المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل في مذاهب أهل المدينة في الدعاوى] - الطرق الحكمية في السياسة الشرعية - ط البيان

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌[مُقَدِّمَة الْكتاب]

- ‌[الْحُكْمِ بِالْقَرَائِنِ]

- ‌[فَصَلِّ فِي صُوَر للحكم بِالْقَرِينَةِ]

- ‌[فَصَلِّ فِي الْعَمَل فِي السَّلْطَنَة بِالسِّيَاسَةِ الشَّرِيعَة]

- ‌[فَصَلِّ فِي صُوَر لِلْعَمَلِ بِالسَّلْطَنَةِ بِالسِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّة]

- ‌[فَصَلِّ فِي سِيَاسَة الصَّحَابَة فِي قِيَادَة الْأَمَة مِنْ بَعْده صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فَصَلِّ فِي الْحُكْمِ بِالْفِرَاسَةِ]

- ‌[فَصَلِّ فِي فِرَاسَةِ الْحَاكِمِ]

- ‌[فَصَلِّ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الْفِرَاسَةِ]

- ‌[فَصَلِّ فِي الْفِرَاسَة الصَّادِقَة]

- ‌[فَصَلِّ فِي محاسن الْفِرَاسَة]

- ‌[فَصَلِّ فِي عَجَائِب الْفِرَاسَة]

- ‌[فَصَلِّ فِي صُوَر للحكم بِالْفِرَاسَةِ]

- ‌[فَصَلِّ فِي الحبس فِي الدِّين]

- ‌[فَصَلِّ الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الرَّجُل الْوَاحِد]

- ‌[فَصَلِّ فِي الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مُتَفَرِّدَاتٍ]

- ‌[فَصَلِّ شَهَادَة الرَّجُل الْوَاحِد مِنْ غَيْر يَمِين عِنْد الْحَاجَة]

- ‌[فَصَلِّ فِي الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ وَرَدِّ الْيَمِينِ]

- ‌[فَصَلِّ فِي مَذَاهِب أَهْل الْمَدِينَة فِي الدَّعَاوَى]

- ‌[فَصَلِّ هَلْ السِّيَاسَة بِالضَّرْبِ والحبس للمتهمين فِي الدَّعَاوَى وَغَيْرهَا مِنْ الشِّرْع]

- ‌[فَصَلِّ فِي دَعَاوَى التهم]

- ‌[فَصَلِّ فِي التَّعْزِير]

- ‌[فَصَلِّ وَالْمَعَاصِي ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ]

- ‌[فَصَلِّ فِي الطرق الَّتِي يَحْكُم بِهَا الْحَاكِم]

- ‌[الطَّرِيق الْأَوَّل الْيَدُ الْمُجَرَّدَةِ الَّتِي لَا تَفْتَقِرُ إلَى يَمِينٍ]

- ‌[فَصَلِّ الطَّرِيقُ الثَّانِي فِي الْإِنْكَارُ الْمُجَرَّدُ وَلَهُ صُوَرٌ]

- ‌[فَصَلِّ اُسْتُثْنِيَ مِنْ عَدَمِ التَّحْلِيفِ فِي الْحُدُودِ صُورَتَانِ]

- ‌[فَصَلِّ فِيمَا لَا يَحْلِف فِيهِ]

- ‌[فَصَلِّ فَوَائِد الْيَمِين]

- ‌[فَصَلِّ الطَّرِيقُ الثَّالِثُ فِي الْحُكْمِ بِالْيَدِ مَعَ يَمِين صَاحِبهَا]

- ‌[فَصَلِّ الطَّرِيقُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ فِي الْحُكْمِ بِالنُّكُولِ وَحْده أَوْ بِهِ مَعَ رد الْيَمِين]

- ‌[فَصَلِّ يَمِين الْمُدَّعِي هَلْ هِيَ كَالْبَيِّنَةِ أُمّ كَإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ]

- ‌[فَصَلِّ فِي رد الْيُمْن]

- ‌[فَصَلِّ الطَّرِيقُ السَّادِسُ فِي الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِد بِلَا يَمِين وَذَلِكَ فِي صُوَر]

