف يوسف بذلك.
العاشرة: أنه ذكر ليوسف العلة، وهي: علم الناس بما أشكل عليهم.
الحادية عشر: أنه عبر البقر السمان بالسنين المخصبة، والبقر العجاف بالسنين المجدبة، وأكلها السمان كون غلة
السنين المخصبة يأكلها الناس في السنين المجدبة، وكذلك السنابل الخضر واليابسات، قيل: إنه رأى سبع سنابل خضر قد انعقد حبها، وسبعا أخر يابسات قد استحصدت، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليهن.
الثانية عشر: أنه أجاب السائل بأكثر مما سأله عنه، خلافا لمن جعل هذا من عدم الأدب.
الثالثة عشر: كرمه وطيب أخلاقه عليه السلام، كما قال بعض السلف: لو كنت المسؤول، ما أجبتهم إلا بكذا وكذا.
الرابعة عشر: معرفته عليه السلام بأمور الدنيا، وأن الحب إذا كان في سنبله لم تأته الآفة ولو لبث سنين.
الخامسة عشر: أنه أمرهم بتدبير المعيشة لأجل السنين الجدب، ولا يأكلون إلا قليلا.
السادسة عشر: أنه فهم من الرؤيا أن الخصب يأتي بعد سبع سنين.
السابعة عشر: ادخار الطعام للحاجة، وأنه لا يصير من الاحتكار المذموم؛ وكان صلى الله عليه وسلم يدخر لأهله قوت سنة.
الثامنة عشر: النصيحة ولو لغير المسلمين، كما قال صلى الله عليه وسلم:"في كل كبد رطبة أجر"، وأما المسلم فنصحه من الفرائض.
التاسعة عشر: أن الرؤيا الصحيحة، قد تكون من كافر، كما استدل بها البخاري في صحيحه.
العشرون: الفرق بين الحلم والرؤيا كما قال: " الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان ".
الحادية والعشرون: التعبير عن الماضي بالمضارع; والعجاف ضد السمان; والملأ كبار القوم ورؤوسهم، و {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} : أخلاط وأباطيل. {وَادَّكَرَ} تذكر شأن يوسف {دَأَبًا:} .متوالية {تُحْصِنُونَ (: تخزنون. {يَعْصِرُونَ} قيل: من العنب عصيرا، ومن الزيتون زيتا، ومن السمسم دهنا، للخصب الذي أتاهم.
فيه مسائل:
الأولى: أمر الملك بالإتيان به، ليأخذ عنه مشافهة، وكذلك يفعل العقلاء والسفهاء، في الأمر الذي يهتمون به.
الثانية: أن طلب العلم الذي يزحزح عن النار ويدخل الجنة، أحق بالحرص من جميع المهمات.
الثالثة: هذا الأمر العظيم الذي لم يسمع بمثله، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:" لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي ".
الرابعة: قوله: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} .
الخامسة: قوله: {النِّسْوَةِ} قيل: لم يفرد امرأة العزيز،
أدبا وحفظا لحق الصحبة.
السادسة: قوله في هذا الموطن: {رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [سورة يوسف آية: 50] .
السابعة: قوله: {حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} فيه رد لبعض الأقوال التي قيلت في الهم.
الثامنة: قوله: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} .
التاسعة: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} هذا علة لما جرى، سواء كان رد الرسول أو إقرارها; فإن كان الأول، فالضمير للعزيز زوج المرأة; وإن كان الثاني فالضمير ليوسف.
العاشرة: رد هذه المسألة الجزئية إلى القاعدة الكلية، وهي:{وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} أي: لا يرشد كيد من خان أمانته، قيل: يفتضح في العاقبة.
الحادية عشر: قوله: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} ما أجلها من مسألة، وما أصعب فهمها! سواء كان هذا من كلام امرأة العزيز، أو من كلام يوسف عليه السلام.
الثانية عشر: رد هذه المسألة الجزئية إلى القاعدة الكلية، وهي: أن هذا حال النفس.
الثالثة عشر: الاستثناء من ذلك، وهو من رحمه الله فأجاره من شر نفسه، كذلك ما أجلها من مسألة لمن فهمها!
الرابعة عشر: رد هذه المسألة الجزئية إلى القاعدة الكلية، وهي:{إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} قوله: {فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} قيل معناه: اسأله أن يكشف عن الخبر حتى يعلم الحقيقة، ففيه المسألة.
الخامسة عشر: وهي حرص المخلص لله على براءة
عرضه عند الناس، وأن ذلك لا يناقض الإخلاص، بل قد يكون واجبا، ولم يعتب عليه في هذا كما عتب عليه، في قوله:{اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} قيل: إن {ما} في هذا الموضع بمعنى "عن" قوله: {مَا بَالُ} ما شأن النسوة {ما خطبكن} ما أمركن وقصتكن؟ قوله: {حَصْحَصَ الْحَقُّ} ظهر وتبين {الآنَ} أي هذا الوقت.
