المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النوع الثاني: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم العظمى في فصل القضاء - الشفاعة في الحديث النبوي

[عبد القادر المحمدي]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الأولدراسة النصوص دراسة موضوعية

- ‌الفصل الأول: مفهوم الشفاعة عند علماء المسلمين

- ‌المبحث الاولتعريف الشفاعة

- ‌المبحث الثانيأدلة الشفاعة من النقل والعقل

- ‌أولاً:- أدلة الشفاعة من القرآن الكريم:

- ‌ثانياً: دليل الشفاعة عقلاً:

- ‌المبحث الثالثمناقشة منكري الشفاعة

- ‌المبحث الرابعأقسام الشفاعة

- ‌المبحث الخامسحكمة الشفاعة

- ‌المبحث السادسشروط الشفاعة

- ‌المبحث السابعمواضع الشفاعة

- ‌الفصل الثانيأنواع الشفاعة

- ‌المبحث الأولشفاعة الاعيان

- ‌المطلب الأولشفاعة الأنبياء عليهم السلام

- ‌المسألة الاولى: شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌النوع الأول: شفاعة المقام المحمود:

- ‌النوع الثاني: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم العظمى في فصل القضاء

- ‌النوع الثالث: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في إدخال قوم بغير حساب:

- ‌النوع الخامس: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوم استوجبوا النار إلا يدخلوها:

- ‌النوع السادس: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أهل النار في ان يخرجوا منها:

- ‌النوع الثامن: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب:

- ‌المسألة الثانية: شفاعة بقية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:

- ‌المطلب الثاني: شفاعة الملائكة عليهم السلام

- ‌المطلب الثالث: شفاعة الشهداء:

- ‌المطلب الرابع: شفاعة المؤمنين:

- ‌المطلب الخامس: شفاعة الزمن:

- ‌المطلب السادس: الشفاعة الإلهية:

- ‌المبحث الثانيشفاعة الأعمال

- ‌المطلب الأول:- شفاعة كلمة التوحيد- لا اله إلا الله محمد رسول الله

- ‌المطلب الثاني:-شفاعة الانتساب إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌المسألة الأولى:- أمة محمد من هم

- ‌نواقض التوحيد:

- ‌النصوص ومناقشتها:

- ‌المطلب الثالث: شفاعة القرآن والصيام:

- ‌أولاً: شفاعة القرآن

- ‌ثانياً: شفاعة الصيام:

- ‌المطلب الخامس: شفاعة دعاء الوسيلة عقب الآذان

- ‌المطلب السادس: شفاعة شهود بعض الوقائع

- ‌أولاً معركة بدر الكبرى:

- ‌ثانياً: بيعة الرضوان: "بيعة الشجرة

- ‌المطلب السابع: -شفاعة الصبر على الشدائد:

- ‌النوع الأول: الشفاعة في الصبر على شدائد المدينة المنورة:

- ‌النوع الثاني: شفاعة الصبر على تربية الإناث

- ‌النوع الثالث:-شفاعة الصبر على موت الأولاد:

- ‌النصوص ومناقشتها:

- ‌شروط شفاعة الصبر على موت الأولاد:

- ‌النوع الرابع شفاعة الصبر على بعض الأمراض:

- ‌أولا شفاعة الصبر على ذهاب البصر:

- ‌ثانياً: شفاعة الصبر على الحمى:

- ‌ثالثا:- شفاعة الصبر على الصرع:

- ‌الباب الثاني تخريج الأحاديث

- ‌ملحق

- ‌تعريف أهم الفرق وتراجم بعض الأعلام المذكورين في البحث

- ‌أولاً: تعريف أهم الفرق:

- ‌ثانياً:- تراجم الأعلام

- ‌ثبت المصادر والمراجع

الفصل: ‌النوع الثاني: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم العظمى في فصل القضاء

