المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الرهبان، فغير كثير منهم رأيه فى عيسى الذى كانوا يسمونه - الدين العالمي ومنهج الدعوة إليه

[عطية صقر]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌مقدمة

- ‌معنى عالمية الدين

- ‌الإسلام هو الدين العالمى

- ‌الأدلة النقلية على عالمية الدين الإسلامى:

- ‌الأدلة الذاتية أو العوامل الأساسية لعالمية الدين الإسلامي:

- ‌الأدلة: الواقعية على عالمية الدين الإسلامى:

- ‌الرسول يبلغ الدعوة العالمية

- ‌(أ) أوامر التبليغ

- ‌ومن الآيات المكية حسب ترتيب نزولها ما يأتى:

- ‌(ب) منهج التبليغ

- ‌أولا- فى مكة:

- ‌ثانيا - فى المدينة:

- ‌فى داخل الجزيرة:

- ‌فى خارج الجزيرة:

- ‌المسلمون يبلغون الدعوة العالمية

- ‌(أ) أوامر التبليغ

- ‌(ب) منهج التبليغ:

- ‌الدعوة فى الشرق:

- ‌الدعوة فى الغرب:

- ‌الدعوة فى أوروبا وأمريكا:

- ‌يقول أرنولد:

- ‌هل انتشر الإسلام بالسيف

- ‌جبهات المقاومة لعالمية الإسلام

- ‌المقاومة السياسية:

- ‌المقاومة الفكرية والخلقية:

- ‌جبهات الدفاع عن عالمية الإسلام

- ‌العرب والرسالة العالمية

- ‌اللغة العربية وتبليغ الرسالة العالمية:

- ‌واجبنا نحو الدين العالمى

- ‌منهج الدعوة إلى الدين العالمى

- ‌أولا:

- ‌ثانيا:

- ‌ثالثا:

- ‌رابعا:

- ‌خامسا:

- ‌سادسا:

- ‌سابعا:

- ‌خاتمة

الفصل: الرهبان، فغير كثير منهم رأيه فى عيسى الذى كانوا يسمونه

الرهبان، فغير كثير منهم رأيه فى عيسى الذى كانوا يسمونه ابن الله، ومنهم (اليباندوس) أسقف طليطلة" و "فيلكس" أسقف أورجيل، وكان من أثر ذلك عقد مجمع طليطلة سنة 936 م للنظر فى هذه الأفكار.

‌يقول أرنولد:

وقد بلغ من تأثير الإسلام فى معظم الذين تحولوا إليه من مسيحي أسبانيا مبلغا عظيما، حتى سحرهم بهذه المدنية الباهرة، واستهوى أفئدتهم بشعره وفلسفته وفنه الذى استولى على عقولهم، وبهر خيالهم، كما وجدوا فى الفروسية العربية مجالا فسيحا لإظهار بأسهم، وما تكشفت عنه هذه الفروسية من قصد نبيل وخلق كريم، تلك الحياة التى ظلت مغلقة فى وجوه الأسبان الذين بقوا على تمسكهم بالمسيحية وإخلاصهم لها، أضف إلى ذلك أن علوم المسيحيين وآدابهم لا بد أن تكون قد بدت فقيرة ضئيلة إذا ما قيست بعلوم المسلمين وآدابهم التى لا يبعد أن تكون دراستها فى حد ذاتها باعثا على الدخول فى دينهم (1).

وكما دخل الإسلام ومدنيته إلى أوروبا من الأندلس دخلا من صقلية، وتوغلا فى إيطاليا، وحاصر العرب

(1) تاريخ الدعوة ص 164

ص: 86

روما مقر الحبر الأعظم، حتى إن البابا يوحنا الثامن "872 - 882 م" ظل يؤدى الجزية مدة سنتين، ومكث حكم الإسلام قائما نحو مائة وثلاثين سنة، حتى أخذ النورمانديون هذه الجهات نهائيا سنة 1091 م. وعن هذين المنفذين أخذت أوروبا الحضارة.

