الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قِيلَ: هَذَا لَا يَضُرُّ الْحَدِيثَ شَيْئًا، فَإِنَّ أَبَا الْمُهَلِّبِ قَدْ رَوَاهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ". وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالَا: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ وَهُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ - عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي الْمُهَلِّبِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ " أَنَّ رَجُلًا أُعْتِقَ " فَذَكَرَهُ.
وَقَالَ مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِنْهَالٍ الضَّرِيرُ وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ قَالَا: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيَّةَ وَحَمَّادٍ. فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَةٌ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَأَبُو الْمُهَلِّبِ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَغَايَةُ الْحَسَنِ: أَنْ يَكُونَ سَمْعُهُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ أَبِي: حُدِّثْت أَنَّهُ كَانَ فِي كِتَابِ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُعَاوِيَةَ أَبُو الْمُهَلِّبِ - حَدِيثَ الْقُرْعَةِ، وَقَالَ الْخَلَّالُ: أَخْبَرَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ الطَّيَالِسِيُّ، قَالَ: قَالَ يَحْيَى عَنْ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحَسَنُ قَدْ سَمِعَهُ مِنْهُ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ:" حَدَّثَ أَهْلُ بَلَدِنَا: " وَلِشُهْرَةِ الْحَدِيثِ عِنْدَهُمْ قَالَ: " حَدَّثَنَا ".
وَقَدْ وَقَعَ نَظِيرُ هَذَا فِي حَدِيثِ الدَّجَّالِ، وَقَوْلُ الَّذِي يَقْتُلُهُ:" أَنْتَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَهُ ". وَقَوْلُ أَحْمَدَ عَنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ عِمْرَانَ: " لَا يَصِحُّ " إنَّمَا أَرَادَ: قَوْلَ الْحَسَنِ " حَدَّثَنِي عِمْرَانُ " فَإِنَّ مُهَنَّا بْنَ يَحْيَى إنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ.
قَالَ: " حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ " قَالَ: لَيْسَ بِصَحِيحٍ، عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ صَحَّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ عِمْرَانَ.
قَالَ الْخَلَّالُ: أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرُّوذِيِّ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ الطَّحَاوِيُّ، عَنْ خَالِدٍ يَعْنِي الْحَذَّاءَ - عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ:«أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَعْتَقَ سِتَّةَ مَمْلُوكِينَ لَهُ، عِنْدَ مَوْتِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُمْ، فَجَزَّأَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْزَاءً، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ، وَأَرَقَّ أَرْبَعَةً» .
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ قَالَ أَحْمَدُ: مَا ظَنَنَّا أَنَّ أَحَدًا حَدَّثَ بِهَذَا إلَّا هُشَيْمٌ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَبُو زَيْدٍ - هَذَا - رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: كَتَبْنَاهُ عَنْ هُشَيْمٍ وَقَالَ: إلَيْهِ أَذْهَبُ.
قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ نُعْمَانَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو قِلَابَةَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ.
[فَصَلِّ فِيمَنْ طلق امْرَأَة مِنْ نِسَائِهِ لَا يَدْرِي أَيَّتهنَّ هِيَ أَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا مِنْ عَبِيده]
124 -
(فَصْلٌ)
وَمِنْ مَوَاضِعِ الْقُرْعَةِ: إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ، أَوْ طَلَّقَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ، لَا يَدْرِي أَيَّتَهنَّ هِيَ؟ فَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ: إنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ يَقُومُ وَلِيُّهُ فِي هَذَا مَقَامَهُ، يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ، فَأَيَّتُهُنَّ وَقَعَتْ عَلَيْهَا الْقُرْعَةُ لَزِمَتْهُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ: عَنْ رَجُلٍ أَعْتَقَ أَحَدَ غُلَامَيْهِ فِي صِحَّتِهِ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى، وَلَمْ يَدْرِ الْوَرَثَةُ أَيُّهُمَا أَعْتَقَ، قَالَ: يُقْرِعُ بَيْنَهُمَا.
وَقَالَ حَنْبَلٌ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ فِي الْقُرْعَةِ: إذَا قَالَ: أَحَدُ غُلَامِيَّ حُرٌّ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ: يُقْرِعُ بَيْنَهُمَا، فَأَيُّهُمَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ عَتَقَ، كَذَا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الَّذِي أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَهُ.
وَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ، أَوْ لِعَبْدَيْنِ لَهُ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ، قَالَ: قَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ، قُلْت: تَرَى أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْت: وَتُجِيزُ الْقُرْعَةَ فِي الطَّلَاقِ؟ قَالَ: نَعَمْ.
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ - فِيمَنْ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، وَلَمْ يَدْرِ: يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ، كَذَلِكَ فِي الْأَعْبُدِ، فَإِنْ أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ، فَوَقَعَتْ الْقُرْعَةُ عَلَى وَاحِدَةٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الَّتِي طَلَّقَ: رَجَعَتْ هَذِهِ، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى الَّتِي ذَكَرَ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ فَذَاكَ شَيْءٌ قَدْ مَرَّ، وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ قَدْ أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ لَمْ تَرْجِعْ إلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو الْحَارِثِ عَنْ أَحْمَدَ - فِي رَجُلٍ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ طَلَّقَ إحْدَاهُنَّ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فِي وَاحِدَةٍ بِعَيْنِهَا - يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ فَأَيَّتُهُنَّ أَصَابَتْهَا الْقُرْعَةُ فَهِيَ الْمُطَلَّقَةُ، وَكَذَلِكَ إنْ قَصَدَ إلَى وَاحِدَةٍ بِعَيْنِهَا ثُمَّ نَسِيَهَا.