- ‌[فَصَلِّ الطَّرِيقُ السَّابِعُ فِي الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين]

- ‌[فَصَلِّ فِي هَلْ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِين تَقْوِيَة وَتَوْكِيد]

- ‌[فَصَلِّ وَالْمَوَاضِعُ الَّتِي يَحْكُمُ فِيهَا بِالشَّاهِدَيْنِ وَالْيَمِينِ]

- ‌[فَصَلِّ وَالتَّحْلِيف ثَلَاثَة أَقْسَام]

- ‌[فَصْل تَحْلِيفُ الْمُدَّعِي]

- ‌[فَصَلِّ فِي تَحْلِيف الْمُدَّعَى عَلَيْهِ]

- ‌[فَصَلِّ فِي تَحْلِيف الشَّاهِد]

- ‌[فَصَلِّ الطَّرِيقُ الثَّامِنُ فِي الْحُكْمِ بِالرَّجُلِ الْوَاحِد وَالْمَرْأَتَيْنِ]

- ‌[فَصَلِّ فِي شَهَادَة النِّسَاء]

- ‌[فَصَلِّ فِي النصاب الَّتِي تَقْبَل بِهِ شَهَادَة النِّسَاء]

- ‌[فَصَلِّ الطَّرِيقُ التَّاسِعُ فِي الْحُكْمِ بِالنُّكُولِ مَعَ الشَّاهِد الْوَاحِد]

- ‌[فَصَلِّ الطَّرِيق الْعَاشِر فِي الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ وَيَمِين الْمُدَّعِي فِي الْأَمْوَال]

- ‌[فَصَلِّ الطَّرِيقُ الْحَادِيَ عَشَرَ فِي الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ فَقَطْ مِنْ غَيْر يَمِين]

- ‌[فَصَلِّ الطَّرِيقُ الثَّانِيَ عَشَرَ فِي الْحُكْمِ بِثَلَاثَةِ رِجَال]

- ‌[فَصَلِّ الطَّرِيقُ الثَّالِثَ عَشَرَ فِي الْحُكْمِ بِأَرْبَعَةِ رِجَال أَحْرَار]

- ‌[فَصْلٌ فِي إتْيَانُ الْبَهِيمَةِ وَمَا يَجِب فِيهِ أَرْبَعَة شُهُود]

- ‌[فَصَلِّ الطَّرِيقُ الرَّابِعَ عَشَرَ فِي الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الْعَبْد والأمة]

- ‌[فَصَلِّ الطَّرِيقُ الْخَامِسَ عَشَرَ فِي الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الصَّبِيَّانِ المميزين]

- ‌[فَصَلِّ الطَّرِيقُ السَّادِسَ عَشَرَ فِي الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الْفُسَّاق وَذَلِكَ فِي صُوَر]

- ‌[فَصَلِّ الطَّرِيقُ السَّابِعَ عَشَرَ فِي الْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الْكَافِر]

- ‌[فَصَلِّ فِي شَهَادَة الْكُفَّارِ عَلَى المسلين فِي السَّفَر]

- ‌[فَصَلِّ وَهَلْ تُعْتَبَرُ عَدَالَةُ الْكَافِرِينَ فِي الشَّهَادَةِ بِالْوَصِيَّةِ فِي دينهم]

- ‌[فَصَلِّ الطَّرِيقُ الثَّامِنَ عَشَرَ فِي الْحُكْمِ بِالْإِقْرَارِ]

- ‌[فَصَلِّ الطَّرِيقُ التَّاسِعَ عَشَرَ فِي حُكْم الْحَاكِم بِعِلْمِهِ]

- ‌[فَصَلِّ الطَّرِيقُ الْعِشْرُونَ فِي الْحُكْمِ بِالتَّوَاتُرِ]

- ‌[فَصَلِّ الطَّرِيقُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ فِي الْحُكْمِ بِالِاسْتِفَاضَةِ]

- ‌[فَصَلِّ الطَّرِيقُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ فِي أَخْبَار الْآحَاد]

