الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أن يكون بصيرا بالوسط الذى يعيش فيه، خبيرا بأحوال النفوس، واسع الحيلة فى التنقل من طريق إلى طريق، يقصد الهداية المطلوبة من طريقها النافع.
وليس أفعل فى النفوس من جلال تكسبه التقوى وملازمة حدود الله، ومن جمال يلقيه العلم الناضج على صاحبه، ومن هيبة يوجدها الإعراض عن الدنيا وعدم الحرص عليها.
وقد شاهدنا فقراء ليس لهم جاه رسمى ولا عزة عصبية يهابهم أصحاب المقامات الرفيعة والأموال المكنوزة، وينكمشون أمام هيبتهم التى بسطتها التقوى وزانهم بها العزيز الحكيم.
خامسا:
لا بد أن تكون هناك حكمة فى الدعوة، أى تخطيط دقيق يتناول أسلوبها وأغراضها ومعانيها وكل ما يتصل بها، وأحسن تخطيط ما كان مستوحى من القرآن الكريم والسنة وما يضاف إليهما من التجارب والخبرات النابعة من وحى الظروف والأحداث، قال تعالى:"قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى"(1).
فالدعوة على بصيرة أى على يقين وإيمان، أو على علم وهدى، وهذا العلم الذى ينير طريق الدعوة مبين
(1) سورة يوسف: 108
فى قوله تعالى: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن"(1). ولا أطيل عليك فى ذكر ما قاله المفسرون فى هذه الآية، وعدم اتفاقهم على رأى فى معنى الحكمة وأذكر لك ما أميل إليه من هذه الآراء.
يبدو أن الحكمة هنا هى العقل والتفكير السليم الذى يضع كل شيء موضعه، وقد أمر الله نبيه باستعمالها ليكون أساس دعوته معقولا ومقبولا، وليكون سلوكة مع الناس سلوكا مستقيما.
ولعل هذا المعنى هو المراد من الحكمة فى قوله تعالى: "يؤتى الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا"(2). لأنها آتية بعد أدلة التوحيد فى مجادلة إبراهيم مع النمرود، وفى قصة عازر وإبراهيم والبعث، وضرب أمثلة محسوسة للدعوة إلى الإنفاق الخالص لله بالسنابل والصفوان والمطر والجنة والإعصار، والإنفاق من الطيبات، لأننا لا نحب أن نأخذ الخبيث فكيف نعطيه لغيرنا، والتفكير فى أن الشيطان يعد الفقر والله يعد الغنى، فكل هذا مما يلفت النظر ويجول فيه الفكر، ومن اهتم بهذا النوع
(1) سورة النحل: 125.
(2)
سورة البقرة: 269
فقد أوتى خيرا كثيرا، وما يذكر إلا أولوا الألباب، ولعل الحكمة بهذا المعنى هي منة الله على داود فى قوله:"وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب"(1).
فالحكمة أن تكون الفكرة سليمة والآداء جميلا، فهي تشمل المعنى والأسلوب، ثم إن المراد بالموعظة الحسنة أن يكون الترغيب فى الخير والترهيب من الشر بأسلوب عفيف لا فحش فيه ولا سباب مثلا، فإن مثل هذه الأساليب الخشنة يحدث عكس المطلوب، قال تعالى:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (2).
وكان هذا الأسلوب بمكة عندما كان يواجه الرسول بدعوته العقائد الضالة والعادات المفاسدة، ويقوم وحده بهذه الدعوة، والمجادلة هى المخاصمة فلتكن بالصيغة الحسنى، فإن سبوك فكن حليما، وإن آذوك فكن صبورا، ولعل مما يشير إلى ذلك قوله تعالى:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3). فاستعمل معهم طريق اللين والعفو فذلك أجدى وأنفع.
