المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ترتيل القراءة وتحسين الصوت بها - أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم - جـ ٢

[ناصر الدين الألباني]

فهرس الكتاب

- ‌جَوَازُ الاقتِصَارِ على {الفَاتِحَة}

- ‌الجهرُ والإسرارُ في الصَّلوَاتِ الخَمْسِ وغَيْرِها

- ‌الجَهْرُ والإسْرارُ في القراءةِ في صلاةِ الليل

- ‌ما كانَ يقرؤه صلى الله عليه وسلم في الصلوات

- ‌1- صلاةُ الفجر

- ‌القراءةُ في سُنَّةِ الفَجْرِ

- ‌2- صلاة الظهر

- ‌قراءته صلى الله عليه وسلم آياتٍ بعدَ {الفَاتِحَة} في الأخِيرَتَيْنِ

- ‌3- صلاة العصر

- ‌4- صلاة المغرب

- ‌القراءة في سُنَّة المغرب

- ‌5- صلاة العشاء

- ‌6- صلاة الليل

- ‌7- صلاةُ الوَِتْرِ

- ‌القراءة في الركعتين بعد الوتر

- ‌8- صلاة الجمعة

- ‌9- صلاة العيدين

- ‌10- صلاة الجنازة

- ‌تَرْتيلُ القراءةِ وتحسينُ الصوت بها

- ‌الفَتْحُ على الإمام

- ‌الاستعاذةُ والتَّفْلُ في الصلاة لِدفع الوسوسة

- ‌الركوع

- ‌صفة الركوع

- ‌وجوبُ الطُّمأنينة في الركوع

- ‌أذكار الركوع

- ‌إطالة الركوع

- ‌النهي عن قراءةِ القرآنِ في الركوع

- ‌الاعتدال من الركوع، وما يقولُ فيه

- ‌إطالةُ هذا القيام، ووجوبُ الاطمئنان فيه

- ‌السجود

- ‌التكبير ورفع اليدين عند الهوي إلى السجود

- ‌الخرور إلى السجود على اليدين

- ‌[صفة السجود]

- ‌وجوبُ الطُّمأنينة في السُّجود

- ‌أذكارُ السُّجود

- ‌النهيُ عن قراءة القرآن في السُّجود

- ‌إطالةُ السُّجود

- ‌فضل السجود

- ‌السُّجودُ على الأرضِ والحَصِير

- ‌الرَّفعُ مِنَ السُّجود

- ‌الافتراش أو الإقْعَاءُ بن السَّجْدتين

الفصل: ‌ترتيل القراءة وتحسين الصوت بها

‌تَرْتيلُ القراءةِ وتحسينُ الصوت بها

وكان صلى الله عليه وسلم كما أمره الله تعالى - يرتل القرآن ترتيلاً؛ لا هَذّاً، ولا

عَجَلَةً؛ بل قراءة " مفسرة؛ حرفاً حرفاً (1) "(2) ، حتى " كان يرتل السورة؛

حتى تكون أطولَ مِنْ أطولَ منها (3) " (4) .

(1) أي: كلمة كلمة. يعني: مرتلة محققة مبينة. كما في " شرح الشمائل ".

(2)

هو من حديث أم سلمة رضي الله عنها. وقد سبق تخريجه، وذكرنا ألفاظه،

والاختلاف الواقع في سنده ولفظه في (القراءة آيةً آيةً)[ص 293 - 297] .

(3)

أي: حتى تصير السورة القصيرة كـ: {الأَنْفَال} مثلاً - لاشتمالها على

الترتيل - أطول من طويلة خلت عنه كـ: {الأَعْرَاف} . وفيه ندب ترتيل القراءة في

الصلاة، وهو إجماع. كذا في " شرح الشمائل " للمناوي.

وقد اختلف العلماء في أيهما الأفضل: الترتيل وقلة القراءة، أو: السرعة مع كثرة

القراءة؟ على قولين؛ فذهب إلى الأول: ابن مسعود، وابن عباس، واختاره ابن سيرين.

وذهب إلى الآخر: الشافعية، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم:

" من قرأ حرفاً من كتاب الله؛ فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها

". الحديث.

وقد مضى في (القراءة) من التعليق [ص 368] .

وجمع بين القولين ابن القيم في " الزاد "(1/125) ، وتبعه الحافظ في " الفتح "

(9/73) ؛ فقالا - واللفظ للحافظ -:

" والتحقيق: أن لكل من الإسراع والترتيل جهةَ فَضْلٍ؛ بشرط أن يكون المسرع لا

يخلُّ بشيء من الحروف والحركات والسكون الواجبات؛ فلا يمتنع أن يفضُل أحدهما

الآخر، وأن يستويا؛ فإن من رَتّلَ وتأمل؛ كمن تصدق بجوهرة واحدة مُثَمَّنَةٍ، ومن

أسرع؛ كمن تصدق بعدة جواهر، لكن قيمتها قيمة الواحدة، وقد تكون قيمة الواحدة

أكثرَ من قيمة الأُخريات، وقد يكون بالعكس ". اهـ.

(4)

هو من حديث حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنها قالت:

ص: 562

وكان يقول: " يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارْتَقِ، ورتل كما كنت ترتل

في الدنيا؛ فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها (1) " (2) .

ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في سُبْحَتِه قاعداً قط، حتى كان قبل وفاته بعام؛

فكان يصلي في سبحته قاعداً، ويقرأ بالسورة؛ فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها.

أخرجه مالك (1/157) عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد عن المُطَّلِب بن أبي

وَدَاعة السَّهْمي عنها.

ومن طريقه أخرجه مسلم (2/164) ، والنسائي (1/245) ، والترمذي في " السنن "

(2/211 - 212) وفي " الشمائل "(2/99) ، والبيهقي (2/490) ، وأحمد (6/285) ،

وكذا الإمام محمد (112) ؛ كلهم عن مالك به.

ثم أخرجه مسلم، وأحمد من طريق مَعْمَر عن الزهري به. تقدم في (القيام) .

(لطيفة) : في هذا الإسناد ثلاثة صحابة في نسق واحد؛ يروي بعضهم عن بعض:

السائب، والمطلب، وحفصة.

(1)

قلت: جاء في الأثر:

إن عدد آي القرآن على قدر درج الجنة، يقال للقارئ: ارق في الدرج على قدر ما

كنت تقرأ من آي الكتاب. فمن استوفى قراءة جميع القرآن؛ استولى على أقصى درج

الجنة (*) ، ومن قرأ جزءاً منها؛ كان رقيُّهُ في الدرج على قدر ذلك، فيكون منتهى الثواب

عند منتهى القراءة. كذا في " المعالم "(1/289 - 290) للإمام الخطابي.

(2)

هو من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.

أخرجه أبو داود (1/231) ، والترمذي (2/150 - طبع بولاق) ، وابن نصر (70) ،

والحاكم (1/552 - 553) ، والبيهقي (2/53) ، وأحمد (2/192) ، والمقدسي في

_________

(*) وهو (منكر) مخرّج في " الضعيفة "(3858) .

ص: 563

..............................................................................

" المختارة " عن عاصم بن أبي النَّجُود عن زِرِّ بن حُبَيْشٍ عنه.

وهذا سند حسن. وقال الترمذي:

" حسن صحيح ". والحاكم:

" صحيح ". ووافقه الذهبي.

ورواه أيضاً ابن حبان في " صحيحه "؛ كما في " الترغيب "(2/208) ، وعزاه لابن

ماجه أيضاً، ولم أجده عنده، ولم ينسبه إليه صاحب " الذخائر "؛ وإنما هو عنده من

حديث أبي سعيد الخدري (2/415 - 416) من طريق عطية عنه.

وعطية: صدوق يخطئ كثيراً - كما في " التقريب " -؛ فهو في الشواهد لا بأس به.

ومن شواهده:

ما أخرجه أحمد (2/471) من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن

أبي سعيد - شك الأعمش - قال: يقال:

فذكره بنحوه.

هكذا هو في " المسند " موقوف، وله حكم المرفوع، وسنده صحيح على شرط

الشيخين. والشك الواقع فيه لا يضره؛ لأنه متردد بين صحابيين. وليس فيه ذكر الترتيل

كحديث أبي سعيد.

ومنها: عن بُرَيْدة بن الحُصَيْب.