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ، قال اجعلني على خزائن الارض إني حفيظ عليم} [سورة يوسف آية: 54-55] .
فيه مسائل:
الأولى: {أستخلصه لنفسي} أي: أجعله خالصا لي دون غيري، كما يقال: الرفيق قبل الطريق; وكما قال: "لينظر أحدكم من يخالل".
الثانية: وهي أعجب، قوله:{فلما كلمه} وبيانه: لما دخل بعض العلماء على بعض الملوك، وكان دميما فضحك الملك من دمامته، فذكر له هذه الآية، واستحسن الملك جوابه، ومعنى هذا: أن الملك لم يتمكن من قلبه، لما رأى جمال صورته; بل لأجل علمه الذي تبين له لما كلمه.
الثالثة: قوله: {إنك اليوم لدينا} أي: عندنا {مكين} أي: مكنتك من ملكي تصرف فيه {أمين} أي: عرفت صحة أمانتك، فأمنتك على ما تحت يدي؛ وهذا معنى قول أبي العباس: الولاية لها ركنان: القوة والأمانة، كما في الآية
الأخرى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} .
الرابعة: قوله: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} هذا فيه طلب الولاية، كما قال عمر بن الخطاب لبعض الصحابة، لما عرض عليه ولاية فأبى، فقال:"طلبها من هو خير منك" يعني يوسف عليه السلام; ولا يخالف هذا ما ورد من النهي عن طلب الإمارة، لأن هذا في غير شدة الحاجة، كما أن خالدا لما أخذ الراية يوم مؤتة من غير إمرة، مدح على ذلك.
الخامسة: قوله: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} فليس هذا مما نهي عنه من تزكية النفس; بل يذكر الإنسان ما فيه من الفضائل عند الحاجة، إذا لم يقصد التزكية، كما ورد عن جماعة من الصحابة. قوله:{خَزَائِنِ الْأَرْضِ} أي: أرض مصر; وقوله: {إِنِّي حَفِيظٌ} أي: أحفظ ما وليتني عليه {عَلِيمٌ} بأمره وحسابه واستخراجه.
{وكذلك مكنا ليوسف في الارض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين، ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون} [سورة يوسف آية: 56-57] .
فيه مسائل:
الأولى: قوله {وكذلك مكنا ليوسف في الارض} قيل معنى ذلك: كما أنعمنا عليه بنعم الدين، أنعمنا عليه بنعم الدنيا.
الثانية: أن ذلك تمكينه في أرض مصر،
يحل وينزل منها ما أراد، بعد ذلك الحبس الضيق.
الثالثة: تسمية الله سبحانه ذلك رحمة، في قوله:{نصيب برحمتنا من نشاء} وهذه من أشكل المسائل على أكثر الناس؛ بعضهم يظن أن هذا كله نقص، أو مذموم، وأن التجرد من المال مطلقا هو الصواب; وبعض يظن أن عطاء الدنيا يدل على رضى الله، وكلاهما على غير الصواب; وذلك: أن من أنعم الله عليه بولاية أو مال، فجعلها طريقا إلى طاعة الله فهو ممدوح، وهو أحد الرجلين الذين يغبطهم المؤمن; وإن كان غير هذا فلا.
الرابعة: أن هذه الأمور وإن جلت وصارت أعلى المراتب، وأصعبها طريقا، فتحصيلها مردود إلى محض المشيئة، لا إلى الأسباب.
الخامسة: رد هذه المسألة الجزئية، إلى القاعدة الكلية، وهي:{إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا} .
السادسة: أن من عدم إضاعته، أنه يعجل في الدنيا بعضه لمن أراد الله، كما قال تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} .
السابعة: أن الأجر الثاني لمن أحسن، خير من ملك يوسف وسليمان بن داود.
الثامنة: قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (: فالإيمان يدخل فيه الدين كله; وأيضا يدخل كله في التقوى; وأما إذا فرق بينهما كما هنا، فالإيمان الأمور الباطنة، والتقوى
الأمور الظاهرة; وإذا قلت: الإيمان فعل الواجبات، والتقوى ترك المحرمات، فقد أصبت.
قيل: لما اطمأن يوسف في ملكه، ومضت السنون المخصبة ودخلت السنون المجدبة، وأصاب الشام من القحط ما أصاب غيرهم، فأرسل يعقوب بنيه إلى مصر، وأمسك بنيامين عنده. {فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ} قيل: كان بين دخولهم عليه وإلقائه في الجب أربعون سنة، فلذلك لم يعرفوه.
