الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِوَلَدٍ، فَدَعَا لَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه الْقَافَةَ، وَجَعَلَهُ ابْنَهُمَا جَمِيعًا يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ ". وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: " اُخْتُصِمَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي وَلَدٍ ادَّعَاهُ دِهْقَانٌ وَرَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ، فَدَعَا الْقَافَةَ، فَنَظَرُوا إلَيْهِ، فَقَالُوا لِلْعَرَبِيِّ: أَنْتَ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ هَذَا الْعِلْجِ، وَلَكِنْ لَيْسَ ابْنَكَ، فَخَلِّ عَنْهُ، فَإِنَّهُ ابْنُهُ ". وَرَوَى زِيَادُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ.
قَالَ: " انْتَفَى ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ وَلَدٍ لَهُ، فَدَعَا لَهُ ابْنَ كَلْدَةَ الْقَائِفَ، فَقَالَ: أَمَّا أَنَّهُ وَلَدُهُ، وَادَّعَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ". وَصَحَّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ: " أَنَّ أَنَسًا وَطِئَ جَارِيَةً لَهُ، فَوَلَدَتْ جَارِيَةً، فَلَمَّا حَضَرَ قَالَ: اُدْعُوا لَهَا الْقَافَةَ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْكُمْ فَأَلْحِقُوهَا بِكُمْ ".
وَصَحَّ عَنْ حُمَيْدٍ: " أَنَّ أَنَسًا شَكَّ فِي وَلَدٍ لَهُ، فَدَعَا لَهُ الْقَافَةَ ". وَهَذِهِ قَضَايَا فِي مَظِنَّةِ الشُّهْرَةِ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا.
قَالَ حَنْبَلٌ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قِيلَ لَهُ: تَحْكُمُ بِالْقَافَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَزَلْ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ.
[فَصْلٌ الْقِيَاسُ وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ تَشْهَدُ لِلْقَافَةِ]
95 -
(فَصْلٌ)
وَالْقِيَاسُ وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ تَشْهَدُ لِلْقَافَةِ: لِأَنَّ الْقَوْلَ بِهَا حُكْمٌ يَسْتَنِدُ إلَى دَرْكِ أُمُورٍ خَفِيَّةٍ وَظَاهِرَةٍ، تُوجِبُ لِلنَّفْسِ سُكُونًا، فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ كَنَقْدِ النَّاقِدِ، وَتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِ.
وَقَدْ حَكَى أَبُو مُحَمَّدِ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَنَّ قَائِفًا كَانَ يَعْرِفُ أَثَرَ الْأُنْثَى مِنْ أَثَرِ الذَّكَرِ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: " إنَّهُ يَعْتَمِدُ الشَّبَهَ " فَنَعَمْ، وَهُوَ حَقٌّ، «قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَوَ تَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ قَالَ: تَرِبَتْ يَدَاكِ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا؟» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ قَالَتْ: «وَهَلْ يَكُونُ هَذَا - يَعْنِي الْمَاءَ -
فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ، فَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ؟ إنَّ مَاءَ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ، وَمَاءَ الْمَرْأَةِ رَقِيقٌ أَصْفَرُ، فَمِنْ أَيِّهِمَا عَلَا - أَوْ سَبَقَ - يَكُونُ الشَّبَهُ مِنْهُ» .
وَعَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ تَغْتَسِلُ الْمَرْأَةُ إذَا هِيَ احْتَلَمَتْ، وَأَبْصَرَتْ الْمَاءَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: تَرِبَتْ يَدَاكِ وَأُلَّتْ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: دَعِيهَا، وَهَلْ يَكُونُ الشَّبَهُ إلَّا مِنْ قِبَلِ ذَلِكَ؟» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَلَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحَبِيِّ عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ:«كُنْتُ قَائِمًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدٌ - الْحَدِيثَ بِطُولِهِ - إلَى أَنْ قَالَ: جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ الْوَلَدِ؟ فَقَالَ: مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ، وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ، فَإِذَا اجْتَمَعَا، فَعَلَا مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِيَّ الْمَرْأَةِ: أَذْكَرَا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِذَا عَلَا مَنِيُّ الْمَرْأَةِ مَنِيَّ الرَّجُلِ آنَثَا بِإِذْنِ اللَّهِ» . وَسَمِعْتُ شَيْخَنَا رحمه الله يَقُولُ: فِي صِحَّةِ هَذَا اللَّفْظِ نَظَرٌ. قُلْتُ: لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ الْمَحْفُوظَ فِي ذَلِكَ، إنَّمَا هُوَ تَأْثِيرُ سَبْقِ الْمَاءِ فِي الشَّبَهِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ (182) مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: " أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ بَلَغَهُ مَقْدَمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، فَأَتَاهُ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«وَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ نَزَعَتْ الْوَلَدَ» .
فَهَذَا السُّؤَالُ الَّذِي سَأَلَ عَنْهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ، وَالْجَوَابُ الَّذِي أَجَابَهُ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ نَظِيرُ السُّؤَالِ الَّذِي سَأَلَ عَنْهُ الْحَبْرُ، وَالْجَوَابُ وَاحِدٌ، وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَتْ الْقِصَّةُ وَاحِدَةً، وَالْحَبْرُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، فَإِنَّهُ سَأَلَهُ وَهُوَ عَلَى دِينِ الْيَهُودِ، فَأُنْسِيَ اسْمُهُ، وَثَوْبَانُ قَالَ:" جَاءَ حَبْرٌ مِنْ الْيَهُودِ " وَإِنْ كَانَتَا قِصَّتَيْنِ وَالسُّؤَالُ وَاحِدٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ كَذَلِكَ ".
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ إنَّمَا سَأَلُوا عَنْ الشَّبَهِ، وَلِهَذَا وَقَعَ الْجَوَابُ بِهِ وَقَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ، وَزَالَتْ بِهِ الشُّبْهَةُ. وَأَمَّا الْإِذْكَارُ وَالْإِينَاثُ: فَلَيْسَ بِسَبَبٍ طَبِيعِيٍّ، وَإِنَّمَا سَبَبُهُ: الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ الَّذِي يَأْمُرُ الْمَلَكُ بِهِ،
مَعَ تَقْدِيرِ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ، وَالرِّزْقِ، وَالْأَجَلِ، وَلِذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَرْبَعِ فِي الْحَدِيثِ «فَيَقُولُ الْمَلَكُ: يَا رَبِّ، ذَكَرٌ؟ يَا رَبِّ، أُنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ» .
وَقَدْ رَدَّ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ إلَى مَحْضِ مَشِيئَتِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49]{أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى: 50] .
وَالتَّعْلِيقُ بِالْمَشِيئَةِ - وَإِنْ كَانَ لَا يُنَافِي ثُبُوتَ السَّبَبِ بِذَلِكَ - إذَا عَلِمَ كَوْنَ الشَّيْءِ سَبَبًا، دَلَّ عَلَى سَبَبِيَّتِهِ بِالْعَقْلِ وَبِالنَّصِّ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ أُمِّ سُلَيْمٍ:«مَاءُ الرَّجُلِ غَلِيظٌ أَبْيَضُ، وَمَاءُ الْمَرْأَةِ رَقِيقٌ أَصْفَرُ، فَمِنْ أَيِّهِمَا عَلَا - أَوْ سَبَقَ - يَكُونُ الشَّبَهُ» فَجَعَلَ لِلشَّبَهِ سَبَبَيْنِ: عُلُوَّ الْمَاءِ، وَسَبْقَهُ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَعَامَّةُ الْأَحَادِيثِ إنَّمَا هِيَ تَأْثِيرُ سَبْقِ الْمَاءِ وَعُلُوِّهِ فِي الشَّبَهِ، وَإِنَّمَا جَاءَ تَأْثِيرُ ذَلِكَ فِي الْإِذْكَارِ وَالْإِينَاثِ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ وَحْدَهُ، وَهُوَ فَرْدٌ بِإِسْنَادِهِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَى الرَّاوِي فِيهِ الشَّبَهُ بِالْإِذْكَارِ وَالْإِينَاثِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَا يُنَافِي سَائِرَ الْأَحَادِيثِ، فَإِنَّ الشَّبَهَ مِنْ السَّبْقِ. وَالْإِذْكَارَ وَالْإِينَاثَ: مِنْ الْعُلُوِّ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ، وَتَعْلِيقُهُ عَلَى الْمَشِيئَةِ لَا يُنَافِي تَعْلِيقَهُ عَلَى السَّبَبِ، كَمَا أَنَّ الشَّقَاوَةَ وَالسَّعَادَةَ وَالرِّزْقَ مُعَلَّقَاتٌ بِالْمَشِيئَةِ، وَحَاصِلَةٌ بِالسَّبَبِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَبَرَ الشَّبَهَ فِي لُحُوقِ النَّسَبِ وَهَذَا مُعْتَمَدُ الْقَائِفِ، لَا مُعْتَمَدَ لَهُ سِوَاهُ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي قِصَّةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ «إنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ، سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فَاعْتَبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الشَّبَهَ وَجَعَلَهُ لِمُشَبَّهِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ، لِأَنَّهُ - مَعَ صَرِيحِ الشَّبَهِ - لَمْ يَلْحَقْهُ بِمُشَبَّهِهِ فِي الْحُكْمِ.
