الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الافتراش أو الإقْعَاءُ بن السَّجْدتين
ثم " يفرش رجله اليسرى، فيقعد عليها [مطمئناً (1) ] "(2) ، {وأمر بذلك
(المسيء صلاته) ؛ فقال له:
" إذا سجدت؛ فمكِّن لسجودك، فإذا رفعت؛ فاقعد على فَخِذك
اليسرى " (3) } ، و " كان ينصب رجله اليمنى " (4) ، و " يستقبل بأصابعها القبلة " (5) .
(1) هذه اللفظة جاءت في حديث ميمونة بنت الحارث:
وإذا قعد؛ اطمأن على فخذه اليسرى. وقد مرَّ في (التجافي)[ص 748] .
(2)
هو من حديث أبي حُميد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
أخرجه البيهقي (2/118) وغيره. وقد مضى تخريجه في (الركوع)[ص 605] .
وفي الباب عن عائشة بلفظ:
وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى.
وقد سبق بتمامه في (التكبير)[ص 176 - 177] ، {وهو مخرج في " الإرواء "
(316)
} .
(3)
{ [رواه] أحمد، وأبو داود. بسندٍ جيد. [وسبق تخريجه (ص 56 - 57) ] } .
(4 و 5) هو من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال:
من سنة الصلاة أن تنصب القدم اليمنى، واستقباله بأصابعها القبلة، والجلوس على اليسرى.
أخرجه النسائي (1/173) من طريق عمرو بن الحارث عن يحيى: أن القاسم حدثه
عن عبد الله - وهو: عبد الله بن عبد الله بن عمر - عن أبيه به.
وهذا سند صحيح.
وقد رواه البخاري وغيره؛ دون ذكر الاستقبال - كما سيأتي في (التشهد
الأخير) [ص 984 - 985]-.
و " كان أحياناً يُقعي؛ [ينتصب على عقبيه، وصدور قدميه] "(1) .
(1) هو من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
رواه ابن جُريج: أخبرني أبو الزبير: أنه سمع طاوساً يقول:
قلنا لابن عباس في الإقعاء على القدمين؟ فقال:
هي السنة.
ففلنا: إنا لنراه جفاء بالرَّجُل. فقال ابن عباس:
بل هي سنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
أخرجه مسلم (2/70) ، {وأبو عوانة [2/189] } ، وأبو داود (1/134) ، والترمذي
(2/73) ، والحاكم (1/272) ، والبيهقي (2/119) من طرق عنه (*) .
وصححه الترمذي، وكذا الحاكم على شرط مسلم. وقد وهم في استدراكه عليه،
وقد جاء بيان صفة هذا الإقعاء في رواية للبيهقي من طريق ابن إسحاق قال: ثني
- عن انتصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على عقبيه، وصدور قدميه بين السجدتين؛ إذا صلى -
عبد الله بن أبي نجيح المكي عن مجاهد بن جبر أبي الحجاج قال: سمعت عبد الله بن
عباس:
…
يذكره. قال: فقلت له: يا أبا العباس! والله! إن كنا لنعد هذا جفاء ممن
صنعه. قال: فقال:
إنها سنة.
وهذا إسناد جيد.
_________
(*) وعزاه الشيخ رحمه الله في " الصفة " المطبوع لأبي الشيخ في " ما رواه أبو الزبير عن غير
جابر " (رقم 104 - 106) .
..............................................................................
وله عنده شاهد من حديث ابن عمر.
أخرجه من طريق محمد بن عجلان: أن أبا الزبير أخبره:
أنه رأى عبد الله بن عمر إذا سجد حين يرفع رأسه من السجدة الأولى؛ يقعد على
أطراف أصابعه، ويقول:
إنه من السنة.
وهذا سند حسن، وصححه الحافظ في " التلخيص "(3/482) .
ثم أخرج البيهقي من طريق أبي زهير مُعاوية بن حُدَيج قال:
رأيت طاوساً يُقعي؛ فقلت: رأيتك تقعي. فقال:
ما رأيتني أقعي، ولكنها الصلاة، رأيت العبادلة الثلاثة يفعلون ذلك: عبد الله بن
عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير.