(1) ص: 20
(2)
سورة الأنعام: 108
(3)
سورة فصلت: 34
فالأسلوب الحكيم في الدعوة له مظاهر متعددة وألوان مختلفة، وقد يصلح لون في بلد ولا يصلح في آخر، وقد ينفع أحدها في عصر ويضر في عصر آخر، ومن واقع هدى الإسلام فى القرآن والسنة، ومن تجارب المختصين في الحياة أذكر هنا بعض مظاهر الحكمة في تبليغ الدعوة:
1 -
من الحكمة عند اقتلاع عقيدة باطلة أو عادة فاسدة، أو نقد وضع معين، ألا يوجه العمل إلى ذلك بطريق مباشر، بل يتخذ له طريق لا يثير معارضة أو يوقد نار فتنة، فإن الموروثات وبخاصة منها المقدسات الدينية ليس من السهل تحويل الإنسان عنها، فكل إنسان معتز برأيه وعقيدته، وكل جماعة معتزة بمقدساتها ومعتدة بسلوكها، وذلك أمر طبيعى في الجنس البشرى، لأن مظهر الحرية والكرامة والعناد، يظهر بوضوح عند توجيه النقد إلى العقيدة والسلوك، وقد تقدم نهى الله نبيه أن يسب الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم. وحسب الداعى الحكيم فى مواجهة الباطل بعد دراسة كل الظروف أن يحاول زحزحة الناس عن ثقتهم في عقيدتهم وسلوكهم وبطريق غير مباشر، ولعل مما يفيد فى هذا المجال:
(أ) توجيه الأنظار إلى نواحى الشر والفساد فى عقيدة من العقائد، أو نمط من السلوك يشبه ما يريد أن يغيره الداعى، ثم يترك الفرصة للعقل يفكر ويقدر، فقد ينتبه بنفسه إلى مواطن الشر فيحاول باختياره أن يصلح من شأنه، إن الله سبحانه وهو يوجه أنظار المشركين إلى فساد إشراكهم بالله مخلوقات لا تسمع ولا تبصر، ولا تغنى من الحق شيئًا، عدد عليهم نعمه الكثيرة وبين أنه وحده خالقها والمتفضل بها، ولأنهم يعتقدون أنه وحده خالق كل شئ، كما ورد في قوله:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} (1). ولكنهم يشركون الأصنام معه فى العبادة، لما حكى الله عنهم بقوله:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (2). قال الله بعد تعداد النعم فى أوائل سورة النحل: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (3)؟
فإلقاء هذا الاستفهام الإنكارى يوجه أنظار المشركين للتفكير فيما هم عليه من عقيدة.
(1) سورة الزخرف: 9
(2)
سورة الزمر: 3
(3)
سورة النحل: 17
ومثله ما سلكه الإسلام فى تحريم الخمر، وكان شربها متأصلا فى العرب، لم يشأ أن يوجه إليهم النقد المباشر، ولكن بين لهم أنها من نعم الله عليهم فقال تعالى:{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} (1)، ولما سألوا: هل هى حرام، اكتفى ببيان ما فيها من نفع وضر وأن الضر فيها أكبر، وترك للعقل يفكر ويوازن ليدرك بنفسه أن ما كثر ضرره على نفعه جدير بتركه، فالعمل الذى تفوق خسارته ربحه لا ينبغى أن يحرص العاقل عليه، ولم يقطع الإسلام فيها برأى.
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (2). حتى إذا أدركوا خطرها أخيرا بما وقع من خطأ فى الصلاة نتيجة السكر، وبما حدث من شجار وسباب وتعد على الأموال وغيرها طلبوا بأنفسهم بيانا شافيا فيها، فحرمت أولا قبل الصلاة {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (3).
(1) سورة النحل: 67
(2)
سورة البقرة: 219
(3)
سورة النساء: 43.
ثم حرمت بعد ذلك نهائيا بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} ؟ (1).
ومما يفيد أيضًا هذا المجال الاهتمام بعرض محاسن الإسلام إن كان يدعو إليه، أو محاسن مبدأ من المبادئ إذا كان المقصود بالدعوة هذا المبدأ، دون أن يتعرض لذكر مساوئ نقيضه فليتركها ليدركها السامع بطريق المفهوم. وفي هذا العمل بناء من جانب الداعى وهدم للمبدأ الفاسد من جانب المدعو، والبناء القوى إذا ظهر بصورة رائعة تداعى غيره أو قل شأنه على الأقل.
ويقول المثل الغربى: بدل أن تلعن الظلام أو قد شمعة، ذلك أن لعن الظلام جهد ضائع لا يذهب به، ولكن الذى يذهبه هو عمل إيجابى في مقابله، وهو إضاءة الشمعة، فذكر المحاسن لمبدأ يعطي فرصة للمدعو أن يفكر في مبدئه وقيمته بالنظر لما يراه
(1) سورة المائدة: 90، 91
ويسمعه، وهناك يكون تحوله للمبدأ الجديد عن اقتناع دون إثارة شعور أو مضاعفات غير حميدة.
