الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العرب والرسالة العالمية
تبليغ الدين الإسلامى عالميا مهمة كل مسلم بصرف النظر عن جنسه ولغته وبيئته، لأن جميع الناس الذين تشرفوا باعتناق مبادئه قد تساووا فى الحقوق والواجبات. لا فرق بين عربى ولا عجمي، ولا بين أبيض وأسود، وقد تكون هناك جهود فى نشر الدعوة. قام بها غير العربى خلدت اسمه فى سجل العاملين المخلصين.
ولكنى وضعت هذا العنوان، لأن شبها كثيرة وردت على عالمية الدين الإسلامى من بينها هذا السؤال.
إذا كانت دعوة الإسلام عالمية، فلماذا جاءت فى بلاد العرب بالذات، وهى بلاد متخلفة حضاريا، وكان من المنتظر أن تبدأ الرسالة العالمية انطلاقها من بيئة متحضرة لها إمكانياتها التى تساعد على النهوض بتبعة الدعوة إليها فى الإطار العالمى.
كانت بلاد الفرس أو الرومان مثلا من أعظم البلاد حضارة وعمرانا فى ذلك الوقت، فلماذا نبتت دعوة الإسلام فى هذه الجزيرة القاحلة؟
وللإجابة على هذا السؤال نقول:
هذا التساؤل، كما يقول العلماء، دورى، يمكن أن يرد أيضًا لو جاءت دعوة الإسلام فى فارس مثلا، فيقال: لماذا لم تجئ فى بلاد الرومان.
والله سبحانه أعلم حديث يجعل رسالته، ولكن مع هذا يمكننا أن نلمس بعض جوانب الحكمة فى هذه الخصوصية التى كرم الله بها جزيرة العرب، فكانت مشرق النور للعالم كله، وكانت استحبابه لدعوة إبراهيم {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ" (1).
وفيما يلى بعض المبررات التى رشحت هذه البلاد للقيام بأعظم ثورة فى تاريخ البشرية فى النواحى الإنسانية الشاملة:
1 -
القوم الذين يحملون عبء الدعوة العالمية لا بد أن تتوافر فيهم صفات تناسب هذه المهمة الضخمة، من الصبر والتحمل والمخاطرة والشجاعة واحترام العهود والنجدة والمروءة وحب الحرية وتعشق الشرف والسؤدد، والتمرن على التنقل وتعود الهجرات،
(1) سورة إبراهيم: 37.
وعدم التبرم بحياة التقشف ورقة العيش، والتطلع إلى النهوض إذا يسرت سبله، إلى غير ذلك من المؤهلات الخلقية العظيمة.
والعربى فى هذه الناحية كان فارس الحلبة، لا يبارى فى هذه الصفات التى تتطلبها الحياة المستقبلة، ولقد أثبت التاريخ ما كان عليه أعظم الدول حضارة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من أخلاق صبغها الترف بصبغته الرخوة الناعمة، وأنس أهلها إلى الذل والعبودية بعبادة ملوكها وتقديس عظمائها، وتسلطت عليهم الأفكار والميول التى خلقها متنبئوهم وفلاسفتهم.
والمأثور من شعر الجاهلية وأخبار الأولين يفيض بصفات النبل التى كان يفخر بها العربى ويحرص عليها، لأنه يراها عنوان الشرف والكمال، ولقد شب النبيّ صلى الله عليه وسلم على خير ما يشب عليه ذو الفضل واشتهر من صغره بالصفات العالية، التى ترشحه للزعامة الكبرى، بما تقتضيه من ترفع عن الدنايا واهتمام بالمطالب العليا، ومن صدق ووفاء وأمانة وإيثار وكفاح وجلاد، وعصامية وحرية، ولقد تجاوبت أخلاقه مع أخلاق قومه وانصهرت جميعًا فى بوتقه الإسلام الحرة الخالصة، وتكون من هذه المجموعة وحدة تتحرك باسم الإسلام، وتظللها جميعا راية التحرر والنهوض.