- ‌[فَصَلِّ الطَّرِيقُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ فِي الْحُكْمِ بِالْخَطِّ المجرد وَلَهُ صُوَر]

- ‌[فَصَلِّ شَهَادَةُ الرَّهْنِ بِقَدْرِ الدَّيْنِ إذَا اخْتَلَفَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ فِي قَدْرِهِ]

- ‌[فَصَلِّ الطَّرِيقُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ فِي الْحُكْمِ بالعلامة الظَّاهِرَة]

- ‌[فَصَلِّ الطَّرِيقُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ فِي الْحُكْمِ بِالْقُرْعَةِ]

- ‌[فَصَلِّ الطَّرِيقُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ فِي الْحُكْمِ بِالْقَافَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الْقِيَاسُ وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ تَشْهَدُ لِلْقَافَةِ]

- ‌[فَصَلِّ الْحُكْمِ بَيْن النَّاس فِيمَا لَا يَتَوَقَّف عَلَى الدَّعْوَى]

- ‌[فَصَلِّ فِي عُمُوم الْوِلَايَات وَخُصُوصهَا]

- ‌[فَصَلِّ وَمنْ المنكرات]

- ‌[فَصَلِّ فِي التَّسْعِير]

- ‌[فَصَلِّ فِي أَقْبَح الظُّلْم]

- ‌[فَصَلِّ فِي حُصِرَ الْبَيْع عَلَى أناس معينين]

- ‌[فَصَلِّ فِي القسامين الَّذِينَ يقسمون الْعَقَار وَغَيْره بالأجرة]

- ‌[فَصَلِّ فِي حَاجَة النَّاسُ إلَى صِنَاعَةِ طَائِفَةٍ كَالْفِلَاحَةِ وَالنِّسَاجَةِ وَالْبِنَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ]

- ‌[فَصَلِّ فِي تُنَازِع الْعُلَمَاء فِي التَّسْعِير]

- ‌[فَصَلِّ فِي البذل والعطاء]

- ‌[فَصَلِّ فِي حُكْم الْوَلِيّ بالأمارات والعلامات الظَّاهِرَة وَالْقَرَائِن الْبَيِّنَة]

- ‌[فَصَلِّ فِي التَّعْزِير بِالْعُقُوبَاتِ المالية]

- ‌[فَصَلِّ فِي وَاجِبَاتُ الشَّرِيعَةِ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ]

- ‌[فَصَلِّ فِي تَحْرِيق الكتب المضلة وَإِتْلَافهَا]

- ‌[فَصَلِّ فِي الْفَاسِق يأوي إلَيْهِ أَهْل الفسق والخمر]

- ‌[فَصَلِّ فِي اختلاط الرجال بِالنِّسَاءِ فِي الأسواق والفرج ومجامع الرجال]

- ‌[فَصَلِّ فِي اللاعبين بالحمام عَلَى رُءُوس النَّاس]

- ‌[فَصَلِّ فِي اتِّخَاذ الْحَمَّامِ فِي الأبرجة]

- ‌[فَصَلِّ فِي الْمَرَضِ الْمُعْدِي كَالْجُذَامِ إذَا اسْتَضَرَّ النَّاسُ بِأَهْلِهِ]

- ‌[فَصَلِّ وَمنْ طُرُق الْحُكْمِ الْحُكْمِ بِالْقُرْعَةِ]

- ‌[فَصَلِّ فِي كَيْفِيَّة الْقُرْعَة]

- ‌[فَصَلِّ فِي مواضع الْقُرْعَة]

- ‌[فَصَلِّ فِيمَنْ طلق امْرَأَة مِنْ نِسَائِهِ لَا يَدْرِي أَيَّتهنَّ هِيَ أَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا مِنْ عَبِيده]

- ‌[فَصَلِّ فِيمَنْ طلق إحْدَى نِسَائِهِ وَمَاتَ قَبْل الْبَيَان]

- ‌[فَصَلِّ طَلَّقَ إحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا ثُمَّ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا]

- ‌[فَصَلِّ فِيمَا إذَا خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى امْرَأَةٍ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ غَيْرُهَا]