وأما الجزم بتحديد المكان الذي هو المقام المحمود فأنه امر غيبي، ولم يرد دليل قطعي به وإنما تكرر باكثر من مكان - وبينّا الاختلاف فيه - فعليه كل من حدد مكانه فانما هو على سبيل الاجتهاد لا على سبيل القطع والجزم - وعليه فلا أجزم به ولا ارى مسوغاً للجزم به -والله اعلم- وهذا لا يضر ما دام الاعتقاد بأصل المقام موجوداً، يقول الشيخ حوى:" ولا يكلف المسلم أن يعرف كيف يحمل كل نصٍّ من هذه النصوص على مقم بعينه بل يخشى عليه من الخطأ فيكيفه أن يعرف اصل المسألة مع التسليم والتفويض والجدّ والتشمير"(1).

‌النوع الثاني: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم العظمى في فصل القضاء

.

ثبت بالمتواتر من الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم شفاعته لأهل الموقف (2). فقد جاءت عن اثني عشر صحابياً بألفاظ متقاربة، وان إجماع أهل الحق معقود على شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم (3).

وان أصرح الاحاديث الصحيحة التي تقرر شفاعته صلى الله عليه وسلم بفصل القضاء هو ما اخرجه البخاري بسنده عن عبد الله إبن عمر رضي الله عنه: ((أن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الاذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد فيشفع ليقضي بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب فيومئذٍ يبعثه الله مقاماً محموداً يحمده أهل الجمع كلهم)) (4).

فهذا الحديث يثبت شفاعة الفصل بين العباد كغيره من الاحاديث الاخرى (5) وهذه الشفاعة تكون بعد سجود النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليفصل في القضاء ولم أجد -في حدود اطلاعي- حديثاً واحداً صحيحاً في أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن يخر ساجداً ويقول يا رب امتي .. امتي .. أو ربي شفعني في امتي أو وعدك الذي وعدت "مثلاً" ولم اجد حديثاً: فيقول له الله جل

(1) الاساس في السنة، قسم العقائد 3/ 1301.

(2)

أنظر لقط الآلي الزبيدي 75/ 78، ونظم المتناثر الكتاني 245، وعون المعبود، العظيم ابادي 13/ 72.

(3)

انظر شرح الفقة الاكبر لأبي حنيفة، بشرح السمرقندي 90، والارشاد، الجويني 393 - 394، والحسنة السيئة، إبن تيمية ص110، وفتح الباري، إبن حجر 1/ 577، وجلاء العينين، إبن الآلوسي ص 444.

(4)

انظر تخريجه برقم

(21).

(5)

انظر الاحاديث برقم

(10 - 12).

ص: 75

جلاله سأفصل بين العباد أو سآتي لأقضي بينهم أو غيرها من الألفاظ

بل على العكس فان جمهرة الأحاديث فيها أنه بعد سجوده لله ليفصل بين العباد يقال له: ((قلْ يسمع لك، واشفعْ تشّفعْ. فارفع رأسي فأحمد ربي بتحميدٍ يعلمني ثم اشفع فيحد لي حداً ثم اخرجهم من النار وأدخلهم الجنة

)) (1)، أو ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فدفع إليه منها الذراع

والحديث طويل وفيه ((يا محمد ارفع راسك سل تعطه، اشفعْ تشفَعْ فاقول يا رب امتي .. امتي فيقال: ادخل من امتك من لا حساب عليه من الباب الايمن من أبوب الجنة

)) (2) الحديث

وغيرها من الأحاديث الأخرى.

فلم يرد حديث صحيح يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد السجود يشفع لفصل القضاء، في حين أن اصل سجوده هو ليشفع للناس، بعد أن طافوا على الانبياء

وهذا اشكال قوي فكيف الخروج منه؟ بل لقد اعترض الحافظ إبن كثير في كتابه- النهاية في الفتن والملاحم- بقوله: ((والعجب كل العجب من ايراد الائمة بهذا الحديث من اكثر طرقه لا يذكرون امر الشفاعة الأولى في أن يأتي الرب لفصل القضاء، كما ورد هذا في حديث الصور كما تقدم وهو المقصود، ومقتضى سياق الحديث أن الناس انما يستغيثون إلى آدم طمعاً في أن يفصل بين الناس ويستريحوا من مقامهم ذلك كما دلت عليه سياقاته من سائر طرقه

)) (3). وهذا الحديث -حديث الصور- حديث ضعيف (4) وان كان لبعض الفاظه شواهد صحيحة (5).