قِيلَ: إنَّمَا مَنَعَ إعْمَالَ الشَّبَهِ لِقِيَامِ مَانِعِ اللِّعَانِ: وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» فَاللِّعَانُ سَبَبٌ أَقْوَى مِنْ الشَّبَهِ، قَاطِعُ النَّسَبِ، وَحَيْثُ اعْتَبَرْنَا الشَّبَهَ فِي لُحُوقِ النَّسَبِ فَإِنَّمَا ذَاكَ إذَا لَمْ يُقَاوِمْهُ سَبَبٌ أَقْوَى مِنْهُ، وَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ مَعَ الْفِرَاشِ، بَلْ يَحْكُمُ بِالْوَلَدِ لِلْفِرَاشِ، وَإِنْ كَانَ الشَّبَهُ لِغَيْرِ صَاحِبِهِ، كَمَا حَكَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي قِصَّةِ عَبْدِ بْنِ زَمْعَةَ بِالْوَلَدِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ الشَّبَهَ الْمُخَالِفَ لَهُ، فَأَعْمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الشَّبَهَ فِي حَجْبِ سَوْدَةَ، حَيْثُ انْتَفَى الْمَانِعُ مِنْ إعْمَالِهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِالشَّبَهِ إلَيْهَا، وَلَمْ يُعْمِلْهُ فِي النَّسَبِ لِوُجُودِ الْفِرَاشِ.
وَأُصُولُ الشَّرْعِ وَقَوَاعِدُهُ، وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ: تَقْتَضِي اعْتِبَارَ الشَّبَهِ فِي لُحُوقِ النَّسَبِ، وَالشَّارِعُ مُتَشَوِّفٌ إلَى اتِّصَالِ الْأَنْسَابِ وَعَدَمِ انْقِطَاعِهَا.
وَلِهَذَا اكْتَفَى فِي ثُبُوتِهَا بِأَدْنَى الْأَسْبَابِ: مِنْ شَهَادَةِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ، وَالدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةِ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَظَاهِرِ الْفِرَاشِ، فَلَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَكُونَ الْخَالِي عَنْ سَبَبٍ مُقَاوِمٍ لَهُ كَافِيًا فِي ثُبُوتِهِ، وَلَا نِسْبَةَ بَيْنَ قُوَّةِ اللِّحَاقِ بِالشَّبَهِ وَبَيْنَ ضَعْفِ اللِّحَاقِ لِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، مَعَ الْقَطْعِ بِعَدَمِ الِاجْتِمَاعِ، فِي مَسْأَلَةِ الْمَشْرِقِيَّةِ وَالْمَغْرِبِيِّ.
وَمَنْ طَلَّقَ عَقِيبَ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ، ثُمًّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَلْغَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الشَّبَهَ فِي لُحُوقِ النَّسَبِ، كَمَا فِي " الصَّحِيحِ ": «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَلْ لَكَ مِنْ إبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَمَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ: فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إنَّ فِيهَا لَوُرْقًا، قَالَ: فَأَنَّى لَهَا ذَلِكَ؟ قَالَ: عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ، قَالَ: وَهَذَا عَسَى أَنْ يَكُونَ نَزَعَهُ عِرْقٌ» .
قِيلَ: إنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ الشَّبَهُ هَاهُنَا لِوُجُودِ الْفِرَاشِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مُطْلَقًا، بَلْ فِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الشَّبَهِ، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَحَالَ عَلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنْ الشَّبَهِ، وَهُوَ نَزْعُ الْعِرْقِ، وَهَذَا الشَّبَهُ أَوْلَى لِقُوَّتِهِ بِالْفِرَاشِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ: إذَا لَمْ يُنَازِعْ مُدَّعِي الْوَلَدِ غَيْرَهُ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ نَازَعَهُ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَ فِرَاشٍ: قُدِّمَ عَلَى الْآخَرِ، فَإِنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ، وَإِنْ اسْتَوَيَا فِي عَدَمِ الْفِرَاشِ، فَإِنْ ذَكَرَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً بِجَسَدِهِ وَوَصَفَهُ بِصِفَةٍ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَصِفْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَا رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَةً: أُلْحِقَ بِهِمَا، وَإِنْ كَانَا امْرَأَتَيْنِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُلْحِقُ بِهِمَا حُكْمًا، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ إلَّا مِنْ إحْدَاهُمَا، وَلَكِنْ أَلْحَقَهُ بِهِمَا فِي الْحُكْمِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مَالًا، فَأُجْرِيَ الْإِنْسَانُ مَجْرَى الْأَمْوَالِ وَالْحُقُوقِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يُلْحَقُ بِهِمَا، كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ، لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُولَدَ مِنْهُمَا، بِخِلَافِ الرَّجُلَيْنِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ تَخْلِيقُهُ مِنْ مَائِهِمَا، كَمَا يُخْلَقُ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ.
قَالُوا: وَقَدْ دَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ الْعَلَامَاتِ: قِصَّةُ شَاهِدِ يُوسُفَ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِلْمُلْتَقِطِ:«اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا وَوِعَاءَهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَعَرَفَهَا فَأَدِّهَا إلَيْهِ» (19) .
قَالُوا: وَلَوْ أَثَّرَتْ الْقَافَةُ وَالشَّبَهُ فِي نِتَاجِ الْآدَمِيِّ لَأَثَّرَ ذَلِكَ فِي نِتَاجِ الْحَيَوَانِ، فَكُنَّا نَحْكُمُ بِالشَّبَهِ فِي ذَلِكَ، كَمَا نَحْكُمُ بِهِ بَيْنَ الْآدَمِيِّينَ، وَلَا نَعْلَمُ بِذَلِكَ قَائِلًا.
قَالُوا: وَلِأَنَّ الشَّبَهَ أَمْرٌ مَشْهُودٌ مُدْرَكٌ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ، فَإِمَّا أَنْ يَحْصُلَ لَنَا ذَلِكَ بِالْمُشَاهَدَةِ أَوْ لَا يَحْصُلَ، فَإِنْ حَصَلَ لَمْ تَكُنْ فِي الْقَائِفِ فَائِدَةٌ، وَلَا حَاجَةٌ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَنَا بِالْمُشَاهَدَةِ لَمْ نُصَدِّقْ الْقَائِفَ، فَإِنَّهُ يَدَّعِي أَمْرًا حِسِّيًّا لَا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ.
قَالُوا: وَقَدْ دَلَّ الْحِسُّ عَلَى وُقُوعِ التَّشَابُهِ بَيْنَ الْأَجَانِبِ الَّذِينَ لَا نَسَبَ بَيْنَهُمْ، وَوُقُوعِ التَّخَالُفِ وَالتَّبَايُنِ بَيْنَ ذَوِي النَّسَبِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ لَا يُمْكِنُ جَحْدُهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى النَّسَبِ، وَيَثْبُتُ بِهِ التَّوَارُثُ وَالْحُرْمَةُ وَالْمَحْرَمِيَّةُ وَسَائِرُ أَحْكَامِ النَّسَبِ؟ .
