الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
12 -
(فَصْلٌ) وَمِنْ ذَلِكَ: قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى الْفَقِيهِ - وَقَدْ أُقِيمَ عَلَى دُكَّانٍ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ - فَقَامَ عَلَى الدُّكَّانِ، وَقَالَ: إنَّ الْأَمِيرَ أَمَرَنِي أَنْ أَلْعَنَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَالْعَنُوهُ. لَعَنَهُ اللَّهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ: تَعْرِيضُ الْحَجَّاجِ بْنِ عِلَاطٍ، بَلْ تَصْرِيحُهُ لِامْرَأَتِهِ، بِهَزِيمَةِ الصَّحَابَةِ وَقَتْلِهِمْ، حَتَّى أَخَذَ مَالَهُ مِنْهَا.
[فَصَلِّ فِي الْفِرَاسَة الصَّادِقَة]
13 -
(فَصْلٌ) وَمِنْ الْفِرَاسَةِ الصَّادِقَةِ: فِرَاسَةُ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، حِينَ قَدِمَ وَشَهِدَ عَلَى عَقْدِ التَّبَايُعِ بَيْنَ الْأَعْرَابِيِّ وَرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَلَمْ يَكُنْ حَاضِرًا، تَصْدِيقًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَمِيعِ مَا يُخْبِرُ بِهِ.
وَمِنْهَا: فِرَاسَةُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، وَقَدْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَيْنًا إلَى الْمُشْرِكِينَ فَجَلَسَ بَيْنَهُمْ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لِيَنْظُرْ كُلٌّ مِنْكُمْ جَلِيسَهُ، فَبَادَرَ حُذَيْفَةُ وَقَالَ لِجَلِيسِهِ: مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ.
وَمِنْهَا: فِرَاسَةُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ عُمَرُ عَلَى الْبَحْرَيْنِ. فَكَرِهَهُ أَهْلُهَا فَعَزَلَهُ عُمَرُ عَنْهُمْ، فَخَافُوا أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ. فَقَالَ دِهْقَانُهُمْ: إنْ فَعَلْتُمْ مَا آمُرُكُمْ بِهِ لَمْ يَرُدَّهُ عَلَيْنَا. قَالُوا مُرْنَا بِأَمْرِك. قَالَ: تَجْمَعُونَ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، حَتَّى أَذْهَبَ بِهَا إلَى عُمَرَ، وَأَقُولَ: إنَّ الْمُغِيرَةَ اخْتَانَ هَذَا وَدَفَعَهُ إلَيَّ، فَجَمَعُوا ذَلِكَ. فَأَتَى عُمَرَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ) إنَّ الْمُغِيرَةَ اخْتَانَ هَذَا، فَدَفَعَهُ إلَيَّ. فَدَعَا عُمَرُ الْمُغِيرَةَ، فَقَالَ: مَا يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: كَذَبَ، أَصْلَحَك اللَّهُ، إنَّمَا كَانَتْ مِائَتَيْ أَلْفٍ، فَقَالَ: مَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: الْعِيَالُ وَالْحَاجَةُ. فَقَالَ عُمَرُ لِلدِّهْقَانِ: مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ، لَأَصْدُقَنَّكَ، وَاَللَّهِ مَا دَفَعَ إلَيَّ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا. وَلَكِنْ كَرِهْنَاهُ وَخَشِينَا أَنْ تَرُدَّهُ عَلَيْنَا، فَقَالَ عُمَرُ لِلْمُغِيرَةِ: مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا؟ قَالَ: إنَّ الْخَبِيثَ كَذَبَ عَلَيَّ فَأَرَدْت أَنْ أُخْزِيَهُ.
وَخَطَبَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَفَتًى مِنْ الْعَرَبِ امْرَأَةً، وَكَانَ الْفَتَى جَمِيلًا، فَأَرْسَلْت إلَيْهِمَا الْمَرْأَةُ: لَا بُدَّ أَنْ أَرَاكُمَا، وَأَسْمَعَ كَلَامَكُمَا، فَاحْضُرَا إنْ شِئْتُمَا، فَأَجْلَسَتْهُمَا بِحَيْثُ تَرَاهُمَا. فَعَلِمَ الْمُغِيرَةُ أَنَّهَا تُؤْثِرُ عَلَيْهِ الْفَتَى، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَقَدْ أُوتِيتَ حُسْنًا وَجَمَالًا وَبَيَانًا. فَهَلْ عِنْدَك سِوَى ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَعَدَّدَ عَلَيْهِ مَحَاسِنَهُ، ثُمَّ سَكَتَ.
فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: فَكَيْفَ حِسَابُك؟ فَقَالَ: لَا يَسْقُطُ عَلَيَّ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنِّي لَأَسْتَدْرِكُ مِنْهُ أَقَلَّ مِنْ الْخَرْدَلَةِ، فَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَةُ: لَكِنِّي أَضَعُ الْبَدْرَةَ فِي زَاوِيَةِ الْبَيْتِ، فَيُنْفِقُهَا أَهْلُ بَيْتِي عَلَى مَا يُرِيدُونَ، فَمَا أَعْلَمُ بِنَفَادِهَا حَتَّى يَسْأَلُونِي غَيْرَهَا، فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: وَاَللَّهِ لَهَذَا الشَّيْخُ الَّذِي لَا يُحَاسِبُنِي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الَّذِي يُحْصِي عَلَيَّ أَدْنَى مِنْ الْخَرْدَلَةِ. فَتَزَوَّجَتْ الْمُغِيرَةَ.
وَمِنْهَا: فِرَاسَةُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ لَمَّا حَاصَرَ غَزَّةَ، فَبَعَثَ إلَيْهِ صَاحِبُهَا: أَنْ أَرْسِلْ إلَيَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِك أُكَلِّمُهُ. فَفَكَّرَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، وَقَالَ: مَا لِهَذَا الرَّجُلِ غَيْرِي فَخَرَجَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ، فَكَلَّمَهُ كَلَامًا لَمْ يَسْمَعْ مِثْلَهُ قَطُّ. فَقَالَ لَهُ: حَدِّثْنِي، هَلْ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِك مِثْلُك؟ فَقَالَ: لَا تَسَلْ، مِنْ هَوَانِي عِنْدَهُمْ بَعَثُونِي إلَيْك، وَعَرَّضُونِي لِمَا عَرَّضُونِي. وَلَا يَدْرُونَ مَا يُصْنَعُ بِي. فَأَمَرَ لَهُ بِجَارِيَةٍ وَكِسْوَةٍ. وَبَعَثَ إلَى الْبَوَّابِ: إذَا مَرَّ بِك فَاضْرِبْ عُنُقَهُ، وَخُذْ مَا مَعَهُ. فَمَرَّ بِرَجُلٍ مِنْ نَصَارَى غَسَّانَ فَعَرَفَهُ. فَقَالَ يَا عَمْرُو قَدْ أَحْسَنْت الدُّخُولَ، فَأَحْسِنْ الْخُرُوجَ، فَرَجَعَ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا رَدَّك إلَيْنَا؟ قَالَ: نَظَرْتُ فِيمَا أَعْطَيْتَنِي فَلَمْ أَجِدْ ذَلِكَ يَسَعُ مَنْ مَعِي مِنْ بَنِي عَمِّي، فَأَرَدْت الْخُرُوجَ، فَآتِيك بِعَشْرَةٍ مِنْهُمْ تُعْطِيهِمْ هَذِهِ الْعَطِيَّةَ فَيَكُونُ مَعْرُوفُك عِنْدَ عَشَرَةِ رِجَالٍ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ وَاحِدٍ، قَالَ: صَدَقْت عَجِّلْ بِهِمْ. وَبَعَثَ إلَى الْبَوَّابِ: خَلِّ سَبِيلَهُ، فَخَرَجَ عَمْرٌو وَهُوَ يَلْتَفِتُ، حَتَّى إذَا أَمِنَ قَالَ: لَا عُدْت لِمِثْلِهَا. فَلَمَّا كَانَ بَعْدُ رَآهُ الْمَلِكُ، فَقَالَ: أَنْتَ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، عَلَى مَا كَانَ مِنْ غَدْرِك.