ومما يدل على ذلك ما يأتى:

1 -

أن "فردريك الثانى" ملك سبيليا وألمانيا فى القرن الثالث عشر، وهو أول من أقام حكومة نظامية فى أوروبا سنة 1193، أنشأ جامعة فى نابولى سنة 1234 م على نظام جامعة قرطبة، وتعلم العربية ودرس علومها وآدابها، وحذق الرياضة والطب والفلسفة والطبيعة على أيدى أساتذة العرب تلاميذ ابن رشد، واصطحب معه إلى إيطاليا زمرة من العرب والمسلمين ساعدوه فى تنظيم حكومته.

2 -

أن البابا الأكبر "سلفستر الثانى" سنة 999 م وكان عالما دينيا كبيرا، رحل إلى الأندلس فى أيام الخلافة الأموية وحصل من شيوخها على الإجازة فى التدريس والرياضة والفلك، وعاد إلى بلاده حيث ألف كتابا فى الحساب، فكان أول من نقل هذا العلم إلى أوربا.

ص: 87

3 -

أن أول مستشرق انجليزى، وهو "أديلارب" طوف سنة 1120 م فى الأندلس وصقلية ولسوريا، وترجم عن العربية مبادئ اقليدس وكتاب الخوازرمى فى الحساب، وكان له نصيب كبير فى إنشاء جامعة باريس وغيرها.

4 -

أن "روجر الأول" ملك صقلية سنة 112 م تلقى التاريخ الطبيعى على يد العرب، و "الفونس العاشر" ملك قشتالة درس العربية، وأمر بنقل علوم العرب، ونافسه فى ذلك ملوك أوربا.

5 -

أن الراهب الإنجليزى "روجر ييكون" المتوفى فى القرن الثالث عشر، درس علوم العرب، وتشبع بطريقتهم العلمية فى البحث، فنبذ منطق أرسطو، وقرر أن الطريقة المثلى للوصول إلى الحقائق العلمية هى طريقة العرب، (شاهد واختبر).

6 -

أن الملك "فيليب البافارى" بعث إلى الخليفة هشام الأول يستأذنه فى إيفاد بعثة إلى الأندلس لدراسة نظم التعليم وأساليب الإدارة والحكم ومظاهر المدنية، فأذن له، بل أرسل خبراء من العرب لاستشارتهم فيما يريد، وكذلك صنع غيره من الملوك، وكانت إنجلترا أشد دول الشمال حرصا على ذلك، فكانت تبعث أولياء

ص: 88

عهودها إلى الأندلس لتلقى هذه المعارف الجديدة بل أرسل الملك "جورج الثانى" ابنة أخيه ملك "دومانت" على رأس بعثة مكونة من بنات الأمراء واللوردات حوالى عشرين فتاة لدراسة آداب السلوك والفنون الراقية التى تتعلق بالمرأة.

وكان الأسطول الهولندى الذى قهر الأسطول الإنجليزى فى لشبونة سنة 1152 م من صنع أيد عربية، أما قائده فهو أميرال البحر (طارق) ومعظم السدود وجسور الأنهار فى انجلترا وأوربا أنشأها أيدى مهندسين عرب، وخاصة جسر هشام الذى سمى باسم الخليفة هشام الثانى بناه مهندس عربى فوق نهر التيمس.

ودخل الإسلام أوروبا أيضًا فى القرن الرابع عشر على يد الأتراك، الذين استولوا على أجزاء كبيرة من جزيرة البلقان، حتى فتحت القسطنطينية سنة 1453 م. وكان عهد سليمان القانوني (1520 - 1567 م) عهد توسع، ولم تتوقف فتوحات العثمانيين إلا أمام أبواب فيينا سنة 1683 م.