أخرجه أحمد أيضاً (5/348) من طريق بَشِير بن المهاجر: ثني عبد الله بن بُريدة

عن أبيه بُريدة أثناء حديثٍ بلفظ:

" واصعد في درج الجنة وغرفها. فهو في صعود ما دام يقرأ؛ هَذّاً كان أو ترتيلاً ". قال

الهيثمي (7/159) :

" ورجاله رجال " الصحيح " ".

ص: 564

و " كان يمد قراءته (1)(عند حروف المد) ؛ فيمد {بِسْمِ اللَّهِ} ، ويمد

{الرَّحْمَنِ} (2) ، ويمد {الرَّحِيمِ} ، و {نَضِيدٌ} (50: 45) وأمثالها " (3) .

قلت: وهو كما قال. لكن بشيراً هذا: [صدوق] لين الحديث - كما قال في

" التقريب " -.

(1)

قال السندي:

" أي: يطيل الحروف الصالحة للإطالة؛ يستعين بها على التدبر، والتفكر، وتذكير

من يتذكر ".

(2)

أي: يمد الألف بعد الميم، والياء بعد الحاء. ولا يخفى أن المد في كل من

الاسمين الشريفين - وَصْلاً - لا يُزَادُ على قدر (ألف)، وهو المسمى بـ: المد الأصلي

والذاتي والطبيعي، ووقفاً متوسطاً أيضاً، فيمد قدر ألِفَين، أو يطول قدر ثلاث لا غير،

وهو المسمى بـ: المد العارض، وعلى هذا القياسُ. وتفصيلُ أنواع المد محله كتب

القراءة.

وأما ما ابتدعه قراء زماننا - حتى أئمة صلاتنا - أنهم يزيدون على المد الطبيعي إلى

أن يصل قدر أَلِفَيْنِ وأكثر ربما يقصرون المد الواجب! فلا مد الله في عمرهم، ولا أمد في

أمرهم. كذا في " شرح الشمائل " للشيخ علي القاري.

(3)

هو من حديث أنس رضي الله عنه. قال قتادة:

سألت أنس بن مالك عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال:

كان يمد مداً.

أخرجه البخاري في " صحيحه "(9/74) وفي " أفعال العباد "(81) ، وأبو داود

(1/231) ، والنسائي (1/157) ، والترمذي في " الشمائل "(2/137 - 138) ، والبيهقي

(2/52) ، وأحمد (3/119 و 127 و 198) عن جرير بن حازم الأزدي عنه.

ص: 565

وكان يقف على رؤوس الآي - كما سبق بيانه - (1) .

وفي لفظ لأحمد (3/131 و 192 و 289) :

كان يمد صوته مداً.

وكذا أخرجه الإسماعيلي، وأبو نُعيم، وابن أبي داود، وفي رواية له:

كان يمد قراءته.

وأفاد أنه لم يرو هذا الحديث عن قتادة إلا جرير بن حازم وهَمَّام بن يحيى - كما في

" الفتح " -. وزاد البخاري في روايته:

ثم قرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؛ يمدُّ بـ: {بِسْمِ اللَّهِ} ، ويمد:{الرَّحْمَنِ} ،

ويمد: {الرَّحِيمِ} . ثم قال الحافظ:

" وأخرج ابن أبي داود من طريق قطبة بن مالك:

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الفجر: {ق} ، فمر بهذا الحرف:{لَهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} فمدَّ: {نَضِيدٌ} .

وهو شاهد جيد لحديث أنس. وأصله عند مسلم، والترمذي، والنسائي من حديث

قطبة نفسه ".

قلت: وقد مضى في القراءة في الفجر بدون قوله: فمدَّ: {نَضِيدٌ} .

وقد أخرجه البخاري في " أفعال العباد "(81) بلفظ:

يمد بها صوته.

وسنده صحيح على شرطهما.

(1)

في (القراءة آية آية)(ص 293 - 297) .

ص: 566

و " كان أحياناً يُرَجِّعُ (1) صوته؛ كما فعل يوم الفتح وهو على ناقته، يقرأ

سورة {الفَتْحِ} (48: 49)[قراءة لينة] " (2) . وقد حكى عبد الله بن مغفل

ترجيعه هكذا: (آآ آ) .

(1) مِن: التَّرْجِيْع. قال الحافظ:

" هو تقارب ضروب الحركات في القراءة، وأصله: الترديد. وترجيع الصوت: ترديده

في الحلق ". اهـ. وقال المناوي:

" وذلك ينشأ غالباً عن أَرْيحِيَّةٍ وانبساط، والمصطفى صلى الله عليه وسلم حصل له من ذلك حظ

وافر يوم الفتح ".

(2)

هو من حديث عبد الله بن مُغَفَّل رضي الله عنه. رواه عنه معاوية بن قُرَّة قال:

سمعت عبد الله بن مغفل قال:

رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة {الفَتْحِ} ؛ يُرَجِّعُ.

وقال (معاوية) : لولا أن يجتمع الناس حولي؛ لرَجَّعْتُ كما رَجَّعَ.

أخرجه البخاري (8/11 و 474 و 9/75 و 130 و 441) وفي " خلق أفعال العباد "

(ص 81) ، ومسلم (2/193) ، وأبو داود (1/231) ، والترمذي في " الشمائل " (2/141

- 142) ، والبيهقي (2/53) ، وأحمد (4/85 - 86 و 5/54 و 55 و 56) من طريق شعبة

عنه. واللفظ للبخاري.

وفي رواية له - وهي رواية البيهقي -:

وهو يقرأ سورة {الفَتحِ} قراءة لينة. وزاد في رواية أخرى، وكذا أحمد:

فقلت لمعاوية: كيف كان ترجيعه؟ قال:

آآ آ. ثلاث مرات.

ص: 567

..............................................................................

وقد تابعه سعيد عن معاوية.

أخرجه ابن نصر (54) بدون الزيادة. قال الحافظ:

" وقد ثبت الترجيع في غير هذا الموضع؛ فأخرج الترمذي في " الشمائل "،

والنسائي، وابن ماجه، وابن أبي داود - واللفظ له - من حديث أم هانئ:

كنت أسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ، وأنا نائمة على فراشي؛ يُرَجِّعُ القرآن ".

قلت: وهكذا أخرجه الطحاوي (1/203) من طريق قيس بن الربيع عن هلال بن

خَبَّاب عن يحيى بن جعدة عنها.

وسنده حسن.

وهو عند الثلاثة الأولين من طرق عن هلال به؛ دون قوله: يرجِّع القرآن. وقد مضى

في (التعليق) قبيل (صلاة الفجر)[ص 422] .

ورواه ابن نصر (54) ، وفيه الزيادة، ولكن مختصِره المقريزي لم يسق إسناده.

قال الحافظ في شرح قوله: (آآ آ) :

" بهمزة مفتوحة، بعدها ألف ساكنة، ثم همزة أخرى ". ثم ذكر (13/442) نحوه

عن القرطبي. ونقل القاري مثله عينه ميرك شاه، ثم قال:

" والأظهر أنها ثلاث ألفات ممدودات ". ثم قال الحافظ:

" ثم قالوا: يحتمل أمرين؛ أحدهما: أن ذلك حدث من هَزِّ الناقة. والآخر: أنه

أشبع المد في موضعه؛ فحدث ذلك. وهذا الثاني أشبه بالسياق؛ فإنَّ في بعض

طرقه:

لولا أن يجتمع الناس؛ لقرأت لكم بذلك اللحن. أي: النغم ". قال القرطبي:

ص: 568

..............................................................................

" وقوله هذا يشير إلى أن القراءة بالترجيع تجمع نفوس الناس إلى الإصغاء،

وتستميلها بذلك، حتى لا تكاد تصبر عن استماع الترجيع المَشُوْبِ بلذة الحكمة

المهُِيمة ". ثم قال الحافظ:

" والذي يظهر أن في الترجيع قدراً زائداً على الترتيل؛ فعند ابن أبي داود من طريق

أبي إسحاق عن علقمة قال:

بتُّ مع عبد الله بن مسعود في داره، فنام، ثم قام، فكان يقرأ قراءة الرجل في

مسجد حَيِّه؛ لا يرفع صوته، ويُسْمعُ من حوله، ويرتل ولا يرجِّع. وقال الشيخ أبو محمد

ابن أبي جمرة: معنى الترجيع: تحسين التلاوة.. لا ترجيع الغناء؛ لأن القراءة بترجيع

الغناء تنافي الخشوع الذي هو مقصود التلاوة ". قال الشيخ القاري (2/142 - 143) :

" ومن تأمل أحوال السلف؛ علم أنهم بريئون من التصنع في القراءة بالألحان

المخترعة، دون التطريب، والتحسين الطبيعي؛ فالحق أن ما كان منه طبيعة وسجيَّة؛ كان

محموداً - وإنْ أعانته طبيعته على زيادة تحسين وتزيين -؛ لِتأثُّرِ التالي والسامع به.

