الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولقد اسلفنا القول أن شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم متنوعة (1) وهي على قسمين:-
قسم خاص به صلى الله عليه وسلم لا يشركه فيه احد، وقسم ثانٍ يشاركه فيه غيره، فاما شفاعات القسم الأول فهي:-
شفاعته العظمى لجميع الخلائق، وشفاعتة في ادخال سبعين الفاً من امته بغير حساب، وشفاعته في التخفيف عن بعض اهل النار (2).
وأما شفاعات القسم الثاني فهي:- شفاعته في زيادة الدرجات في الجنة، شفاعته في قوم من المؤمنين استوجبوا النار أن لا يدخلوها وشفاعته فيمن تساوت حسناته وسيئاته (3).
وينبغي لنا قبل الشروع في شرح هذه الشفاعات أن نفصل القول في قضية ذات بالٍ وهي قضية المقام المحمود - فماذا يعني المقام المحمود؟!
النوع الأول: شفاعة المقام المحمود:
-
لقد وعد الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم المقام المحمود بقوله "عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً (4) " وثبت المقام في صحيح السنة النبوية فقد صح عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال "من قال حين يسمع النداء "اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة (5) ". وغيرها من الاثار الاخرى (6).
وقد اختلف اهل العلم في معنى المقام المحمود وذهبوا فيه إلى مذاهب عدة اهمها:
1 -
المقام المحمود: هو الشفاعة:-
هذا مذهب جمهور اهل العلم وهو ثابت بالسنة النبوية الصحيحة منها ما اخرجه البخاري وغيره من حديث إبن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً:
(1) انظر التذكرة، القرطبي 1/ 285، وشرح الطحاوية، إبن أبي العز تحقيق الارنؤوط 1/ 282 وفتح الباري 11/ 523، والعقيدة الاسلامية، عبد الرحمن الميداني ص 663.
(2)
انظر مصدر سابق.
(3)
انظر ص67 من الكتاب هذا.
(4)
الاسراء /79.
(5)
انظر تخريجه برقم (69).
(6)
انظر الاحاديث برقم (37 - 39) والدر المنثور في التفسير بالمأثور، السيوطي 5/ 325و 326.
((إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الاذن فبينما هو كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد فيشفع ليقضي بين الخلق فيمشي حتى ياخذ بحلقة الباب فيومئذٍ يبعثه الله مقاماً محموداً يحمده اهل الجمع كلهم)) (1)، ويشهد له ماجاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً في قوله تعالى ((عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً)) فسئل عنها قال: هي الشفاعة (2).
وقد نقل الإمام الطبري في تفسيره أن المقام المحمود هو "المقام الذي هو يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ليرحمهم ربهم من عظيم ما هو فيه من شده ذلك اليوم"(3) ونقل انه مذهب الجمهور (4) وذهب اليه الرازي فقال: ((المقام هو الشفاعة في اسقاط العقاب على ما هو مذهب اهل السنة)) (5)،وكذا فعل القرطبي حيث انه ذكر الاقوال ورجح انها الشفاعة بل عقد باباً في التذكرة" وقال "باب ما جاء انه هذه الشفاعة هي المقام" (6)، وبه جزم إبن كثير (7) والآلوسي (8).
وممن جزم به من اهل الحديث: إبن خزيمة (9) والقاضي عياض (10) والنووي (11) يقول الحافظ إبن حجر في الفتح:" والجمهور على أن المراد به الشفاعة،
…
والراجح أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة (12).
(1) انظر تخريجه برقم (21).
(2)
انظر تخريجه برقم (40).
(3)
جامع البيان 9/ 143 - 144، وانظر الجامع الاحكام القران، القرطبي 10/ 309.
(4)
جامع البيان، سبق.
(5)
التفسير الكبير 21/ 31، وانظر تفسير الكشاف، الزمخشري 2/ 426.
(6)
التذكرة 282.
(7)
انظر تفسير القران العظيم 3/ 54.
(8)
انظر روح المعاني 15/ 131.
(9)
انظر التوحيد واثبات صفات الرب، ص 305.
(10)
انظر الشفا، القاضي عياض 1/ 216، وشرح مسلم، النووي 3/ 75، ونسيم الرياض، الخفاجي 2/ 342.