قَالَ: وَالْقُرْعَةُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ، وَلَكِنْ إذَا كَانَ الطَّلَاقُ لِوَاحِدَةٍ لَا بِعَيْنِهَا وَلَا نَوَاهَا، فَإِنَّهُ يَخْتَارُ صَرْفَ الطَّلَاقِ إلَى أَيَّتِهِنَّ شَاءَ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ لِوَاحِدَةٍ بِعَيْنِهَا وَنَسِيَهَا، فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ فِيهِمَا حَتَّى يَتَذَكَّرَ، وَلَا يُقْرِعُ، وَلَا يَخْتَارُ صَرْفَ الطَّلَاقِ إلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى الْجَمِيعِ. وَالْقَوْلُ بِالْقُرْعَةِ: مَذْهَبُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ وَكِيعٌ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْت أَبَا جَعْفَرٍ عَنْ رَجُلٍ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، فَطَلَّقَ إحْدَاهُنَّ، لَا يَدْرِي أَيَّتَهُنَّ طَلَّقَ، فَقَالَ: عَلِيٌّ يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ.
فَالْأَقْوَالُ الَّتِي قِيلَ بِهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا تَخْرُجُ عَنْ أَرْبَعَةٍ: ثَلَاثَةٌ قِيلَ بِهَا، وَوَاحِدٌ لَا يُعْلَمُ بِهِ قَائِلٌ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُعَيِّنُ فِي الْمُبْهَمَةِ، وَيَقِفُ فِي حَقِّ الْمَنْسِيَّةِ عَنْ الْجَمِيعِ، فَيُنْفِقُ عَلَيْهِنَّ وَيَكْسُوهُنَّ، وَيَعْتَزِلُهُنَّ إلَى أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا الْمَوْتُ أَوْ يَتَذَكَّرَ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْحَرَجِ، وَالْإِضْرَارِ بِهِ وَبِالزَّوْجَاتِ، فَيَنْفِيهِ.
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» فَأَيُّ حَرَجٍ وَضَرَرٍ وَإِضْرَارٍ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ؟
الثَّانِي: أَنْ يُطَلَّقَ عَلَيْهِ الْجَمِيعُ، مَعَ الْجَزْمِ بِأَنَّهُ إنَّمَا طَلَّقَ وَاحِدَةً، لَا الْجَمِيعَ، فَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ بِالْجَمِيعِ - مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ الْجَمِيعَ - تَرُدُّهُ أُصُولُ الشَّرْعِ وَأَدِلَّتُهُ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَشْكُوكٌ فِيهَا: هَلْ هِيَ الْمُطَلَّقَةُ أَمْ لَا؟ فَلَا تَطْلُقُ بِالشَّكِّ، وَلَا يُمْكِنُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ بِوَاحِدَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى بِأَنْ يُوقِعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقَ مِنْ الْبَعْضِ، وَالْقُرْعَةُ قَدْ تُخْرِجُ غَيْرَ الْمُطَلَّقَةِ، فَإِنَّهَا كَمَا يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ يَجُوزُ أَنْ تَقَعَ عَلَى غَيْرِهَا، فَإِذَا أَخْطَأَتْ الْمُطَلَّقَةَ وَأَصَابَتْ غَيْرَهَا أَفْضَى ذَلِكَ إلَى تَحْرِيمِ مَنْ هِيَ زَوْجَةٌ، وَحِلِّ مَنْ هِيَ أَجْنَبِيَّةٌ.
وَإِذَا بَطَلَتْ هَذِهِ الْأَقْسَامُ كُلُّهَا تَعَيَّنَ هَذَا التَّقْرِيرُ، وَهُوَ بَقَاءُ النِّكَاحِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَنَّهَا الْمُطَلَّقَةُ، وَإِذَا كَانَ النِّكَاحُ بَاقِيًا فِيهَا، فَأَحْكَامُهُ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا بَقَاءُ النِّكَاحِ وَتَحْرِيمُ الْوَطْءِ دَائِمًا: فَلَا وَجْهَ لَهُ.
فَهَذَا الْقَوْلُ: وَالْقَوْلُ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الْجَمِيعِ: مُتَقَابِلَانِ، وَأَدِلَّتُهُمَا تَكَادُ أَنْ تَتَكَافَأَ، لَا احْتِيَاطَ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ بِالْجَمِيعِ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ عَلَى الزَّوْجِ، وَإِبَاحَتَهُ بِالشَّكِّ لِغَيْرِهِ.
قَالَ الْمُقْرِعُونَ: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْقُرْعَةَ طَرِيقًا إلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي كِتَابِهِ، وَفَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَ بِهَا، وَحَكَمَ بِهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا، وَكُلُّ قَوْلٍ غَيْرُ الْقَوْلِ بِهَا: فَإِنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ وَقَوَاعِدَهُ تَرُدُّهُ.
أَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى الْجَمِيعِ - مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ إنَّمَا أَوْقَعَهُ عَلَى وَاحِدَةٍ - فَتَطْلِيقٌ لِغَيْرِ الْمُطَلَّقَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ طَلَّقَ طَلْقَةً وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا، حَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَوْفَى عَدَدَ الطَّلَاقِ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا: هُوَ جَازِمٌ بِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ عَدَدَ الطَّلْقَاتِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ قَدْ شَكَّ: هَلْ طَلَّقَهَا أَمْ لَا؟ وَغَايَتُهُ: أَنَّهُ قَدْ تَيَقَّنَ تَحْرِيمًا فِي وَاحِدَةٍ لَا بِعَيْنِهَا، فَكَيْفَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ غَيْرُهَا؟ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ اشْتَبَهَتْ الْمُحَلَّلَةُ بِالْمُحَرَّمَةِ، فَحُرِّمَتَا مَعًا، كَمَا لَوْ اشْتَبَهَتْ أُخْتُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ، وَمَيْتَةٌ بِمُذَكَّاةٍ. قِيلَ: هَاهُنَا مَعَنَا أَصْلٌ يُرْجَعُ إلَيْهِ، وَهُوَ التَّحْرِيمُ الْأَصْلِيُّ، وَقَدْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي سَبَبِ الْحِلِّ، فَلَا يُرْفَعُ التَّحْرِيمُ الْأَصْلِيُّ إلَّا بِالنِّكَاحِ، ثُمَّ وَقَعَ فِي عَيْنٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، وَمَعَنَا أَصْلُ الْحِلِّ الْمُسْتَصْحَبِ، فَلَا يُمْكِنُ تَعْمِيمُ التَّحْرِيمِ، وَلَا إلْغَاؤُهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إلَى تَعْيِينِ مَحَلِّهِ إلَّا بِالْقُرْعَةِ، فَتَعَيَّنَتْ طَرِيقًا.