وأما ما فيه تكلف وتصنع بتعلم أصوات الغناء وألحان مخصوصة؛ فهذه هي التي

كرهها السلف والأتقياء من الخلف ".

(تنبيه) : وأما الحديث الذي أخرجه الترمذي في " الشمائل "(2/143) عن حُسام

ابن مِصَكٍّ عن قتادة قال:

ما بعث الله نبياً إلا حسن الوجه حسن الصوت، وكان نبيكم حسن الوجه حسن

الصوت، وكان لا يرجع. فهو مع انقطاعه؛ فإن حساماً هذا: ضعيف يكاد أن يترك - كما

في " التقريب " -. قال في " الميزان ":

" ومن مناكيره هذا الخبر ".

ص: 569

وكان يأمر بتحسين الصوت بالقرآن؛ فيقول:

" زينوا القرآن بأصواتكم؛ [فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً] "(1) .

(1) هو من حديث البراء.

أخرجه البخاري في " أفعال العباد "(79 - 80) ، وأبو داود (1/231) ، والنسائي

(1/157) ، والدارمي (2/474) ، وابن ماجه (1/404) ، وابن نصر (54) ، {وتمام الرازي

[1/130/300] } ، والحاكم (1/571 - 575) ، والبيهقي (2/53) ، والطيالسي (100) ،

وأحمد (283 و 285 و 304) من طرق عن طلحة بن مُصَرِّف قال: سمعت عبد الرحمن

ابن عوسجة قال: سمعت البراء بن عازب به.

وهذا سند صحيح. وقد علقه البخاري في " صحيحه "(13/444) مجزوماً به،

وذكر الحافظ أن ابن خزيمة وابن حبان أخرجاه أيضاً في " صحيحيهما " من هذا الوجه.

وذكر الحافظ العراقي (1/251) أن الحاكم صححه. وليس في نسختنا من

" المستدرك " تصريحه بالتصحيح، وإنما أكثر في سَرْدِ طرقه عن طلحة وغيره.

وقد أخرجه هو (1/575)(*) ، والخطيب في " تاريخه "(4/261) من طريق محمد

ابن بكار: ثنا قيس بن الربيع عن زُبَيد بن الحارث عن عبد الرحمن بن عوسجة به.

وهذا سند جيد.

وله طرق أخرى؛ فأخرجه الحاكم من طريق إسماعيل بن رجاء عن أوس بن

ضمعج عن البراء به.

وهذا سند صحيح.

ثم أخرجه من طريق أبي مريم عبد الغفار بن القاسم عن عدي بن ثابت عنه.

_________

(*) وليس هو كذلك في " إتحاف المهرة " لابن حجر في نقله عن " المستدرك "؛ فانظر (2/474 - 478) .

ص: 570

..............................................................................

وأبو مريم: متروك.

وله طريق رابع: أخرجه الدارمي، ومن طريقه الحاكم عن زاذان أبي عمر عنه به.

بلفظ:

" حسنوا

". والباقي مثله؛ وفيه الزيادة.

وسنده صحيح. رجاله كلهم ثقات رجال مسلم.

وللحديث شواهد:

منها: عن أبي هريرة. علقه البخاري في " أفعال العباد "(80) : عن سهيل عن أبيه

عنه.

وقد أخرجه ابن حبان في " صحيحه ".

ومنها: عن ابن عباس. رواه الطبراني بإسنادين. وفي أحدهما عبد الله بن خِرَاش:

وثقه ابن حبان، وقال:" ربما أخطأ ". ووثقه البخاري وغيره. وبقية رجاله رجال

" الصحيح " -. كذا في " المجمع "(7/170) -. وفي " التقريب " أن ابن خِرَاش:

" ضعيف ". وقال في " الفتح ":

" أخرجه الدارقطني في " الأفراد " بسند حسن ".

ومنها: عن عبد الرحمن بن عوف.

أخرجه البزار بسند ضعيف.

ومنها: عن ابن مسعود.

أخرجه ابن نصر، وأبو نعيم في " الحلية "(4/236) ، والطبراني من طريق سعيد بن

زَرْبِيّ: ثنا خالد عن إبراهيم عن علقمة قال:

ص: 571

..............................................................................

كنت رجلاً قد أعطاني الله حُسن الصوت بالقرآن، فكان عبد الله يستقرئني، ويقول

لي: فداك أبي وأمي! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

" إن حسن الصوت تزيينٌ للقرآن ".

وروى البزار المرفوع منه. وسعيد بن زَرْبِيّ: ضعيف - كما قال الهيثمي -.

ومنها: عن ابن عباس أيضاً بلفظ:

" لكل شيء حلية، وحلية القرآن حسن الصوت ".

أخرجه الطبراني في " الأوسط ".

وفيه إسماعيل بن عمرو البَجَلي، وهو ضعيف.

ومنها: عن أنس

مثله.

أخرجه البزار.

وفيه عبد الله بن مُحَرَّر، وهو متروك - كما في " المجمع "، و " التقريب " -.

(تنبيه) : اعلم أن لفظ حديث ابن عباس الأول:

" زينوا أصواتكم بالقرآن ". على القلب (1) .

وهو رواية الحاكم في حديث البراء من طريق معمر عن الأعمش عن طلحة، ومن

طريق سفيان عن منصور عن طلحة.

ورواه غيرهما عن الأعمش ومنصور بلفظ الكتاب. وهو الصواب؛ كما في رواية

_________

(1)

{وهو خطأ بَيِّنٌ رواية ودراية. ومن صححه؛ فهو أغرق في الخطأ؛ لمخالفته للروايات

الصحيحة المفسرة في الباب؛ بل هو مثال صالح للحديث المقلوب. وبيان هذا الإجمال في " الأحاديث

الضعيفة " (5326) [و " صحيح الترغيب والترهيب " (2/176 - 177) ] } .

ص: 572

..............................................................................

جميع من رواه عن طلحة، وكذلك هو في الطرق الأخرى والشواهد.

قوله: " زينوا القرآن بأصواتكم "؛ أي: قراءته بأصواتكم؛ أي: بتحسين أصواتكم

عند القراءة؛ فإن الكلام الحسن يَزيد حُسناً وزينةً بالصوتِ الحسن، وهذا مشاهد. كما

قال السندي.

وأما حمل الحديث على القلب؛ أي: زينوا أصواتكم بالقرآن. فمما لا ضرورة لهذا

التأويل؛ إذ إنه خلاف الأصل، والرواية التي وردت على القلب شاذة؛ مخالفة لجميع

روايات الثقات - كما سبق -. وهي أيضاً تنافي الزيادة المذكورة:

" فإن الصوت الحسن يزيدُ القرآنَ حسناً ". فإنها تعلل الأمر بتحسين الصوت عند

قراءة القرآن، وهو أنه يزيد القرآن حسناً؛ فالزينة للقرآن لا للصوت، خلافاً لما قاله

المناوي.

ويشهد لذلك أيضاً حديث أنس، وابن عباس - وأحدهما يقوي الآخر -:

" لكل شيء حلية، وحلية القرآن الصوت الحسن "(*) . قال الشيخ علي القاري:

" يعني: كما أن الحُلَلَ والحُلِيَّ يزيد الحسناء حسناً، وهو أمر مشاهد؛ فدلَّ على أن

رواية العكس - ويعني: " زينوا أصواتكم بالقرآن " - محمولة على القلب، لا العكس.