(11)
انظر شرح مسلم، النووي 3/ 75.
(12)
فتح الباري 11/ 520 - 521.
2 -
المقام المحمود: هو الإقعاد على عرش الرحمن:-
نقل الامام الطبري في تفسيره قال ((حدثنا عباد بن يعقوب الاسدي، قال حدثنا إبن نفيل عن ليث عن مجاهد في قوله "عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً" (1) قال: يجلسه معه على عرشه)) (2)، ونقل ايضاً ذلك أبو بكر إبن العربي المالكي فقال في تفسير قوله تعالى:((وتخفي في نفسك ما الله مبديه)) (3): ((فهذا محمد صلى الله عليه وسلم ما عصى ربه لا حال الجاهلية ولا بعدها تكرمة وتفضيلاً واجلالاً احله به المحل الرفيع ليصلح أن يقعد معه على كرسيه)) (4).
وقد أول الطبري والقرطبي هذا الحديث على الرغم من انهما يرجحان أن معنى المقام المحمود هو الشفاعة كما مر معنا. فقالا: ((هو ليس بمدفوع لا من جهة العقل ولا النقل)) (5) وممن اقره من المفسرين ايضاً الآلوسي اذ دافع عنه دفاعاً واضحاً حتى انه رد الواحدي "رحمه الله" وناقش ادلته واحداً تلو الاخر، ثم ختم نقاشه بقوله ((والصوفية يقولون أن لله عز وجل الظهور فيما يشاء على ما يشاء وهو سبحانه في حال ظهوره باق على اطلاقه حتى عن قيد الاطلاق فانه العزيز الحكيم ومتى ظهر جل وعلا في صورة اجريت عليه سبحانه احكامها من حيث الظهور فيوصف عز مجده عندهم بالجلوس ونحوه من تلك الخشية وينحل بذلك امور كثيرة إلا انه بنى على مادون اثباته خرط القتاد)) (6) وقد اختار ذلك من المحدثين القاضي أبو يعلى وذكر أن احد المحدثين -هو سعيد الجريري- (7) قال ((إذا كان يوم القيامة جيء بنبيكم فاقعد بين يدي الله عز وجل على كرسيه فقال الحاضرون: إذا كان الكرسي هو معه؟ قال: نعم، ويلكم هو معه، هو معه)) (8) ونسب
(1) الاسراء / 79.
(2)
جامع البيان 9/ 145 وانظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور، السيوطي 5/ 328
(3)
الاحزاب/ 37.
(4)
احكام القرآن 3/ 1530
(5)
جامع البيان 9/ 147 والجامع لاحكام القران 10/ 311، وانظر فتح الباري 11/ 521
(6)
روح المعاني 15/ 132.
(7)
انظر ترجمة في الاعلام.
(8)
ابطال التأويلات 280 - 281 مخطوط ونقل الذهبي في العلو ص16 أبياتا عن الدارقطني يثبت فيها الاجلاس، وانظر النهاية في الفتن، إبن كثير 2/ 40، ونسيم الرياض2/ 343.
النقاش (1) ذلك إلى أبي داود السجستاني صاحب السنن انه قال: ((من أنكر ذلك فهو عندنا متهم)) (2)، وذهب اليه إبن قيم الجوزية ونقله عن بعض أهل العلم كالدارقطني وغيره (3) - وان كان السقاف قد انكر نسبتها إلى الدارقطني وقال ((في سندها اليه كذابان وهما إبن كادش (4) والعشاري (5)) (6).
واما موقف إبن حجر فانه لم ينكر ذلك على الرغم من انه يرجح الشفاعة إلا انه يؤول لمجاهد قوله فيقول ((فيحتمل أن تكون الاضافة اضافة تشريفية وعلى ذلك يحمل ما جاء عن مجاهد وغيره والراجح أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة)) (7).