2 -
ومن الحكمة عرض التشريع مبسطا والعقيدة واضحة عند الدعوة إلى الدخول فى الإسلام، والحذر من تعقيد الأسلوب واستعمال الوسائل الصناعية الملتوية التى تشوه طبيعة الأشياء وتخرجها عن بساطتها، الفطرية إلى عمل مصنوع معقد.
والعقيدة الإسلامية مبسطة وواضحة لأنها قائمة على العقل، وأدلتها منثورة في الكون كله، ألم تر إلى الأعرابى عندما سئل عن وجود الله فقال: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، أفلا يدل ذلك على اللطيف الخبير؟ . ولم سأل النبي أمة عن الله فأشارت إلى السماء حكم بإيمانها.
إن بساطة الأعرابى في الاستدلال على وجود الله لا تزيد عنها فلسفة "نيوتن" عالم القرن الثامن عشر (توفى 1727 م) عندما سئل عن وجود الخالق فقال: من الجلى الواضح أنه لا يوجد أى سبب طبيعي يمكن أن يعزى إليه توجيه جميع الكواكب وتوابعها للدوران فى وجهة واحدة وعلى مستوى واحد دون أن يحدث فيها أى تغيير يذكر. فمجرد النظر لهذا التدبير يشعر بوجوب وجود قدرة إلهية تحدثه.
فالعقيدة الإسلامية تنادى على نفسها بالصدق ولا تستعصى على الفهم. وكانت بساطتها سبيا فى تقبل الناس لها، يقول "أرنولد": إن هذه العقيدة البسيطة لا تتطلب تجربة كبيرة للإيمان، ولا تثير فى العادة مصاعب عقلية خاصة، وإنها لتدخل نطاق أحط دركات الفهم والفطنة، ولما كانت خالية من المخارج والحيل النظرية اللاهوتية كان من الممكن أن يشرحها أى فرد، حتى أقل الناس خبرة بالعبادات الدينية النظرية (1). وقد تقدم لك ما ذكره "كيتانى" عن سر تحول أهل الشام إلى الإسلام.
3 -
ومن الحكمة عند دعوة الناس إلى اعتناق الإسلام عدم التشدد فى أخذهم بمبادئه من أول الأمر، ومراعاة التساهل إلى حد ما حتى تألفها النفس الغريبة عنها وتتعودها، وستنقاد إليها طواعية بعد ذلك.
وقد رأينا فى وفد ثقيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل منهم الشهادتين والصلاة، وحط عنهم الزكاة والجهاد مؤقتا كطلبهم حتى يألفوهما.
ثم ذكر أنهم سيصدقون ويجاهدون من تلقاء أنفسهم وقد كان ذلك (2).
(1) تاريخ الدعوة ص 454
(2)
رواه أحمد وأبو داود.
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعد أن تعلم منه ما تعلم: علمنى رسول الله وكان فيما علمنى: "وحافظ على الصلوات الخمس". قلت: إنها ساعات لى فيها أشغال، فمر بأمر جامع إذا فعلته أجزأ عنى. فقال: حافظ على العصرين؟ قال "صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها"(1).
وكان هذا التخفيف من النبي بصفة مؤقتة حتى يتعود الرجل الصلاة. إن الذين يريدون للداخلين حديثا فى الإسلام أن يؤدوا مرة واحدة كل ما جاء فيه من تكاليف، قوم لا يعرفون طبيعة البشر ولا منهج الدعوة، إن سياسة التدرج فى حركة الإصلاح، والبعد عن الطفرة يفسرها قول عمر بن عبد العزيز لابنه عندما لامه على إرجاء تنفيذ بعض ما يراه حقا، أخشى أن أحمل الناس على الحق جملة فيرفضوه جملة.
وقد كان الختان من الأمور التى خشيها المنبوذون فى الهند عندما دعوا إلى الدخول في الإسلام، كما قررته البعثة الأزهرية الموفدة إليها سنة 1936، فصدرت الفتوى بما أذهب مخاوفهم والدين يسر.
4 -
ومن الحكمة فى الدعوة القصد إلى الرءوس
(1) رواه أبو داود عن عبد الله بن فضالة عن أبيه.