ونقل الحافظ إبن حجر عن الداودي (6) القول: ((كأن راوي هذا الحديث ركب شيئاً

(1) انظر تخريجه برقم

(11).

(2)

انظر تخريجه برقم

(10).

(3)

النهاية في الفتن 1/ 204 وانظر شرح الطحاوية، إبن أبي العز، بتحقيق الارنؤوط 1/ 285 والاساس في السنة، قسم العقائد، سعيد حوى 3/ 1261.

(4)

اخرجه الطبراني -في الكبير - 25/"237"، والطبري في تفسيره 2/ 330 - 331 و 30/ 186 - 188 وإبن كثير في تفسيره 2/ 141 - 142 وانظر تخريج احاديث الطحاوية للشيخ الالباني برقم (232)

(5)

انظر تفسير القرآن العظيم إبن كثير 2/ 141

(6)

انظر ترجمته في ملحق الاعلام

ص: 76

على غير اصله)) (1). ووافق الإمام النووي القاضي عياضاً في قوله: ((وقد جاء في حديث حذيفة بعد هذا الحديث نفسه قال)) فياتون محمداً صلى الله عليه وسلم فيقوم ويؤذن له وترسل الامانة والرحم فيقومان جنبتي الصراط يميناً وشمالاً فيمر أولهم كالبرق، وساق الحديث. وبهذا يتصل الحديث، لان هذه هي الشفاعة التي لجأ الناس اليه فيها، وهي الاراحة من الموقف والفصل بين العباد، ثم بعد ذلك حلت الشفاعة في امته صلى الله عليه وسلم وفي المذنبين، وحلت الشفاعة للانبياء والملائكة وغيرهم صلوات الله وسلامه عليهم كما جاء في الاحاديث الاخرى.

وجاء في الأحاديث المتقدمة في الرؤيا وحشر الناس اتباع كل امة ما كانت تعبد ثم تمييز المؤمنين من المنافقين ثم حلول الشفاعة ووضع الصراط.

فيحتمل أن الأمر باتباع الامم ما كأنت تعبد هو أول الفصل والإراحة من هول الموقف، وهو أول المقام المحمود وان الشفاعة التي ذكر حلولها هي الشفاعة في المذنبين على الصراط وهو ظاهر الأحاديث ومنها لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولغيره كما نص عليه في الأحاديث ثم ذكر بعدها الشفاعة في من دخل النار وبهذا تجتمع متون الحديث. (2)

وقد علل الإمام القرطبي ذلك بقوله: ((يدل على انه شفع في ما طلب من تعجل حساب أهل الموقف فانه لما امر بادخال من لا حساب اليه من امته فقد شرع في حساب من عليه حساب من امته وغيرهم)) (3).

وقال إبن كثير تعليقاً على هذا الاشكال: ((وكأن مقصود السلف في الاقتصار على هذا

المقدار من الحديث هو الرد على الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة، الذين أنكروا خروج احدٍ من النار بعد دخولها)) (4).

والراجح في هذه المسألة ما قاله إبن حجر: ((كأن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الاخر)) (5)، وعلى أية حال فان اصل شفاعة الموقف متفق عليه كما قدمنا.

وقد أخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) فتح الباري 11/ 534.

(2)

شرح مسلم 3/ 57 - 58 وانظر فتح الباري 11/ 535 وعمدة القاري، العيني 23/ 127

(3)

التذكرة 281، وانظر فتح الباري 11/ 536

(4)

النهاية في الفتن 1/ 204 وانظر شرح الطحاوية، إبن أبي العز تحقيق، الارنؤوط 1/ 286

(5)

فتح الباري 11/ 535.