ونجده في اكثر من موضع يكرر ذلك ولا ينكره فمثلاً قال: ((ويمكن رد الاقوال كلها إلى الشفاعة العامة فان اعطاه لواء الحمد وثناءه على ربه وكلامه بين يديه وجلوسه على كرسيه واقرب من جبريل كل ذلك صفات المقام المحمود الذي يشفع فيه ليقضى بين الخلق
…
)) (8)
ووجوه بطلان هذا القول هي:
الوجه الأول: في سند الخبر رجل متهم هو "عباد بن يعقوب" قال عنه الذهبي ((كان داعياً إلى الرفض ومع ذلك كان يروي المناكير عن المشاهير)). (9) وضعف هذا الرجل يضعف الرواية، وعلى فرض صحة سند الرواية- جدلاً- وتوثيق عبادا هذا فانه قد خالف من هواوثق منه في روايته عن مجاهد نفسه فقد اخرج الطبري في تفسيره، من طريقين عن إبن أبي نجيح (10) عن مجاهد القول في تفسير " مقاماً محموداً" قال: ((شفاعة
(1) انظر ترجمة في ملحق الإعلام.
(2)
انظرجامع البيان 10/ 311، وفتح الباري 11/ 521.
(3)
بدائع الفوائد 4/ 93، وانظر نسيم الرياض، الخفاجي 2/ 343.
(4)
انظر ترجمة في ملحق الاعلام.
(5)
انظر ترجمة في ملحق الاعلام.
(6)
صحيح شرح الطحاوية، السقاف 312، وانظر الاحتجاج بخبر الآحاد، صهيب السقار 255.
(7)
فتح الباري 11/ 522.
(8)
مصدر سابق.
(9)
ميزان الاعتدال 2/ 380، وانظر التقريب (3153)، والتحرير 2/ 182.
(10)
انظر ترجمة في التقريب (3662)، والتحرير 2/ 278.
محمد يوم القيامة (1)) ومن طريق إبن جريح (2) عن مجاهد مثله (3)، والمخالفة ضعف في الرواية، فضلاً عن قول الامام الذهبي:((ومن انكر ما جاء عن مجاهد في التفسير قوله "عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً" قال: يجلسة معه على العرش)) (4).
وقد أنكر الرازي هذا القول فقال: ((أن هذا القول رذل ساقط لا يميل اليه إلا انسان قليل العقل عديم الدين)) (5)، وكذا أبو حيان الاندلسي (6) وغيره، ويقول إبن عبد البر: ((ولكن قول مجاهد هذا مردود بالسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم،وأقاويل الصحابة، وجمهور السلف وهو قول عند أهل السنة مهجور والذي عليه جماعتهم ما ثبت في ذلك عن نبيهم صلى الله عليه وسلم وليس من العلماء أحد إلا وهو يؤخذ من قوله ويترك الا رسول الله صلى الله عليه وسلم،ومجاهد وان كان أحد المقدمين في العلم بتأويل القرآن فإن له قولين في تأويل اثنين هما مهجوران عند العلماء، مرغوب عنهما أحدهما هذا، والآخر قوله في قول الله عز وجل عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا
…
قال يوسع له على العرش فيجلسه معه وهذا قول مخالف للجماعة من الصحابة ومن بعدهم فالذي عليه العلماء في تأويل هذه الآية أن المقام المحمود الشفاعة)) (7).
قال الشيخ الالباني:" وان عجبي لا يكاد ينتهي من تحمس بعض المحدثين السالفين لهذا الحديث الواهي والاثر المنكر ومبالغتم في الانكار على من رده واساءتهم الظن بعقيدته
…
وهب أن الحديث في حكم المرسل فكيف تثبت به فضيلة؟! بل كيف يبنى عليه عقيده أن الله يقعد نبيه صلى الله عليه وسلم معه على عرشه)) (8).
الوجه الثاني: ذكر الواحدي (9)"رحمه الله تعالى" وجوهاً لفساد قول مجاهد (10) اجملناها بما يأتي:
1 -
أن البعث ضد الاجلاس تفسير الضد بالضد وهو فاسد.
2 -
انه -تعالى- لو كان جالساً على العرش يجلس عنده محمد "صلى الله عليه وسلم" لكان محدوداً
(1) جامع البيان 15/ 144.
(2)
سبقت ترجمته انظر ص 215 من البحث.
(3)
جامع البيان 15/ 144.
(4)
ميزان الاعتدال 3/ 439.
(5)
التفسير الكبير 21/ 33.
(6)
انظر البحر المحيط 6/ 73.
(7)
التمهيد7/ 157 - 158.
(8)
مختصر العلو ص234.
(9)
انظر ترجمته في ملحق الاعلام.
(10)
انظر تفسير الكبير، الرازي 21/ 33، وروح المعاني، الآلوسي 15/ 131.
