الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الثانى فى بيان ما يرد فى الجمل المتعددة
،
ويرد على صور مختلفة، وكلّها وإن اختلفت فإنها ترجع إلى الضابط الذى ذكرناه من قبل، ونشير منه ههنا إلى ضروب أربعة، وفيها دلالة على غيرها بمعونة الله تعالى.
الضرب الأول ما يكون عائدا إلى النفى والإثبات
،
وحاصله راجع إلى أن يذكر الشىء على جهة النفى، ثم يذكر على جهة الإثبات أو بالعكس من ذلك، ولابدّ أن يكون فى أحدهما زيادة فائدة ليست فى الآخر يؤكد ذلك المعنى المقصود، وإلّا كان تكريرا، ومثاله قوله تعالى: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)
[التوبة: 44] ثم قال تعالى: إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
[التوبة: 45] فالآية الثانية كالآية الأولى إلّا فى النفى والإثبات، فإن الأولى من جهة الإثبات، والثانية من جهة النفى، فلا مخالفة بينهما إلا فيما ذكرناه، خلا أن الثانية اختصت بمزيد فائدة، وهى قوله وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
إعلاما بحالهم فى عدم الإيمان بالله واليوم الآخر، وأنهم فى وجل وإشفاق من تكذيبهم، حيارى فى ظلم الجهل، لا يخلصون إلى نور وهدى، ولولا هذه الفائدة لكان ذلك تكريرا ولم يكن من باب الإطناب، ومن هذا قوله تعالى: وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7)
[الروم: 6- 7] فقوله: يَعْلَمُونَ
بعد قوله:
لا يَعْلَمُونَ (6)
، من الباب الذى نحن بصدده، ولهذا فإنه نفى عنهم العلم بما خفى عنهم من تحقيق وعده ثم أثبت لهم العلم بظاهر الحياة الدنيا، فكأنه قال: علموا، وما علموا، لأن العلم بظاهر الأمور ليس علما على الحقيقة، وإنما العلم هو ما كان علما بطريق الآخرة ومؤديا إلى الجنة، فلولا اختصاص قوله يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون لكان تكريرا لا فائدة تحته، فلأجل ما ذكرناه عد من الإطناب لاشتماله على ما ذكرناه من الفائدة التى لخصناها.
الضرب الثانى أن يصدر الكلام بذكر المعنى الواحد على الكمال والتمام، ثم يردف بذكر التشبيه على جهة الإيضاح والبيان
ومثاله قول أبى عبادة البحترى:
ذات حسن لو استزادت من الحس
…
ن إليه لما أصابت مزيدا.
فهى كالشمس بهجة والقضيب الل
…
دن قدّا والرئم طرفا وجيدا
فالبيت الأول كان كافيا فى إفادة المدح، وبالغا غاية الحسن، لأنه لما قال لو استزادت لما أصابت مزيدا، دخل تحته كل الأشياء الحسنة، خلا أن للتشبيه مزية أخرى تفيد السامع تصورا وتخيلا لا تحصل من المدح المطلق، وهذا الضرب له موقع بديع فى الإطناب وهكذا ورد قوله أيضا
تردد فى خلقى سؤدد
…
سماحا مرجى وبأسا مهيبا
فكالسيف إن جئته صارخا
…
وكالبحر إن جئته مستثيبا «1»
فالبيت الأول دالّ على نهاية المدح، لكن البيت الثانى موضح ومبين لمعناه، لأن البحر للسماح، والسيف للبأس المهيب، مع اختصاصه بالتشبيه الفائق الذى يكسب الكلام رونقا وجمالا، ويزيده قوة وكمالا، وله وقع فى البلاغة وتأكيد فى المعنى، والتفرقة بين هذا الضرب وما قبله ظاهرة لا خفاء بها، فإن هذا وارد على جهة التشبيه بعد تقدم ما يرشد إلى المعنى ويقويه، بخلاف الضرب الأول، فإن الإطناب فيه من جهة المفهوم المعنوى، وبيانه هو أنه لما قال فى الآية الأولى: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
[التوبة: 44] أشعر ظاهرها من جهة المفهوم أن غير هؤلاء بخلافهم، وأنهم المخصوصون بالإذن، فإذا قال بعد ذلك إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
[التوبة: 45] كان هذا مؤكدا لمفهوم الآية الأولى موضحا له، مع ما أفاد من تلك الفائدة التى ذكرناها، وهو اختصاصهم بالريب والوجل والتردد والحيرة، وهكذا الكلام فى الآية الثانية فإنه لما قال وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6)
[الروم: 6] ، فنفى نفيا عاما أشعر ظاهره أنهم غير عالمين بعلم الدين، وحقائق علم الآخرة، ومفهومها أن معهم علما من ظاهر الدنيا، فإذا قال بعد ذلك يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا
[الروم: 7] كان إطنابا لمفهومها مؤكدا مع زيادة فائدة فيه، وهو غفلتهم عن أمور الآخرة وإعراضهم عنها، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن الإطناب فى الضرب الأول