ص: 77

بلحم فرفع اليه الذراع -وكانت تعجبه- فنهس منها نهسة ثم قال أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون مما ذلك؟ يجمع الناس -الأولين والاخرين- في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس الا ترون ما بلغكم؟ إلا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض عليكم بآدم فياتون ادم فيقولون له: أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ إلا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم أن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وأنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح، فياتون نوحاً فيقولون يا نوح انك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وقد سماك الله عبداً شكورا اشفع لنا إلى ربك الا ترى إلى ما نحن فيه؟.

فيقول: أن ربي عز وجل قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وانه كانت لي دعوة دعوتها على قومي نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم فياتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: أن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله واني قد كذبتُ ثلاث كذبات - فذكرهن أبو حيان في الحديث-، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى فيأتون موسى فيقولون: يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: أن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله واني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي، نفسي، نفسي اذهبوا إلى غيري أذهبوا إلى عيسى فيأتون عيسى، فيقولون يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد صبياً، اشفع لنا إلا ترى إلى ما نحن فيه فيقول عيسى أن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله ولن يغضب بعده مثله ولم يذكر ذنباً- نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك إلا ترى ما نحن فيه؟ فانطلق فأتى تحت العرش فاقع ساجداً لربي عز وجل ثم يفتح الله عليّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد

ص: 78

قبلي ثم يقال: يا محمد أرفع رأسك سل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فاقول: أمتي يا رب أمتي يا رب، أمتي يا رب. فيقال يا محمد أدخل من امتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ثم قال:((والذي نفسي بيده أن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير أو كما بين مكة وبصرى)) (1). وبعد أن ينشر الناس ويحشروا في صعيد واحد ((وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً)) (2).

وتدنوا الشمس من رؤوس الخلائق فيغشى العرق الناس على قدر أعمالهم فمنهم من يبلغ العرق رجليه ومنهم كعبيه ومنهم ركبتيه ومنهم من يلجمه العرق ويطول المقام ويأخذ الناس هول الموقف ((وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع الا همسا)) (3) ويتلفت الناس يبحثون عن ممثل عنهم -إن صح التعبير - يبحثون عن وسيط بينهم وبين الجبار، فمن هو هذا الشفيع؟.

لا يخطر ببال أحد آنذاك سوى الأنبياء فهم صفوة الله من خلقه، فيسارعون إلى أبي البشر، أول الانبياء آدم عليه السلام الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وامر الملائكة أن تسجد له. فيفاجون بقوله "نفسي، نفسي، نفسي"، لست لها، اذهبوا إلى غيري ويذكر خطيئته وهي عصيانه لامر ربه واكله من الشجرة.

يقول القاضي عياض في اعتذار آدم عليه السلام: ((كناية عن أن منزلته دون المنزلة المطلوبة قالها تواضعاً واكباراً لما يسألونه، وقد يكون فيه اشارة إلى أن هذا المقام ليس لي بل لغيري)) (4) وقد ايده الحافظ إبن حجر (5).

ثم يقول لهم اذهبوا إلى نوح

فيأتونه فيقولون له: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وسماك الله عبداً شكورا، فيعتذر نوح عليه الصلاة والسلام ويقول نفسي، نفسي، نفسي.

(1) انظر تخريجه برقم (10)، وكذلك انظر الاحاديث (11 - 14).

(2)

سورة الكهف /47.

(3)

طه /108.

(4)

فتح الباري11/ 529 بتصرف يسير وانظر شرح مسلم، النووي 3/ 56 وعمدة القاري، العيني 23/ 126، ونسيم الرياض، الخفاجي 2/ 353.

(5)

انظر مصدر سابق.