متناهياً ومن كان حاله فهو محدث.
3 -
أن الله تعالى: قال: مقاماً محموداً، ولم يقل مقعداً محموداً. والمقام موضع القيام لا موضع القعود.
4 -
يقال أن جلوسه مع الله على العرش ليس فيه كثير اعزاز لأن هولاء الجهال والحمقى يقولون في كل أهل الجنة إنهم يزورون الله تعالى وانهم يجلسون معه وانه تعالى يسألهم عن احوالهم التي كانوا منها في الدنيا واذا كان الامر كذلك فما وجه تفضيله به؟!
5 -
إذا قيل أن السلطان بعث فلاناً فهم منه انه ارسله إلى قوم لاصلاح مهماتهم ولا يفهم منه انه اجلسه مع نفسه.
الوجه الثالث: قال الإمام القرطبي: ((هذا القول مرغوب عنه، وان صح الحديث فيتأول على
انه يجلسه مع انبيائه وملائكته)) (1).
ومما مر نستخلص بطلان هذا القول، ولا حجة في تأويله، لأن التاويل فرع التصحيح فلما تبين بطلانه فسد تأويله. لأنه لما لم يثبت عن المعصوم، بطل الاستدلال به، حتى ولو قال من قاله أو تلقاه جماعة من اهل العلم بالقبول. (2)
وأخيراً: فإن عجبي لايكاد ينقطع من اللجؤ إلى تأويل هذا الحديث أو جبر الامة بحد السيف على القول به (3) على الرغم من نكارته وأنِ ما ورد في الاحاديث الصحيحة يكفي للجزم بأن المراد من المقام المحمود هو الشفاعة (4). هذان القولان اشهر الاقوال في معنى المقام المحمود وهناك اقوال ليست من الاهمية بمكان اكتفى بالاشارة إليها وهي:-
القول بأن معناه اعطاه لواء الحمد يوم القيامة، وهذا لا يغاير القول الأول (5)، والقول بأن معناه انه صلى الله عليه وسلم يكون بين الجبار وبين جبريل فيغبطه بمقامه ذلك اهل الجمع. (6)
(1) التذكرة 1/ 284.
(2)
انظر النهاية في الفتن إبن كثير 2/ 40.
(3)
انظر الكامل في التاريخ، إبن الاثير 6/ 206.
(4)
انظر ص46 من الكتاب، والاحتجاج بخبرالآحاد، لصهيب السقار ص251.
(5)
انظر التفسير الكبير، الرازي 21/ 33، والجامع لاحكام القران، القرطبي 10/ 311، ونسيم الرياض الخفاجي 2/ 346.
(6)
انظر التفسير الكبير 21/ 33،وفتح الباري، إبن حجر 11/ 521.
والقول بما اقتضاه حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه مرفوعاً: "يجمع الناس في صعيد واحد فيقال يا محمد، فاقول لبيك وسعديك والخير في يديك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك واليك تباركت وتعاليت، سبحانك لا ملجأ ولا منجأ منك إلا اليك"(1). وهذا لا يغاير الأول (2)، ونقل إبن حجر اقولاً اخرى فلتنظر هناك (3).
وذكر الآلوسي قولاً آخر في تفسيره نقلاً عن الشيخ شهاب الدين السهروردي (4)" أن يكون المقام المحمود هو اعطاؤه "عليه الصلاة والسلام" مرتبة من العلم لم تعط لغيره من الخلق اصلاً فإنه ذكر في رسالة له في العقائد أن علم عوام المؤمنين يكون يوم القيامة كعلم علمائهم
…
) (5)
ويمكن رد الأقوال كلها إلى الشفاعة العامة ((فإن اعطاءه لواء الحمد وثناءه على ربه وكلامه بين يديه وجلوسه على كرسيه وقيامه اقرب من جبريل كل ذلك صفات المقام المحمود الذي يشفع فيه ليقضي بين الخلق وأما شفاعته في إخراج المذنبين من النار فمن توابع ذلك)) (6).
وهكذا نخلص ان المراد من قوله تعالى: ((عسى ان يبعثك ربك مقامًا محمودا)) (7) هو اعطاءه صلى الله عليه وسلم الشفاعة، وتبين بجلاء بطلان القول بان المراد من المقام: اجلاسه على عرش الرحمن.