قَالُوا: وَالِاسْتِلْحَاقُ مُوجِبٌ لِلُحُوقِ النَّسَبِ، وَقَدْ وُجِدَ فِي الْمُتَدَاعِيَيْنِ وَتَسَاوَيَا فِيهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي حُكْمِهِ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ كَوْنُهُ مِنْهُمَا، وَقَدْ اسْتَلْحَقَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالِاسْتِلْحَاقُ أَقْوَى مِنْ الشَّبَهِ، وَلِهَذَا: لَوْ اسْتَلْحَقَهُ مُسْتَلْحِقٌ وَوَجَدْنَا شَبَهًا بَيِّنًا بِغَيْرِهِ: أَلْحَقْنَاهُ بِمَنْ اسْتَلْحَقَهُ، وَلَمْ نَلْتَفِتْ إلَى الشَّبَهِ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ الْقَائِفَ إمَّا شَاهِدٌ وَإِمَّا حَاكِمٌ، فَإِنْ كَانَ شَاهِدًا فَمُسْتَنَدُ شَهَادَتِهِ الرُّؤْيَةُ، وَهُوَ وَغَيْرُهُ فِيهَا سَوَاءٌ، فَجَرَى تَفَرُّدُهُ فِي الشَّهَادَةِ مَجْرَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ مِنْ بَيْنِ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ بِأَمْرٍ لَوْ وَقَعَ لَشَارَكُوهُ فِي الْعِلْمِ بِهِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُقْبَلُ.
وَإِنْ كَانَ حَاكِمًا: فَالْحَاكِمُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ طَرِيقٍ يَحْكُمُ بِهَا، وَلَا طَرِيقَ هَاهُنَا إلَّا الرُّؤْيَةُ وَالشَّبَهُ، وَقَدْ عَرَفَ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ طَرِيقًا.
قَالُوا: وَلَوْ كَانَتْ الْقَافَةُ طَرِيقًا شَرْعِيًّا لَمَا عَدَلَ عَنْهَا دَاوُد وَسُلَيْمَانُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا فِي قِصَّةِ الْوَلَدِ الَّذِي ادَّعَتْهُ الْمَرْأَتَانِ، بَلْ حَكَمَ بِهِ دَاوُد لِلْكُبْرَى، وَحَكَمَ بِهِ سُلَيْمَانُ لِلصُّغْرَى بِالْقَرِينَةِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا مِنْ شَفَقَتِهَا عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهَا بِهِ لِلْكُبْرَى، وَلَمْ يَعْتَبِرْ قَافَةً وَلَا شَبَهًا. قَالُوا: وَقَدْ رَوَى زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ قَالَ: «أُتِيَ عَلِيٌّ رضي الله عنه وَهُوَ بِالْيَمَنِ - بِثَلَاثَةٍ وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلَ اثْنَيْنِ: أَتُقِرَّانِ لِهَذَا بِالْوَلَدِ؟ قَالَا: لَا، حَتَّى سَأَلَهُمْ جَمِيعًا، فَجَعَلَ كُلَّمَا سَأَلَ اثْنَيْنِ قَالَا: لَا، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِاَلَّذِي صَارَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ ثُلُثَيْ الدِّيَةِ، قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَضَحِكَ، حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ» وَفِي لَفْظٍ «فَمَنْ قَرَعَ فَلَهُ الْوَلَدُ، وَعَلَيْهِ لِصَاحِبَيْهِ ثُلُثَا الدِّيَةِ» . وَفِي لَفْظٍ «فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ، لَا أَعْلَمُ إلَّا مَا قَالَ عَلِيٌّ» أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " الْمُسْنَدِ " وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ ".
قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ: هَذَا خَبَرٌ مُسْتَقِيمُ السَّنَدِ، نَقَلَتُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ. اهـ. وَهَذَا حَدِيثٌ مَدَارُهُ عَلَى الشَّعْبِيِّ وَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ وَاخْتَلَفَ عَلَيْهِ. فَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَخَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَمَالِكُ بْنُ إسْمَاعِيلَ النَّهْدِيُّ، وَقَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنْ الْأَجْلَحِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُجَيَّةَ الْكِنْدِيِّ - عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْخَلِيلِ الْحَضْرَمِيِّ الْكُوفِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ: أَوْرَدَهُ الْحَاكِمُ. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، وَعَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ الْأَجْلَحِ، وَقَالَا: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْخَلِيلِ. وَرَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ أَوْ ابْنِ أَبِي الْخَلِيلِ " أَنَّ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ اشْتَرَكُوا " وَلَمْ يَذْكُرْ زَيْدًا، وَلَمْ يَرْفَعْهُ. وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ الثَّوْرِيِّ عَنْ صَالِحِ بْنِ صَالِحٍ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ الْحَضْرَمِيِّ. وَرَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ وَعَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ ذُرَيْحٍ - وَيُقَالُ: ذَرِيٌّ الْحَضْرَمِيُّ - عَنْ زَيْدٍ، وَرَوَاهُ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ فَيْرُوزِ - عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ رَجُلٍ مِنْ حَضْرَمَوْتَ عَنْ زَيْدٍ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَيَكْفِي أَنَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي الْحَدِيثِ شُعْبَةُ، وَإِذَا كَانَ شُعْبَةُ فِي حَدِيثٍ لَمْ يَكُنْ بَاطِلًا، وَكَانَ مَحْفُوظًا
وَقَدْ عَمِلَ بِهِ أَهْلُ الظَّاهِرِ، وَهُوَ وَجْهٌ لِلشَّافِعِيَّةِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَةِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ - بَلْ صَرِيحٌ - فِي عَدَمِ اعْتِبَارِ الْقَافَةِ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً لَمْ يَعْدِلْ عَنْهَا إلَى الْقُرْعَةِ. قَالُوا: وَأَصَحُّ مَا مَعَكُمْ: حَدِيثُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّ النَّسَبَ هُنَاكَ ثَابِتٌ بِالْفِرَاشِ، فَوَافَقَهُ قَوْلُ الْقَائِفِ فَسُرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمُوَافَقَةِ قَوْلِ الْقَائِفِ لِشَرْعِهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ أَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ وَهَذَا الْإِخْفَاءُ بِهِ، فَمِنْ أَيْنَ يَصْلُحُ ذَلِكَ لِإِثْبَاتِ كَوْنِ الْقَافَةِ طَرِيقًا مُسْتَقِلًّا بِإِثْبَاتِ النَّسَبِ؟ .
قَالَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ: نَحْنُ إنَّمَا نَحْتَاجُ إلَى الْقَافَةِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي الْوَلَدِ، نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، كَمَا إذَا ادَّعَاهُ رَجُلَانِ أَوْ امْرَأَتَانِ، أَوْ اعْتَرَفَ الرَّجُلَانِ بِأَنَّهُمَا وَطِئَا الْمَرْأَةَ بِشُبْهَةٍ، وَأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَنْفِيهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَحِينَئِذٍ: فَإِمَّا أَنْ نُرَجِّحَ أَحَدَهُمَا بِلَا مُرَجِّحٍ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ نُلْغِيَ دَعْوَاهُمَا فَلَا يَلْحَقُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا، فَإِنَّهُمَا مُعْتَرِفَانِ بِسَبَبِ اللُّحُوقِ، وَلَيْسَ هُنَا سَبَبٌ غَيْرُهُمَا وَإِمَّا أَنْ يُلْحَقَ بِهِمَا مَعَ ظُهُورِ الشَّبَهِ الْبَيِّنِ بِأَحَدِهِمَا.
وَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ شَرْعًا وَعُرْفًا وَقِيَاسًا كَمَا تَقَدَّمَ. وَإِمَّا أَنْ يُقَدَّمَ أَحَدُهُمَا بِوَصْفِهِ لِعَلَامَاتٍ فِي الْوَلَدِ. كَمَا يُقَدَّمُ وَاصِفُ اللُّقَطَةِ.
وَهَذَا - أَيْضًا - لَا اعْتِبَارَ بِهِ هَاهُنَا. بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ. فَإِنَّ اطِّلَاعَ غَيْرِ الْأَبِ عَلَى بَدَنِ الطِّفْلِ وَعَلَامَاتِهِ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ بَلْ هُوَ وَاقِعٌ كَثِيرًا، فَإِنَّ الطِّفْلَ بَارِزٌ ظَاهِرٌ لِوَالِدَيْهِ وَغَيْرِهِمَا، وَأَمَّا اطِّلَاعُ غَيْرِ مَالِكَ اللُّقَطَةِ عَلَى عَدَدِهَا وَعِفَاصِهَا وَوِعَائِهَا وَوِكَائِهَا: فَأَمْرٌ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ، فَإِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِإِخْفَائِهَا وَكِتْمَانِهَا، فَإِلْحَاقُ إحْدَى الصُّورَتَيْنِ بِالْأُخْرَى مُمْتَنِعٌ. وَأَمَّا الْإِلْحَاقُ بِأُمَّيْنِ فَمَقْطُوعٌ بِبُطْلَانِهِ وَاسْتِحَالَتِهِ، عَقْلًا وَحِسًّا، فَهُوَ كَإِلْحَاقِ ابْن سِتِّينَ سَنَةً بِابْنِ عِشْرِينَ. وَكَيْفَ يُنْكِرُ الْقَافَةَ الَّتِي مَدَارُهَا عَلَى الشَّبَهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ مَنْ يُلْحِقُ الْوَلَدَ بِأُمَّيْنِ؟ فَأَيْنَ أَحَدُ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ مِنْ الْآخَرِ، فِي الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَالْعُرْفِ وَالْقِيَاسِ؟ .
وَمَا أَثْبَتَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ قَطُّ حُكْمًا مِنْ الْأَحْكَامِ يَقْطَعُ بِبُطْلَانِ سَبَبِهِ حِسًّا أَوْ عَقْلًا، فَحَاشَا أَحْكَامَهُ سُبْحَانَهُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا أَحْسَنُ حُكْمًا مِنْهُ سبحانه وتعالى وَلَا أَعْدَلُ، وَلَا يَحْكُمُ حُكْمًا يَقُولُ الْعَقْلُ: لَيْتَهُ حَكَمَ بِخِلَافِهِ، بَلْ أَحْكَامُهُ كُلُّهَا مِمَّا يَشْهَدُ الْعَقْلُ وَالْفِطْرَةُ بِحُسْنِهَا، وَوُقُوعُهَا عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ وَأَحْسَنِهَا، وَأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ فِي مَوْضِعِهَا سِوَاهَا.
وَأَنْتَ إذَا عَرَضْتُ عَلَى الْعُقُولِ كَوْنَ الْوَلَدِ مِنْ أُمَّيْنِ لَمْ تَجِدْ قَبُولَهَا لَهُ كَقَبُولِهَا لِكَوْنِ الْوَلَدِ لِمَنْ
أَشْبَهَ الشَّبَهَ الْبَيِّنَ، فَإِنَّ هَذَا مُوَافِقٌ لِعَادَةِ اللَّهِ وَسُنَّتِهِ فِي خَلْقِهِ، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِعَادَتِهِ وَسُنَّتِهِ.
وَقَوْلُهُمْ: " إنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الْإِلْحَاقِ - وَهُوَ الدَّعْوَى - فَيَسْتَوِيَانِ فِي الْحُكْمِ، وَهُوَ لُحُوقُ النَّسَبِ ".
فَيُقَالُ: الْقَاعِدَةُ أَنَّ صِحَّةَ الدَّعْوَى يُطْلَبُ بَيَانُهَا مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْمُدَّعِي مَهْمَا أَمْكَنَ، وَقَدْ أَمْكَنَ هَاهُنَا بَيَانُهَا بِالشَّبَهِ الْبَيِّنِ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْقَائِفُ، فَكَانَ اعْتِبَارُ صِحَّتِهَا بِذَلِكَ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ صِحَّتِهَا بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى، فَإِذَا انْتَفَى السَّبَبُ الَّذِي يُبَيِّنُ صِحَّتَهَا مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الْمُدَّعِي - كَالْفِرَاشِ وَالْقَافَةِ - بِغَيْرِ إعْمَالِ الدَّعْوَى، فَإِذَا اسْتَوَيَا فِيهَا اسْتَوَيَا فِي حُكْمِهَا - فَهَذَا مَحْضُ الْفِقْهِ وَمُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ. وَأَمَّا أَنْ تَعْمَلَ الدَّعْوَى الْمُجَرَّدَةِ مَعَ ظُهُورِ مَا يُخَالِفُهَا مِنْ الشَّبَهِ الْبَيِّنِ الَّذِي نَصَبَهُ اللَّهُ سبحانه وتعالى عَلَامَةً لِثُبُوتِ النَّسَبِ شَرْعًا وَقَدْرًا: فَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ وَلِأُصُولِ الشَّرْعِ.
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» (21)" وَالْبَيِّنَةُ " اسْمٌ لِمَا يُبَيِّنُ صِحَّةَ الدَّعْوَى وَالشَّبَهُ: بَيَّنَ صِحَّةَ الدَّعْوَى، فَإِذَا كَانَ مِنْ جَانِبِ أَحَدِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ كَانَ النَّسَبُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَتِهِمَا كَانَ النَّسَبُ لَهُمَا.
وَقَوْلُهُمْ: " لَوْ أَثَّرَ الشَّبَهُ وَالْقَافَةُ فِي نِتَاجِ الْآدَمِيِّ لَأَثَّرَ فِي نِتَاجِ الْحَيَوَانِ ". جَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَنْعُ الْمُلَازَمَةِ، إذْ لَمْ يَذْكُرُوا عَلَيْهَا دَلِيلًا سِوَى مُجَرَّدِ الدَّعْوَى، فَأَيْنَ التَّلَازُمُ شَرْعًا وَعَقْلًا بَيْنَ النَّاسِ؟
الثَّانِي: أَنَّ الشَّارِعَ يَتَشَوَّفُ إلَى ثُبُوتِ الْأَنْسَابِ مَهْمَا أَمْكَنَ، وَلَا يَحْكُمُ بِانْقِطَاعِ النَّسَبِ إلَّا حَيْثُ يَتَعَذَّرُ إثْبَاتُهُ، وَلِهَذَا ثَبَتَ بِالْفِرَاشِ وَبِالدَّعْوَى وَبِالْأَسْبَابِ الَّتِي بِمِثْلِهَا لَا يَثْبُتُ نِتَاجُ الْحَيَوَانِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ فِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ وَحَقٌّ لِلْوَلَدِ وَحَقٌّ لِلْأَبِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الْوَصْلِ. بَيْنَ الْعِبَادِ مَا بِهِ قِوَامُ مَصَالِحِهِمْ مَا يَتَرَتَّبُ، فَأَثْبَتَهُ الشَّرْعُ بِأَنْوَاعِ الطُّرُقِ الَّتِي لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِهَا نِتَاجُ الْحَيَوَانِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ سَبَبَهُ الْوَطْءُ، وَهُوَ إنَّمَا يَقَعُ غَالِبًا فِي غَايَةِ التَّسَتُّرِ، وَيُكْتَمُ عَنْ الْعُيُونِ وَعَنْ اطِّلَاعِ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ عَلَيْهِ، فَلَوْ كُلِّفَ الْبَيِّنَةَ عَلَى سَبَبِهِ لَضَاعَتْ أَنْسَابُ بَنِي آدَمَ، وَفَسَدَتْ أَحْكَامُ الصِّلَاتِ الَّتِي بَيْنَهُمْ، وَلِهَذَا ثَبَتَ بِأَيْسَرِ شَيْءٍ مِنْ فِرَاشٍ وَدَعْوَى وَشَبَهٍ، حَتَّى أَثْبَتَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، مَعَ الْقَطْعِ بِعَدَمِ وُصُولِ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ، وَأَثْبَتَهُ لِأُمَّيْنِ مَعَ الْقَطْعِ بِعَدَمِ خُرُوجِهِ مِنْهُمَا احْتِيَاطًا لِلنَّسَبِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّبَهَ أَوْلَى وَأَقْوَى مِنْ ذَلِكَ بِكَثِيرٍ.
الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ نِتَاجِ الْحَيَوَانِ: إنَّمَا هُوَ الْمَالُ الْمُجَرَّدُ، فَدَعْوَاهُ دَعْوَى مَالٍ مَحْضٍ، بِخِلَافِ دَعْوَى النَّسَبِ، فَأَيْنَ دَعْوَى الْمَالِ مِنْ دَعْوَى النَّسَبِ؟ وَأَيْنَ أَسْبَابُ ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا مِنْ أَسْبَابِ ثُبُوتِ الْآخَرِ؟ .
السَّادِسُ: أَنَّ الْمَالَ يُبَاحُ بِالْبَذْلِ، وَيُعَارَضُ عَلَيْهِ، وَيَقْبَلُ النَّقْلَ، وَتَجُوزُ الرَّغْبَةُ عَنْهُ، وَالنَّسَبُ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
السَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ بَيْنَ أَشْخَاصِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ الْفُرُوقِ فِي صُوَرِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ وَحِلَاهُمْ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَلَا يَقَعُ مَعَهُ الِاشْتِبَاهُ بَيْنَهُمْ، بِحَيْثُ يَتَسَاوَى الشَّخْصَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إلَّا فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ، مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ بَيْنَ أَشْخَاصِ الْحَيَوَانِ، بَلْ التَّشَابُهُ فِيهِ أَكْبَرُ وَالتَّمَاثُلُ أَغْلَبُ، فَلَا يَكَادُ الْحِسُّ يُمَيِّزُ بَيْنَ نِتَاجِ الْحَيَوَانِ وَنِتَاجِ غَيْرِهِ بِرَدِّ كُلٍّ مِنْهُمَا إلَى أُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَقَعُ ذَلِكَ، لَكِنَّ وُقُوعَهُ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَشْخَاصِ الْآدَمِيِّ، فَإِلْحَاقُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُمْتَنِعٌ.
الثَّامِنُ: قَوْلُهُمْ: " إنَّ الِاعْتِمَادَ فِي الْقَافَةِ عَلَى الشَّبَهِ، وَهُوَ أَمْرٌ مُدْرَكٌ بِالْحِسِّ فَإِنْ حَصَلَ بِالْمُشَاهَدَةِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقَائِفِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْقَائِفِ ".
جَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ: الْأُمُورُ الْمُدْرَكَةُ بِالْحِسِّ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، كَالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا لَا يُقْبَلُ فِيهِ تَفَرُّدُ الْمُخْبِرِ وَالشَّاهِدِ بِمَا لَا يُدْرِكُهُ النَّاسُ مَعَهُ.
وَالثَّانِي: مَا لَا يَلْزَمُ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ، كَرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَمَعْرِفَةِ الْأَوْقَاتِ، وَأَخْذِ كُلٍّ مِنْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ أَهْلُ الْخِبْرَةِ، مِنْ تَعْدِيلِ الْقِسْمَةِ، وَكِبَرِ الْحَيَوَانِ وَصِغَرِهِ، وَالْخَرْصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا مُسْتَنَدُهُ الْحِسُّ وَلَا يَجِبُ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ، فَيُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ. وَمِنْ هَذَا: التَّشَابُهُ - بَلْ وَالتَّمَاثُلُ - بَيْنَ الْآدَمِيِّينَ، فَإِنَّ التَّشَابُهَ بَيْنَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ يَظْهَرُ فِي صُورَةِ الطِّفْلِ وَشَكْلِهِ، وَهَيْئَةِ أَعْضَائِهِ، ظُهُورًا خَفِيًّا، يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الْقَائِفُ دُونَ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَعْرِفُ ذَلِكَ لِبَنِي مُدْلِجٍ، وَتُقِرُّ لَهُمْ بِهِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِهِمْ، وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْقَائِفِ مِنْهُمْ.
قَالَ إسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ الْقَائِفِ: هَلْ يُقْضَى بِقَوْلِهِ؟ قَالَ: يُقْضَى بِقَوْلِهِ إذَا عَلِمَ، وَأَهْلُ الْحِجَازِ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ وَشَرَطَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ كَوْنَهُ مُدْلِجِيًّا، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَاطِبٍ: " كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عُمَرَ، فَجَاءَهُ رَجُلَانِ فِي غُلَامٍ، كِلَاهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ ابْنُهُ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: اُدْعُوا لِي أَخَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَجَاءَ فَقَالَ: اُنْظُرْ ابْنَ أَيِّهِمَا تَرَاهُ؟ فَقَالَ: قَدْ اشْتَرَكَا فِيهِ " وَذَكَرَ بَقِيَّةَ الْخَبَرِ، وَبَنُو الْمُصْطَلِقِ بَطْنٌ مِنْ خُزَاعَةَ لَا نَسَبَ لَهُمْ فِي بَنِي مُدْلِجٍ.
وَكَذَلِكَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ كَانَ غَايَةً فِي الْقِيَافَةِ وَهُوَ مِنْ مُزَيْنَةَ، وَشُرَيْحُ بْنُ الْحَارِثِ الْقَاضِي كَانَ قَائِفًا، وَهُوَ مِنْ كِنْدَةَ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ: أَهْلُ الْحِجَازِ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَخُصَّهُ بِبَنِي مُدْلِجٍ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ أَهْلَ الْقِيَافَةِ كَأَهْلِ الْخِبْرَةِ وَأَهْلِ الْخَرْصِ وَالْقَاسِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، مِمَّنْ اعْتِمَادُهُمْ عَلَى الْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ الْمَرْئِيَّةِ لَهُمْ، وَلَهُمْ فِيهَا عَلَامَاتٌ يَخْتَصُّونَ بِمَعْرِفَتِهَا: مِنْ التَّمَاثُلِ وَالِاخْتِلَافِ وَالْقَدْرِ وَالْمِسَاحَةِ وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ: النَّاسُ يَجْتَمِعُونَ لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَيَرَاهُ مِنْ بَيْنَهُمْ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ، فَيَحْكُمُ بِقَوْلِهِ أَوْ قَوْلِهِمَا دُونَ بَقِيَّةِ الْجَمْعِ.