وعندما فتحت القسطنطينية حرم محمد الفاتح اضطهاد المسيحيين تحريما قاطعا، ومنح البطريق وأتباعه امتيازات كبيرة، وكانت هذه المعاملة من

ص: 89

أهم الأسباب التى جعلت الأغريق يؤثرون حكم المسلمين على المسيحيين الذين ظلموهم واستبدوا بهم كثيرا، وقد اشتهر مراد الثانى بعنايته فى تحقيق العدالة، وبإصلاحه للمفاسد التى سادت فى عهد الأباطرة الأغريق.

واهتم الأتراك بنشر الإسلام بالوسائط السلمية وكانوا يحتفلون بمن يدخل فى الدين فيكون ذلك حافزا لغيره أن يسلم مثله يقول الكسندروس عن المسلمين الأتراك.

لو تأملنا عدالتهم ونزاهتهم وسائر فضائلهم الخلقية لخجلنا من جحودنا، سواء فى عبادتنا أو فى تراجمنا ومن جورنا وإفراطنا وتعسفنا -فلا ريب أن هؤلاء سيقيمون الحجة علينا، ولا ريب أن عبادتهم وتقواهم وأعمال الرحمة فيهم هى الأسباب الرئيسية لنمو الدعوة المحمدية.

ولو نظرنا إلى معظم دول أوربا الحالية لوجدنا فيها جاليات إسلامية نزح معظمها من آسيا وأفريقيا، وبجهودها دخل أوروبيون كثيرون فى الإسلام، واستطاعوا أن يتفاعلوا مع هذا الدين بحضارتهم وتقاليدهم بعد أن رأوا فيه المرونة وقيامه على الفطرة والعقل.

ص: 90

بل إن بعض المفكرين الأوروبين الذين لم يسلموا قال عندما عرف حقيقة الإسلام وأخلاقه العالية ونظامه الاجتماعى السياسى المتين: إذا كان هذا هو الإسلام، فنحن إذًا مسلمون.

ولو أذن للإسلام أن يمد رواقه على هذه البلاد عند فتح الأندلس لكانت الحضارة قد تقدمت للإنسانية بخيرها قبل ذلك بكثير، غير أن الأقدار جعلت المسلمين يقفون عن زحفهم بعد أن انتصر "شارل مارتل" على عبد الرحمن الغافقى فى معركة "بواتييه" يوم السبت 8 من شعبان سنة 114 هـ (أكتوبر سنة 733 م) تلك المعركة التى يقول فيها "كلود فارير" الأديب الفرنسى: فى ذلك اليوم المشئوم تراجعت المدينة ثمانية قرون إلى الوراء.

ويقول "شامبيون" مدير مجلة "بارلمنتير": لولا انتصار جيش مارتل الهمجى على تقدم العرب فى فرنسا لما وقعت فرنسا فى ظلمات القرون الوسطى، ولما أصيبت بفظائعها، ولما كابدت المذابح الأهلية التى نشأت عن التعصب الدينى المذهبى، ولولا ذلك الانتصار البربرى على العرب لنجت أسبانيا من وصمة محاكم التفتيش، ولولا ذلك لما تأخر سير المدينة ثمانية قرون، إننا مدينون للشعوب العربية بكل

ص: 91

محامد حضارتنا فى العلم والفن والصناعة، مع أننا نزعم اليوم أن لنا حق السيطرة على تلك الشعوب العريقة فى الفضائل، وحسبها أنها مثال الكمال البشرى مدة ثمانية قرون، بينما كنا يومئذ مثال الهمجية، وإنه لكذب وافتراء ما ندعيه من أن الزمان قد اختلف، وأنهم صاروا يمثلون اليوم ما كنا نمثله نحن فيما مضى.