قَالُوا: وَأَيْضًا فَإِنَّ الطَّلَاقَ قَدْ وَقَعَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مُعَيَّنَةٍ؛ لِامْتِنَاعِ وُقُوعِهِ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَلَمْ
يَمْلِكْ الْمُطَلِّقُ صَرْفَهُ إلَى أَيَّتِهِنَّ شَاءَ، لَكِنَّ التَّعْيِينَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا، وَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَيْسَ لَنَا طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَتِهِ، فَتَعَيَّنَتْ الْقُرْعَةُ.
يُوَضِّحُهُ: أَنَّ التَّعْيِينَ مِنْ الْمُطَلِّقِ لَيْسَ إنْشَاءً لِلطَّلَاقِ فِي الْمُعَيَّنَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ إنْشَاءً لَمْ يَكُنْ الْمُتَقَدِّمُ طَلَاقًا، وَلَكَانَ الْجَمِيعُ حَلَالًا لَهُ، وَلَمَا أُمِرَ بِأَنْ يُنْشِئَ الطَّلَاقَ، وَلَا افْتَقَرَ إلَى لَفْظٍ يَقَعُ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ إنْشَاءً فَهُوَ إخْبَارٌ مِنْهُ بِأَنَّ هَذِهِ الْمُعَيَّنَةَ هِيَ الَّتِي أَوْقَعْتُ عَلَيْهَا الطَّلَاقَ، وَهَذَا خَبَرٌ غَيْرُ مُطَابِقٍ، بَلْ هُوَ خِلَافُ الْوَاقِعِ، وَحَاصِلُهُ: أَنَّ التَّعْيِينَ إمَّا أَنْ يَكُونَ إنْشَاءً لِلطَّلَاقِ، أَوْ إخْبَارًا، وَلَا يَصْلُحُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا.
فَإِنْ قِيلَ: بَلْ هُوَ إنْشَاءٌ عِنْدَنَا فِي الْمُبْهَمَةِ، وَأَمَّا الْمَنْسِيَّةُ: فَهُوَ وَاقِعٌ مِنْ حِينِ طَلَّقَ. قِيلَ: لَا يَصِحُّ جَعْلُهُ إنْشَاءً لِلطَّلَاقِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَقَعَ بِإِحْدَاهُنَّ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَقَعْ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُنْشِئَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ اسْتَحَالَ إنْشَاؤُهُ أَيْضًا، لِأَنَّهُ تَحْصِيلٌ لِلْحَاصِلِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا يَلْزَمُكُمْ أَيْضًا، لِأَنَّكُمْ تَقُولُونَ: إنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ مِنْ حِينِ الْإِقْرَاعِ، قِيلَ: بَلْ الطَّلَاقُ عِنْدَنَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاقِعٌ مِنْ حِينِ الْإِيقَاعِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ - فِي رَجُلٍ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، فَطَلَّقَ إحْدَاهُنَّ وَتَزَوَّجَ أُخْرَى، وَمَاتَ، وَلَمْ يَدْرِ أَيَّ الْأَرْبَعِ طَلَّقَ - فَلِهَذِهِ الْأَخِيرَةِ: رُبُعُ الثُّمُنِ، ثُمَّ يُقْرِعُ بَيْنَ الْأَرْبَعِ، فَأَيَّتُهُنَّ قَرَعَتْ أُخْرِجَتْ، وَوَرِثَ الْبَوَاقِي.
قَالَ الْقَاضِي: فَقَدْ حَكَمَ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْخَامِسَةِ قَبْلَ تَعْيِينِ الْمُطَلَّقَةِ، قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى، وُقُوعِ الطَّلَاقِ مِنْ حِينِ الْإِيقَاعِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ حِينِ التَّعْيِينِ لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُ الْخَامِسَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا بِعَيْنِهِ يُرَدُّ عَلَيْكُمْ فِي التَّعْيِينِ بِالْقُرْعَةِ، وَالْجَوَابُ حِينَئِذٍ وَاحِدٌ. قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ التَّعْيِينِ ظَاهِرٌ، فَإِنَّ تَعْيِينَ الْمُكَلَّفِ تَابِعٌ لِاخْتِيَارِهِ وَإِرَادَتِهِ، وَتَعَيُّنُ الْقُرْعَةِ إلَى اللَّهِ عز وجل، وَالْعَبْدُ يَفْعَلُ الْقُرْعَةَ وَهُوَ يَنْتَظِرُ مَا يُعَيِّنُهُ لَهُ الْقَضَاءُ وَالْقَدَرُ، شَاءَ أَمْ أَبَى. وَهَذَا هُوَ سِرُّ الْمَسْأَلَةِ وَفِقْهُهَا، فَإِنَّ التَّعْيِينَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ إلَيْهِ بِالشَّرْعِ فُوِّضَ إلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَصَارَ الْحُكْمُ بِهِ شَرْعِيًّا قَدَرِيًّا: شَرْعِيًّا فِي فِعْلِ الْقُرْعَةِ، وَقَدَرِيًّا: فِيمَا تَخْرُجُ بِهِ، وَذَلِكَ إلَى اللَّهِ، لَا إلَى الْمُكَلَّفِ. فَلَا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا وَلَا أَبْلَغَ فِي مُوَافَقَتِهِ شَرْعَ اللَّهِ وَقَدَرَهُ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لَوْ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ، ثُمَّ أَشْكَلَتْ عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ الْمُطَلَّقَةَ بِاخْتِيَارِهِ، فَهَكَذَا إذَا طَلَّقَ وَاحِدَةً لَا بِعَيْنِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: الْفَرْقُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ الطَّلَاقَ هَاهُنَا قَدْ وَقَعَ عَلَى وَاحِدَةٍ بِعَيْنِهَا، فَإِذَا أَشْكَلَتْ لَمْ يَجُزْ
أَنْ يُعَيِّنَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يُعَيِّنَ غَيْرَ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ، وَيَسْتَدِيمَ نِكَاحَ الَّتِي طَلَّقَهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ عَلَى إحْدَاهُنَّ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، فَلَيْسَ فِي تَعْيِينِهِ إيقَاعٌ لِلطَّلَاقِ عَلَى مَنْ لَمْ يَقَعْ بِهَا، وَصَرْفُهُ عَمَّنْ وَقَعَ بِهَا.