فقال: أخبروني ما أمركم؟ فقالوا: نحن قوم من أرض كنعان، جئنا نمتار طعاما، قال: كم أنتم؟ قالوا عشرة، قال: أخبروني خبركم؟ قالوا: إنا إخوة بنو رجل صديق، وإنا كنا اثني عشر، فذهب أخ لنا معنا في البرية فهلك فيها، وكان أحب إلى أبينا منا. فقال: فإلى من يسكن أبوكم بعده؟ قالوا: أخ لنا أصغر منه، فذلك قوله:{وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} يقال: جهزت القوم إذا هيأت لهم جهاز السفر; وحمل لكل رجل منهم بعيرا، وقال: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ
الْمُنْزِلِينَ}
المضيفين; قيل: إنه أحسن ضيافتهم، ثم أوعدهم على ترك الإتيان بالأخ، فقال:{فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ} .
وقوله: {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} [سورة يوسف آية: 62] إلى قوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} الرحل: كل ما يعد للرحيل، من وعاء المتاع، ومركب للبعير، وحلس وغير ذلك; قيل مراده: أنهم يعرفون كرمه، فيحملهم على العود; وقيل: خاف أن لا يكون عندهم ما يرجعون به.
فيه مسائل:
الأولى: كون القحط عم البلاد، لم يكن على مصر خاصة.
الثانية: إنكارهم إياه، ومعرفته لهم.
الثالثة: حيلته في التوصل إلى إتيان أخيه.
الرابعة: كونه ما فعل معهم حثهم على الإتيان به.
الخامسة: أن هذا ليس من تزكية النفس المذموم.
السادسة: أن هذا ليس من المن والأذى المذموم.
السابعة: أن قوله: {فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ} ليس من منع المضطر المذموم.
الثامنة: ما صنع الله له من إذلالهم بين يديه، وذلك أنه وعدوه أنهم يراودون أباه، وأكدوا ذلك له بالعزم على الفعل.
التاسعة: أمره الفتيان بجعل بضاعتهم في رحالهم، والحكمة في ذلك: أنهم إذا رجعوا إلى أهلهم، وفتحوا المتاع، ووجدوها ردت إليهم، رجعوا.
{فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ
فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاّ كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [سورة يوسف آية: 63-64] .
فيه مسائل:
الأولى: أنهم وفوا ليوسف بما وعدوه.
الثانية: أنهم ذكروا لأبيهم ما يقتضي الإجابة، وهو منع الكيل.
الثالثة: أن هذا مما يدل على أنهم لا غناء لهم عن التردد إلى الميرة.
الرابعة: أنهم وعدوه حفظه، وأكدوه بإن واللام.
الخامسة: جوابه عليه السلام لهم، فيدل على قوله:" لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ".
السادسة: أن من أساء فعله ساء الظن فيه، ولو لم يكن كذلك.
السابعة: أنهم لما ذكروا له أنهم يحفظونه أكدوا، فأجابهم بقوله:{فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا} .
الثامنة: أنه أجابهم أيضا بكون الله أرحم الراحمين.
التاسعة: ذكرك للممنوع سبب منعك إياه.
العاشرة: أنه فعلكم، كقوله:{قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} .
{وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} [سورة يوسف آية: 65] إلى قوله: {قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [سورة يوسف آية: 66] .
فيه مسائل:
الأولى: استعطاف الممتنع بالخصال التي توجب إجابته.
الثانية: أنهم لم يعلموا أنها ردت إليهم، حتى وصلوا إلى أهلهم وفتحوا المتاع.
الثالثة: ذكرهم له
حاجة الضعفاء والذرية إلى الكيل.
الرابعة: أنهم يزدادون حملا آخر على ما أتوا به.
الخامسة: ذكرهم الثناء على يوسف، بأن الحمل عليه يسير لكرمه، مع شدة حاجتنا إليه وغلاء ثمنه.
السادسة: أنه عليه السلام لما ذكروا له ذلك رجع عن رأيه الأول، ورأى إجابتهم.
السابعة: أنه شرط عليهم هذا الشرط الثقيل.
الثامنة: أنهم أعطوه إياه على ثقله.
التاسعة: أنهم لما آتوه الموثق، وعظهم وأكده عليهم، بقوله:{قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيل} .
العاشرة: أن هذا يدل على أنهم في جوع وضراء عظيمة، وهم أكرم أهل الأرض على الله، وابتلاهم بذلك لا لهوانهم عليه. وقوله:{مَا نَقُولُ} قيل: أي شيء نريد، وقد ردت بضاعتنا؟ {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} أي: نأت لهم بالطعام، يقال: مار أهله إذا أتاهم بطعام، قوله:{إِلاّ أَنْ يُحَاطَ} أي: يأتيكم أمر يهلككم.
{وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ} [سورة يوسف آية: 67] إلى قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 68] .
فيه مسائل:
الأولى: خوفه عليهم من العين.
الثانية: أمره لهم بالسبب الذي يمنع، ونهيهم عما قد يكون سببا لوقوعها.
الثالثة: أنه مع فعل السبب تبرأ من الالتفات إليه.
الرابعة: أنه دلهم على عدم الالتفات إلى التهمة.
الخامسة: أنه دلهم على التوكل على الله.
السادسة: أنه أخبرهم أنه توكل عليه وحده لا شريك له، لا على علمه وفطنته; ولا على السبب الذي أمرهم به.
السابعة: أنه أخبرهم أن توكل المتوكلين كلهم على الله، فمن توكل على غيره فليس منهم.
الثامنة: خبره تعالى أنهم قبلوا وصية أبيهم وعملوا بها، فتفرقوا على الأبواب لما أرادوا دخول البلد.
التاسعة: أن ذلك لا يغني عنهم شيئا من الله لو يريد بهم شيئا.
العاشرة: الاستثناء، وهو: أن ذلك التعليم من الرجل الحكيم المصيب، وقبول المنصوح وعمله بالنصيحة التي هي سبب، لو أراد الله أن العين تصيبهم أصابتهم ولو تفرقوا على الأبواب، حضا للعباد على الاعتماد عليه لا على الأسباب.
الحادية عشر: ثناؤه على يعقوب بأنه ذو علم لما علمناه، قيل معناه: عامل بما علمه; وهو يدل على أن العلم الذي لا يثمر العمل لا يسمى علما.
الثانية عشر: ذكره أن {أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} .
{وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} [سورة يوسف آية: 69] الآية قيل: إنه قال لهم: يصير كل اثنين جميعا، فبقي أخاه وحده فآواه إليه، فقال له:{إني أناأخوك} [سورة يوسف آية: 69] قيل: إنه أخبره الخبر; وقيل: المراد أخوة المحبة. {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ}
إلى قوله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [سورة يوسف آية: 70-76] .
فيه مسائل:
الأولى: كونه عليه السلام احتال بهذه الحيلة; ولا حجة في هذا لأهل الحيل الربوية، لأن ذلك مما أذن الله فيه ليوسف عليه السلام; وإلا لو يفعل ذلك الآن رجل مع أبيه وإخوته حرم إجماعا.
الثانية: قوله: {أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} [سورة يوسف آية: 70] المنادي بصوت رفيع يسمى مؤذنا; قوله: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [سورة يوسف آية: 70] قيل: فيه جواز المعاريض، إن أراد بذلك أنهم سرقوه من أبيه، فإنه لم يقل سرقتم الصواع.
الثالثة: قوله: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} [سورة يوسف آية: 72] : فيه جواز بذل الأجرة لمن جاء بالسرقة.
الرابعة: وهي قوله: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [سورة يوسف آية: 72] : استدل به على صحة الضمان ولزومه.
الخامسة: قوله: {تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ} [سورة يوسف آية: 73] فيه جواز الحلف على مثل هذا، مع أن العلم في القلب، لكن بعض ما في القلب يعرف بالقرائن، أي: ما جئنا بهذا; وما هذا بفعلنا; وما يصلح منا، ولسنا أهلا له.
السادسة: أن السرقة ونحوها من الفساد في الأرض; قوله: {فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} [سورة يوسف آية: 74] قيل في شرعهم: استعباد السارق هو لهم كالقطع في شرعنا، فلهذا {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [سورة يوسف آية: 75] .
السابعة: بداءته بأوعيتهم إبعادا عن تهمته، وذلك من كيد الله له.
الثامنة: قوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ
الْمَلِكِ} [سورة يوسف آية: 76] .
أي: حكمه على السارق غير ذلك، ولكن الله دبر ما جرى نصرة ليوسف؛ لأنهم ظلموه، فكاد له كما كادوا أباهم.
التاسعة: قوله: {إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [سورة يوسف آية: 76] أي: ما جرى على ألسنتهم من ذلك القول الذي حكموا به على أنفسهم، فأخذه بفتياهم، وذلك من مشيئة الله.
العاشرة: كونه سبحانه فاوت بين عباده تفاوتا عظيما، حتى الأنبياء، ورفع بعضهم فوق بعضهم درجات.
الحادية عشر: التنبيه على أن ذلك لا يكون إلا بمشيئة الله.
الثانية عشر: أن رفع الدرجات الذي ينافس فيه، هو رفعها بالعلم.
الثالثة عشر: أنه ذكر أن كل عالم فوقه أعلم منه، حتى ينتهي العلم إلى الله سبحانه.