- ‌[فَصَلِّ الرَّجُل لَهُ امْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَةَ وَنَصْرَانِيَّة فَقَالَ فِي مَرَضه إحْدَاكُمَا طَالِق ثَلَاثًا]

- ‌[فَصَلِّ فِي الرَّجُل لَهُ ثَلَاثَة نِسْوَة فطلق وَاحِدَة مِنْهُنَّ وَلَمْ يَدْرِي أَيَّتهنَّ ثُمَّ مَاتَ]

- ‌[فَصَلِّ فِي الرَّجُل لَهُ مُمَالِيك عدة فَقَالَ أَحَدهمْ حُرّ وَلَمْ يُبَيِّن]

- ‌[فَصَلِّ فِي الرَّجُل يَقُول أَوَّل غُلَام لِي يَطْلُع فَهُوَ حُرّ]

- ‌[فَصَلِّ فِي الرَّجُل لَهُ امْرَأَتَانِ وَهُوَ يُرِيد أَنْ يَخْرَج بِإِحْدَاهُمَا]

- ‌[فَصَلِّ فِي الْقُرْعَة فِي الشِّرَاء وَالْبَيْع]

- ‌[فَصَلِّ فِي الرَّجُلَيْنِ يَتَشَاحَّا فِي الْأَذَان]

- ‌[فَصَلِّ فِي الرَّجُل يَتَزَوَّج امْرَأَة عَلَى عَبْد مِنْ عَبِيده]

- ‌[فَصْلٌ فِي عَبْد فِي يَد رَجُل اخْتَلَفَ عَلَيْهِ غَيْره بِالْبَيْعِ وَالْهِبَة وَغَيْر ذَلِكَ]

الفصل: ‌[فصل في مذاهب أهل المدينة في الدعاوى]

عَلَيْك بِمِائَةٍ، فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ، وَقَالَ لِلْمُدَّعِي: أَنَا لَا أَعْلَمُ أَنَّ فُلَانًا أَحَالَك "، وَلَكِنْ احْلِفْ وَخُذْ، فَهَاهُنَا إنْ لَمْ يَحْلِفْ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَهَذَا الَّذِي اخْتَارَهُ شَيْخُنَا رحمه الله هُوَ فَصْلُ النِّزَاعِ فِي النُّكُولِ وَرَدِّ الْيَمِينِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.

[فَصَلِّ فِي مَذَاهِب أَهْل الْمَدِينَة فِي الدَّعَاوَى]

31 -

(فَصْلٌ)

فِي مَذَاهِبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الدَّعَاوَى وَهُوَ مِنْ أَسَدِّ الْمَذَاهِبِ وَأَصَحِّهَا، وَهِيَ عِنْدَهُمْ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: دَعْوَى يَشْهَدُ لَهَا الْعُرْفُ بِأَنَّهَا مُشْبِهَةٌ، أَيْ تُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ حَقًّا.

الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: مَا يَشْهَدُ الْعُرْفُ بِأَنَّهَا غَيْرُ مُشْبِهَةٍ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُقْضَ بِكَذِبِهَا.

الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: دَعْوَى يَقْضِي الْعُرْفُ بِكَذِبِهَا.

فَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: فَمِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ سِلْعَةً مُعَيَّنَةً بِيَدِ رَجُلٍ، أَوْ يَدَّعِيَ غَرِيبٌ وَدِيعَةً عِنْدَ غَيْرِهِ، أَوْ يَدَّعِيَ مُسَافِرٌ: أَنَّهُ أَوْدَعَ أَحَدَ رُفْقَتِهِ، وَكَالْمُدَّعِي عَلَى صَانِعٍ مُنْتَصِبٍ لِلْعَمَلِ: أَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ مَتَاعًا يَصْنَعُهُ، وَالْمُدَّعِي عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْأَسْوَاقِ الْمُنْتَصِبِينَ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ: أَنَّهُ بَاعَ مِنْهُ أَوْ اشْتَرَى، وَكَالرَّجُلِ يَذْكُرُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ: أَنَّ لَهُ دَيْنًا قِبَلَ رَجُلٍ، وَيُوصِي أَنْ يُتَقَاضَى مِنْهُ فَيُنْكِرُهُ وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ. فَهَذِهِ الدَّعْوَى تُسْمَعُ مِنْ مُدَّعِيهَا، وَلَهُ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مُطَابَقَتِهَا، أَوْ يَسْتَحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي اسْتِحْلَافِهِ إلَى إثْبَاتِ خُلْطَةٍ.

وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: فَمِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى رَجُلٍ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ، لَيْسَ دَاخِلًا فِي الصُّوَرِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَوْ يَدَّعِيَ عَلَى رَجُلٍ مَعْرُوفٍ بِكَثْرَةِ الْمَالِ: أَنَّهُ اقْتَرَضَ مِنْهُ مَالًا يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ، أَوْ يَدَّعِيَ عَلَى رَجُلٍ، لَا مَعْرِفَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ أَلْبَتَّةَ: أَنَّهُ أَقْرَضَهُ أَوْ بَاعَهُ شَيْئًا بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ إلَى أَجَلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذِهِ الدَّعْوَى تُسْمَعُ، وَلِمُدَّعِيهَا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مُطَابَقَتِهَا.

قَالُوا: وَلَا يَمْلِكُ اسْتِحْلَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى نَفْيِهَا إلَّا بِإِثْبَاتِ خُلْطَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَالْخُلْطَةُ أَنْ يُسَالِفَهُ، أَوْ يُبَايِعَهُ أَوْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ مِرَارًا.

وَقَالَ سَحْنُونٌ: لَا تَكُونُ الْخُلْطَةُ إلَّا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ. قَالُوا: يُنْظَرُ إلَى دَعْوَى الْمُدَّعِي.

فَإِنْ كَانَتْ تُشْبِهُ أَنْ يُدَّعَى بِمِثْلِهَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: أُحْلِفَ لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا تُشْبِهُ، وَيَنْفِيهَا الْعُرْفُ: لَمْ يَحْلِفْ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خُلْطَةً.

قَالُوا: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ خُلْطَةً، وَكَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُتَّهَمًا، فَقَالَ سَحْنُونٌ: يُسْتَحْلَفُ الْمُتَّهَمُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ خُلْطَةً، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يُسْتَحْلَف.

ص: 78

وَتَثْبُتُ الْخُلْطَةُ عِنْدَهُمْ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِهَا وَبِالشَّاهِدَيْنِ، وَالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَالرَّجُلِ الْوَاحِدِ، وَالْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ.

قَالُوا: وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ فَمِثَالُهَا: أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ حَائِزًا لِدَارٍ، مُتَصَرِّفًا فِيهَا السِّنِينَ الطَّوِيلَةَ بِالْبِنَاءِ وَالْهَدْمِ وَالْإِجَارَةٍ وَالْعِمَارَةِ، وَيَنْسُبُهَا إلَى نَفْسِهِ، وَيُضِيفُهَا إلَى مِلْكِهِ، وَإِنْسَانٌ حَاضِرٌ يَرَاهُ وَيُشَاهِدُ أَفْعَالَهُ فِيهَا طُولَ هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يُعَارِضُهُ فِيهَا، وَلَا يَذْكُرُ أَنَّهُ لَهُ فِيهَا حَقًّا، وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُهُ مِنْ مُطَالَبَتِهِ كَخَوْفٍ مِنْ سُلْطَانٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ الْمَانِعِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِالْحُقُوقِ، وَلَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُتَصَرِّفِ فِي الدَّارِ قَرَابَةَ، وَلَا شَرِكَةَ فِي مِيرَاثٍ، أَوْ مَا شِبْهُ ذَلِكَ مِمَّا تَتَسَامَحُ فِيهِ الْقَرَابَاتُ وَالصِّهْرُ بَيْنَهُمْ، بَلْ كَانَ عُرْيًا مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ. ثُمًّ جَاءَ بَعْدَ طُولِ هَذِهِ الْمُدَّةِ يَدَّعِيهَا لِنَفْسِهِ، وَيَزْعُمُ أَنَّهَا لَهُ، وَيُرِيدُ أَنْ يُقِيمَ بِذَلِكَ بَيِّنَةً.