قِيلَ: إحْدَاهُمَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ فِي الْمَسِيسِ، وَلَا يَدْرِي عَيْنَهَا، فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ التَّعْيِينَ بِلَا سَبَبٍ فِي إحْدَى الصُّورَتَيْنِ، لَمْ يَمْلِكْهُ فِي الْأُخْرَى، وَهَذَا أَيْضًا سِرُّ الْمَسْأَلَةِ وَفِقْهُهَا، فَإِنَّ التَّعْيِينَ بِالْقُرْعَةِ تَعْيِينٌ بِسَبَبٍ قَدْ نَصَّبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ سَبَبًا لِلتَّعْيِينِ عِنْدَ عَدَمِ غَيْرِهِ، وَالتَّعْيِينَ بِالِاخْتِيَارِ تَعْيِينٌ بِلَا سَبَبٍ، إذْ هَذَا فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ، حَيْثُ انْتَفَتْ أَسْبَابُ التَّعْيِينِ وَعَلَامَاتُهُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّعْيِينَ بِالسَّبَبِ الَّذِي نَصَّبَهُ الشَّرْعُ لَهُ أَوْلَى مِنْ التَّعَيُّنِ الَّذِي لَا سَبَبَ لَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمَنْسِيَّةُ وَالْمُشْتَبِهَةُ يَجُوزُ أَنْ تُذْكَرَ، وَتُعْلَمَ عَيْنُهَا بِزَوَالِ، الِاشْتِبَاهِ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَمْلِكْ صَرْفَ الطَّلَاقِ فِيهَا إلَى مَنْ أَرَادَ، بِخِلَافِ الْمُبْهَمَةِ فَإِنَّهُ لَا يُرْجَى ذَلِكَ فِيهَا.
قِيلَ: وَكَذَلِكَ الْمَنْسِيَّةُ وَالْمُشْكِلَةُ إذَا عَدِمَ أَسْبَابَ الْعِلْمِ بِتَعْيِينِهَا، فَإِنَّهُ يَصِيرُ فِي إبْقَائِهَا إضْرَارٌ بِهِ وَبِهَا، وَوَقْفٌ لِلْأَحْكَامِ، وَجَعْلُ الْمَرْأَةِ مُعَلَّقَةً بَاقِي عُمْرِهَا، لَا ذَاتَ زَوْجٍ وَلَا مُطَلَّقَةً وَهَذَا لَا عَهْدَ لَنَا بِهِ فِي الشَّرِيعَةِ.
125 -
(فَصْلٌ)
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ تَعْيِينِ الْمُطَلَّقَةِ بِالْقُرْعَةِ: حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي عِتْقِ الْأَعْبُدِ السِّتَّةِ، فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ فِي الْجَمِيعِ لَمَّا كَانَ بَاطِلًا، جُعِلَ كَأَنَّهُ أَعْتَقَ ثُلُثًا مِنْهُمْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، فَعَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْقُرْعَةِ، وَالطَّلَاقُ كَالْعَتَاقِ فِي هَذَا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إزَالَةُ مِلْكٍ مَبْنِيٍّ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ، فَإِذَا اشْتَبَهَ الْمَمْلُوكُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا بِغَيْرِهِ: لَمْ يُجْعَلْ التَّعْيِينُ إلَى اخْتِيَارِ الْمَالِكِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْعَتَاقُ أَصْلُهُ الْمِلْكُ، فَلَمَّا دَخَلَتْ الْقُرْعَةُ فِي أَصْلِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ فِي حَالِ الْقِسْمَةِ، وَطَرْحِ الْقُرْعَةِ عَلَى السِّهَامِ، دَخَلَتْ لِتَمْيِيزِ الْمِلْكِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ، لِأَنَّ أَصْلَهُ النِّكَاحُ، وَالنِّكَاحُ لَا تَدْخُلُهُ الْقُرْعَةُ، فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ.
قِيلَ: وَمَنْ سَلَّمَ لَكُمْ أَنَّ الْقُرْعَةَ لَا تَدْخُلُ فِي النِّكَاحِ، بَلْ الصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ. دُخُولُهَا فِيهِ، فِيمَا إذَا زَوَّجَهَا الْوَلِيَّانِ، وَلَمْ يَعْلَمْ السَّابِقُ مِنْهُمَا، فَإِنَّا نُقْرِعُ بَيْنَهُمَا، فَمَنْ خَرَجَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ حُكِمَ لَهُ بِالنِّكَاحِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْأَوَّلُ، هَذَا مَنْصُوصُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَحَنْبَلٍ.
وَنَقَلَ أَبُو الْحَارِثِ وَمُهَنَّا: لَا يُقْرَعُ فِي ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا: فَلَا يَلْزَمُ إذَا لَمْ تَدْخُلْ الْقُرْعَةُ فِي الْحُكْمِ: أَلَّا تَدْخُلَ فِي رَفْعِهِ، فَإِنَّ حَدَّ الزِّنَا لَا يَثْبُتُ
بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ، وَيَسْقُطُ بِشَهَادَتَيْنِ، وَهُوَ مَا إذَا شُهِدَ عَلَيْهَا بِالزِّنَا، فَذَكَرْت أَنَّهَا عَذْرَاءُ، وَشَهِدَ بِذَلِكَ النِّسَاءُ كَذَلِكَ لَوْ قَالَ - وَقَدْ رَأَى طَائِرًا - إنْ كَانَ هَذَا غُرَابًا فَفُلَانَةُ طَالِقٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَفُلَانٌ حُرٌّ، وَلَمْ يَعْلَمْ مَا هُوَ؟ فَإِنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ عِنْدَكُمْ أَيْضًا، فَيُحْكَمُ بِمَا خَرَجَتْ بِهِ الْقُرْعَةُ فَإِنْ قُلْتُمْ هُنَا: لَمْ تَدْخُلْ الْقُرْعَةُ فِي الطَّلَاقِ بِانْفِرَادِهِ، بَلْ دَخَلَتْ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِتْقِ، وَالْقُرْعَةُ تَدْخُلُ فِي الْعِتْقِ، بِدَلِيلِ حَدِيثِ الْأَعْبُدِ السِّتَّةِ.