فتدبر. ولا منع من الجمع ". اهـ. قال في " فيض القدير ":

" وفي أدائه بحسن الصوت وجودة الأداء بَعْثٌ للقلوب على استماعه وتدبره

والإصغاء إليه. قال التُّورْبِشْتي:

هذا إذا لم يخرجه التغني عن التجويد، ولم يصرفه عن مراعاة النظم في الكلمات

والحروف، فإن انتهى إلى ذلك؛ عاد الاستحبابُ كراهةً.

_________

(*) جزم الشيخ في " الضعيفة "(4322) بأنه ضعيف. وانظر هنا (ص 572) .

ص: 573

وكان يقول:

" لله أشد أَذَنَاً إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن؛ [يجهر به] من صاحب

القينة " (1)

وأما ما أحدثه المتكلفون بمعرفة الأوزان والموسيقى؛ فيأخذون في كلام الله مأخذهم

في التشبيب والغزل؛ فإنه من أسوأ البدع، فيجب على السامع النكير، وعلى التالي التعزير.

وأخذ جمع من الصوفية منه ندب السماع من حَسَن الصوت، وتُعقب بأنه قياس

فاسد، وتشبيه للشيء بما ليس مثله، وكيف يشبه ما أمر الله به بما نهى عنه؟! ". انتهى.

(1)

هو من حديث فضالة بن عبيد (*) .

أخرجه الحاكم (1/571)، وأحمد (6/19) من طريق الوليد بن مسلم: ثني أبو

عَمْرو الأوزاعي: ثني إسماعيل بن عُبيد الله بن أبي المهاجر عنه به. وقال الحاكم:

" صحيح على شرط الشيخين ". وتعقبه الذهبي بقوله:

" بل هو منقطع ".

قلت: لكن وصله ابن ماجه (1/403) ، وابن نصر (54) ، وأحمد أيضاً (6/20) من

طرق عن الوليد: ثنا الأوزاعي: ثنا إسماعيل بن عبيد الله عن مَيْسَرة مولى فضالة عن فضالة به.

والزيادة لابن ماجه.

وهكذا علقه البخاري في " أفعال العباد "(79) مجزوماً؛ فقال:

" وقال ميسرة مولى فَضَالة عن فَضَالة به ".

ولكن ميسرة هذا ما روى عنه سوى إسماعيل هذا - كما في " الميزان " -، ولم يوثقه

_________

(*) هذا الحديث ضرب عليه الشيخ رحمه الله في الأصل، وأبقى تخريجه مشيراً في نهايته إلى

ضعفه، وقد رأينا إثباته مع تخريجه بهذه الصورة، ودون حذف المتن؛ مكتفين بجعله دون تسويد.

ص: 574

ويقول:

" إن من أحسن الناس صوتاً بالقرآن: الذي إذا سمعتموه يقرأ؛

حسبتموه يخشى الله " (1)

غير ابن حبان؛ فهو في عداد المجهولين. ولذلك قال في " التقريب ":

" مقبول ". يعني: إذا توبع في روايته. ولَمَّا لم نجد له متابعاً، ولا لحديثه شاهداً؛

ضربنا عليه، وحكمنا بضعفه - وإن حسنه صاحب " الزوائد " -. والله أعلم.

(1)

هو حديث صحيح. جاء من وجوه مختلفة؛ مرسلاً وموصولاً.

أما المرسل؛ [فأخرجه {ابن المبارك في " الزهد " (1/162) " الكواكب " (575) }

قال: ثنا يونس بن يزيد عن الزهري قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

فذكره نحوه] .

وأخرجه الدارمي (2/471) عن مِسْعَر عن عبد الكريم عن طاوس قال:

سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أحسن صوتاً بالقرآن، وأحسن قراءة؟ قال:

" من إذا سمعته يقرأ؛ أُرِيْتَ أنه يخشى الله ".

قال طاوس: وكان طَلْقٌ كذلك.

وعبد الكريم هذا هو: ابن أبي المخارق، أبو أُمية المُعَلّم؛ ضعيف - كما في " التقريب " -.

وبقية رجاله رجال " الصحيحين ".

وقد وصله أبو نعيم في " حلية الأولياء "(4/19) من طريق إسماعيل بن عمرو: ثنا

مِسْعَر بن كِدَام عن عبد الكريم المعلم عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنه به. وقال:

" غريب من حديث مِسْعَر؛ لم يروه عنه مرفوعاً موصولاً إلا إسماعيل ".

قلت: وهو البَجَلي، وهو ضعيف.

وله طريق أخرى عن طاوس.

ص: 575

..............................................................................

أخرجه الطبراني، ومن طريقه أبو نعيم (4/19) عن ابن لَهِيعة عن عمرو بن دينار

عن طاوس به بلفظ:

" إن أحسن الناس قراءة من إذا قرأ القرآن؛ يَتَحَزَّن ". قال في " المجمع "(7/170) :

"وابن لَهيعة: حسن الحديث، وفيه ضعف ".

وله عن ابن عباس طريق ثان. قال أبو نعيم (3/317) : ثنا محمد بن أحمد بن

الحسن: ثنا عباس بن أحمد بن الحسن الوَشَّاء: ثنا أحمد بن عمر الوكيعي: ثنا

قَبِيصة: ثنا سفيان عن ابن جُرَيج عن عطاء عن ابن عباس به نحو حديث مِسْعَر

المرسل. وقال:

" هذا حديث غريب من حديث الثوري عن ابن جريج عن عطاء، انفرد به أحمد

عن قَبيصة ".

قلت: أحمد هذا: ثقة من شيوخ مسلم، ومن فوقه متفق عليهم.

وقد أخرجه المقدسي في " المختارة " عن أبي نُعَيم.

وللحديث شواهد:

منها: عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجَمِّع عن أبي الزبير عن جابر مرفوعاً بلفظ

الكتاب. وفي " الزوائد ":

" إسناده ضعيف؛ لضعف إبراهيم بن إسماعيل هذا ". اهـ. وقال الحافظ العراقي

(1/257) :

" سنده ضعيف ".

ومنها: عن ابن عمر، وله منه طريقان:

الأول: قال ابن نصر (55) : ثنا محمد بن يحيى: ثنا عمر بن عمر: أخبرنا مرزوق

ص: 576

وكان يأمر بالتغني بالقرآن؛ فيقول:

" تعلَّموا كتاب الله، وتعاهدوه، واقتنوه، وتغنَّوا به؛ فوالذي نفسي بيده!

لهو أشد تفلتاً من المخاض في العقل (1) " (2) . ويقول:

أبو بكر عن الأحول عن طاوس عن ابن عمر به.

وهذا سند حسن. رجاله ثقات معروفون؛ غير عمر بن عمر؛ فلم أجد من ذكره،

ويغلب على الظن أنه عثمان بن عمر (*) ؛ فتحرف على الناسخ أو الطابع، وذلك لأن

عثمان هذا هو الذي يروي عن مرزوق، وعنه محمد بن يحيى هذا؛ وهو الذُّهْلي الحافظ.

والطريق الآخر: أخرجه الخطيب (3/208) عن حُميد بن حَمّاد بن خُوَار: ثنا

مِسْعَر بن كِدَام عن عبد الله بن دينار عنه.

وحُميد هذا: لين الحديث - كما في " التقريب " -، ومن طريقه رواه الطبراني في

" الأوسط "، والبزار. قال في " المجمع " (7/170) :

" وبقية رجال البزار رجال الصحيح ".

[ومنها: عن عائشة مرفوعاً نحوه: عند {أبي نعيم في " أخبار أصبهان "} (1/58) ] .

فهذه شواهد وطرق يقوي بعضها بعضاً؛ فهو صحيح أو حسن لغيره، ولعله لذلك

جزم البخاري به؛ - فعلقه في " أفعال العباد "(81) مجزوماً به.

(1)

{المخاض: هي الإبل، والعُقُل: جمع عقال: وهو الحبل الذي يعقل به البعير} .

(2)

ثبت ذلك في حديث عقبة بن عامر الجُهَني مرفوعاً.

أخرجه الدارمي (2/439) ، وابن نصر (55 - 56) ، وأحمد (4/147 و 150 و 153)

من طرق عن موسى بن عُلَي بن رباح قال:

_________

(*) وهو الصواب، فهو في " مسند عبد بن حميد "(802) على الصواب.

ص: 577

..............................................................................

سمعت أبي يقول: سمعت عقبة بن عامر يقول:

مرفوعاً به.

وهذا سند صحيح على شرط مسلم.