{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ} [سورة يوسف آية: 77] إلى قوله: {تَصِفُونَ} : فيه مسائل:
الأولى: إبطال قياس التشبيه.
الثانية: أن تعيير غيرك بذنب قد فعلت أكبر منه غير صواب، كما في قوله:{يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [سورة البقرة آية: 217] الآية.
الثالثة: كون المظلوم المرمى بشيء خفي، يتعزى بعلم الله تعالى.
{قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} [سورة يوسف آية: 78] إلى قوله: {إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ} [سورة يوسف آية: 79] .
فيه مسائل:
الأولى: بيان مبالغتهم في حفظ أخيهم.
الثانية: جواب يوسف يدل على أن السرقة تثبت بوجود المسروق عند الرجل.
الثالثة: أن من وجب عليه الحد، لو بذل غيره نفسه عنه، لم يحل.
الرابعة: أن الرجل يثبت أنه ظالم بفعلة واحدة.
الخامسة: أنهم عرفوا فيه من العدل والإحسان، ما فهموا أنه من المحسنين.
السادسة: استشفاعك على غيرك بما فيه من الخصال الحميدة.
السابعة: المعاريض، فإنه عليه السلام لم يقل إنه سارق.
الثامنة: إبطال استدلال أهل الحيل المحرمة، فإن هذا يدل على أنه إنما أخذه برضاه، أو بوحي خاص.
التاسعة: أن المظلوم يجوز له أن يعامل من ظلمه بما لا يحل أن يعامل به غيره.
العاشرة: أن هذا يدل على أن أهل مصر لم يعرفوا يعقوب معرفة تامة.
فيه مسائل:
الأولى: أنهم بالغوا حتى استيأسوا منه.
الثانية: ثقل الأمر عليهم، كما فعل كبيرهم.
الثالثة: أنه ذكر أنه على هذه الحال، إلى أن يأذن له أبوه، أو يحكم الله له; فإنه سبحانه يحكم لك أو عليك.
الرابعة: رد هذه المسألة الجزئية، إلى القاعدة الكلية، وهي: معرفة أن الله خير الحاكمين.
الخامسة: الشهادة على
الرجل بالسرقة، إذا وجد المسروق عنده.
السادسة: أن هذه شهادة بعلم، مع كونهم ما علموا إلا القرينة.
السابعة: الاعتذار بعدم علم الغيب.
الثامنة: الرجوع إلى الجيران، وأهل الخبرة في الأمور الخفية.
التاسعة: تسميته المدينة قرية.
العاشرة: اتهام المتهمين، كما ذكر النعمان بن بشير.
الحادية عشر: التعزي بالعزم على الصبر الجميل، عند توالي المصائب.
الثانية عشر: الرجوع إلى الله في تفريج الكرب.
الثالثة عشر: رد هذه المسألة الجزئية، إلى القاعدة الكلية، وهي قوله:{إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} .
{وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [سورة يوسف آية: 84] إلى قوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 86] : فيه مسائل:
الأولى: التولي عن مثل هؤلاء، كما قال:{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} [سورة الصافات آية: 174] .
الثانية: قوله: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [سورة يوسف آية: 84] أن الكلام إذا لم يكن فيه جزع، لم يناف الشكوى.
الثالثة: ذكر الله تعالى كبر مصيبته: أنه ابيضت عيناه من البكاء، وابتلي بسنين كثيرة.
الرابعة: العبرة فيما ذكر، كما قال الحسن: لقد ابتلي بهذا تلك المدة الطويلة; وإنه لأكرم أهل الأرض على الله.
الخامسة: تسمية البكاء حزنا، لأنه نشأ عنه.
السادسة: وصفه بأنه كظيم، أي: أنه كاظم لحرارة المصيبة لا يشكو.
السابعة: معاتبتهم له على الحزن، مع مصيبة طال العهد بها.
الثامنة: جوابه لهم عليه السلام، وهو يدل على أن الشكوى إلى الله لا تنافي الصبر، بل هي ممدوحة، كما ذكر عن أيوب.
التاسعة: إخبار الرجل بنيتة الصالحة، إذا احتاج أو انتفع السامع، ولا محذور في ذلك.
العاشرة: قوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة يوسف آية: 86] كيف صار هذا جوابا لهم.
الحادية عشر: قيل معناه: أعلم من صفات الله ورحمته ولطفه ما لا تعلمون; وقيل: إن يوسف لم يمت.
الثانية عشر: أن هذا في مثل هذا المقام ليس من الفخر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" أنا سيد ولد آدم ولا فخر"1.
{يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [سورة يوسف آية: 87] الآية.
فيه مسائل:
الأولى: أمره لهم بالتحسس عن يوسف، مع استبعادهم ذلك; والتحسس: البحث والطلب.