قِيلَ: إذَا دَخَلَتْ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ دَخَلَتْ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُطَلَّقَةِ وَغَيْرِهَا، وَكُلُّ مَا قُدِّرَ مِنْ الْمَانِعِ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ، يَجْرِي فِي الْآخَرِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ.
وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَتْ الْقُرْعَةُ تُخْرِجُ الْمُعْتَقَ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِخْرَاجُهُ لِلْمُطَلَّقَةِ أَوْلَى وَأَحْرَى، فَإِنَّ إخْرَاجَ مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ مِنْ مِلْكِهِ، أَسْهَلُ مِنْ إخْرَاجِ عَيْنِ الرَّقَبَةِ، وَإِبْقَاءَ الرِّقِّ فِي الْعَيْنِ أَبَدًا أَسْهَلُ مِنْ إبْقَاءِ بَعْضِ الْمَنَافِعِ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ الْبُضْعِ، فَإِذَا صَلَحَتْ الْقُرْعَةُ لِذَلِكَ فَهِيَ لِمَا دُونَهُ أَقْبَلُ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الظُّهُورِ. وَأَيْضًا: فَاشْتِبَاهُ الْمُطَلَّقَةِ بِغَيْرِهَا لَا يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ الْقُرْعَةِ.
وَدَلِيلُهُ: مَسْأَلَةُ الطَّائِرِ، وَقَوْلُهُ: إنْ كَانَ غُرَابًا فَنِسَائِي طَوَالِقُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ.
فَإِنْ قُلْتُمْ: قَدْ يُسْتَعْمَلُ الشَّيْءُ فِي حُكْمٍ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي آخَرَ، كَالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ، يُقْبَلُ فِي الْأَمْوَالِ، دُونَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ. يُوَضِّحُهُ: أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى سَرِقَةً، وَأَقَامَ شَاهِدًا وَحَلَفَ مَعَهُ: غَرَّمْنَاهُ الْمَالَ، وَلَمْ نَقْطَعْهُ، فَكَذَا هَاهُنَا: اسْتَعْمَلْنَا الْقُرْعَةَ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، دُونَ الطَّلَاقِ لِلْحَاجَةِ.
قِيلَ: الْحَاجَةُ فِي إخْرَاجِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْ غَيْرِهَا كَالْحَاجَةِ فِي إخْرَاجِ الْمُعْتَقِ مِنْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ، وَإِذَا دَخَلَتْ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْفَرْجِ الْمَمْلُوكِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَغَيْرِهِ: صَحَّ دُخُولُهَا لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْفَرْجِ الْمَمْلُوكِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ، وَلَا فَرْقَ، وَلَا يُشْبِهُ ذَلِكَ مَسْأَلَةُ الْقَطْعِ وَالْغُرْمِ فِي أَنَّهُ يَثْبُتُ أَحَدُهُمَا بِمَا لَا يَثْبُتُ بِهِ الْآخَرُ؛ لِأَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الْأَحْكَامِ وَفِيمَا يَثْبُتُ بِهِ كُلُّ وَاحِدِ مِنْهُمَا، وَالْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ يَتَّفِقَانِ فِي الْأَحْكَامِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبْنِيٌّ عَلَى التَّغْلِيبِ وَالسِّرَايَةِ، وَيَثْبُتُ بِمَا يَثْبُتُ بِهِ الْآخَرُ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْحُقُوقَ إذَا تَسَاوَتْ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهَا إلَّا بِالْقُرْعَةِ: صَحَّ اسْتِعْمَالُهَا فِيهَا، كَمَا قُلْتُمْ فِي الشَّرِيكَيْنِ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا مَالٌ، فَأَرَادَ قِسْمَتَهُ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُجْزِئُهُ وَيُقْرِعُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُسَافِرَ بِإِحْدَى نِسَائِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَ عَبِيدَهُ الَّذِينَ لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ فِي مَرَضِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا تَسَاوَى الْمُدَّعِيَانِ فِي الْحُضُورِ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَكَذَلِكَ الْأَوْلِيَاءُ فِي النِّكَاحِ إذَا تَسَاوَوْا فِي الدَّرَجَةِ وَتَشَاحُّوا فِي الْعَقْدِ: أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ وَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَ جَمَاعَةً فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَتَشَاحَّ الْأَوْلِيَاءُ فِي الْمُقْتَصِّ: أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، فَمَنْ قَرَعَ قُتِلَ لَهُ، وَأُخِذَتْ الدِّيَةُ لِلْبَاقِينَ.
فَإِنْ قُلْتُمْ: التَّرَاضِي عَلَى الْقِسْمَةِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ جَائِزٌ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ النِّسَاءِ إذَا أَرَادَ السَّفَرَ، وَلَا كَذَلِكَ هَاهُنَا، لِأَنَّ التَّرَاضِيَ عَلَى فَسْخِ النِّكَاحِ وَنَقْلِهِ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ لَا يَجُوزُ. قُلْنَا: لَيْسَتْ الْقُرْعَةُ فِي الطَّلَاقِ نَقْلًا لَهُ عَمَّنْ اسْتَحَقَّهُ إلَى غَيْرِهِ، بَلْ هِيَ كَاشِفَةٌ عَمَّنْ تَوَجَّهَ الطَّلَاقُ إلَيْهَا وَوَقَعَ عَلَيْهَا.