قَوْلُهُمْ: " إنَّا نُدْرِكُ التَّشَابُهَ بَيْنَ الْأَجَانِبِ، وَالِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْمُشْتَرِكِينَ فِي النَّسَبِ ". قُلْنَا: نَعَمْ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ الْأَكْثَرَ خِلَافُ ذَلِكَ، وَهُوَ الَّذِي أَجْرَى اللَّهُ سبحانه وتعالى بِهِ الْعَادَةَ، وَجَوَازُ التَّخَلُّفِ عَنْ الدَّلِيلِ وَالْعَلَامَةِ الظَّاهِرَةِ فِي النَّادِرِ: لَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عِنْدَ عَدَمِ مُعَارَضَةِ مَا يُقَاوِمُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْفِرَاشَ دَلِيلٌ عَلَى النَّسَبِ وَالْوِلَادَةِ، وَأَنَّهُ ابْنُهُ؟ وَيَجُوزُ - بَلْ يَقَعُ كَثِيرًا - تَخَلُّفُ دَلَالَتِهِ، وَتَخْلِيقُ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ مَاءِ صَاحِبِ الْفِرَاشِ، وَلَا يُبْطِلُ ذَلِكَ كَوْنُ الْفِرَاشِ دَلِيلًا، وَكَذَلِكَ أَمَارَاتُ الْخَرْصِ وَالْقِسْمَةِ وَالتَّقْوِيمِ وَغَيْرِهَا: قَدْ تَتَخَلَّفُ عَنْهَا أَحْكَامُهَا وَمَدْلُولَاتُهَا، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ اعْتِبَارَهَا، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَكَذَلِكَ الْأَقْرَاءُ وَالْقُرْءُ الْوَاحِدُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، فَإِنَّهَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ مَعَ جَوَازِ تَخَلُّفِ دَلَالَتِهِ، وَوُقُوعُ ذَلِكَ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
قَوْلُهُمْ: " إنَّ الِاسْتِلْحَاقَ مُوجِبٌ لِلُحُوقِ النَّسَبِ، وَقَدْ اشْتَرَكَا فِيهِ، فَيَشْتَرِكَانِ فِي مُوجَبِهِ ". قُلْنَا: هَذَا صَحِيحٌ إذَا لَمْ يَتَمَيَّزْ أَحَدُهُمَا بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ الدَّعْوَى، فَأَمَّا إذَا تَمَيَّزَ بِأَمْرٍ آخَرَ، كَالْفِرَاشِ وَالشَّبَهِ: كَانَ اللَّحَاقُ بِهِ، كَمَا لَوْ تَمَيَّزَ بِالْبَيِّنَةِ، بَلْ الشَّبَهُ نَفْسُهُ بَيِّنَةٌ مِنْ أَقْوَى الْبَيِّنَاتِ، فَإِنَّهَا اسْمٌ لِمَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ وَيُظْهِرُهُ، وَظُهُورُ الْحَقِّ هَاهُنَا بِالشَّبَهِ: أَقْوَى مِنْ ظُهُورِهِ بِشَهَادَةِ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْوَهْمُ وَالْغَلَطُ وَالْكَذِبُ، وَأَقْوَى بِكَثِيرٍ مِنْ الْفِرَاشِ يَقْطَعُ بِعَدَمِ اجْتِمَاعِ الزَّوْجَيْنِ فِيهِ. قَوْلُهُمْ:" الْقَائِفُ إمَّا شَاهِدٌ وَإِمَّا حَاكِمٌ. .. إلَخْ ".
قُلْنَا: هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ لِمَنْ يَقُولُ بِالْقَافَةِ، هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ، وَوَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ الْقَائِفَ: هَلْ هُوَ حَاكِمٌ أَوْ شَاهِدٌ؟ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ آخَرِينَ: لَيْسَا مَبْنِيِّينَ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ الْخِلَافُ جَارٍ، سَوَاءٌ قُلْنَا: الْقَائِفُ حَاكِمٌ أَوْ شَاهِدٌ، كَمَا نَعْتَبِرُ حَاكِمَيْنِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ. وَكَذَلِكَ إذَا قَبِلْنَا قَوْلَهُ وَحْدَهُ: جَازَ ذَلِكَ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ شَاهِدًا، كَمَا نَقْبَلُ قَوْلَ الْقَاسِمِ وَالْخَارِصِ وَالْمُقَوِّمِ وَالطَّبِيبِ وَنَحْوِهِمْ وَحْدَهُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْنِي الْخِلَافَ عَلَى كَوْنِهِ شَاهِدًا أَوْ مُخْبِرًا، فَإِنْ جَعَلْنَاهُ مُخْبِرًا اُكْتُفِيَ بِخَبَرِهِ وَحْدَهُ، كَالْخَبَرِ عَنْ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ شَاهِدًا لَمْ نَكْتَفِ بِشَهَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ
مُخْبِرٌ، وَالْمُخْبِرُ شَاهِدٌ وَكُلُّ مَنْ شَهِدَ بِشَيْءٍ فَقَدْ أَخْبَرَ بِهِ، وَالشَّرِيعَةُ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ ذَلِكَ أَصْلًا، وَإِنَّمَا هَذَا عَلَى أَصْلِ مَنْ اشْتَرَطَ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ لَفْظَ " الشَّهَادَةِ " دُونَ مُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ضَعْفِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلْ الْأَدِلَّةُ كَثِيرَةٌ - مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - تَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ.
وَالْقَضَايَا الَّتِي رُوِيَتْ فِي الْقَافَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ بَعْدَهُ: لَيْسَ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، مِنْهَا أَنَّهُمْ قَالُوا: الْقَائِفُ تَلَفَّظَ بِلَفْظَةِ " أَشْهَدُ أَنَّهُ ابْنُهُ " وَلَا يَتَلَفَّظُ بِذَلِكَ الْقَائِفُ أَصْلًا، وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاعْتِمَادُ عَلَى مُجَرَّدِ خَبَرِهِ، وَهُوَ شَهَادَةٌ مِنْهُ، وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ، وَنُصُوصُ أَحْمَدَ لَا تُشْعِرُ بِهَذَا الْبِنَاءِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِوَجْهٍ، وَإِنَّمَا الْمُتَأَخِّرُونَ يَتَصَرَّفُونَ فِي نُصُوصِ الْأَئِمَّةِ، وَيَبْنُونَهَا عَلَى مَا لَمْ يَخْطِرْ لِأَصْحَابِهَا بِبَالٍ، وَلَا جَرَى لَهُمْ فِي مَقَالٍ، وَيَتَنَاقَلُهُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، ثُمَّ يَلْزَمُهُمْ مِنْ طَرْدِهِ لَوَازِمُ لَا يَقُولُ بِهَا الْأَئِمَّةُ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَطْرُدُهَا وَيَلْتَزِمُ الْقَوْلَ بِهَا، وَيُضِيفُ ذَلِكَ إلَى الْأَئِمَّةِ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ فَيُرَوَّجُ بَيْنَ النَّاسِ بِجَاهِ الْأَئِمَّةِ، وَيُفْتِي وَيَحْكُمُ بِهِ وَالْإِمَامُ لَمْ يَقُلْهُ قَطُّ، بَلْ يَكُونُ قَدْ نَصَّ عَلَى خِلَافِهِ.
وَنَحْنُ نَذْكُرُ نُصُوصَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّسَائِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَنْ الْوَلَدِ يَدَّعِيهِ الرَّجُلَانِ؟ قَالَ: يَدَّعِي لَهُ رَجُلَانِ مِنْ الْقَافَةِ، فَإِنْ أَلْحَقَاهُ بِأَحَدِهِمَا: فَهُوَ لَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد الْمِصِّيصِيُّ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ جَارِيَةٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَقَعَا عَلَيْهَا؟ قَالَ: إنْ أَلْحَقُوهُ بِأَحَدِهِمَا فَهُوَ لَهُ، قِيلَ لَهُ: إنْ قَالَ أَحَدُ الْقَافَةِ: هُوَ لِهَذَا، وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ لِهَذَا؟ قَالَ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُ وَاحِدٍ حَتَّى يَجْتَمِعَ اثْنَانِ، يَكُونَانِ كَشَاهِدَيْنِ.
وَقَالَ الْأَثْرَمُ: قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: إنْ قَالَ أَحَدُ الْقَافَةِ: هُوَ لِهَذَا.
وَقَالَ الْآخَرُ: هُوَ لِهَذَا؟ قَالَ: لَا يُقْبَلُ قَوْلُ وَاحِدٍ حَتَّى يَجْتَمِعَ اثْنَانِ، فَيَكُونَا كَشَاهِدَيْنِ، وَإِذَا شَهِدَ اثْنَانِ مِنْ الْقَافَةِ أَنَّهُ لِهَذَا: فَهُوَ لَهُ.
وَاحْتَجَّ مَنْ رَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ حُكْمٌ بِالشَّبَهِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَدُ، كَالْحُكْمِ بِالْمِثْلِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ.