قال أبو زهير: وقد رأيته يقعي.
وإسناده صحيح - كما قال الحافظ -.
ثم روى من طريق خلاد بن يحيى بن صفوان الكوفي: ثنا إبراهيم بن طَهْمان عن
الحسن بن مسلم عن طاوس قال:
رأيت ابن عمر وابن عباس، وهما يُقعيان بين السجدتين على أطراف أصابعهما.
قال إبراهيم: فسألت عطاء عن ذلك؟ فقال:
أَنّى ذلك فعلت؛ أجزأك؛ إن شئت على أطراف أصابعك، وإن شئت على عَجُزك (1) .
_________
(1)
{وروى أبو إسحاق الحربي في " غريب الحديث "(ج 5/12/1) عن طاوس أنه رأى ابن عمر
وابن عباس يقعيان. وسنده صحيح. [وهو من طريق أخرى عنه] } .
..............................................................................
وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري. وقَدْ سَها ابنُ القيم رحمه الله تعالى في
" الزاد "(1/85) ؛ فقد قال - بعد أن ذكر افتراشه صلى الله عليه وسلم بين السجدتين -:
" لم يُحفظ عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع جلسة غير هذه "!
ولعله لم يستحضر حديث ابن عباس هذا حين كتابته ذلك، وإلا؛ فهو حديث
صحيح حجة لا مطعن فيه، وقد عمل به غير ما واحد من السلف الصالح رضي الله
عنهم، وقال الترمذي:
" وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لا يرون
بالإقعاء بأساً، وهو قول بعض أهل مكة من أهل الفقه والعلم ". قال:
" وأكثر أهل العلم يكرهون الإقعاء بين السجدتين ".
قلت: وحجة هؤلاء أحاديث وردت في النهي عن الإقعاء.
أخرج أكثرها البيهقي (2/120) ، - وكلها ضعيفة؛ كما قال النووي في " شرح
مسلم " -، وبين عللها الشوكاني في " نيل الأوطار " (2/232) ؛ حاشا حديثين منها؛ فإنه
لم يتعرض لهما بقدح، بل ذكر عن:
أحدهما: أنه حسن، وهو حديث أبي هريرة قال:
نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاث: عن نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب،
والتفات كالتفات الثعلب.
والآخر: حديث سَمُرة بن جُنْدُب قال:
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإقعاء في الصلاة.
فوجب تحقيق القول فيهما.
..............................................................................
أما الأول: فقال في " المجمع "(2/79 - 80) :
" رواه أحمد، وأبو يعلى، والطبراني في " الأوسط " وإسناد أحمد حسن ". كذا قال!
وهو في " المسند "(2/265) من طريق محمد بن فُضَيل: ثنا يزيد بن أبي زياد: ثني
من سمع أبا هريرة يقول:
…
به.
ثم أخرجه (2/311) من طريق شَرِيك عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن أبي هريرة.
وهذا سند ضعيف، لا يحسُن تحسينه؛ فإن مداره على يزيد بن أبي زياد، وهو:
مشهور بسوء الحفظ. وفي " التقريب ":
" ضعيف. كبر؛ فتغير، وصار يتلقن، وكان شيعياً ".
وقد اختلف عليه محمد بن فُضَيل وشريك؛ فلم يسم الأول شيخه. وسماه الآخر:
مجاهداً.
وشريك: سيئ الحفظ أيضاً.
وقد تابعه عن مجاهد ليث بن أبي سُلَيم.
أخرجه البيهقي، وقال:
" ليث: لا يحتج به ". وفي " التقريب ":
" صدوق، اختلط أخيراً، ولم يتميز حديثه؛ فترك "(*) .
وأما حديث سَمُرة: فأخرجه الحاكم (1/272) ، والبيهقي من طريق سعيد بن أبي
عَرُوبة عن قتادة عن الحسن عنه. وقال الحاكم:
" صحيح على شرط البخاري ". ووافقه الذهبي. كذا قالا!