126 -
(فَصْلٌ)
قَالَ الْمُعَيِّنُونَ بِالِاخْتِيَارِ: قَدْ حَصَلَ التَّحْرِيمُ فِي وَاحِدَةٍ لَا بِعَيْنِهَا، فَكَانَ لَهُ تَعْيِينُهَا بِاخْتِيَارِهِ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ وَتَحْتَهُ خَمْسُ نِسْوَةٍ، أَوْ أُخْتَانِ: اخْتَارَ.
قَالَ أَصْحَابُ الْقُرْعَةِ: هَذَا الْقِيَاسُ مُبْطَلٌ، أَوَّلًا بِالْمَنْسِيَّةِ، فَإِنَّ الْمُحَرَّمَةَ مِنْهُنَّ بَعْدَ النِّسْيَانِ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ، وَلَيْسَ لَهُ تَعْيِينُهَا. وَهَذَا الْجَوَابُ غَيْرُ قَوِيٍّ، فَإِنَّ التَّحْرِيمَ هَاهُنَا وَقَعَ فِي مُعَيَّنَةٍ، ثُمَّ أَشْكَلَتْ، بَلْ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ، أَنْ يُقَالَ: لَا تَطْلُقُ عَلَيْهِ الْأُخْتُ وَالْخَامِسَةُ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ، بَلْ إذَا عَيَّنَ الْمُمْسَكَاتِ أَوْ الْمُفَارَقَاتِ: حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ حِينِ التَّعْيِينِ، وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ مِنْ حِينَئِذٍ.
وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الشَّارِعَ خَيَّرَهُ بَيْنَ مَنْ يُمْسِكُ وَمَنْ يُفَارِقُ؛ نَظَرًا لَهُ، وَتَوْسِعَةً عَلَيْهِ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْقُرْعَةِ هَاهُنَا فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ الْقُرْعَةُ عَنْ نِكَاحِهِ مَنْ يُحِبُّهَا، وَأَبْقَتْ عَلَيْهِ مِنْ يُبْغِضُهَا، وَدُخُولُهُ فِي الْإِسْلَامِ يَقْتَضِي تَرْغِيبَهُ فِيهِ، وَتَحْبِيبُهُ إلَيْهِ، فَكَانَ مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ: رَدُّ ذَلِكَ إلَى اخْتِيَارِهِ وَشَهْوَتِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا طَلَّقَ هُوَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ. إلَّا أَنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ فَاسِدٌ أَيْضًا، فَإِنَّهُ يَنْكَسِرُ بِمَا إذَا اخْتَلَطَتْ زَوْجَتُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ، أَوْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّاةٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَعْيِينُ الْمُحَرَّمَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: وَلَا إخْرَاجُهَا بِالْقُرْعَةِ. قُلْنَا: نَحْنُ لَمْ نَسْتَدِلَّ بِدَلِيلٍ يَرُدُّ عَلَيْنَا فِيهِ هَذَا، بِخِلَافِ مَنْ اسْتَدَلَّ بِمَنْ يَنْكَسِرُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: وَالتَّحْرِيمُ هَاهُنَا كَانَ فِي مُعَيَّنٍ ثُمَّ اشْتَبَهَ. قِيلَ: لَمَّا اشْتَبَهَ وَزَالَ دَلِيلُ تَعْيِينِهِ: صَارَ كَالْمُبْهَمِ، وَهَذَا حُجَّةُ مَالِكٍ عَلَيْكُمْ، حَيْثُ حَرَّمَ الْجَمِيعَ، لِإِبْهَامِ الْمُحَرَّمَةِ مِنْهُنَّ.
قَالَ أَصْحَابُ التَّعْيِينِ: التَّحْرِيمُ هَاهُنَا حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِفَرْدٍ لَا بِعَيْنِهِ مِنْ جُمْلَةٍ فَكَانَ الْمَرْجِعُ فِي تَعْيِينِهِ إلَى الْمُكَلَّفِ، كَمَا لَوْ بَاعَ قَفِيزًا مِنْ صُبْرَةٍ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الْقُرْعَةِ: الْإِبْهَامُ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْبَيْعِ، حَيْثُ تَتَسَاوَى الْأَجْزَاءُ، وَيَقُومُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهَا مَقَامَ الْآخَرِ فِي التَّعْيِينِ. فَلَا تُفِيدُ الْقُرْعَةُ هَاهُنَا قَدْرًا زَائِدًا عَلَى التَّعْيِينِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الطَّلَاقُ، فَإِنَّ مَحَلَّهُ لَا تَتَسَاوَى أَفْرَادُهُ، وَلَا الْغَرَضُ مِنْهُ، فَهُوَ بِمَسْأَلَةِ الْمُسَافِرِ بِإِحْدَى الزَّوْجَاتِ أَشْبَهَ مِنْهُ بِمَسْأَلَةِ الْقَفِيزِ مِنْ الصُّبْرَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ التُّهْمَةَ تَلْحَقُ فِي التَّعْيِينِ هَاهُنَا، وَفِي مَسْأَلَةِ الْقِسْمَةِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ، وَلَا تَلْحَقُ فِي التَّعْيِينِ فِي مَسْأَلَةِ الْقَفِيزِ مِنْ الصُّبْرَةِ الْمُتَسَاوِيَةِ؟ وَهَذَا فِقْهُ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي تَلْحَقُ فِيهِ التُّهْمَةُ شُرِعَتْ فِيهِ الْقُرْعَةُ نَفْيًا لَهَا وَمَا لَا تَلْحَقُ فِيهِ لَا فَائِدَةَ فِيهَا. عَلَى أَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ مُنْتَقَضٌ بِمَا إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا مُبْهَمًا مِنْ عَبِيدِهِ، أَوْ أَرَادَ السَّفَرَ بِإِحْدَى نِسَائِهِ.
قَالَ أَصْحَابُ التَّعْيِينِ: لَمَّا كَانَ لَهُ تَعْيِينُ الْمُطَلَّقَةِ فِي الِابْتِدَاءِ، كَانَ لَهُ تَعْيِينُهَا فِي ثَانِي الْحَالِ بِاخْتِيَارِهِ.