فَدَعْوَاهُ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ أَصْلًا، فَضْلًا عَنْ بَيِّنَتِهِ وَتَبْقَى الدَّارُ بِيَدِ حَائِزِهَا، لِأَنَّ كُلَّ دَعْوَى يُكَذِّبُهَا الْعُرْفُ وَتَنْفِيهَا الْعَادَةُ فَإِنَّهَا مَرْفُوضَةٌ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199] ، وَقَدْ أَوْجَبَتْ الشَّرِيعَةُ الرُّجُوعَ إلَيْهِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الدَّعَاوَى، كَالنَّقْدِ وَالْحُمُولَةِ وَالسَّيْرِ، وَفِي الْأَبْنِيَةِ وَمَعَاقِدِ الْقُمُطِ، وَوَضْعِ الْجُذُوعِ عَلَى الْحَائِطِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

قَالُوا: وَمِثْلُ ذَلِكَ: أَنْ تَأْتِيَ الْمَرْأَةُ بَعْدَ سِنِينَ مُتَطَاوِلَةٍ تَدَّعِي عَلَى الزَّوْجِ أَنَّهُ لَمْ يَكْسُهَا فِي شِتَاءٍ وَلَا صَيْفٍ، وَلَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا شَيْئًا.

فَهَذِهِ الدَّعْوَى لَا تُسْمَعُ لِتَكْذِيبِ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لَهَا، وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ فَقِيرَةً وَالزَّوْجُ مُوسِرٌ.

وَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي رَدِّهِ عَلَى الْمُزَنِيِّ: مَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَحْلِفُ لِلْمُدَّعِي بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، دُونَ أَنْ يَنْضَمَّ إلَيْهَا عِلْمٌ بِمُخَالَطَةٍ بَيْنَهُمَا أَوْ مُعَامَلَةٍ.

قَالَ شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ: أَوْ تَكُونُ الدَّعْوَى تَلِيقُ بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لَا يَتَنَاكَرُهَا النَّاسُ، وَلَا يَنْفِيهَا عُرْفٌ. قَالَ: وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ. قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ وَتَقَرَّرَ أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْيَمِينِ يَصْعُبُ، وَيَثْقُلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، سِيَّمَا عَلَى أَهْلِ الدِّينِ وَذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَالْأَقْدَارِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُعْتَادٌ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى مَمَرِّ الْأَعْصَارِ، لَا يُمْكِنُ جَحْدُهُ.

وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ: أَنَّهُمْ افْتَدَوْا أَيْمَانَهُمْ، مِنْهُمْ: عُثْمَانُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمَا، وَإِنَّمَا فَعَلُوا ذَلِكَ لِمُرُوءَتِهِمْ، وَلِئَلَّا تَسْبِقَ الظَّلَمَةُ إلَيْهِمْ إذَا حَلَفُوا، فَمَنْ يُعَادِي الْحَالِفَ، وَيُحِبُّ الطَّعْنَ

ص: 79

عَلَيْهِ، يَجِدُ طَرِيقًا إلَى ذَلِكَ، لِعِظَمِ شَأْنِ الْيَمِينِ وَعِظَمِ خَطَرِهَا، وَلِهَذَا جُعِلَتْ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَأَنْ يَكُونَ مَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ عِنْدَهُ مِمَّا لَهُ حُرْمَةٌ، كَرُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا، فَلَوْ مُكِّنَ كُلُّ مُدَّعٍ أَنْ يُحَلِّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ لَكَانَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى امْتِهَانِ أَهْلِ الْمُرُوءَاتِ وَذَوِي الْأَقْدَارِ وَالْأَخْطَارِ وَالدِّيَانَاتِ لِمَنْ يُرِيدُ التَّشَفِّيَ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ أَقْرَبَ وَلَا أَخَفَّ كُلْفَةٍ مِنْ أَنْ يُقَدِّمَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ مَنْ يُعَادِيهِ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالْفَضْلِ إلَى مَجْلِسِ الْحَاكِمِ لِيَدَّعِيَ عَلَيْهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْهَضُ بِهِ، أَوْ لَا يَعْتَرِفُ، لِيَتَشَفَّى مِنْهُ بِتَبَذُّلِهِ وَإِحْلَافِهِ، وَأَنْ يَرَاهُ النَّاسُ بِصُورَةِ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْيَمِينِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا عَلَى طَرِيقِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ وَجَدَ إلَيْهِ سَبِيلًا، لَعَلَّهُ يَفْتَدِي يَمِينَهُ مِنْهُ، لِئَلَّا يَنْقُصَ قَدْرُهُ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ مَوْجُودٌ فِي النَّاسِ الْيَوْمَ.