قَالُوا: بَلْ هُوَ أَوْلَى لِأَنَّ دَرْكَ الْمِثْلِيَّةِ فِي الصَّيْدِ أَظْهَرُ بِكَثِيرٍ مِنْ دَرْكِهَا هَاهُنَا: فَإِذَا تَابَعَ الْقَائِفُ غَيْرَهُ سَكَنَتْ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّتْ إلَى قَوْلِهِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ - وَفِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ - فِي الْوَلَدِ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ: يَدَّعِي الْقَائِفُ، فَإِذَا قَالَ هُوَ مِنْهُمَا: فَهُوَ مِنْهُمَا، نَظَرًا إلَى مَا يَقُولُ الْقَائِفُ، وَإِنْ جَعَلَهُ لِوَاحِدٍ: فَهُوَ لِوَاحِدٍ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ: وَسُئِلَ عَنْ الْقَائِفِ: هَلْ يُقْضَى بِقَوْلِهِ؟ فَقَالَ: يُقْضَى بِذَلِكَ إذَا عَلِمَ.
وَمِنْ حُجَّةِ هَذَا الْقَوْلِ - وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَصَاحِبِ " الْمُسْتَوْعِبِ "، وَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلِ أَهْلِ الظَّاهِرِ -: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُرَّ بِقَوْلِ مُجَزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ وَحْدَهُ، وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ اسْتَقَافَ الْمُصْطَلِقِيَّ وَحْدَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَاسْتَقَافَ ابْنُ عَبَّاسٍ ابْنَ كِلْدَةَ وَحْدَهُ، وَاسْتَلْحَقَ بِقَوْلِهِ.
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ يُكْتَفَى بِالطَّبِيبِ وَالْبَيْطَارِ الْوَاحِدِ إذَا لَمْ يُوجَدْ سِوَاهُ وَالْقَائِفُ مِثْلُهُ، فَتَخْرُجُ لَهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ كَذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَلْ هَذَا أَوْلَى مِنْ الطَّبِيبِ وَالْبَيْطَارِ، لِأَنَّهُمَا أَكْثَرُ وُجُودًا مِنْهُ، فَإِذَا اُكْتُفِيَ بِالْوَاحِدِ مِنْهُمَا - مَعَ عَدَمِ غَيْرِهِ - فَالْقَائِفُ أَوْلَى.
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: " إنَّ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ لَمْ يَحْكُمَا بِالْقَافَةِ فِي قِصَّةِ الْوَلَدِ الَّذِي ادَّعَتْهُ الْمَرْأَتَانِ ".
فَيُقَالُ: قَدْ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْقَافَةِ: هَلْ يُعْتَبَرُ فِي تَدَاعِي الْمَرْأَتَيْنِ كَمَا يُعْتَبَرُ فِي تَدَاعِي الرَّجُلَيْنِ؟ وَفِي ذَلِكَ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُعْتَبَرُ هَاهُنَا، وَإِنْ اُعْتُبِرَ فِي تَدَاعِي الرَّجُلَيْنِ.
قَالُوا: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّا يُمْكِنُنَا التَّوَصُّلُ إلَى مَعْرِفَةِ الْأُمِّ يَقِينًا، بِخِلَافِ الْأَبِ، فَإِنَّا لَا سَبِيلَ لَنَا إلَى ذَلِكَ، فَاحْتَجْنَا إلَى الْقَافَةِ، وَعَلَى هَذَا: فَلَا إشْكَالَ.
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ - وَهُوَ الصَّحِيحُ -: أَنَّ الْقَافَةَ تَجْرِي هَاهُنَا كَمَا تَجْرِي بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ، قَالَهُ أَحْمَدُ - فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْحَكَمِ فِي يَهُودِيَّةٍ وَمُسْلِمَةٍ وَلَدَتَا، فَادَّعَتْ الْيَهُودِيَّةُ وَلَدَ الْمُسْلِمَةِ - قِيلَ لَهُ: يَكُونُ فِي هَذَا الْقَافَةُ؟ قَالَ: مَا أَحْسَنَهُ اهـ.
وَالْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ يَأْخُذُ الشَّبَهَ مِنْ الْأُمِّ تَارَةً، وَمِنْ الْأَبِ تَارَةً: تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ.
فَإِنَّ الْحُكْمَ بِالْقَافَةِ إنَّمَا يُتَوَهَّمُ بِالشَّبَهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَثَوْبَانَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَكَوْنُ الْأُمِّ تُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا يَقِينًا - بِخِلَافِ الْأَبِ - لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَافَةَ لَا تُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْمَرْأَتَيْنِ، لِأَنَّا إنَّمَا نَسْتَعْمِلُهَا عِنْدَ عَدَمِ مَعْرِفَةِ الْأُمِّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اسْتِعْمَالِهَا عِنْدَ تَيَقُّنِ مَعْرِفَةِ الْأُمِّ عَدَمُ اسْتِعْمَالِهَا عِنْدَ الْجَهْلِ بِهَا، كَمَا أَنَّا إنَّمَا نَسْتَعْمِلُهَا فِي حَقِّ الرَّجُلَيْنِ عِنْدَ عَدَمِ تَيَقُّنِ الْفِرَاشِ، لَا عِنْدَ تَيَقُّنِهِ.
وَأَمَّا كَوْنُ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ لَمْ يَعْتَبِرَاهَا: فَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ شَرِيعَةً لَهُمَا، وَهُوَ الظَّاهِرُ، إذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ شَرْعًا لَدَعَوْا الْقَافَةَ لِلْوَلَدِ.
وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْقَافَةُ مَشْرُوعَةً فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ، وَلَكِنْ فِي حَقِّ الرَّجُلَيْنِ، كَمَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي شَرِيعَتِنَا، وَحِينَئِذٍ فَلَا كَلَامَ. وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَشْرُوعَةً مُطْلَقًا، وَلَكِنْ أُشْكِلَ عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ أَمْرُ الشَّبَهِ بِحَيْثُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُمَا، وَأَنَّ
الْقَائِفَ لَا يَعْلَمُ الْحَالَ فِي كُلِّ صُورَةٍ، بَلْ قَدْ يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ كَثِيرًا. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ: فَلَا حُجَّةَ فِي الْقِصَّةِ عَلَى إبْطَالِ حُكْمِ الْقَافَةِ فِي شَرِيعَتِنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
بَلْ قِصَّةُ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ صَرِيحَةٌ فِي إبْطَالِ الْوَلَدِ بِأُمَّيْنِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ نَبِيٌّ مِنْ النَّبِيَّيْنِ الْكَرِيمَيْنِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَسَلَامُهُ - بَلْ اتَّفَقَا عَلَى إلْغَاءِ هَذَا الْحُكْمِ، فَاَلَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقِصَّةُ لَا يَقُولُونَ بِهِ، وَاَلَّذِي يَقُولُونَ بِهِ غَيْرُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقِصَّةُ.
96 -
(فَصْلٌ)
وَأَمَّا حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - فِي قِصَّةِ عَلِيٍّ فِي الْوَلَدِ الَّذِي ادَّعَاهُ الثَّلَاثَةُ وَالْإِقْرَاعُ بَيْنَهُمَا: فَهُوَ حَدِيثٌ مُضْطَرِبٌ جِدًّا، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ.
وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ؟ فَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، لَا أَدْرِي مَا هَذَا وَلَا أَعْرِفُهُ صَحِيحًا.
وَقَالَ لَهُ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ " أَنَّ ثَلَاثَةً وَقَعُوا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ؟ " قَالَ: حَدِيثُ عُمَرَ فِي الْقَافَةِ أَعْجَبُ إلَيَّ. وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ ": أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْخَلِيلِ لَا يُتَابِعُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ. وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ أَحْمَدَ: أَنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا: مَا رَوَاهُ قَابُوسُ بْنُ أَبِي ظَبْيَانِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه " أَنَّ رَجُلَيْنِ وَقَعَا عَلَى امْرَأَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ، فَدَعَا لَهُ عَلِيٌّ الْقَافَةَ، وَجَعَلَهُ ابْنَهُمَا جَمِيعًا، يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ " وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ عَلِيٍّ رضي الله عنه: الْأَخْذُ بِالْقَافَةِ دُونَ الْقُرْعَةِ.