وبعد أن بينا هذا يعترضنا سؤال هو:- أيكون المقصود من الشفاعة مطلقها؟ ام الشفاعة العظمى؟ ام شفاعة الإخراج من النار؟ سؤال مهم تجب الاجابة عليه، فنقول:
ذهب اهل العلم في محل شفاعة المقام المحمود إلى اقوال مختلفة هي:
أولاً:- المقام المحمود: هو الشفاعة مطلقاً.
نقل الإمام الطبري في تفسيره نصوصاً بعضها يصرح بمطلق الشفاعة، فقد اخرج عن إبن عباس قوله: المقام المحمود: مقام الشفاعة، وكذا عن الحسن البصري ومجاهد
(1) انظر تخريجه برقم (39)، وانظر جامع البيان، الطبري 9/ 145، وفتح الباري 11/ 534.
(2)
فتح الباري 11/ 522.
(3)
انظر فتح الباري سبق.
(4)
انظر ترجمته في ملحق الاعلام.
(5)
روح المعاني 15/ 132 بتصرف يسير.
(6)
فتح الباري11/ 522.
(7)
الاسراء / 79.
وقتادة (1).
ويؤيد هذا القول ما اخرجه الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "سئل عنها قال: هي الشفاعة"(2).
وممن ذهب إلى ذلك من المتأخرين الشيخ الحكمي (3) في كتابه "معارج القبول"، فقال فيه: "فيكون المقام المحمود عاماً لجميع الشفاعات كما في التي أويتها نبياً محمد صلى الله عليه وسلم
…
" (4).
ثانياً: هو الشفاعة العظمى.
نقل الامام الطبري: أن هذا هو قول جمهور أهل العلم وأورد عدة احاديث تؤيد ذلك وقال "رحمه الله""هو المقام الذي يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ليرحمهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم"(5).
ويقول الامام القرطبي: "إن المقام المحمود هو أمر الشفاعة الذي يتدافعه الانبياء عليهم السلام حتى ينتهي الامر إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيشفع هذه الشفاعة العامة لاهل الموقف مؤمنهم وكافرهم ليراحوا من هول موقفهم"(6) واليه ذهب الآلوسي كذلك (7)، وقال إبن حجر " والمقام المحمود هو الشفاعة العظمى التي اختص بها صلى الله عليه وسلم وهي إراحة أهل الموقف من أهوال القضاء بينهم والفراغ من حسابهم"(8)، وقد يبدو أن هذا هو ما رجحه إبن حجر وهذا وهم، وقد وقع فيه شيخنا العلامة عبد الكريم المدرس في كتابه "نور الاسلام"، حيث رجحه اعتماداً على قول الحافظ اعلاه (9) - وهذا وهو وهم كما قلت-
(1) انظر جامع البيان 9/ 143 - 144، وانظر فتح الباري 11/ 520.
(2)
انظر تخريجه برقم (40).
(3)
هو الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي ت (1377) هـ صاحب كتاب معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الوصول في التوحيد.
(4)
معارج القبول 2/ 219 وانظر نسيم الرياض، الخفاجي 2/ 342
(5)
انظر جامع البيان 9/ 143.
(6)
التذكرة 1/ 285.
(7)
انظر روح البيان 15/ 129.
(8)
فتح الباري 3/ 433
(9)
انظر نور الاسلام، الشيخ عبد الكريم المدرس 289
فان الحافظ إبن حجر قال استدراكاً على كلامه " وسيأتي بقية الكلام على المقام المحمود في تفسير سورة سبحان، إن شاء الله تعالى"(1).
وقال في الموضع الذي أشار اليه:" المقام المحمود نوعان: الأول العامة في فصل القضاء، والثاني الشفاعة في إخراج المذنبين من النار"(2).
ومقتضى هذا الرأي: أن المقام المحمود هو شفاعته صلى الله عليه وسلم لجميع الناس وجميع الامم، وانما سمي محموداً، لان اهل الجمع كلهم يحمدونه (3).