الثانية: نهيهم عن اليأس من روح الله.
الثالثة: وهي العظيمة، أنه قد يقع اليأس من روح الله في مثل هذه القضية.
الرابعة: إخباره بقدر هذا الذنب، بأنه لا يصدر من مسلم، بل لا يكون إلا من كافر. وروح الله: رحمة الله.
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} [سورة يوسف آية: 88] إلى قوله: {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} سورة يوسف آية: 93] .
فيه مسائل:
الأولى: قولهم {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ} أن الإخبار بالحال من غير شكوى لا يذم.
الثانية: ما ابتلى الله به أهل هذا البيت من الجوع المضر، وهم أكرم أهل الأرض
1 ابن ماجه: الزهد (4308) .
على الله.
الثالثة: ذكرهم قدر السلعة التي معهم أنها ناقصة رديئة، وليس هذا من ازدراء النعمة المذموم.
الرابعة: سؤالهم عند الحاجة، فيدل على أن مثل هذه الحال لا يذم.
الخامسة: سؤالهم الصدقة، فيدل على أنها غير محرمة عليهم.
السادسة: رد هذه المسألة الجزئية إلى القاعدة الكلية، وهي:
السابعة: {إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} .
الثامنة: قوله: {هَلْ عَلِمْتُمْ} الآية، يدل على أن مثل هذا التقريع ليس بمذموم.
التاسعة: أنه عليه السلام ذكر في التقريع ما يهونه عليهم.
العاشرة: استثباتهم أنه يوسف مع رؤيتهم له، وذلك لاستبعادهم ذلك.
الحادية عشر: قوله: {أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي (: يدل على أنهم فعلوا مع أخيه ما لا يحسن.
الثانية عشر: وهي قوله: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا (: إسناد النعمة إلى مسديها في مثل هذا الموطن.
الثالثة عشر: رد هذه المسألة الجزئية إلى القاعدة الكلية، وهي قوله:{إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} .
الرابعة عشر: الجمع بين التقوى والإيمان، ومعرفة الإيمان، ومعرفة الفرق بينهما.
الخامسة عشر: أن من جمع بينهما فهو من المحسنين.
السادسة عشر: قوله: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} الآية; أقروا باثنتين: بفعل الله مع يوسف، وفعلهم من أنفسهم.
السابعة عشر: انتصار الله له هذا الانتصار العظيم.
الثامنة عشر: إذلاله إياهم هذا الإذلال العجيب.
التاسعة عشر: قوله: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} أي: لا تعيير عليكم، يعني: إني عفوت، ومن عفوي أني لا أذكر لكم ذنبكم بعد اليوم.
العشرون: استغفاره لهم، لما غفر لهم حقه، سأل الله لهم المغفرة.
الحادية والعشرون: رد هذه المسألة الجزئية إلى القاعدة الكلية، وهي: الثانية والعشرون.
الثالثة والعشرون: تصديق القلب بأن الله أرحم الراحمين.
الرابعة والعشرون: أن الذي خافوا منه، واشتد عليهم حتى فعلوا بأخيهم وأبيهم ما فعلوا، وظنوا أنه عليهم مضرة كبيرة، وهو كون يوسف أرفع منهم، صار أكبر المصالح لهم في دنياهم وفي دينهم، يبينه:
الخامسة والعشرون: وهي قوله: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا} الآية، ذكر أنه قميص هبط به جبريل على إبراهيم حين ألقي في النار، فلما ولد إسحاق جعله عليه، فجعله إسحاق على يعقوب، وجعله يعقوب على يوسف، ونسيه إخوته لما ألقوه في الجب، فأمرهم أن يذهبوا به فيلقونه على وجه يعقوب، ليرتد إليه بصره.
السادسة والعشرون: ما جعله الله من الأسباب الباطنة في بعض مخلوقاته.
السابعة والعشرون: أن التبرك بذلك، وإمساكه، والتداوي به، ليس من الشرك، كما كانوا يفعلون، ويتبركون بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ذلك حسن مطلوب.
الثامنة والعشرون: أنه أمرهم بالإتيان بأهلهم
كلهم، والانتقال عنده، فأعطاهم الله هذا الخير، والفرج من الشدة، بسبب ارتفاعه الذي كرهوه كراهية شديدة.
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [سورة يوسف آية: 94] إلى قوله: {ِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [سورة يوسف آية: 98] .
فيه مسائل:
الأولى: كونه أدرك الريح من مكان بعيد.
الثانية: أنه عرف أنه ريح يوسف، قيل: إنه عرف ريح القميص، وأنه ليس إلا مع يوسف.