قَالَ أَصْحَابُ الْقُرْعَةِ: هَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالتَّعْيِينِ حَقٌّ لِغَيْرِ الْمُطَلَّقَةِ، وَبَعْدَ الْإِيقَاعِ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُنَّ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ قَدْ تَدَّعِي أَنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ عَلَيْهَا، لِتَمْلِكَ بِهِ بُضْعَهَا، أَوْ وَاقِعٌ عَلَى غَيْرِهَا لِتَسْتَبْقِيَ بِهِ نَفَقَتَهَا وَكِسْوَتَهَا، فَلَمْ يَمْلِكْ هُوَ تَعْيِينَهُ لِلتُّهْمَةِ، بِخِلَافِ الِابْتِدَاءِ.
قَالَ الْمُبْطِلُونَ لِلْقُرْعَةِ: الْقُرْعَةُ قِمَارٌ وَمَيْسِرٌ، وَقَدْ حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا، وَإِنَّمَا كَانَتْ مَشْرُوعَةً قَبْلَ ذَلِكَ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الْقُرْعَةِ: قَدْ شَرَعَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْقُرْعَةَ، وَأَخْبَرَ بِهَا عَنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، مُقَرِّرًا لِحُكْمِهَا، غَيْرَ ذَامٍّ لَهَا، وَفَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ، وَقَدْ صَانَهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ الْقِمَارِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، فَلَمْ يُشَرِّعْ لِعِبَادِهِ الْقِمَارَ قَطُّ، وَلَا جَاءَ بِهِ نَبِيٌّ أَصْلًا، فَالْقُرْعَةُ شَرْعُهُ وَدِينُهُ، وَسُنَّةُ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ.
وَقَالَ الْمَانِعُونَ مِنْ الْقُرْعَةِ: قَدْ اشْتَبَهَتْ الْمُحَلَّلَةُ بِالْمُحَرَّمَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا تُبِيحُهُ الضَّرُورَةُ، فَلَمْ يُمْكِنْ لَهُ إخْرَاجُهَا بِالْقُرْعَةِ، كَمَا لَوْ اشْتَبَهَتْ أُخْتُهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ، أَوْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّاةٍ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الْقُرْعَةِ: الْفَرْقُ أَنَّنَا هَاهُنَا نَسْتَصْحِبُ أَصْلَ التَّحْرِيمِ، وَلَا نُزِيلُهُ بِالشَّكِّ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا، فَإِنَّ التَّحْرِيمَ الْأَصْلِيَّ قَدْ زَالَ بِالنِّكَاحِ، وَشَكَكْنَا فِي وُقُوعِ التَّحْرِيمِ الطَّارِئِ بِأَيِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَقَعَ، فَلَا يَصِحُّ إلْحَاقُ إحْدَى الصُّورَتَيْنِ بِالْأُخْرَى.
قَالَ الْمَانِعُونَ: قَدْ تُخْرِجُ الْقُرْعَةُ غَيْرَ الْمُطَلَّقَةِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ لَهَا مِنْ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ مَا تُخْرِجُ بِهِ الْمُطَلَّقَةَ بِعَيْنِهَا.
وَقَالَ الْمُقْرِعُونَ: هَذَا - أَوَّلًا - اعْتِرَاضٌ عَلَى السُّنَّةِ، فَهُوَ مَرْدُودٌ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ التَّعْيِينَ بِهَا أَوْلَى مِنْ التَّعْيِينِ بِالِاعْتِرَاضِ وَالتَّشَهِّي، أَوْ جَعْلِ الْمَرْأَةِ مُعَلَّقَةً إلَى الْمَوْتِ، أَوْ إيقَاعِ الطَّلَاقِ بِأَرْبَعٍ لِأَجْلِ إيقَاعِهِ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْقُرْعَةَ مُزِيلَةٌ لِلتُّهْمَةِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهَا تَفْوِيضٌ إلَى اللَّهِ لِيُعَيِّنَ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ مَا لَيْسَ لَنَا سَبِيلٌ إلَى تَعْيِينِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَقُولُونَ فِيمَا نَقَلَهُ أَبُو طَالِبٍ عَنْ أَحْمَدَ فِي رَجُلٍ زَوَّجَ ابْنَتَهُ رَجُلًا، وَلَهُ بَنَاتٌ، فَمَاتَ، وَلَمْ يَدْرِ أَيَّتَهُنَّ هِيَ؟ فَقَالَ: يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُقْرِعُ عِنْدَ اخْتِلَاطِ أُخْتِهِ بِأَجْنَبِيَّةٍ.
قِيلَ: قَدْ جَعَلَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَقَالَ: وَظَاهِرُ هَذَا: أَنَّ الزَّوْجَةَ إذَا اخْتَلَطَتْ بِأَجَانِبَ أُقْرِعَ بَيْنَهُنَّ، لِأَنَّهُ أَجَازَ الْقُرْعَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَخَوَاتِهَا إذَا اخْتَلَطَتْ بِهِنَّ. قُلْت: هَذَا وَهْمٌ مِنْ الْقَاضِي، فَإِنَّ أَحْمَدَ لَمْ يُقْرِعْ لِلْحِلِّ، وَإِنَّمَا أَقْرَعَ لِلْمِيرَاثِ وَالْعِدَّةِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ نُصُوصَهُ بِأَلْفَاظِهَا.
قَالَ الْخَلَّالُ فِي " الْجَامِعِ ": بَابُ الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ أَرْبَعُ بَنَاتٍ، فَزَوَّجَ إحْدَاهُنَّ، فَمَاتَ الْأَبُ وَمَاتَ الزَّوْجُ، وَلَا يَدْرِي أَيَّتَهنَّ هِيَ الزَّوْجَةُ؟ أَنْبَأَنَا أَبُو النَّضْرِ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ - فِي رَجُلٍ لَهُ أَرْبَعُ بَنَاتٍ، فَزَوَّجَ إحْدَاهُنَّ، لَا يَدْرِي أَيَّتُهُنَّ هِيَ - إنَّهُ يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ، أَخْبَرَنِي زُهَيْرُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ رَجُلًا زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ رَجُلٍ، فَمَاتَ الْأَبُ وَالزَّوْجُ، وَلَا يَدْرِي الشُّهُودُ أَيَّ بَنَاتِهِ هِيَ؟ فَسَأَلْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، فَقَالَ: يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ، فَأَيَّتُهُنَّ أَصَابَتْهَا الْقُرْعَةُ وَرِثَتْ وَاعْتَدَّتْ.