وَمِنْ ذَلِكَ: فِرَاسَةُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما لَمَّا جِيءَ إلَيْهِ بِابْنِ مُلْجَمٍ قَالَ لَهُ: أُرِيدُ أُسَارّك بِكَلِمَةٍ فَأَبَى الْحَسَنُ، وَقَالَ: تُرِيدُ أَنْ تَعَضَّ أُذُنِي، فَقَالَ ابْنُ مُلْجَم: وَاَللَّهِ لَوْ أَمْكَنْتَنِي مِنْهَا لَأَخَذْتُهَا مِنْ صِمَاخِهَا.
قَالَ أَبُو الْوَفَاءِ ابْنُ عَقِيلٍ: فَانْظُرْ إلَى حُسْنِ رَأْيِ هَذَا السَّيِّدِ الَّذِي قَدْ نَزَلَ بِهِ مِنْ الْمُصِيبَةِ الْعَاجِلَةِ مَا يُذْهِلُ الْخَلْقَ، وَفِطْنَتُهُ إلَى هَذَا الْحَدِّ، وَإِلَى ذَلِكَ اللَّعِينِ كَيْفَ لَمْ يَشْغَلْهُ حَالُهُ عَنْ اسْتِزَادَةِ الْجِنَايَةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: فِرَاسَةُ أَخِيهِ الْحُسَيْنِ رضي الله عنهما أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عَلَيْهِ مَالًا. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: لِيَحْلِفْ عَلَى مَا ادَّعَاهُ وَيَأْخُذْهُ، فَتَهَيَّأَ الرَّجُلُ لِلْيَمِينِ، وَقَالَ: وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. فَقَالَ الْحُسَيْنُ: قُلْ: وَاَللَّهِ، وَاَللَّهِ، وَاَللَّهِ ثَلَاثًا إنَّ هَذَا الَّذِي تَدَّعِيهِ عِنْدِي، وَفِي قِبَلِي، فَفَعَلَ الرَّجُلُ ذَلِكَ. وَقَامَ فَاخْتَلَفَتْ رِجْلَاهُ وَسَقَطَ مَيِّتًا فَقِيلَ لِلْحُسَيْنِ: لِمَ فَعَلْت ذَلِكَ؟ أَيْ عَدَلْت عَنْ قَوْلِهِ: وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ إلَى قَوْلِهِ: " وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ " فَقَالَ: كَرِهْت أَنْ يُثْنِيَ عَلَى اللَّهِ، فَيَحْلُمَ عَنْهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ: فِرَاسَةُ الْعَبَّاسِ رضي الله عنه مَا ذَكَرَهُ مُجَاهِدٌ قَالَ - «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَصْحَابِهِ إذْ وَجَدَ رِيحًا. فَقَالَ: لِيَقُمْ صَاحِبُ هَذِهِ الرِّيحِ فَلْيَتَوَضَّأْ. فَاسْتَحْيَا الرَّجُلُ، ثُمَّ قَالَ: لِيَقُمْ صَاحِبُ هَذِهِ الرِّيحِ فَلْيَتَوَضَّأْ. فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ.
فَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَلَا نَقُومُ كُلُّنَا نَتَوَضَّأُ؟» . هَكَذَا رَوَاهُ الْفِرْيَابِيُّ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ مُرْسَلًا، وَوَصَلَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ، فَقَالَ: عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما
وَقَدْ جَرَتْ مِثْلُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فِي مَجْلِسِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ الشَّعْبِيُّ: " كَانَ عُمَرُ فِي بَيْتٍ، وَمَعَهُ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ. فَوَجَدَ عُمَرُ رِيحًا. فَقَالَ: عَزَمْت عَلَى صَاحِبِ هَذِهِ الرِّيحِ لَمَا قَامَ فَتَوَضَّأَ. فَقَالَ جَرِيرٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَوْ يَتَوَضَّأُ الْقَوْمُ جَمِيعًا. فَقَالَ عُمَرُ: يَرْحَمُك اللَّهُ. نِعْمَ السَّيِّدُ كُنْت فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَنِعْمَ السَّيِّدُ وَأَنْتَ فِي الْإِسْلَامِ ".
وَمِنْ أَحْسَنِ الْفِرَاسَةِ: فِرَاسَةُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ لَمَّا بَعَثَ الشَّعْبِيَّ إلَى مَلِكِ الرُّومِ فَحَسَدَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ فَبَعَثَ مَعَهُ وَرَقَةً لَطِيفَةً إلَى عَبْدِ الْمَلِكِ. فَلَمَّا قَرَأَهَا قَالَ: أَتَدْرِي مَا فِيهَا؟ قَالَ: فِيهَا " عَجَبٌ، كَيْفَ مَلَكَتْ الْعَرَبُ غَيْرَ هَذَا؟ " أَفَتَدْرِي مَا أَرَادَ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: حَسَدَنِي عَلَيْك. فَأَرَادَ أَنِّي أَقْتُلُك، فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لَوْ رَآك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا اسْتَكْبَرَنِي. فَبَلَغَ ذَلِكَ مَلِكَ الرُّومِ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا أَخْطَأَ مَا كَانَ فِي نَفْسِي.
وَمِنْ دَقِيقِ الْفِطْنَةِ: أَنَّك لَا تَرُدُّ عَلَى الْمُطَاعِ خَطَأَهُ بَيْنَ الْمَلَأِ، فَتَحْمِلُهُ رُتْبَتُهُ عَلَى نُصْرَةِ الْخَطَإِ. وَذَلِكَ خَطَأٌ ثَانٍ، وَلَكِنْ تَلَطَّفْ فِي إعْلَامِهِ بِهِ، حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ غَيْرُهُ. وَمِنْ دَقِيقِ الْفِرَاسَةِ: أَنَّ الْمَنْصُورَ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ خَرَجَ فِي تِجَارَةٍ فَكَسَبَ مَالًا، فَدَفَعَهُ إلَى امْرَأَتِهِ، ثُمَّ طَلَبَهُ مِنْهَا. فَذَكَرَتْ أَنَّهُ سُرِقَ مِنْ الْبَيْتِ وَلَمْ يَرَ نَقْبًا وَلَا أَمَارَةً، فَقَالَ الْمَنْصُورُ: مُنْذُ كَمْ تَزَوَّجْتهَا؟ قَالَ: مُنْذُ سَنَةٍ، قَالَ: بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا؟ قَالَ: ثَيِّبًا، قَالَ: فَلَهَا وَلَدٌ مِنْ غَيْرِك؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَدَعَا لَهُ الْمَنْصُورُ بِقَارُورَةِ طِيبٍ كَانَ يُتَّخَذُ لَهُ حَادِّ الرَّائِحَةِ، غَرِيبِ النَّوْعِ، فَدَفَعَهَا إلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: تَطَيَّبْ مِنْ هَذَا الطِّيبِ، فَإِنَّهُ يُذْهِبُ غَمَّك. فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ الْمَنْصُورُ لِأَرْبَعَةٍ مِنْ ثِقَاتِهِ: لِيَقْعُدْ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَدِينَةِ وَاحِدٌ مِنْكُمْ فَمَنْ شَمَّ مِنْكُمْ رَائِحَةَ هَذَا الطِّيبِ مِنْ أَحَدٍ فَلْيَأْتِ بِهِ. وَخَرَجَ الرَّجُلُ بِالطِّيبِ فَدَفَعَهُ إلَى امْرَأَتِهِ، فَلَمَّا شَمَّتْهُ بَعَثَتْ بِهِ إلَى رَجُلٍ كَانَتْ تُحِبُّهُ، وَقَدْ كَانَتْ دَفَعَتْ إلَيْهِ الْمَالَ، فَتَطَيَّبَ مِنْهُ، وَمَرَّ مُجْتَازًا بِبَعْضِ أَبْوَابِ الْمَدِينَةِ، فَشَمَّ الْمُوَكَّلُ بِالْبَابِ رَائِحَتَهُ عَلَيْهِ؛ فَأَتَى بِهِ الْمَنْصُورَ، فَسَأَلَهُ: مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا الطِّيبُ؟ فَلَجْلَجَ فِي كَلَامِهِ. فَدَفَعَهُ إلَى وَالِي الشُّرْطَةِ،
فَقَالَ إنْ أَحْضَرَ لَك كَذَا وَكَذَا مِنْ الْمَالِ فَخَلِّ عَنْهُ، وَإِلَّا اضْرِبْهُ أَلْفَ سَوْطٍ. فَلَمَّا جُرِّدَ لِلضَّرْبِ أَحْضَرَ الْمَالَ عَلَى هَيْئَتِهِ فَدَعَا الْمَنْصُورُ صَاحِبَ الْمَالِ، فَقَالَ: أَرَأَيْت إنْ رَدَدْت عَلَيْك الْمَالَ تُحَكِّمُنِي فِي امْرَأَتِك؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: هَذَا مَالُك، وَقَدْ طَلَّقْت الْمَرْأَةَ مِنْك.
14 -
فَصْلٌ وَمِنْهَا أَنَّ شَرِيكًا دَخَلَ عَلَى الْمَهْدِيِّ، فَقَالَ لِلْخَادِمِ: هَاتِ عُودًا لِلْقَاضِي - يَعْنِي الْبَخُورَ - فَجَاءَ الْخَادِمُ بِعُودٍ يَضْرِبُ بِهِ، فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِ شَرِيكٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَبَادَرَ الْمَهْدِيُّ، وَقَالَ: هَذَا عُودٌ أَخَذَهُ صَاحِبُ الْعَسَسِ الْبَارِحَةَ، فَأَحْبَبْت أَنْ يَكُونَ كَسْرُهُ عَلَى يَدَيْك، فَدَعَا لَهُ وَكَسَرَهُ. وَمِنْ ذَلِكَ: مَا يُذْكَرُ عَنْ الْمُعْتَضِدِ بِاَللَّهِ، أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا يُشَاهِدُ الصُّنَّاعَ، فَرَأَى فِيهِمْ أَسْوَدَ مُنْكَرَ الْخِلْقَةِ، شَدِيدَ الْمَرَحِ، يَعْمَلُ ضِعْفَ مَا يَعْمَلُ الصُّنَّاعُ، وَيَصْعَدُ مِرْقَاتَيْنِ مِرْقَاتَيْنِ، فَأَنْكَرَ أَمْرَهُ، فَأَحْضَرَهُ وَسَأَلَهُ عَنْ أَمْرِهِ؟ فَلَجْلَجَ، فَقَالَ لِبَعْضِ جُلَسَائِهِ: أَيُّ شَيْءٍ يَقَعُ لَكُمْ فِي أَمْرِهِ؟ قَالُوا: وَمَنْ هَذَا حَتَّى تَصْرِفَ فِكْرَك إلَيْهِ؟ لَعَلَّهُ لَا عِيَالَ لَهُ، وَهُوَ خَالِي الْقَلْبِ، فَقَالَ: قَدْ خَمَّنْت فِي أَمْرِهِ تَخْمِينًا، مَا أَحْسَبُهُ بَاطِلًا: إمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ دَنَانِيرُ، قَدْ ظَفِرَ بِهَا دَفْعَةً، أَوْ يَكُونَ لِصًّا يَتَسَتَّرُ بِالْعَمَلِ، فَدَعَا بِهِ، وَاسْتَدْعَى بِالضَّرَّابِ فَضَرَبَهُ، وَحَلَفَ لَهُ إنْ لَمْ يَصْدُقْهُ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ: لِي الْأَمَانُ، قَالَ: نَعَمْ، إلَّا فِيمَا يَجِبُ عَلَيْك بِالشَّرْعِ. فَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَمَّنَهُ، فَقَالَ: قَدْ كُنْت أَعْمَلُ فِي الْآجُرِّ، فَاجْتَازَ رَجُلٌ فِي وَسْطِهِ هِمْيَانٌ، فَجَاءَ إلَى مَكَان فَجَلَسَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مَكَانِي، فَحَلَّ الْهِمْيَانَ وَأَخْرَجَ مِنْهُ دَنَانِيرَ فَتَأَمَّلْته، وَإِذَا كُلُّهُ دَنَانِيرُ فَسَاوَرْتُهُ وَكَتَفْتُهُ وَشَدَدْت فَاهُ، وَأَخَذْت الْهِمْيَانَ، وَحَمَلْته عَلَى كَتِفِي وَطَرَحْته فِي الْأَتُونِ وَطَيَّنْته. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَخْرَجْت عِظَامَهُ فَطَرَحْتهَا فِي دِجْلَةَ. فَأَنْفَذَ الْمُعْتَضِدُ مَنْ أَحْضَرَ الدَّنَانِيرَ مِنْ مَنْزِلِهِ، وَإِذَا عَلَى الْهِمْيَانِ مَكْتُوبٌ: فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ، فَنَادَى فِي الْبَلَدِ بِاسْمِهِ، فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: هَذَا زَوْجِي. وَلِي مِنْهُ هَذَا الطِّفْلُ، خَرَجَ وَقْتَ كَذَا وَكَذَا وَمَعَهُ أَلْفُ دِينَارٍ: فَغَابَ إلَى الْآنَ. فَسَلَّمَ الدَّنَانِيرَ إلَيْهَا، وَأَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ، وَأَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِ الْأَسْوَدِ، وَحَمَلَ جُثَّتَهُ إلَى ذَلِكَ الْأَتُونِ.
وَكَانَ لِلْمُعْتَضِدِ مِنْ ذَلِكَ عَجَائِبُ، مِنْهَا: أَنَّهُ قَامَ لَيْلَةً، فَإِذَا غُلَامٌ قَدْ وَثَبَ عَلَى ظَهْرِ غُلَامٍ، فَانْدَسَّ بَيْنَ الْغِلْمَانِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، فَجَاءَ فَجَعَلَ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى فُؤَادِ وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ، فَيَجِدُهُ سَاكِنًا، حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى فُؤَادِ ذَلِكَ الْغُلَامِ، فَإِذَا بِهِ يَخْفِقُ خَفْقًا شَدِيدًا، فَرَكَضَهُ بِرِجْلِهِ، وَاسْتَقَرَّهُ، فَأَقَرَّ، فَقَتَلَهُ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ رُفِعَ إلَيْهِ أَنَّ صَيَّادًا أَلْقَى شَبَكَتَهُ فِي دِجْلَةَ، فَوَقَعَ فِيهَا جِرَابٌ فِيهِ كَفٌّ مَخْضُوبَةٌ بِحِنَّاءٍ، وَأُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَالَهُ ذَلِكَ. وَأَمَرَ الصَّيَّادَ أَنْ يُعَاوِدَ طَرْحَ الشَّبَكَةِ هُنَالِكَ فَفَعَلَ، فَأَخْرَجَ جِرَابًا آخَرَ فِيهِ رِجْلٌ، فَاغْتَمَّ الْمُعْتَضِدُ وَقَالَ: مَعِي فِي الْبَلَدِ مَنْ يَفْعَلُ هَذَا وَلَا أَعْرِفُهُ؟ ثُمَّ أَحْضَرَ ثِقَةً لَهُ وَأَعْطَاهُ