ص: 79

وهنا يعترضنا إشكال: هو هل كان نوح عليه السلام أول الرسل؟ وهل كان آدم وإدريس عليهما السلام رسولين؟. فأما كون نوح عليه السلام أول رسول بالنسبة لآدم وإدريس فلا إشكال فيه، لأنهما قد يكونان نبيين، وان كان الإمام العيني جزم بأنهما رسولان (1). وإنما وجه الإشكال في كونه أول رسول بالنسبة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم فهو معارض بقوله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي

وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)). (2)

هذا الإشكال أجاب عنه الحافظ إبن حجر بعد عرضه لاحتمالات التأويل فقال: ((ولا يعترض بأن نوحاً عليه السلام كان مبعوثاً إلى أهل الأرض بعد الطوفان لأنه لم يبق إلا من كان مؤمناً معه وقد كان مرسلاً إليهم، لأن هذا العموم لم يكن في أصل بعثته وإنما اتفق بالحادث الذي وقع وهو انحصار الخلق من الموجودين بعد هلاك سائر الناس وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فعموم رسالته من أصل البعثة، فثبت اختصاصه بذلك.

وأما قول أهل الموقف لنوح كما صح في حديث الشفاعة: ((أنت أول رسول إلى أهل الأرض)) فليس المراد به عموم بعثته بل إثبات أولية ارساله وعلى تقدير أن يكون مراداً فهو مخصوص بتنصيصه سبحانه وتعالى في عدة ايات على أن ارسال نوح كان إلى قومه ولم يذكر انه ارسل إلى غيرهم (3) قال تعالى: ((إنّا أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنذِرْ قومَكْ

)) (4) ويحتمل انه لم يكن في الأرض عند إرسال نوح إلا قومه (5) ورجح هذا القول الأخير الشيخ عبد العزيز بن باز في تحقيقه للفتح (6). وهو ما نراه -والله اعلم-.

وأما اعتذار سيدنا نوح

وأنه كانت لي دعوى قد دعوت بها على قومي

وقد جاء في الرواية الاخرى ((ويذكر سؤال ربه ما ليس له به علم)) (7)، فهذان اعتذاران أحدهما ((نهى الله تعالى له أن يسأل ما ليس له به علم فخشي أن تكون شفاعته لأهل الموقف من

(1) انظر عمدة القاري 23/ 127.

(2)

انظر تخريجه برقم (33).

(3)

فتح الباري 1/ 575، وانظر نسيم الرياض، الخفاجي2/ 354.

(4)

نوح /1.

(5)

نقله إبن حجر عن إبن عطية صاحب التفسير، انظر فتح الباري 1/ 576.

(6)

انظر هامش فتح الباري1/ 576.

(7)

انظر فتح الباري 11/ 530

ص: 80

ذلك، وثانيها أن له دعوة واحدة محققة الإجابة وقد استوفاها بدعاءه على أهل الأرض فخشي أن يطلب فلا يجاب)) (1).

وذكر أبو حامد الغزالي رحمه الله أن بين اتيان أهل الموقف ادم واتيانهم نوحاً الف سنة وكذا بين كل نبي ونبي اخر إلى أن يصل الناس إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم (2)، وقد اقره عليه القرطبي في التذكرة (3)، وانكره إبن حجر فقال:((ولم اقف لذلك على اصل ولقد كثر في هذا الكتاب من ايراد احاديث لا اصول لها فلا يغتر بشيء منها)) (4). وقد رد الإمام العيني على الحافظ إبن حجر بقوله: ((جلالة قدر الغزالي ينافي ما ذكره وعدم وقوفه لذلك على اصل لا يستلزم نفي وقوف غيره على اصل، ولم يحط علم هذا القائل بكل ما ورد وبكل ما نقل حتى يدعي هذه الدعوى)). (5)

ولم يذكر لنا الإمام العيني دليلاً على صحة قولة الإمام الغزالي وانما اكتفى بالتنكيل بالحافظ إبن حجر -فحسب-، وقول الحافظ إبن حجر وإن كان اصوب فانه لا ينقص من جلالة قدر الإمام الغزالي.