الثالثة: قوله: {لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ} والفند: ذهاب العقل; ففيه الإخبار بما تعلم أن المخبر يكذبك، إذا كان في ذلك مصلحة.
الرابعة: قولهم: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [سورة يوسف آية: 95] لا ينبغي لمن حدث بغريب أن يغضب، إذا كذب أو شتم.
الخامسة: الآية في رد بصره عليه بسبب إلقاء القميص.
السادسة: تقريره لهم ما أنكروا من تفاصيل القاعدة الكلية.
السابعة: طلبهم الاستغفار من المظلوم.
الثامنة: عفو المظلوم، ودعاؤه لمن طلب ذلك منه.
التاسعة: الاعتراف منهم بالذنب.
العاشرة: رد المسألة الجزئية إلى القاعدة الكلية.
{فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} [سورة يوسف آية: 99] إلى قوله: {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [سورة يوسف آية: 101] فيه مسائل:
الأولى: أنهم لما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه كما آوى إليه أخاه، يدل على أنه لم يفعل ذلك
بإخوته. الثانية: قوله لهم: {أدخلوا مصر} [سورة يوسف آية: 99] الآية.
الثالثة: تعليقه ذلك بالمشيئة.
الرابعة: رفع أبويه على العرش.
الخامسة: سجودهم كلهم له.
السادسة: قوله لأبيه: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ} [سورة يوسف آية: 100] .
السابعة: شكر نعمة الله عليه، حيث جعلها حقا.
الثامنة: شكر نعمة الله في إخراجه من السجن.
التاسعة: شكر نعمة الله في إتيانه بأهله من البدو.
العاشرة: شكر نعمة الله أنه بعدما نزغ الشيطان بينهم، صير الله العاقبة إلى خير، ولم يضرهم نزغ الشيطان.
الحادية عشر: رد هذه المسألة الجزئية إلى القاعدة الكلية، وهي: أن ربه تبارك وتعالى لطيف لما يشاء، فلذلك أجرى ما أجرى.
الثانية عشر، والثالثة عشر: رد ذلك إلى القاعدة الكلية أيضا، وهي:{إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [سورة يوسف آية: 100] وهي:
الرابعة عشر، الخامسة عشر: كرمه عليه السلام، في قوله:{أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [سورة يوسف آية: 100] ، ولم يقل من الجب.
السادسة عشر: كرمه في قوله: {نَزَغَ} ولم يقل: بعدما ظلموني.
السابعة عشر: أن إخراج الله الآدمي من البدو نعمة تشكر; ففيه فضل الحاضرة على البادية.
الثامنة عشر: دعاؤه بهذا الدعاء، وهو في غاية نعيم الدنيا.
التاسعة عشر: شكر نعمة الملك.
العشرون: شكر نعمة التعبير.
الحادية والعشرون: ثناؤه على ربه بأنه فاطر
السماوات والأرض.
الثانية والعشرون: إقراره لله بكونه وليه في الدنيا والآخرة.
الثالثة والعشرون: توسله بذلك كله إلى هذه الحاجة، وهي: وفاته على الإسلام وإلحاقه بالصالحين.
قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [سورة يوسف آية: 102] إلى قوله: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة يوسف آية: 107] .
فيه مسائل:
الأولى: تنبيه الله على آية الرسالة، بأن هذه القضية غيب لا يتوصل إليه الرسول إلا بالوحي، لكونه لا يقرأ ولا يخط، ولا أخذ عن عالم.
الثانية: تقريره هذه الحجة، بقوله:{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ} لأن هذا لا سبيل إلى العلم به إلا بالوحي، أو بحضوره.
الثالثة: أن مكرهم خفي، لو حضرهم أحد لخفي عليه.
الرابعة: ذكره سبحانه حقيقة الحال، أن الأكثر لا يقبلون الحق، ولو تبين لهم بالأدلة.
الخامسة: ذكر حرصه صلى الله عليه وسلم على إيمان الناس.
السادسة: أنه لا مانع مع هذا البيان، مثل سؤال الأجر.
السابعة: أنه ذكر لهم مع شدة كراهتهم له، كما كره الإخوة ارتفاع يوسف.
الثامنة: أن الذي أتاهم من الآيات ليست هذه وحدها، بل كم وكم من آية من الآيات السماوية والأرضية يمرون عليها ويعرضون عن الانتفاع بها، وليس في هذا قصور في البيان، فإنه مشاهد، بل القلوب غير قابلة.
التاسعة:
المسألة العظيمة، وهي: إخباره تبارك وتعالى أن أكثر هذا الخلق لو آمن أفسد إيمانه بالشرك، فهذه فساد القوة العملية؛ والتي قبلها فساد القوة العلمية.
العاشرة: التنبيه على الاحتراز من اجتماع الإيمان مع الشرك المفسد له، خصوصا لما ذكر أن هذا حال الجمهور.