وأخيرا أقول لك أيها القاريء: إن الإسلام لم يقف عند هذا الحد، بل تخطى العالم القديم إلى العالم الجديد، ويحكى التاريخ أن جماعة من المسلمين رغبوا فى نشر الإسلام وراء البحار، أطلق عليهم اسم المغرورين لجرأتهم. وإقدامهم على هذا الأمر الخطر، وكأنه كان يرن فى أذنهم قول عقبة فاتح شمالى أفريقية حين نزل البحر بفرسه وأقسم أنه لو يعلم أن هناك أرضا وراء هذا البحر لخاضه حتى يصل إليها لينشر دين الله. كان هؤلاء ثمانية أقلعوا، من لشبونة فى القرن إلعاشر أو الحادى عشر، الميلادى، وساروا نحو الغرب حوالى أحد عشر يوما ثم عادوا يحملون أخبار عالم جديد لم يعرفوه من قبل، وهو، وإن لم يكن على التحقيق أمريكا، فهو جزر كانت مجهولة.

ص: 92

والقرنين الآخرين وصلت جاليات إلى أمريكا الشمالية والجنوبية وأقاموا هناك، وأسسوا جمعيات ومساجد فى أشهر المدن ولهم سمعة طيبة فى كل حقل يعملون فيه من حقول التجارة والصناعة وغيرها، واستطاعوا بنشاطهم أن يحولوا عددا من أهالى تلك البلاد إلى الإسلام، أو على الأقل يفتحوا عيونهم عليه ويبدون السحب الكثيفة التى كانت تحول دون معرفتهم لحقيقته.

وبعد فقد تبين من هذا السرد الموجز لحركة الإسلام فى مدة وانتشاره بمبادئه السامية أن الإسلام له أعوان وأنصار فى كل جهات العالم، وأن البيئات التى وجدوا فمها لم تكن حائلة دون تطبيق تعاليمه، وأن أجناسهم وألوانهم ولغاتهم لم تقف حائلا دون اعتناق هذا الدين والتفاعل مع مبادئه، وأن له فى بعضها تاريخا قديما لازمها قرونا عدة، لم تزده الأيام إلا قوة فى نفوسهم واعتزازا به، وهذا من أكبر الأدلة الواقعية على عالمية الدين الإسلامى وحيويته واتفاقه مع جميع الحاجات البشرية فى كل الجماعات الإنسانية.

يقول (إيتين دينيه)، وسليمان إبراهيم الجزائرى فى كتابهما عن السيرة النبوية: فدين محمد قد أكد إذا من الساعة الأولى لظهوره وفى حياة النبي أنه دين

ص: 93

عام، فإذا كان صالحًا لكل جنس كان صالحًا بالضرورة لكل عقل ولكل درجة من درجات الحضارة وهو على ما فيه من البساطة المتناهية بالنظر لمذهب المعتزلة، والتشدد بالنظر لمذهب الصوفية: يؤدى للعالم الأوربى، من غير أن يعوق حرية فكره المطلقة، كما يؤدى للزنجى السودانى، الذى ينتشله من عبادة الأوثان الباطلة، هداية وتأييدا، وهو يرفع نفس التاجر الانجليزى، الذى يرى حياته فى العمل، ويعتبر الوقت من ذهب، بمقدار ما يرفع نفس الحكيم المتصوف والشرقى المتأمل فى بدائع الصنع، كما يرفع نفس الغربى المأخوذ بسحر الفن والجمال بل هو يفتن الطبيب العصرى أيضًا بما فيه من الطهارات المتكررة وتناسق الركوع والسجود، اللذين هما ليسا فى إفادتهما الجسم نماء بأقل من إفادتهما النفس صحة وسلامة (1).

لقد حار المفسرون فى تعليل ظاهرة المد الدائم للإسلام، وراح كل يفسر تفسيرا محدودا من وجهة نظره، فمنهم من يرجع ذلك إلى العوامل الذاتية للإسلام فى عقيدته وشريعته، ومنهم من يرجعها إلى الظروف السياسية والاجتماعية للبلاد التى زحف

(1) مجلة الأزهر: مجلد 1 ص 159

ص: 94