ثالثاً: هو الشفاعة الخاصة بالامة المحمدية في الإخراج من النار:-
أخرج الإمام مسلم بسنده عن يزيد الفقير، قال: كنت قد شغفني رأي من رأى الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج، ثم نخرج على الناس، قال: فمررنا على المدينة فاذا جابر بن عبد الله يحدث القوم جالس على سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فاذا هو ذكر الجهنميين قال فقلت له: يا صاحب رسول الله ما هذا الذي تحدثون؟ والله يقول: " انك من تدخل النار فقد اخزيته"(4)، و ((كلما ارادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها)) (5) فما هذا الذي تقولون؟ قال فقال: اتقرأ القران؟ قلت: نعم. قال: فهل سمعت بمقام محمد عليه السلام " يعني الذي يبعثه الله فيه" قلت: نعم. قال: فانه مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج
…
" (6). ونقل هذا القول الطبري عن سليمان وقتادة، وكذا نقله إبن خزيمة عن أبي هريرة " رضي الله عنه" مرفوعاً في قوله "عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً" (7).
قال: هو المقام الذي اشفع فيه لامتي" (8) وكثير من النصوص التي جاءت بلفظ امتي .. امتي .. تشعر أن المراد من المقام المحمود الشفاعة الخاصة للامة، (9) وباخراجها من النار وادخالها الجنة.
ويرد إشكال هنا: أن كان المقام خاصاً بالامة المحمدية .. فما معنى طواف الناس
(1) فتح الباري، إبن حجر 3/ 433.
(2)
فتح الباري 11/ 521.
(3)
فتح الباري 11/ 522
(4)
آل عمران / 196.
(5)
السجدة / 20.
(6)
اخرجه مسلم، الايمان (320)، وانظر تخريجه برقم (67).
(7)
الاسراء / 79.
(8)
حديث صحيح اخرجه إبن خزيمة في التوحيد ص305.
(9)
انظر الاحاديث برقم (9 - 11)، وانظر نسيم الرياض، الخفاجي 2/ 347.
على الانبياء على آدم .. نوح .. ابراهيم .. وغيرهم، حتى يصل الامر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لها؟ ثم صح من حديث إبن عمر رضي الله عنه: "إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الاذن، فبينما هم كذلك، استغاثوا بآدم، ثم بموسى، ثم بمحمد، فيشفع ليقضي بين الخلق حتى ياخذ بحلقه الباب فيؤمئذ يبعثه الله مقاماً محموداً يحمده اهل الجمع كلهم"(1). ولفظة كلهم تشمل امة محمد وغيرهم -والله اعلم-.
الرأي الراجح في المقام المحمود:-
لم أقف -بحد اطلاعي- على أي رأي للجمهور في مسألة تحديد شفاعة المقام المحمود وان كان الجمهور متفقين على أصل المعنى، أي أنّ المقام المحمود هو الشفاعة، كما سلف، وإذا أردنا أنْ ننصف الاقوال فان القول بان الشفاعة كلها مقام محمود اقربها إلى الصواب، واوفرها ادلة، فلفظه المقام المحمود تكررت في الموقف (2)،وعند الإخراج من النار (3)،وفي الاذن بدخول الجنة (4)، وإن كان الشيخ الحكمي إدعى أن رأي جمهور المفسرين أنّ المقام المحمود هو شفاعتان:"شفاعة الموقف وشفاعة دخول الجنة "(5)، ولا ادري من يعني بجمهور المفسرين؟ فلم اقف على صحة نسبه هذه الدعوى؟ بل لو قصرها على شفاعة الموقف لكان اقرب إلى الصواب -والله اعلم-.
ومن أهم التفسيرات الاخرى ما ذهب إليه الشيخ سعيد حوى من أنّ شفاعة الموقف، وشفاعة المرور على الصراط، وشفاعة دخول الجنة هذه ((الشفاعات الثلاث تدخل تحت ما يسمى المقام المحمود)) (6). وجعل الشيخ حوى هذه الشفاعات الثلاث مقابل الفزعات الثلاث التي جاءت في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر
…
قال
…
فيفزع الناس
(1) اخرجه البخاري 1475، وانظر تخريجه برقم (21).
(2)
مصدر سابق.
(3)
انظر حديث رقم (67).
(4)
4 انظر حديث رقم (21).
(5)
5معارج القبول 2/ 219
(6)
الاساس في السنة، قسم العقائد، سعيد حوى 3/ 1262
ثلاث فزعات فيأتون أدم
…
)) (1).