قَالَ: وَقَدْ شَاهَدْنَا مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا، وَحَضَرْنَاهُ، وَأَصَابَنَا بَعْضُهُ، فَكَانَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ وَمَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: حِرَاسَةً لِمُرُوآتِ النَّاسِ، وَحِفْظًا لَهَا مِنْ الضَّرَرِ اللَّاحِقِ بِهِمْ، وَالْأَذَى الْمُتَطَرِّقِ إلَيْهِمْ.

فَإِذَا قَوِيَتْ دَعْوَى الْمُدَّعِي بِمُخَالَطَةٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ ضَعُفَتْ التُّهْمَةُ، وَقَوِيَ فِي النَّفْسِ أَنَّ مَقْصُودَهُ غَيْرُ ذَلِكَ، فَأُحْلِفَ لَهُ، وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ الْغَرِيبُ، لِأَنَّ الْغُرْبَةَ لَا تَكَادُ تَلْحَقُ الْمُرُوءَةَ فِيهَا مَا يَلْحَقُهَا فِي الْوَطَنِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَيَجِبُ أَلَّا يُحْضِرَهُ مَجْلِسَ الْحَاكِمِ أَيْضًا، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ امْتِهَانًا لَهُ وَابْتِذَالًا. قِيلَ لَهُ: حُضُورُهُ مَجْلِسَ الْحَاكِمِ، لَا عَارَ فِيهِ، وَلَا نَقْصَ يَلْحَقُ مِنْ حُضُورِهِ، لِأَنَّ النَّاسَ يَحْضُرُونَهُ ابْتِدَاءً فِي حَوَائِجَ لَهُمْ وَمُهِمَّاتٍ، وَإِنَّمَا الْعَارُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْيَمِينِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ.

وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ يُمَكِّنُ الْمُدَّعِي مِنْ إحْضَارِهِ، لَعَلَّهُ يُقِيمُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ، وَلَا يَقْطَعُهُ عَنْ حَقِّهِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَالْيَمِينُ الصَّادِقَةُ لَا عَارَ فِيهَا، وَقَدْ حَلَفَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ.

وَقَالَ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّهُ افْتَدَى يَمِينَهُ " مَا مَنَعَك أَنْ تَحْلِفَ إذَا كُنْت صَادِقًا؟ ".

قِيلَ: مُكَابَرَةُ الْعَادَاتِ لَا مَعْنَى لَهَا، وَأَقْرَبُ مَا يَبْطُلُ بِهِ قَوْلُهُمْ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ افْتِدَاءِ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ أَيْمَانَهُمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِصَرْفِ الظَّلَمَةِ عَنْهُمْ، وَأَلَّا تَتَطَرَّقَ إلَيْهِمْ تُهْمَةٌ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ: إنَّمَا هُوَ لِتَقْوِيَةِ نَفْسِ عُثْمَانَ، وَأَنَّهُ إذَا حَلَفَ صَادِقًا فَهُوَ مُصِيبٌ فِي الشَّرْعِ، لِيُضْعِفَ بِذَلِكَ نُفُوسَ مَنْ يُرِيدُ الْإِعْنَاتَ، وَيَطْمَعُ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ بِادِّعَاءِ الْمُحَالِ، لِيَفْتَدُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ.

ص: 80