_________
(*) ثم حسّنَ الشيخ رحمه الله الحديث - لغيره - انظر " صحيح الترغيب "(555) .
..............................................................................
والحسن: هو البصري، وكان يدلس كثيراً - كما في " التقريب " -. وإنما روى له
البخاري عن سمرة حديث العقيقة (9/487) ، وفيه التصريح بسماعه من سمرة. فما لم
يصرح بالسماع؛ فليس بحجة كهذا الحديث.
ولذلك ضعفه النووي - كما سبق -. والله أعلم.
(تنبيه) : عزا النووي حديث سَمُرة هذا لـ " مسند أحمد "، ولم أجده فيه، وانقلب
اسم صحابيه على الشوكاني (2/232)، وتحرف عليه؛ فقال: جابر بن سمرة. فليعلم.
ثم إن هذه الأحاديث لو صحت؛ لا تعارض حديث ابن عباس وابن عمر رضي الله
عنهما؛ لأنها تنهى عن إقعاء خاص، وهو إقعاء الكلب، وصورته: أن يلصق أليتيه
بالأرض، وينصب ساقيه، ويضع يديه على الأرض.
كذلك فسره علماء اللغة؛ ومنهم أبو عبيد فيما رواه البيهقي عنه. فهذا إقعاء غير
الإقعاء الثابت في السنة، وبذلك يُجمع بين الأخبار - كما بينه البيهقي، وتبعه ابن
الصلاح، والنووي، وغيرهم من المحققين -، وحينئذٍ فلا مبرر للقول بالنسخ - كما فعل
الخطابي وغيره -. قال النووي في " المجموع "(3/439) :
" والنسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع بين الأحاديث، وعلمنا التاريخ. ولم يتعذر
هنا الجمع، بل أمكن - كما ذكره البيهقي -، ولم يعلم أيضاً التاريخ ". قال:
" فالصواب الذي لا يجوز غيره: أن الإقعاء نوعان: أحدهما: مكروه، والثاني:
سنة.
وأما الجمع بين حديثي ابن عباس وابن عمر، وأحاديث أبي حميد ووائل وغيرهما
في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفهم الافتراش على قدمه اليسرى؛ فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم
كانت له في الصلاة أحوال؛ حال يفعل فيها هذا، وحال يفعل فيها ذاك، كما كانت له
..............................................................................
أحوال في تطويل القراءة، وتخفيفها، وغير ذلك من أنواعها، وكما توضأ مرة مرة،
ومرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً، وكما طاف راكباً، وطاف ماشياً، وكما أوتر أول الليل وآخره
وأوسطه وانتهى وتره إلى السَّحَر، وغير ذلك - كما هو معلوم من أحواله صلى الله عليه وسلم، وكان
يفعل العبادة على نوعين - أو أنواع -؛ ليبين الرخصة والجواز بمرة أو مرات قليلة، ويواظب
على الأفضل منها على أنه المختار والأولى.
فالحاصل: الإقعاء الذي رواه ابن عباس وابن عمر فعله النبي صلى الله عليه وسلم على التفسير
المختار، وفعل صلى الله عليه وسلم ما رواه أبو حميد وموافقوه من الافتراش، وكلاهما سنة؛ لكن إحدى
السُّنّتين أكثر وأشهر. وهي رواية أبي حميد؛ لأنه رواها وصدقه عشرة من الصحابة - كما
سبق -، ورواها وائل بن حُجر وغيره؛ وهذا يدل على مواظبته صلى الله عليه وسلم عليها، وشهرتها
عندهم، فهي أفضل وأرجح؛ مع أن الإقعاء سنة أيضاً.
فهذا ما يسر الله الكريم من تحقيق أمر الإقعاء، وهو من المهمات؛ لتكرار الحاجة إليه
في كل يوم، مع تكرره في كتب الحديث، والفقه، واستشكال أكثر الناس له من كل
الطوائف، وقد منَّ الله الكريم بإتقانه، ولله الحمد على جميع نعمه ". انتهى كلامه رحمه
الله.