وهذه الشفاعات ((تكون بعد أن يلجأ الناس إلى بعض الانبياء فيميل كل منهم على اخر حتى يصل الامر إلى رسولنا عليه الصلاة والسلام)(2).
فالفزعة الاولى هي للفصل بين العباد بعد طول الموقف وصعوبته، وقد صح من حديث إبن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا كل امة تتبع نبيها يقولون: يا فلان اشفعْ، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود)) (3).
يقول الشيخ حوى: ((المقام المحمود هو الذي يشفع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لاهل الموقف بعد طول الموقف ليفصل الله عز وجل في شأنهم وهذه الشفاعة هي التي تسمى شفاعة فصل الخطاب)) (4). وهو مذهب جمهور اهل العلم، أن شفاعة الموقف من شفاعات المقام المحمود كما مر معنا (5). واستدل الشيخ حوى على أن الشفاعة التي تصاحب الفزعة الثانية من شفاعات المقام المحمود: بما اخرجه الامام مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ((يجمع الله تبارك وتعالى الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة
…
فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم فيقوم فيؤذن له وترسل الامانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط يميناً وشمالاً فيمر أولكم كالبرق" قال: قلت بأبي وامي: أي شيء كالبرق قال:" الم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين كمر الريح، ثم كمر الطير وشدّ الرجال تجري بهم اعمالهم ونبيكم قائم على الصراط يقول: رب سلم سلم حتى تعجز اعمال العباد حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير الا زحفاً)) (6).
(1) انظر تخريجه برقم (32).
(2)
الاساس في السنة، قسم العقائد 3/ 1301
(3)
انظر تخريجه برقم (21).
(4)
الاساس في السنة، قسم العقائد 3/ 1262، وانظر معارج القبول، الحكمي 208.
(5)
انظر ص51 من هذا الكتاب.
(6)
انظر تخريجه برقم (12)، وانظر الاساس في السنة، قسم العقائد سعيد حوى 3/ 1340، معارج القبول، الحكمي 213.
ويشهد له حديث انس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((اني لقائم انتظر امتي تعبر على الصراط اذ جاءني عيسى عليه السلام فقال: هذه الانبياء قد جاءتك يا محمد يسألون ويدعون الله أن يفرق جميع الامم إلى حيث يشاء الله
…
)) (1).
يقول الشيخ حوى: ((ويفزع أهل الايمان إلى الانبياء ليؤذن للناس بالمرور على الصراط فيعتذرون إلا محمداً صلى الله عليه وسلم فيشفع ويُشفّع)) (2).
واستدل على الشفاعة الثالثة للمقام بحديث إبن عمر رضي الله عنه الذي اخرجه البخاري بسنده عنه مرفوعاً: ((إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الاذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد فيشفع ليقضي بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب فيومئذ يبعثه الله مقاماً محموداً يحمده أهل الجمع كلهم)) (3).
ويشهد له حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، بيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذٍ آدم فمن سواه الا تحت لوائي وانا اول من تنشق عنه الارض ولا فخر"، قال: فيفزع الناس ثلاث فزعات فيأتون آدم فيقولون انت أبونا آدم فأشفع لنا إلى ربك فيقول اني اذنبت ذنباً
…
ولكن إئتو محمداً صلى الله عليه وسلم فيأتوني فانطلق معهم" قال إبن جدعان قال انس: فكأني انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فآخذ بحلق باب الجنة فاقعقعها فيقال: من هذا؟ فيقال: محمد فيفتحون لي، ويرحبون، فيقولون: مرحباً، فأخر ساجداً، فيعلمني الله من الثناء والحمد فيقال لي: ارفع رأسك سل تعط، واشفع تشفع، وقل يسمع قولك، وهو المقام المحمود الذي قال الله تعالى "عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً)) (4).
وهكذا فلا يخفى أن جمهور اهل العلم متنفعون على أن شفاعة الموقف هي من شفاعات المقام المحمود ثابت للرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ولا يسع -مسلماً- انكاره أو تأويله، وهذا هو الاصل.
(1) انظر تخريجه رقم (20).
(2)
الاساس في السنة، قسم العقائد 3/ 1331.
(3)
انظر تخريجه برقم (21).
(4)
انظر تخريجه برقم (32). واللفظ هنا لأحمد.