وهكذا أخرجه ابن أبي شيبة - كما في " الزاد "(1/193) -، وأبو عُبَيد، والنسائي

في (كتاب فضائل القرآن) - كما قال ابن كثير (118) -.

وفي رواية له - أعني: النسائي، وكذا أحمد - من طريق قَبَاثِ بن رَزِين قال:

سمعت عُلَيّ بن رَبَاح به بلفظ:

كنا جلوساً في المسجد نقرأ القرآن، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلّم علينا، فرددنا

عليه السلام، ثم قال:

الحديث.

وهذا سند صحيح أيضاً. قال ابن كثير:

" ففيه دلالة على السلام على القارئ ".

قلت: وهذه فائدة عزيزة؛ قلما توجد في حديث. وفيه رد على من منع السلام

على القارئ من علمائنا (*) . وفيه أيضاً استحباب رد القارئ السلام على من سَلَّم عليه.

وقد استظهر النووي في " التبيان "(ص 24) وجوب ذلك؛ قياساً على وجوب الرد في

حال الخطبة على الأرجح عند الشافعية.

قلت: والأَوْلى الاحتجاجُ على ذلك بعموم الأدلة القاضية بوجوب رد السلام؛

كقوله عليه الصلاة والسلام:

" حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام

" الحديث.

متفق عليه.

_________

(*) وانظر لمزيد فائدة تخريج هذا الحديث والكلام عليه في " السلسلة الصحيحة "(3285) .

ص: 578

..............................................................................

فهو عام يشمل كل سلام، إلا ما استثناه الدليل؛ كالسلام على المصلي، فإنه - وإن

كان يُشرع السلام عليه؛ فإنه - لا يجوز رده إلا بالإشارة - كما سيأتي في الكتاب -.

فالاحتجاج بهذا أولى من الاحتجاج بالقياس؛ لأن المقيس عليه - وهو الردُّ حالَ

الخطبة - مختلَفٌ فيه بين العلماء، حتى عند الشافعية - كما يشير إليه كلام النووي

نفسه -.

وأما الاحتجاج بالعموم؛ فهو حجة عند جميع العلماء؛ إذا لم يعارضه نص خاص

- كما في هذا المقام -؛ فكان الاحتجاج به أولى. والله أعلم.

ثم أفاد النووي جواز عَوْدِ القارئ بعد رد السلام إِلى القراءة بدون تجديد الاستعاذة؛

" ولو أعاد التعوذ؛ كان حسناً ".

(تنبيه) : قد رأيت ابن كثير عزا الحديث للنسائي في (كتاب الفضائل) ، وكذلك

صنع الشيخ النابلسي في " الذخائر "، ولا يوجد في " سنن النسائي الصغرى " - المعروف

بـ: " المجتبى " - كتاب بهذا الاسم؛ فالظاهر أنه في " سننه الكبرى "، لكن النابلسي قد

ذكر في مقدمة كتابه أنه إنما يُعزى إِلى " الصغرى " للنسائي دون " الكبرى " لقلة وجودها؛

فيوهم صنيعه أن هذا الحديث في " الصغرى " له. وليس كذلك. وكيف أورد الحديث

الهيثمي في " المجمع "(7/169) منسوباً لأحمد، والطبراني، ولو كان في " السنن

الصغرى "؛ لما أورده في " المجمع " - كما هو شأنه في كتابه هذا -؟! وليس هو بأول إِيهام

من نوعه يقع من النابلسي، بل قد تكرر ذلك منه؛ كما هو معلق عندي على حاشية

الكتاب في مواضع شتى، وفيه خطيآت أخرى؛ كان من الواجب قبل طبعه أن ينبه

عليها!

ص: 579

" ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن "(1) .

(1) هو من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

أخرجه أبو داود (1/231) ، وعنه البيهقي (54) ، والدارمي (2/471) ، وابن نصر

(55)

، والطحاوي في " المشكل "(2/127 - 128) ، والحاكم (1/569) ، والطيالسي

(ص 28) ، وأحمد (1/172 و 175 و 179) من طرق عن عبد الله بن أبي مُلَيكة عن

عبيد الله بن أبي نَهِيك عنه به. وقال الحاكم:

" صحيح ". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. وصححه أيضاً أبو عوانة - كما في

" الفتح "(9/57) -.

وأخرجه الحاكم (1/570) من طريق عمرو بن الحارث عن ابن أبي مُلَيكة:

أنه حدثه عن ناس دخلوا على سعد بن أبي وقاص، فسألوه عن القرآن؟ فقال

سعد:

إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

فذكره. قال الحاكم:

" فهذه الرواية تدل على أن ابن أبي مُليكة لم يسمعه من راوٍ واحد؛ إنما سمعه من

رواة لسعد ".

قلت: وممن سمعه من سعد ورواه عنه ابنُ أبي مليكة:

عُبيد الله بن أبي يزيد؛ قال:

مَرَّ بنا أبو لُبابة، فاتبعناه حتى دخل بيته، فدخلنا عليه، فإذا رجل رثُّ البيت،

رث الهيئة، فسمعته يقول:

به.

أخرجه أبو داود، وكذا الطحاوي (2/129) من طريق عبد الجبار بن الورد قال:

سمعت ابن أبي مُليكة يقول: قال عبيد الله بن أبي يزيد

. وفيه زيادة: قال:

ص: 580

..............................................................................

فقلت: لابن أبي مُليكة: يا أبا محمد! أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت؟ قال:

يُحَسِّنُه ما استطاع.

وإسناده حسن. وقال الحافظ (9/60) :

" صحيح ". كذا قال. وعبد الجبار بن الْوَرْدِ - قد قال هو نفسه في " التقريب " -:

" صدوق يهم ". فمثله لا يجوز أن يصحح حديثه؛ غايته أن يكون حسن الحديث.

ومنهم: عبد الرحمن بن الثائب قال:

قدم علينا سعد بن أبي وقاص، وقد كف بصره، فسلمت عليه، فقال: من أنت؟

فأخبرته. فقال: مرحباً يا ابن أخي! بَلَغَني أنك حسن الصوت بالقرآن، سمعت رسول

الله صلى الله عليه وسلم يقول:

" إن هذا القرآن نزل بِحَزَن، فإذا قرأتموه؛ فابكوا، فإن لم تبكوا؛ فتباكوا، وتغنَّوا به؛

فمن لم يتغن به؛ فليس منا ".

أخرجه ابن ماجه (1/402) من طريق أبي رافع عن ابن أبي مليكة عنه.

وأبو رفع - اسمه: إسماعيل بن رافع -: ضعيف متروك - كما في " الزوائد ". وفي

" التقريب ":

" ضعيف الحفظ ". وقد أشار المنذري في " الترغيب "(2/215) إلى ضعف

الحديث.

وعليه؛ فقول الحافظ العراقي (1/249) :

" إسناده جيد ". غير جيد.

وعبد الرحمن بن الثائب: لم أعرفه. وأخشى أن يكون وقع في اسم أبيه

ص: 581

..............................................................................

تصحيف (*)، ولعله: ابن سابط؛ فإنهم ذكروه فيمن يروي عن سعد؛ لكن قال ابن معين:

" لم يسمع منه ".

وفي هذه الرواية أنه سمع منه. لكن الإسناد إليه لا يصح. والله أعلم.

وللحديث شواهد:

منها: عن ابن عباس.

أخرجه الحاكم من طريق عُبيد الله بن الأخنس عن ابن أبي مُلَيكة عنه به. وقال:

" إسناد شاذ ".

ورواه أيضاً البزار، والطبراني؛ كما في " المجمع "(7/170)، وقال:

" ورجال البزار رجال " الصحيح " ".

قلت: وكذلك رجاله عند الحاكم، إلا العباس بن محمد الدُّوري، وهو ثقة حافظ،

وإنما حكم الحاكم بشذوذه؛ لأن كل من رواه من الثقات عن ابن أبي مُلَيكة جعله من

(مسند سعد بن أبي وقاص) ، فخالفهم عبيد الله بن الأخنس؛ فجعله من (مسند ابن

عباس) . وعبيد الله هذا، وإن كان من رجال الشيخين؛ ففي حفظه ضعف. وفي

" التقريب ":

" صدوق. قال ابن حبان: يخطئ ".