وَأَيْضًا: فَالْمَعْهُودُ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْقُرْعَةِ إنَّمَا هُوَ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُرَجِّحٌ سِوَاهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَافَةَ مُرَجَّحَةٌ: إمَّا شَهَادَةً، وَإِمَّا حُكْمًا، وَإِمَّا فُتْيَا؛ فَلَا يُصَارُ إلَى الْقُرْعَةِ مَعَ وُجُودِهَا. وَأَيْضًا: فَنُفَاةِ الْقَافَةِ لَا يَأْخُذُونَ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ فِي الْقُرْعَةِ، وَلَا بِحَدِيثِهِ وَحَدِيثِ عُمَرَ فِي الْقَافَةِ، فَلَا يَقُولُونَ بِهَذَا وَلَا بِهَذَا.
فَنَقُولُ: حَدِيثُ عَلِيٍّ: إمَّا أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا أَوْ لَيْسَ بِثَابِتٍ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَلَا إشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا، فَهُوَ وَاقِعَةُ عَيْنٍ، تَحْتَمِلُ، وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَكُونُ قَدْ وُجِدَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَائِفٌ، أَوْ يَكُونُ قَدْ أَشْكَلَ عَلَى الْقَائِفِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ، أَوْ يَكُونُ لِعَدَمِ كَوْنِ الْقِيَافَةِ طَرِيقًا شَرْعِيًّا، وَإِذَا احْتَمَلَتْ الْقِصَّةُ هَذَا وَهَذَا وَهَذَا: لَمْ يَجْزِمْ بِوُقُوعِ أَحَدِ الِاحْتِمَالَاتِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَقَدْ تَضَمَّنَتْ الْقِصَّةُ أَمْرَيْنِ مُشْكِلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: ثُبُوتُ النَّسَبِ بِالْقُرْعَةِ.
وَالثَّانِي: إلْزَامُ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ لِلْآخَرِ. فَمَنْ صَحَّحَ الْحَدِيثَ وَنَفَى الْحُكْمَ وَالتَّعْلِيلَ - كَبَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ - قَالَ بِهِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى مَعْنًى وَلَا عِلَّةٍ وَلَا حِكْمَةٍ، وَقَالَ: لَيْسَ هُنَا إلَّا التَّسْلِيمُ وَالِانْقِيَادُ. وَأَمَّا مَنْ سَلَكَ طَرِيقَ التَّعْلِيلِ وَالْحِكْمَةِ، فَقَدْ يَقُولُ: إنَّهُ إذَا تَعَذَّرَتْ الْقَافَةُ وَأَشْكَلَ الْأَمْرُ عَلَيْهَا: كَانَ الْمَصِيرُ إلَى الْقُرْعَةِ أَوْلَى مِنْ ضَيَاعِ نَسَبِ الْوَلَدِ، وَتَرْكِهِ هَمْلًا لَا نَسَبَ لَهُ، وَهُوَ يَنْظُرُ إلَى نَاكِحِ أُمِّهِ وَوَاطِئِهَا، فَالْقُرْعَةُ هَاهُنَا أَقْرَبُ الطُّرُقِ إلَى إثْبَاتِ النَّسَبِ، فَإِنَّهَا طَرِيقٌ شَرْعِيٌّ، وَقَدْ سُدَّتْ الطُّرُقُ سِوَاهَا، وَإِذَا كَانَتْ صَالِحَةً لِتَعْيِينِ الْأَمْلَاكِ الْمُطْلَقَةِ، وَتَعْيِينِ الرَّقِيقِ مِنْ الْحُرِّ، وَتَعْيِينِ الزَّوْجَةِ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ، فَكَيْفَ لَا تَصْلُحُ لِتَعْيِينِ صَاحِبِ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ؟ .
وَالْمَعْلُومُ أَنَّ طُرُقَ حِفْظِ الْأَنْسَابِ أَوْسَعُ مِنْ طُرُقِ حِفْظِ الْأَمْوَالِ، وَالشَّارِعُ إلَى ذَلِكَ أَعْظَمُ تَشَوُّفًا، فَالْقُرْعَةُ شُرِعَتْ لِإِخْرَاجِ الْمُسْتَحَقِّ تَارَةً، وَلِتَعْيِينِهِ تَارَةً، هَاهُنَا أَحَدُ الْمُتَدَاعِيَيْنِ هُوَ أَبُوهُ حَقِيقَةً، فَعَمِلَتْ الْقُرْعَةُ فِي تَعْيِينِهِ، كَمَا عَمِلَتْ فِي تَعْيِينِ الزَّوْجَةِ عِنْدَ اشْتِبَاهِهَا بِالْأَجْنَبِيَّةِ، فَالْقُرْعَةُ تُخْرِجُ الْمُسْتَحَقَّ شَرْعًا، كَمَا تُخْرِجُهُ قَدْرًا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَقْرِيرِ صِحَّتِهَا وَاعْتِبَارِهَا مَا فِيهِ شِفَاءٌ، فَلَا اسْتِبْعَادَ فِي الْإِلْحَاقِ بِهَا عِنْدَ تَعَيُّنِهَا طَرِيقًا، بَلْ خِلَافُ ذَلِكَ، هُوَ الْمُسْتَبْعَدُ.
الْأَمْرُ الثَّانِي: إلْزَامُ مَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ لِصَاحِبِهِ، وَلِهَذَا أَيْضًا وَجْهٌ، فَإِنْ وَطِئَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرَيْنِ كَانَ صَالِحًا لِحُصُولِ الْوَلَدِ لَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَلَمَّا خَرَجَتْ الْقُرْعَةُ لِأَحَدِهِمْ: أَبْطَلَتْ مَا كَانَ مِنْ الْوَاطِئَيْنِ مِنْ حُصُولِ الْوَلَدِ لَهُ، فَقَدْ بَذَرَ كُلٌّ مِنْهُمْ بَذْرًا يَرْجُو بِهِ أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ لَهُ، فَقَدْ اشْتَرَكُوا فِي الْبَذْرِ، فَإِذَا فَازَ أَحَدُهُمْ بِالزَّرْعِ: كَانَ مِنْ الْعَدْلِ أَنْ يَضْمَنَ لِصَاحِبَيْهِ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ، وَالدِّيَةُ قِيمَةُ الْوَلَدِ شَرْعًا، فَلَزِمَهُ ضَمَانُ ثُلُثَيْهَا لِصَاحِبَيْهِ، إذْ الثُّلُثَانِ عِوَضُ ثُلُثَيْ الْوَلَدِ الَّذِي اسْتَبَدَّ بِهِ دُونَهُمَا، مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي سَبَبِ حُصُولِهِ. وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي يُثْبِتُونَهَا بِآرَائِهِمْ وَأَقْيِسَتِهِمْ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَظْهَرُ.
وَقَدْ اعْتَبَرَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم مِثْلَ ذَلِكَ فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ، حَيْثُ حَكَمُوا بِحُرِّيَّتِهِ، وَأَلْزَمُوا الْوَاطِئَ فِدَاءَهُ بِمِثْلِهِ لِمَا فَوَّتَ رِقَّهُ عَلَى سَيِّدِ الْأَمَةِ، هَذَا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ سَيِّدِهَا هُنَا كَوَطْءٍ يَكُونُ مِنْهُ وَلَدٌ، بَلْ الزَّوْجُ وَحْدَهُ هُوَ الْوَاطِئُ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْوَلَدُ تَابِعًا لِأُمِّهِ فِي الرِّقِّ: كَانَ بِصَدَدِ أَنْ يَكُونَ رَقِيقًا لِسَيِّدِهَا، فَلَمَّا فَاتَهُ ذَلِكَ - بِانْعِقَادِ الْوَلَدِ حُرًّا مِنْ أَمَتِهِ - أَلْزَمُوا الْوَاطِئَ بِأَنْ يَغْرَمَ لَهُ نَظِيرَهُ، وَلَمْ يُلْزِمُوهُ بِالدِّيَةِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا فَوَّتَ عَلَيْهِ رَقِيقًا، وَلَمْ يُفَوِّتْ عَلَيْهِ حُرًّا، وَفِي قِصَّةِ عَلِيٍّ: كَانَ