الكبيرة والشخصيات الهامة لأن استجابتها ستجر وراءها استجابة الأتباع والبسطاء بتأثير عامل التقليد أو يحكم العلاقة بين الكبير والصغير والرئيس والمرءوس.
وكان بود النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلم كبار قومه ولكن الله أخبره أنهم لن يستجيبوا له الآن، وسيدخلون فى الإسلام عندما تتهيأ الظروف، وكان ذلك فى فتح مكة بعد إحدى وعشرين سنة من بدء الدعوة.
لقد كتب النبى إلى الملوك والكبار رجاء أن يسلم أقوامهم بإسلامهم، ولما عرض جمال الدين الإسلام على "تغلق تيمور خان"، ملك "كشغر" (1347 - 1363 م) اقتنع به ثم قال له: لا أستطيع أن أهدى أتباعى إلى الإسلام حتى يؤول الملك العام إلى بعد توحيد الإمارات، وقد كان ذلك، فدعا الأمراء فقبلوا، وطلب أحدهم مبارزة الداعى إلى الإسلام لخادمه فقبل التحدى وانتصر فأسلم الأمير وأسلم فى ذلك المشهد مائة وستون ألفا، وأصبح الدين الإسلامى منذ ذلك الوقت دين سكان الحضر فى الولايات الخاضعة لسلطان خلفاء "جفطاى"(1).
(1) تاريخ الدعوة لأرنولد 267، 268
فهداية رجل كبير تهدى مئات وألوفا من الأتباع، والجهد فى مثل هذه الحالات جهد مثمر.
وكان من حيل المستعمرين فى حمل الشعب على مذهب أو سلوك معين أن يولوا أعوانهم المناصب الكبيرة حتى يقلدهم الأتباع والمرءوسون ويستجيبوا لتوجيهاتهم، إما عن عقيدة، وإما لمجرد المتابعة التى قد تتطور بمرور الزمن إلى اعتقاد.
5 -
ومن الحكمة أن يكسب الداعى صداقة الكثيرين ممن تظن منهم المعارضة له أو عدم تيسير مهمته، وأن يتفطن لمنافذ الشر التى تقف فى طريق دعوته فيسدها أو يتجنبها بطريقة سليمة لا تثير فتنة، فالدعوة حرب، والحرب خدعة لا بد فيها من التحاليل البريء لشق الطريق بأمان.
وهذه مداراة لا بأس بها، ولنا فى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فى شأن عيينة بن حصن الفزارى حين رآه مقبلا عليه "بئس أخو العشيرة" فلما جلس الرجل تطلق النبي فى وجهه وانبسط إليه، ولما سألته عائشة عن سر هذا المسلك قال:"متى عهدتنى فاشا، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره"(1).
(1) رواه البخارى.
وقد قال العلماء: إن هذا السلوك مداراة بذلت فيها الدنيا لصلاح الدين أو الدنيا أو هما معا، وهى مباحة وليست مداهنة يبذل فيها الدين لصلاح الدنيا فهى مذمومة (1).
6 -
ومن الحكمة حسن اختيار الموضوع الذى يتحدث فيه الداعى، أو المبدأ الذى تراد الدعوة إليه بوسيلة من الوسائل، فالموضوعات والمسائل تختلف من بلد إلى بلد ومن زمن إلى أخر، وليكن الموضوع منتزعا من واقع البيئة وحكم الظروف ومتطلبات العصر، لا ما يختاره الداعى حتى لو كان غير مناسب لمقتضى الحال. والنبى صلى الله عليه وسلم كان إذا سأله مسائل أجابه عن أهم الأمور التى تناسبه، وإذا طلب منه وصية أوصى بما يصلح شأنه، إن الموضوعات التى تناقش مثلا فى أوروبا غير التى تناقش فى وسط إفريقيا، والموضوعات التى تثار فى البلاد الرأسمالية غير التى تثار فى البلاد الاشتراكية، وما يصلح للبدو لا يصلح للحضر، وهكذا. ومن أهم ما يعالج من موضوعات ما يأتى:
(أ) الرد على الشبه التى يثيرها المستشرقون والمبشرون وأصحاب النحل والمذاهب الهدامة،
(1) المواهب للقسطلانى ج 1 ص 291، 292
والمتحررون الذين يميلون إلى اللادينية ومن داروا فى فلكهم لنبين وجهة نظر الإسلام فيها.