وقد تابعه عِسْلُ بن سفيان عند الحاكم، وقال:

" ليس بمستبعد من عِسْل بن سُفيان الوهمُ، والحديث راجع إلى حديث سعد بن

أبي وقاص ".

_________

(*) هو (السائب) كما في " تحفة الأشراف "(3/302/3900) ، و " سنن ابن ماجه "(1354) .

ص: 582

ويقول:

" ما أذن الله لشيء ما أَذِنَ (1)(وفي لفظ: كأَذَنِه) لنبي [حسن الصوت،

ــ

(وفي لفظ: حسن الترنم)(2) ] يتغنى بالقرآن؛ [يجهر به] " (3) .

ومنها: عن عائشة، وعن ابن الزبير. رواهما البزار بإسنادين ضعيفين.

ومنها: عن أبي هريرة.

أخرجه البخاري (13/429 - 430) ، والطحاوي (2/129) ، والخطيب في " تاريخه "

(1/395) . "

ولكن أخطأ بعض الرواة في لفظه، وإنما رواه أبو هريرة باللفظ المذكور بعد هذا - كما

يأتي بيانه -.

(1)

قال الحافظ المنذري:

" أذِن - بكسر الذال -؛ أي: ما استمع لشيء من كلام الناس كما استمع الله إلى

من تغنى بالقرآن؛ أي: يُحسِّن به صوته. وذهب سفيان بن عيينة وغيره إلى أنه من

الاستغناء، وهو مردود ".

(2)

انظر " الضعيفة "(6640)[و " ضعيف الترغيب والترهيب " (1/438) ] .

(3)

هو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

رواه عنه أبو سلمة بن عبد الرحمن، ورواه عنه خمسة من الثقات: الزهري،

ويحيى بن أبي كثير، ومحمد بن عمرو، ومحمد بن إبراهيم التيمي، وعمرو بن دينار.

أما حديث الزهري: فأخرجه البخاري في " صحيحه "(9/56 و 57 و 13/392)

وفي " أفعال العباد "(79) ، ومسلم (2/192) ، والنسائي (1/157) ، والدارمي (2/472) ،

وابن نصر (55) ، والطحاوي في " المشكل "(2/127) ، {وابن منده في " التوحيد "

ص: 583

..............................................................................

(81/1) = [173/407] } ، والبيهقي (2/54) ، وأحمد (2/271 و 285) من طرق عنه.

ومن هذا الوجه أخرجه ابن جرير الطبري، وفيه الزيادة الأولى باللفظين - كما في

" الفتح "(9/58) -.

وإسناده صحيح - كما قال المنذري في " الترغيب "(2/415) -، وزاد البخاري في

رواية، والدارمي، وأحمد في آخر الحديث:

وقال صاحبٌ له: يريد: " يجهر به ". قال الحافظ:

" الضمير في (له) لأبي سلمة، والصاحب المذكور هو: عبد الحميد بن عبد الرحمن

ابن زيد بن الخطاب؛ بَيَّنَهُ الزُّبيَدي عن ابن شهاب في هذا الحديث. أخرجه ابن أبي

يحيى الذُّهْلي في " الزُّهْريات " من طريقه بلفظ:

" ما أذن الله بشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن ".

قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الحميد بن عبد الرحمن عن أبي سلمة:

" يتغنى بالقرآن ": " يجهر به ". فكأن هذا التفسير لم يسمعه ابن شهاب من أبي

سلمة، وسمعه من عبد الحميد عنه ".

قلت: وهي زيادة ثابتة في غير رواية الزهري عن أبي سلمة - كما يأتي -.

وأما حديث يحيى بن أبي كثير: فأخرجه مسلم بلفظ:

" كأذنه "(*) .. بدل: " ما أذن ".

وفيه الزيادة الثانية باللفظ الأول.

وأما حديث محمد بن عمرو: فأخرجه مسلم، والدارمي (1/349) ، و {ابن

_________

(*){وابن منده في " التوحيد " [من طريقه بلفظ: " إِذْنَه "] } .

ص: 584

..............................................................................

منده} ، وأحمد (2/450) بلفظ يحيى تماماً.

وأما حديث محمد بن إبراهيم التيمي: فأخرجه البخاري (13/444 - 445) وفي

" أفعال العباد " أيضاً، ومسلم، وأبو داود (1/231 - 232) ، والنسائي، و {ابن منده} ،

والبيهقي، وفيه الزيادة الأولى باللفظ الأول. وفيه أيضاً الزيادة الأخيرة.

وأما حديث عمرو بن دينار: فرواه ابن أبي داود، والطحاوي - كما في " الفتح "

(9/58) -، وفيه الزيادة الأولى.

(فائدة) : وأما الحديث الذي رواه الطبراني في " الأوسط " عن جابر مرفوعاً بلفظ:

" إن الله لم يأذن لمترنم بالقرآن ". ففي إسناده سليمان بن داود الشَّاذَكُوني، وهو

كذاب - كما قال الهيثمي في " المجمع "(7/170) -.

(تنبيه) : قد أخرج البخاري الحديث (13/429 - 430) ، والطحاوي (2/129) ،

وكذا الخطيب في " تاريخه "(1/394 - 395) من طريق أبي عاصم: أخبرنا ابن جُرَيج:

أخبرنا ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ:

" ليس منا من لم يتغن بالقرآن ". وزاد غيره:

" يجهر به ".

وهو في " المسند "(2/285) من طريق عبد الرزاق ومحمد بن بكر قالا: أنا ابن

جُريج به بلفظ:

" لم يأذن الله لشيء

" الحديث. وكذلك رواه غير من ذكرنا عن ابن جُريج. قال

الحافظ (13/429) :

" والحديث واحد، إلا أن بعضهم رواه بلفظ:

" ما أذن الله ". وبعضهم رواه بلفظ:

ص: 585

..............................................................................

" ليس منا ".

قلت: والصواب: الأول. قال الخطيب - بعد أن ساق الحديث -:

" قال أبو بكر النيسابوري: وقول أبي عاصم فيه: " ليس منا من لم يتغن بالقرآن "

وهم من أبي عاصم؛ لكثرة من رواه عنه هكذا ". يعني: باللفظ الأول. قال الخطيب:

" روى هذا الحديث عبد الرزاق بن همام وحجاج بن محمد عن ابن جريج عن ابن

شهاب عن أبي سلمة.

وكذلك رواه الأوزاعي، وعمرو بن الحارث، ومحمد بن الوليد الزُّبيَدي، وشعيب بن

أبي حمزة، ومَعْمَر بن راشد، ومعاوية بن يحيى الصَّدَفي، والوليد بن محمد المُوَقِّري عن

الزهري، واتفقوا كلهم - وابن جريج منهم - على أن لفظه:

" ما أذن الله

" إلخ.

وأما المتن الذي ذكره أبو عاصم؛ فإنما يُروى عن ابن أبي مليكة عن ابن نَهِيك عن

سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم ".

قلت: وهو الحديث الذي قبل هذا (1) . [انظر (ص 580) ، وتتمة البحث تأتي

(ص 588) ] .

_________

(1)

{ (تنبيه) : عزا حديث أبي داود هذا ابنُ الأثير في " جامع الأصول " للبخاري من حديث

أبي هريرة رضي الله عنه، فعلق عليه الأستاذ الأخ عبد القادر الأرناؤوط ومن يعاونه؛ فقالوا (2/457) :

" وقد أبعد الألباني (!) النُّجْعَة في كتابه " صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم " (ص 106) ؛ فعزاه إلى أبي

داود ".

يشيران بذلك إلى أنه ليس من صنيع أهل العلم أن يُعزى الحديث إلى غير " الصحيحين " وقد

أخرجه أحدهما. وجواباً عليه أقول:

إن ما أشارا إليه حق وصواب - بغض النظر عن قصدهما بما قالاه -، ولكن ينبغي أن يعلما أنه =

ص: 586

..............................................................................

.........................................