وما كانت المصادمات الأولى التى حدثت بين النبي وبينهم إلا نوعا من العناد القائم على عدم الرضا بالفناء فى شخصية إنسان آخر حتى طلب كبيرهم أن يكون له وحى ورسالة مثل محمد صلى الله عليه وسلم، "وإذا جاءتهم آية قالوا: لن نؤمن لك حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله" (1)، "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا" (2)، كما أن العربى يمتاز بصفاء العقل وتوقد القريحة وقوة الحجاج والفصاحة والبيان والاستنتاج والاستدلال، وهى أمور لا بد فيها لمن يقومون بنشر الدين العالمى الذى يتطلب شرحا وتفسيرا وجدلا ونقاشا.
لقد كانت مفاخراتهم ومنافراتهم فيها من ضروب القوة ما لا يوجد عند غيرهم من أهل ذلك الزمان، وكانت فراستهم واضحة فى الاستدلال بالنجوم وظواهر الطبيعة، وفى القيافة ومقارنة الخصائص الإنسانية ببعضها فى الأشخاص المتعددة وإلحاق الأنساب على أساسها وعلاقة ذلك بنوع الأفراد أو فصيلة من الفصائل.
ولقد شهدت مقابلات العرب مع كبار الملوك صورا رائعة من قوة الجدل وامتلاك ناصية البيان، يصور لنا
(1) سورة الأنعام: 124
(2)
سورة النمل: 14
كتاب "الفخرى" مشهدا منها فى مقابلة رسل سعد بن أبى وقاص لرستم قائد الفرس، حيت سمع منهم حكما وأجوبة راعته وهالته، لقد قال لأحد هؤلاء الرسل: ما هذا المغزل الذى فى يدك؟ -يعنى رمحه- فقال له: إن الجمرة لا يضرها قصرها، وقال لآخر: ما بال سيفك أراه رثا؟ فقال: إنه خلق المغمد جديد المضرب، وآمن رستم بهذه المقابلات أن هؤلاء الأقوام جديرون بألا يقف حذاءهم أحد.
وقد يقال: إن الإسلام وحده هو الذى خلق هذه المعانى الكبيرة فى هذه القلوب المؤمنة والنفوس العالية المعتزة بدينها، لكن معادن العرب كانت نقية وبذور النبل كانت موجودة، فقواها الإسلام ونماها ووجهها وجهة الخير.
وأحيلك أيها القارئ على مقابلة النعمان بن المنذر لكسرى، وعنده وفود الروم والهند والصين، وما تحدث به عن فضل العرب فى عزها ومنعتها وفى أحسابها وأنسابها وسخائها وجودها وحكمة ألسنتها وديانتهما وشريعتها والدفاع عما عابهم به كسرى من وأد البنات والتقاتل، وتصوير ذلك بما يرجع إلى عزة النفس والأنفة من العار وقوة البأس وحب الحرية.
وفى مطالعة ما قاله النعمان وما قاله أكثم بن صيفى وحاجب بن زرارة والحرث بن ظالم وقيس بن مسعود وغيرهم، ما بين لك تأصل معانى الفضل والنبل فى نفوس العرب، وشرف اللسان وقوة البيان ورباطة الجأش، والصفات العالية التى امتازوا بها على الناس فى زمانهم.
وعلى هذا الوجه يمكن أن نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله اختار خلقه فاختار منهم آدم، ثم اختار بنى آدم فاختار منه العرب، ثم اختارنى من العرب، فلم أزل خيارا من خيار، ألا من أحب العرب فبحبى أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضى أبغضهم" رواه الطبرانى عن ابن عمر، وروى الترمذى مثله وقال: حديث حسن، كما وردت أحاديث مشابهة أو مقاربة تبين فضل العرب الذين اختار الله منهم نبيه، رواها البخارى ومسلم.
ففى البخارى كما أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت من خير قرون بنى آدم قرنا فقرنا، حتى كنت من القرن الذى كنت منه" وروى مسلم عن واثلة ابن الأسقع عن النبي أنه قال: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة،
واصطفى من قريش بنى هاشم واصفانى من بنى هاشم" (1).