الحادية عشر: احتقارهم هذا العصيان العظيم، كيف أمنوا عقوبة الدنيا؟ ! وهو يدل على جهالة من أمن ذلك.
الثانية عشر: كيف أمنوا أن تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون؟ !.
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [سورة يوسف آية: 108] إلى قوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [سورة يوسف آية: 109] .
فيه مسائل:
الأولى: أمره سبحانه نبيه بإخبار الناس بدينه مجملا.
الثانية: أن هذا أيضا سبيل من اتبعه.
الثالثة: أن ذلك هو الدعوة إلى الله وحده لا شريك له.
الرابعة: أن ذلك هو الدعوة إلى الله على بصيرة، خلافا لمن اتبع الحق ودعا إلى الله على غير بصيرة.
الخامسة: أن دينه الذي أنكره الأكثر، هو تنْزيه الله من السوء، والإنكار في ذلك.
السادسة: أن الذي حملهم على إنكاره كونه غريبا مخالفا لما عليه السواد الأعظم، وذلك لا يوجب رده، لأن اتباع الحق إذا ظهر هو الحق، وإذا ظهر الباطل لم يزينه فعل الأكثر له، مثل الربا والكذب والخيانة.
السابعة: رد شبهتهم في كونه بشرا، وذا واضح، لأنهم إن كانوا ممن يقر بالرسالة في الجملة كأهل الكتاب والمشركين، فواضح، وإن أنكروها كالمجوس، فالنكال الذي أوقع الله بمن خالف الرسل، الذي سمعوه وشاهدوه، حجة عليهم.
الثامنة: الرد عليهم في قولهم: {لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ} [سورة البقرة آية: 118] أو نحو ذلك; لأن الرسل ما أتوا الأمم إلا بالوحي.
التاسعة: أنهم كلهم رجال; ففيه الرد على من يزعم أن في الجن رسلا، أو في النساء.
العاشرة: قوله {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} ففيه: الرد على من انتقص أهل القرى; أو فضل البدو، أو ساواهم بهم.
الحادية عشر: استجهال الله إياهم، حيث لم يسيروا في الأرض، فيعتبروا بمن قبلهم; فدل على أن فهم ذلك مقدور لهم.
الثانية عشر: إخبار أن ما يعطي الله من أطاع الرسل خيرا مما أعطى يوسف وسليمان وأيوب، وغيرهم، من حسن عاقبة الطاعة.
الثالثة عشر: أن سنة الله في الرسل ومن اتبعهم، وسنته فيمن خالفهم، في الدنيا قبل الآخرة، من أظهر البينات للكفار الجهال؛ فمن لم يفهمها يقال له: كيف زال عقلك؟ !.
{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [سورة يوسف آية: 110] إلى آخر السورة. فيه مسائل:
الأولى: تأخير النصر على الرسل، حتى
استبطؤوا، ولا يعجل الله لعجلة أحد.
الثانية: إذا عرف أن هذه سنة، فكيف يستعجل من يزعم أنه متبع لهم؟ كما قال صلى الله عليه وسلم:" يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ".
الثالثة: أن ما يقع في القلب من خواطر الشيطان لا يضر، بل هو صريح الإيمان، إذا كان مع الكراهة.
الرابعة: أن العادة أن الشدة إذا تمت وتضايقت جدا، فهو من علامات حضور الفرج.
الخامسة: أنه سبحانه ينجي من يشاء، ولو كان مع المهلكين في المكان.
السادسة: أنه إذا جاء أمر الله، لم يقدر على دفعه أحد من أهل السماء، ولا من أهل الأرض.
السابعة: أنه سبحانه لا يظلم أحدا، وأن ذلك بسبب إجرامهم.
الثامنة: الثناء على قصص الرسل، وأن فيه عبرة.
التاسعة: أن ما يفهم هذه العبرة - مع وضوحها - إلا أولو الألباب.
العاشرة: تعريضه سبحانه بالأحاديث المفتراة، وإقبال الأكثر عليها، واشتراء الكتب المصنفة فيها بغالي الأثمان، وتكبر من اشتغل بها، وظنه أنه أفضل ممن لم يشتغل بها، وزعمه أنها من العلوم الجليلة، ومع هذا معرض عن قصص الأنبياء مستحقر له، زاعم أنه علم العوام الجهال.
الحادية عشر: أن من أكبر آياته تصديقه لما بين يديه من العلوم، التي جاءت بها الرسل، التي هي العلم النافع في الحقيقة.
الثانية عشر: أن هذا فيه تفصيل كل شيء يحتاج إليه، ففيه العلم النافع، وفيه الإحاطة بالعلوم الكثيرة، ومع