الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معنى عالمية الدين
الدين هو الوضع الإلهى الذى اختاره الله لعباده ليصلحهم فى الحياتين، ويكون عالميا بعدم اختصاصه بجنس من الأجناس البشرية، وبعدم انحصار تطبيقه فى إقليم خاص أو بيئة معينة، وبامتداد هدايته أزمانا طويلة تتجاوز العصر الذى بدأت فيه، بمعنى أن يكون الدين صالحًا لكل جنس وكل جيل، أو لكل زمان ومكان، أو بمعنى آخر أن يكون الدين شريعة الإنسان من حيث هو إنسان، بقطع النظر عن العوامل والفوارق العارضة، التى لا تدخل فى ماهية الإنسان كإنسان، وبدون ذلك لا يتحقق معنى العالمية فى أى دين.
فهو لا يكون دين جنس تميزه فصيلة الدم، أو سمة اللون، أو ظاهرة اللغة، بل دينا لا يفرقا بين العربى والعجمى والحبشي والرومى، ولا بين الأبيض والأسود والأحمر والأصفر، ولا يمنع من أن يستظل بلوائه متكلم بأية لغة من اللغات، وهو لا يكون دينا محليا تحده حدود جغرافية واعتبارات إقليمية، بل يصلح لكل البيئات وكل الأجواء ويتناسب مع كل بقعة زراعية وصناعية وتجارية، برية وبحرية، بدوية
وحضرية على اختلاف المستويات المادية والاعتبارات الأخرى.
وهو لا يكون دينا عالميا إلا إذا صحب الإنسان فى جميع أزمانه المتطورة، وعصوره المتلاحقة، بمعنى أن يكون خالدا لا يعتريه نسخ أو زوال، ولا عقم أو جمود، موفيا بجميع مطالبه المتنوعة المتجددة في الميادين السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وفى كل الميادين التى يزاول فيها الإنسان بعقله الواسع نشاطه الكامل من كل نوع.
ولا يوجد دين من الأديان السماوية أو الوضعية فيه هذه المواصفات التى تجعله عالميا إلا دين الإسلام، فالدينان السماويان الكبيران وهما اليهودية والنصرانية، كل منهما خاص بقومه وبعصره.
فاليهودية لا تصلح أن تكون دينا عالميا لأنها مرتبطة بشعب معين تعرض للتشريد غير مرة، تقوم حياته على العصبية الحادة والعنصرية الجامحة، ذلك أنهم يحاولون أن يستأثروا بعبادة إله وصفوه بأوصاف خاصة، ويعتقدون أنهم شعب الله المختار وأن غيرهم أميون، ويستبيحون من غيرهم ما لا يستبيحون من أنفسهم كالربا، فهل مثل هذا الدين يصلح أن يكون عالميًا؟ .
على أنه لا يوجد نص فى التوراة يتحدث عن هذه العالمية، فهى دين أسرة بشرية واحدة هى بنو إسرائيل وهم يكرهون أن يدخل بينهم غير عنصرهم. يقول المسيو (جوليان ويل) حاخام باريس فى كتابه (اليهودية): يجب على كل ربانى أن يرد كل طالب الدخول فى عهد إبراهيم ثلاث مرات، لافتا نظره إلى الصعوبات التى سيصادفها، والتكاليف الشاقة التى سيتحملها، والأخطار التى سيتعرض لها، فإذا أصر على طلبه وتحقق الربانى أن الدواعى التى تحدوه للتهود طاهرة ونزيهة فيمكنه أن يقبله فى حظيرة البيعة. ثم قال: هذا التحفظ فى أمر طالبى التهود دعت إليه طبيعة اليهودية ونظامها الخاص الذى لا يقصد به إلا الإسرائيلى بأدق معانى هذه الكلمة، وأوجبه كذلك ما فى اليهودية من التكاليف الكثيرة التى يستدعى العمل بها نكران الذات والأخشيشان والثبات والشجاعة وأحيانا البطولة أيضًا (1).
وغاية ما يتمسك به اليهود فى ادعاء عموم رسالتهم ما ورد فى كتابهم من أن بنى إسرائيل سيكونون محكمين للأمم، ومربين للشعوب القوية، وأنه -قبيل قيام الساعة- سيتفق العالم كله على عبادة الله اتباعا
(1) مجلة الأزهر: المجلد 8 ص 241، ومجلد 10 ص 487.
لديانة بنى إسرائيل، إذ يكونون قد عقدوا مع الخالق عهدا جديدا، فيضطر الناس إلى القيام عليه.
لكن هذا القول يثبت أن دينهم لا يصلح الآن، ولا فى عهده الأول لقيادة البشر عامة، بل سيكون ذلك، على زعمهم، قبيل قيام الساعة، على فرض صحة هذه النصوص. وأنى لها أن تكون صحيحة وقد حكم القرآن بأنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، وبدلوا كتاب الله، وغيروا معالمه؛ لقد استبدلوا به (تلمودا) مملوءا بالتعاليم الشاذة القائمة على الفساد والإفساد ليبسطوا نفوذهم على العالم كله بأية وسيلة تكون.
ولو نظرنا إلى المسيحية لرأينا أنها عند تقرير العقيدة لا تعتمد على الدليل المقنع، بل توجب أن تؤخذ بالتسليم المطلق، والعقول فى تطورها جريا على سنن الله الكونية، تأبى أن تظل حبيسة التقليد أو التلقين.
كما أنها تنادى بالزهد البالغ والرهبانية الشديدة، وتحرم الأغنياء أن يدخلوا ملكوت السموات، ويعقب على هذا أحد كتابهم وهو "الدكتور نظمى لوقا" فى كتابه "محمد، الرسالة والرسول" فيقول: وهذا السلوك لا يصلح له كل قلب، ولم تنضج البشرية
نضوجا تاما متساوقا، ليمكنها أن تتلقى هذا التعليم، فلا يصلح لذلك إلا الأفذاذ من الناس. أما السواد الأعظم فللحس على قلوبهم أبدا سلطان غير مجحود ولا مردود (1).
وفى المسيحية تسامح متناه وعفو واسع، ومن المعلوم أن امتثال هذه الأوامر يتعذر على غير الأذلة المستضعفين من الناس، وقد يكون من أكبر المفاسد بإغراء الأقوياء بالضعفاء الخاضعين.
وكانت هذه السياسة صالحة لتقاوم بها عوامل التنافس والصراع المادى اليهودى، ولا تصلح لعمران يراد له أن يطمئن على حقوقه ومقدساته.
على أن سيدنا عيسى عليه السلام بدأ دعوته ببنى إسرائيل خاصة، كما جاء فى إنجيل متى وهو يقص محاورة المرأة الكنعانية لعيسى، وهى غير إسرائيلية، فأجاب عيسى وقال: لم أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة (2). فليس فى المسيحية نص على عالميتها، وما نشطت الدعوة إليها إلا بعد اعتناق الرومان لها، وقد بقيت نحو ثلاثة قرون محصورة فى طوائف مبعثرة، ولم تقم لها دولة إلى أن تولى
(1) ص 57 - 59
(2)
اصحاح 15: 21 - 29
الامبراطورية الرومانية (قسطنطين الأول) وكانت أمه قد ربته على المسيحية فحمل قومه عليها، وأمر بتحطيم الهياكل والمعابد الوثنية، واعتبر النصرانية دينا رسميا للإمبراطورية (274 - 337 م). ومن ذلك الحين قام النصارى بإرسال بعثات التبشير إلى البلاد النائية.
وإذا كان هذا شأن الدينين الكبيرين بعد الإسلام، فأولى بعدم العالمية الأديان الأخرى.