فإذا كانت هناك شبه تطعن مثلا فى مبادئ الإسلام كعامل من عوامل النهضة والرقى، وتربط بين تأخر المسلمين وبين مبادئ الدين. فعلينا أن نبين سلامة المبدأ من حيث ذاته، ونبين السبب فى تأخر المسلمين عن غيرهم من الأمم، وهى أسباب خارجة عن نفس التشريع، فهى إما لسوء فهم للمبادئ أو جهل بها، أو تعلق بغيرها وإلى جانب الرد على الشبه يجب أن نفيد من توجيهها إلينا فنضع الحلول التى تود عمليا على هذه الشبه بالتمسك بمبادئ الدين وتطبيقه تطبيقا صحيحا.
فمن الشبه مثلا ما يتعلق بالقرآن من ناحية جمعه وترتيبه وكتابته وقراءته، ومن نسبته إلى النبي وعدم نسبته إلى الله، كما أثار ذلك حديثا القس "ريكيه" فى محاضرة ألقاها بجنيف فى قاعة القديس بطرس. ومن الشبه منافاة بعفى مبادئ الإسلام للمدنية كتحريم الربا، وإباحة الطلاق، وتعدد الزوجات، فتجب العناية بالرد على هذه الشبه، وتزويد العلماء بالثقافة الواسعة لإمكان مواجهة هذه الأباطيل.
(ب) ويجب تفسير حقائق الإسلام تفسيرا علميا عصريا يتصل بالثقافات الحاضرة، ويوازن بينها وبين ما انتهت إليه هذه الأبحاث وقررته التجارب، وشرح المفاهيم باللغة والمروح التى تناسب العصر ووضع دائرة معارف إسلامية ذات فى دراسة عميقة على هذا الأساس لتكون مرجعا صادقا للراغبين فى المعرفة الدينية الصحيحة وسلاحا تدفع به الشبهات والشكوك.
إن الإسلام ما يزال بكرا من هذه الناحية، لم يسبر غوره ولم يؤت على جميع حقائقه، وما أكثرها، والثقافات والحضارات فى تطور وتغير، فإن كانت العصور الماضية أفادت من الإسلام وكتابه بما يلائمها وفسرته بما كان عندها من ثقافات، فإننا الآن فى حاجة إلى شروح وتفسيرات بلغة العصر وحاجته.
يقول (ولفرد كانتويل سميث): كل الكتب والأحاديث التى تتصل بهذا الدين تتخذ موقف الدفاع وتهدف إلى حماية ذمار الإسلام أكثر مما ترمى إلى شرحه وفهمه، وترمى إلى دعمه ومظاهرته أكثر مما ترمى إلى بيانه وكشفه، وهذه الحقيقة فى تشعبها البعيد هى علة سوء التفاهم بين المسلمين والغربيين، وهى السبب فى أن غير المسلمين يسيئون فهم الأفكار الإسلامية الحديثة.
والواقع أن كلا من الجانبين لم يدرك الموقف إدراكا تاما، فالمسلمون يأخذون قضايا الدين يتسلم ولا يقبلون سواها، على حين تجد الغربيين يؤمنون بالتفسير العقلى، وهذه الطريقة التى يتبعها المسلمون فى تقبل دينهم تفسد تقدير الغربيين للإسلام الحديث وتقف حائلا أمام المسلم فى صراعه ضد الصعوبات الدينية الحديثة التى يواجهها.
ومع عدم تسليمنا بهذا الكلام على إطلاقه، فإننا نريد أن لا ندع مجالا لمثل هذه الانتقادات، فنفسر إسلامنا تفسيرا علميا حديثا يتناسب، مع الثقافات الحاضرة ليعيش معها ويظهر سموه عليها.
(ج) يجب تنقية الإسلام من كل دخيل عليه فى عقائده وعبادته وأخلاقه وسائر تشريعاته، فإن هذا الدخيل يشوه جماله ويظهره بصورة ممسوخة أمام الأجانب، تزهدهم فيه وتحملهم على توجيه الطعون إليه، وإشاعة أنه دين لا يستطيع أن يقف أمام العقل والمنطق وحقائق العلم، وبالتالى لا يتجاوب مع الحياة فى سننها الكونية الثابتة ومقرراتها الأكيدة.
ولعل من الخير أن يتجه الإصلاح إلى الطوائف المتجرة بالدعوة إلى الإسلام عن غير علم صحيح