_________

= ما كان علي خافياً منذ ألفت هذا الكتاب المبارك - إن شاء الله تعالى - أن البخاري أخرجه من

حديث أبي هريرة، ولكني تركت عزوه إليه عمداً؛ لا جهلاً، أو على الأقل سهواً؛ كما قد يذهبان

إليه، ولو كان الأمر كما قد يظن ظان؛ لكان في هذه المدة التي مضت على طبعات الكتاب ما يكفي

ليتنبه فيها الساهي! أو يتعلم الجاهل! ولكن لم يكن شيء من ذلك والحمد لله؛ فإني كنت على

علم أن أحد رواته - وهو أبو عاصم الضَّحَّاك بن مَخْلَد النبيل، وهو ثقة - أخطأ في روايته الحديث عن

أبي هريرة؛ فإنه رواه عن ابن جُريج عن ابن شهاب عن أبي سلمة عنه مرفوعاً به. وبيان ذلك:

أن جماعة من الثقات قد رووه عن ابن جريج أيضاً بالسند المذكور عن أبي هريرة مرفوعاً، لكن

بلفظ:

" ما أذن الله لشيء

" الحديث.

وتابع ابنَ جريج على هذا اللفظ جمعٌ أكثرُ من الثقات؛ كلهم رووه مثله عن الزهري به.

وتابع الزهريَّ عليه يحيى بن أبي كثير، ومحمد بن عمرو، ومحمد بن إبراهيم التيمي، وعمرو

ابن دينار - وكلهم ثقات أيضاً -؛ قالوا جميعاً: عن أبي سلمة عن أبي هريرة به.

فاتفاق هؤلاء الثقات الأثبات بهذا الإسناد الواحد عن أبي هريرة على رواية الحديث عنه باللفظ

الثاني؛ أكبر دليل على أن تفرد أبي عاصم بروايته باللفظ الأول إنما هو خطأ بَيَّن منه، وهذا هو

(الحديث الشاذ) المعروف وصفُه عند العلماء؛ ولذلك جزم الحافظ أبو بكر النيسابوري على أن أبا

عاصم قد وهم في هذا اللفظ؛ قال:

" لكثرة من رواه عن ابن جريج باللفظ الثاني ".

قلت: ولكثرة من رواه عن الزهري به، وكثرة من تابعه عليه عن أبي سلمة كما ذكرت؛ ولذلك

تابع الخطيب البغدادي أبا بكر النيسابوري على ما نقلته عنه، وأشار ابن الأثير في " جامعه "، ثم

الحافظ ابن حجر في " الفتح "(13/429) إلى توهيم هذا اللفظ أيضاً إشارةً لطيفة قد لا يتنبه لها

البعض، ولو تنبه؛ فلربما لم يكن عنده من الجرأة العلمية ما يُشَجِّعه على أن يخطِّئ راوياً من رواة

" الصحيح ".

هذا خلاصة التحقيق الذي كنت كتبته في " الأصل " مند نحو عشرين سنة؛ رأيت أنه لا بد

من ذكرها؛ ليعلم كل منصف إن كنت أنا الذي (قد أبعدت النُّجعة) ؛ أم أن غيري هو الذي لم يحسن

النُّجعة حينما رد عليّ بما هو خطأ عند أهل العلم بالحديث، فأراد مني أن أشاركه في خطئه، وأن

أقره

والله المستعان. =

ص: 587

..............................................................................

وقوله: " يتغنى بالقرآن "؛ اختُلف في المراد من (التغني) على خمسة أقوال؛ ذكرها

في " الفتح "، والصحيح - كما قال النووي في " شرح مسلم " - أنه: تحسين الصوت، قال:

" وهو قول أكثر العلماء من الطوائف وأصحاب الفنون ".

ويؤيده قوله: " يجهر به ". وكذا قوله: " حسن الترنم ". فإن الترنم - كما قال الطبري -

لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه القارئ، وطرَّب به. ولذلك قال الحافظ:

" وظواهر الأخبار ترجح أن المراد تحسين الصوت ". قال:

" ولا شك أن النفوس تميل إِلى سماع القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم؛ لأن

للتطريب تأثيراً في رقة القلب، وإجراء الدمع ". اهـ. وقال ابن القيم (1/193) :

" وذلك عَوْنٌ على المقصود، وهو بمنزلة الحلاوة التي تُجعل في الدواء؛ لتُنفِذه إلى

موضع الداء، وبمنزلة الأفاويه والطِّيب الذي يُجعل في الطعام؛ لتكون الطبيعة أدعى له

قَبُولاً، وبمنزلة الطِّيب والتحلِّي وتجمُّل المرأة لبعلها؛ ليكون أدعى إلى مقاصد النكاح ".

قال السيد رشيد رضا رحمه الله:

" كثيراً ما رأينا بعض أدباء النصارى يرغبون في سماع القرآن من القراء المجودين،

ويعترفون بقوة تأثيره في القلوب.

وفي " الصحيح " أن المشركين كانوا يؤذون أبا بكر رضي الله عنه، ويمنعونه من الصلاة

في المسجد الحرام، ثم حاولوا منعه من رفع صوته بالقرآن في بيته؛ لما رأوا من إقبال

_________

= ثم رأيت الشيخ شعيباً الأرناؤوط - المتعاون مع الأخ عبد القادر على الانتقاد المردود عليه بما تقدم

من التحقيق الذي قد لا يوجد في غير هذا المكان - قد تجاهله ولم يستفد منه شيئاً في تعليقه على

كتاب " شرح السنة "(4/485) للبغوي؛ حيث أقره على تصحيحه لحديث أبي هريرة المعلول بشهادة

من تقدم من الحفاظ! [من " الصفة " المطبوع (ص 125 - 127) بتصرف يسير] .

ص: 588

..............................................................................

الناس - ولا سيما النساء، والأولاد المُدْرِكين - عليه، وتأثير قراءته في نفوسهم. وقد أدرك

بعض علماء الإفرنج ما كان لتلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن من التأثير العظيم في جذب

العرب إلى الإسلام، واعترف بأنه كان أشد تأثيراً من جميع معجزات الأنبياء في هداية

الناس ". اهـ.

ثم قال الحافظ:

" وكان بين السلف اختلاف في جواز القراءة بالألحان. أما تحسين الصوت وتقديم

حَسَنِ الصوت على غيره؛ فلا نزاع في ذلك ". ثم ذكر أقوال العلماء في القراءة

بالألحان، وحكى جوازه عن جماعة من الصحابة والتابعين، وهو المنصوص للشافعي،

ونقله الطحاوي عن الحنفية. ثم قال:

" ومحل هذا الاختلاف إذا لم يختل شيء من الحروف عن مخرجه، فلو تغير - قال

النووي في " التبيان ": - أجمعوا على تحريمه ". اهـ.

وقد ذكر ابن القيم في " الزاد " أقوال الفريقين المبيحين للقراءة بالألحان والمانعين

(1/191 - 195)، ثم قال:

" وفصل النزاع أن يقال: التطريب والتغنِّي على وجهين:

أحدهما: ما اقتضته الطبيعة، وسمحت به من غير تكلُّف، ولا تمرين وتعليم؛ بل

إذا خُلِّيَ وطَبْعَه، واسترسلت طبيعته؛ جاءت بذلك التطريب والتلحين، فذلك جائز،

وإن أعان طبيعتَه فضلُ تزيين وتحسين؛ كما قال أبو موسى للنبي صلى الله عليه وسلم: لو علمتُ أنك

تسمع؛ لحبّرتُه لك تحبيراً.

والحزين، ومن هاجه الطرب والحب والشوق لا يملك من نفسه دفع التحزين

والتطريب في القراءة، ولكن النفوس تقبله، وتستحليه؛ لموافقته الطبع، وعدم التكلف،

ص: 589

..............................................................................

والتصنع؛ فهو مطبوع لا متطبع، وكَلِف لا متكلِّف.

فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه؛ وهو التغني الممدوح المحمود، وهو

الذي يتأثر به السامع والتالي، وعلى هذا الوجه تحمل أدلة أرباب هذا القول كلها.

الوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعة من الصنائع، وليس في الطبع السماحة به،

بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن؛ كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة

والمركبة على إيقاعات مخصوصة، وأوزان مخترعة، لا تحصل إلا بالتعلم والتكلف؛

فهذه هي التي كرهها السلف، وعابوها، وذموها، ومنعوا القراءة بها، وأنكروا على من قرأ

بها.

وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه. وبهذا التفصيل يزول الاشتباه، ويتبين

الصواب من غيره، وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعاً أنهم برآء من القراءة

بألحان الموسيقى المتكلفة؛ التي هي إيقاع، وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم

أتقى لله من أن يقرؤوا بها ويُسَوِّغوها، ويعلم قطعاً أنهم كانوا يقرؤون بالتحزين والتطريب،

ويَحَسِّنون أصواتهم بالقرآن، ويقرؤونه بشجى تارة، وبطرب تارة، وبشوق تارة، وهذا أمر

[مركوز] في الطباع تقاضيه، ولم يَنْهَ عنه الشارع، مع شدة تقاضي الطباع له؛ بل أرشد

إليه، وندب إليه، وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به ". وقال:

" قالوا: ولا بدَّ للنفس من طرب واشتياق إلى الغناء؛ فعُوِّضَت عن طرب الغناء

بطرب القرآن، كما عُوِّضت عن كل محرم ومكروه بما هو خير لها منه؛ كما عُوِّضت عن

الاستقسام بالأزلام بالاستخارة؛ التي هي محض التوحيد والتوكل، وعن السِّفاح

بالنكاح، وعن القمار بالمراهنة بالنِّصَال وسباق الخيل، وعن السماع الشيطاني بالسماع

الرحماني القرآني، ونظائره كثيرة جداً ".

ص: 590

و " قال لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه:

" لو رأيتَني وأنا أستمع لقراءتك البارحة! لقد أوتيتَ مزماراً من مزامير (1)

آل داود ". [فقال أبو موسى: لو علمتُ مكانك؛ لحبّرت (2) لك تحبيراً] "(3) .

(1) قال العلماء: المراد بالمزمار هنا: الصوت الحسن. وأصل الزمر: الغناء. وآل

داود: هو داود نفسه. وآل فلان: قد يطلق على نفسه، وكان داود صلى الله عليه وسلم حسن الصوت

جداً. ذكره النووي في " شرح مسلم ".

(2)

يريد: تحسين الصوت وتحزينه. يقال: حبَّرت الشيء تحبيراً؛ إذا حسنته - كما

في " النهاية " -. قال الحافظ ابن كثير:

" دل هذا على جواز تعاطي ذلك وتكلفه، وقد كان أبو موسى - كما قال عليه الصلاة

والسلام - قد أُعطي صوتاً حسناً، مع خشية تامة، ورقة أهل اليمن؛ فدل على أن هذا

من الأمور الشرعية ".

(3)

وهو من حديثه.

أخرجه البخاري (9/76) وفي " أفعال العباد "(79) ، ومسلم (2/193) ، والترمذي

(2/318 - طبع بولاق) - وقال: " حسن صحيح ". كما في نسخة - هو، والبخاري عن

بُريد بن عبد الله بن أبي بُردة، ومسلم عن طلحة - وهو: ابن يحيى -، واللفظ له؛ كلاهما

عن أبي بُردة عن أبي موسى [دون الزيادة] .

وأخرجه الحاكم (3/466) من طريق خالد بن نافع الأشعري عن سعيد بن أبي

بُردة عن أبي بُردة بن أبي موسى قال:

مر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي موسى ذات ليلة ومعه عائشة، وأبو موسى يقرأ، فقاما؛ فاستمعا

لقراءته، ثم مضيا، فلما أصبح أبو موسى، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم:

" مررت بك يا أبا موسى! البارحة وأنت تقرأ؛ فاستمعنا لقراءتك ". فقال أبو موسى:

ص: 591

..............................................................................

يا نبي الله! لو علمت بمكانك؛ لحبّرت لك تحبيراً. وقال الحاكم:

" صحيح الإسناد ". ووافقه الذهبي.

قلت: خالد هذا أورده الذهبي نفسه في " الميزان "، وقال:

" ضعفه أبو زُرْعة والنسائي، وهو من أولاد أبي موسى رضي الله عنه. وقال أبو حاتم:

ليس بقوي، يكتب حديثه. وقال أبو داود: متروك الحديث. وهذا تجاوز في الحد؛ فإن

الرجل قد حَدَّثَ عنه أحمد بن حنبل ومسدد؛ فلا يستحق الترك ". اهـ.

فالرجل ضعيف؛ ليس بالقوي، ولا بالمتروك؛ فمثله لا يصح حديثه. ومن طريقه

رواه الطبراني؛ كما في " المجمع "(9/360)، وقال:

" وثقه ابن حبان، وضعفه جماعة، وبقية رجاله على شرط " الصحيح " ".

قلت: لكنه يتقوى بحديث بريدة الآتي.

وعزاه الحافظ في " الفتح "(9/76) لأبي يعلى من طريق سعيد بن أبي بردة به.

وسكت عليه.

وللحديث شواهد:

1-

عن بُرَيْدة بن الحُصيب.

أخرجه مسلم (2/192 - 193) ، والدارمي (2/473) ، {وعبد الرزاق في " الأمالي "

(2/44/1) = [69/89] } ، والطحاوي (2/59) ، وأحمد (5/349) ، وأبو نعيم في " الحلية "

(1/258) عن مالك بن مِغْوَل عن ابن بُريدة عنه بلفظ:

" لقد أوتي أبو موسى

" الحديث مثله.

ورواه الرَّويَاني من هذا الطريق نحو سياق سعيد بن أبي بُردة، وقال فيه:

ص: 592

..............................................................................

لو علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع قراءتي؛ لحبرتها تحبيراً.

2-

عن أبي سلمة بن عبد الرحمن:

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لأبي موسى - وكان حسن الصوت بالقرآن -:

" لقد أوتي هذا

" الحديث.

وهذا مرسل. أخرجه الدارمي (2/472) عن يونس عن ابن شهاب قال: أخبرني

أبو سلمة به.

وقد صح موصولاً؛ فأخرجه البخاري في " أفعال العباد "(79) عن إسحاق بن راشد،

والنسائي (1/157) ، والطحاوي في " المشكل "(2/58) عن عمرو بن الحارث،

وأحمد (2/369) عن محمد بن أبي حفصة؛ ثلاثتهم عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي

هريرة:

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع قراءة أبي موسى؛ فقال:

فذكره.

وهذا سند صحيح على شرطهما.

وقد تابعه محمد بن عمرو عن أبي سلمة به.

أخرجه الدارمي (2/473) ، وأحمد (2/354 و 450) ، وكذا ابن ماجه (1/403) .

وإسناده حسن.

وللزهري فيه إسناد آخر؛ وهو:

3-

أخرجه النسائي، والدارمي (1/349) ، وابن نصر (54) ، وكذا الطحاوي،

وأحمد (6/37) عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة به.

وقد تابعه معمر عن الزهري.

ص: 593

..............................................................................

أخرجه النسائي، والطحاوي، وأحمد (6/167) .

وهذا صحيح أيضاً كالأول.

4-

عن البراء بن عازب.

أخرجه البخاري في " أفعال العباد "(79) ، والطحاوي عن قَنَان بن عبد الله النَّهْمي

عن عبد الرحمن بن عوسجة عنه به.

وهذا سند حسن. رجاله ثقات؛ غير قَنَان هذا - وهو بنون خفيفة -؛ قال ابن معين:

" ثقة ". وذكره ابن حبان في " الثقات ". وقال النسائي:

" ليس بالقوي ".

وعزاه الحافظ لأبي يعلى، وسكت عليه، وكذا عزاه شيخه الهيثمي (9/ 360) لأبي

يعلى، وقال:

"ورجاله وُثِّقوا، وفيهم خلاف ".

وفي الباب عن سلمة بن قيس.

رواه الطبراني، والطحاوي (59) عن شَرِيك بن عبد الله النخَعي عن مالك بن مِغْوَل

عن أبي إسحاق عنه بإسناد جيد.

وعن أنس.

رواه أبو يعلى.

وإسناده حسن.

ورواه ابن سعد - كما في " الفتح " - بلفظ:

أن أبا موسى قام ليلة يصلي، فسمع أزواجُ النبي صلى الله عليه وسلم صوته، وكان حلو الصوت؛

ص: 594

..............................................................................

فقمن يستمعن. فلما أصبح؛ قيل له. فقال: لو علمت؛ لحبرته لهن تحبيراً.

وإسناده على شرط مسلم.

قلت: وهو في " مختصر قيام الليل "(55) بلفظ:

لحبرت لكن تحبيراً، ولشوَّقْتُكن تشويقاً.

* * *

ص: 595