ويقول نوح عليه السلام اذهبوا إلى إبراهيم وحينئذٍ يتوجه الناس إلى نبي الله إبراهيم فيعتذر لهم ويقول: اني قد كذبت ثلاثة كذبات نفسي، نفسي، نفسي وجاء في رواية اخرى ((قوله اني سقيم وقوله فعله كبيرهم هذا وقوله لامراته اخبيره اني اخوك)) (6)، وفي رواية اخرى:((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منها كذبة الا ما حل بها عن دين الله)). (7)

قال البيضاوي: ((الحق أن الكلمات الثلاث انما كانت معاريض الكلام لكن لما كان صورتها صورة الكذب اشفق منها استصغار لنفسه عن الشفاعة مع وقوعها، لان من كان اعرف بالله واقرب اليه منزلة كان أعظم خوفا)). (8) ثم يأتون موسى كليم الله فيعتذر

(1) مصدر سابق.

(2)

انظر كشف علوم الآخرة ص23.

(3)

التذكرة 1/ 281.

(4)

فتح الباري 11/ 530 وانظر عمدة القاري، العيني 23/ 127ونسيم الرياض2/ 360.

(5)

عمدة القاري23/ 127.

(6)

انظر فتح الباري 11/ 531 ونسيم الرياض الخفاجي 2/ 355.

(7)

انظر ما سبق.

(8)

تفسير البيضاوي ص433 بتصرف.

ص: 81

ويقول نفسي، نفسي، اعمدوا إلى عيسى كلمة الله وروحه، ثم يعمدون إلى عيسى عليه السلام فيعتذر- رغم أنه لم يذكر ذنباً - ثم يدلهم على صاحبها .. "ائتوا محمدا" فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر

فَذِكْرُ الأنبياء أخطائهم وقول عيسى هذا مع أنه لم يخطئ يدل على أن صاحب هذا المقام لا بد أن يكون مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر (1) قال تعالى: ((إنا فتحنا لك فتحاً مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر)) (2).

وحينئذ يصلون إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم صاحب الشفاعة العظمى يقول صلى الله عليه وسلم: ((أُعْطِيتُ خمساً لم يعطهن أحد قبلي

وأعطيت الشفاعة

)) (3).

قال الإمام النووي: ((هي الشفاعة العامة التي تكون في المحشر بفزع الخلائق إليه صلى الله عليه وسلم)) (4). ويصل الأمر إلى صاحب الشفاعة العظمى فيقول: " انا لها، انا لها" فينطلق ويخر تحت العرش ساجدا فيلهمه الله جل جلاله تحاميد لم يكن يعرفها من قبل، وجاء في حديث حذيفة رضي الله عنه ((يجمع الله الناس في صعيد واحد فيقال: يا محمد فاقول: لبيك وسعديك والخير في يديك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك واليك تباركت وتعاليت سبحانك لا ملجا ولا منجا منك إلا اليك)) (5)، ويقال للنبي صلى الله عليه وسلم:-يا محمد إرفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع فيقول: يا رب أمتي .. أمتي.

وهنا يعترضنا سؤال هو: هل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لامته خاصة أو للناس عامة؟ وقد حررنا القول فيه في موضوع المقام المحمود (6) فيشفع صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف جميعا بِرَّهُمْ وفاجِرَهُم، إنسَهُم وجِنَّهُم، فيحمده أهل الجمع كلهم على هذا المقام الذي لم يقدر على الإقدام عليه غيره صلوات الله عليهم اجمعين (7).

(1) انظر فتح الباري 11/ 533.

(2)

الفتح/1.

(3)

انظر تخريجه لاحقا برقم (33).

(4)

شرح مسلم 6/ 4 وانظر فتح الباري11/ 575.

(5)

انظر تخريجه لاحقا برقم (39).

(6)

انظر ص 53 من كتابنا هذا.

(7)

انظر شرح مسلم 3/ 57، ومجموع الفتاوي، إبن تيمية 3/ 147.

ص: 82