2 -
اللغة العربية التى كانت اللغة الرسمية للدعوة الإسلامية، والتى تأصلت جذورها فى الجزيرة العربية، أحيلك فى بيان ميزاتها على ما قاله "إرنست رينان" فى كتابه "تاريخ اللغات السامية" حيث جاء فيه:
من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القوية، وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى، عند أمة من الرحل، تلك اللغة التى فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأمم ومن يوم أن علمت ظهرت لنا فى حلل الكمال، إلى درجة أنها لم تتغير أى تغيير يذكر حتى إنها لم يعرف لها فى كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة، لا نكاد نعلم شبيها لهذه اللغة التى ظهرت للباحثين كاملة من غير تدرج وبقيت حافظة لكيانها من كل شائبة.
ويقول المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين فى فضل اللغة العربية:
ولقد عاشت معنا هذه اللغة وهى هى الغنية بكل خصائصها الفنية العالية، ولهذا كانت جديرة أن تنزل
(1) المواهب للقسطلانى ج 1 ص 13
بها أعظم رسالة للعالم كله فى جميع العصور، تعيش مع الزمن، وتوفى بكل حاجات الحياة. وتخلد ما خلد هذا الدين الحى، الذى لا تتخلى عنه مسحته على طول العهد بنزول الوحى، وكثرة التطور الذى مرت به الإنسانية.
3 -
المكان الذى بعث فيه النبي أولا له صلاحية كبيرة لانطلاق الدعوة منه إلى العالم كله، فالجزيرة العربية فى مكان وسط يتصل بآسيا وأفريقيا وأوروبا، وهى القارات التى كانت معروفة فى ذلك الوقت، والتى كانت قد أخذت بحظ من التقدم تستعد به لتلقى هذه الرسالة، ولقد كانت التجارة تعبر بها من الشمال إلى الجنوب وبالعكس، وتصل آسيا وإفريقيا وأوروبا، فهى شريان حيوى ممتاز فى تلك الحقبة من التاريخ، يمكن أن ترشح به لتكون مركزا لهذا الدين الجديد، يوزع منه على الأقطار كلها.
4 -
ذلك إلى أن جزيرة العرب فيها البيت العتيق أول بيت وضع للناس، وبناه إبراهيم أبو الأنبياء، الذى تدين له جميع الأديان المعروفة فى ذلك العصر، وفى انطلاق الدعوة منه إشعار للعالم بأن رسالة محمد منبثقة من هذه الرسالة التوحيدية الأولى، وأنها امتداد لهداية الله للبشر عبر القرون، ليس فيها
من الغرابة والنفور والشذوذ ما يستحق أن يصرف الناس عنها، وكأن فيه وحيا بأن الأديان التى صادفت ظهور الإسلام لم تعد صالحة لهداية البشر بعد تحريفها وتغييرها وأنا الواجب إرجاعها لأصلها الأول الذى انبثقت منه، وهو الدين القيم الذى كان يدين به أبو الأنبياء.
5 -
هذا، وقد كانت الأديان الموجودة فى العام ممثلة فى بلاد العرب فى ذلك الوقت، فكان فيها اليهود والنصارى والمجوس والوثنيون والصائبة وعبدة الجن والملائكة ومن إليهم. وقد وقف الإسلام فى مواجهة هذه الأديان ليظهر عليها كلها، وكان انتصاره على المنتسبين إليها فى الجزيرة العربية انتصارا على كل من ينتسب إليها خارجها، حيث نازل كلا منها بالحجة والبرهان، ومرن المسلمون الدعاة للإسلام على الحجاج مع هذه الطوائف فكانت مهمتهم سهلة فى مواجهتهم لأصحابها فى البلاد الأخرَى، التى كتب لهم أن ينشروا الدعوة فيها.
6 -
على أن هذه الجزيرة، قد عهدت فى تاريخها الطويل أنواعا من الرسالات، ولم تكن رسالة الإسلام وحدها هى التى بدأت فيها، فكان هود فى الأحقاف جنوبى الجزيرة، وكان صالح فى ثمود شماليها على الطريق إلى الشام.