وَقَالَ حَمَّادٌ: سَأَلْت حَمَّادَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ؟ فَقَالَ: يَرِثْنَ جَمِيعًا وَيَعْتَدِدْنَ جَمِيعًا.
وَقَالَ صَالِحٌ قَالَ أَبِي: قَدْ وَرَّثَ مَنْ لَيْسَ لَهَا مِيرَاثٌ، وَأَوْجَبَ الْعِدَّةَ عَلَى مَنْ لَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ، وَاَلَّذِي يُقْرِعُ: فِي حَالٍ يَكُونُ قَدْ أَصَابَ، وَفِي حَالٍ يَكُونُ قَدْ أَخْطَأَ، وَذَاكَ لَا شَكَّ أَنَّهُ قَدْ وَرَّثَ مَنْ لَيْسَ لَهَا مِيرَاثٌ.
قَالَ الْخَلَّالُ: أَنَبَأَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: سَأَلْت سَعِيدًا عَنْ رَجُلٍ زَوَّجَ إحْدَى بَنَاتِهِ - وَسَمَّاهَا - وَمَاتَ الْأَبُ وَالزَّوْجُ، وَلَا يَدْرِي أَيَّتُهُنَّ هِيَ؟ فَحَدَّثَنَا عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُمَا قَالَا: يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ، فَأَيَّتُهُنَّ أَصَابَتْهَا الْقُرْعَةُ فَلَهَا الصَّدَاقُ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا الْأَثْرَمُ، حَدَّثَنَا عَارِمٌ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ - فِي رَجُلٍ زَوَّجَ إحْدَى بَنَاتِهِ رَجُلًا، فَمَاتَ، وَمَاتَ الزَّوْجُ، وَلَمْ تَدْرِ الْبَيِّنَةُ أَيَّتُهُنَّ هِيَ -؟ قَالَ: يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ، فَإِذَا قَرَعَتْ وَاحِدَةٌ: وَرِثَتْ، وَاعْتَدَّتْ.
وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ قَالَا: يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ.
قَالَ حَنْبَلٌ: وَحَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ،
أَنَّ رَجُلًا زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ رَجُلٍ، فَمَاتَ الزَّوْجُ، وَمَاتَ الْأَبُ، وَلَمْ يَدْرِ الشُّهُودُ: أَيُّ بَنَاتِهِ هِيَ؟ فَسَأَلْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ رحمه الله؟ قَالَ: يُقْرَعُ بَيْنَهُنَّ، وَأَيَّتُهُنَّ أَصَابَتْ الْقُرْعَةُ وَرِثَتْ وَاعْتَدَّتْ.
قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: فَسَأَلْت حَمَّادَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: يَرِثْنَ وَيَعْتَدِدْنَ جَمِيعًا.
قَالَ حَنْبَلٌ: فَسَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: يُقْرَعُ بَيْنَهُنَّ عَلَى قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.
وَقَالَ حَنْبَلٌ: قَالَ عَفَّانُ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، قَالَ: سُئِلَ قَتَادَةُ عَنْ رَجُلٍ خَطَبَ إلَى رَجُلٍ ابْنَةً لَهُ، وَلَهُ بَنَاتٌ فَأَنْكَحَهُ، وَمَاتَ الْخَاطِبُ، وَلَمْ يَدْرِ الْأَبُ أَيَّتُهُنَّ خَطَبَ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ، فَأَيَّتُهُنَّ أَصَابَتْهَا الْقُرْعَةُ. فَلَهَا الصَّدَاقُ وَالْمِيرَاثُ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ.
قَالَ حَنْبَلٌ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: أَذْهَبُ إلَى هَذَا، وَكَذَلِكَ رِوَايَةُ أَبِي طَالِبٍ الَّتِي ذَكَرَهَا الْقَابِسِيُّ. قَالَ الْخَلَّالُ أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَطَرٍ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ حَدَّثَهُ: أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ زَوَّجَ ابْنَتَهُ رَجُلًا، وَلَهُ بَنَاتٌ فَمَاتَا، وَلَمْ تَدْرِ الْبَيِّنَةُ أَيَّتُهُنَّ هِيَ، قَالَ: يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ، فَإِذَا قَرَعَتْ وَاحِدَةٌ وَرِثَتْ، قُلْت حَمَّادٌ يَقُولُ: يَرِثْنَ جَمِيعًا، قَالَ: يُقْرِعُ بَيْنَهُمْ، وَقَالَ: الْقُرْعَةُ أَبْيَنُ، إذَا أَقْرَعَ فَأَعْطَى وَاحِدَةً لَعَلَّهَا أَنْ تَكُونَ صَاحِبَتَهُ وَلَا يَدْرِي، هُوَ فِي شَكٍّ، فَإِذَا أَعْطَاهُنَّ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ أَعْطَى مَنْ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ. فَنُصُوصُ أَحْمَدَ وَمَا نَقَلَهُ عَنْ سَعِيدٍ وَالْحَسَنِ: إنَّمَا فِيهِ الْقُرْعَةُ بَيْنَهُنَّ فِي الْمِيرَاثِ، وَهِيَ قُرْعَةٌ عَلَى مَالٍ، وَلَيْسَ فِيهِ الْقُرْعَةُ عِنْدَ اخْتِلَاطِ الزَّوْجَةِ بِغَيْرِهَا. لَكِنْ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: مَا يَدُلُّ عَلَى جَرَيَانِ الْقُرْعَةِ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِنَّهُ قَالَ: يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ، فَأَيَّتُهُنَّ أَصَابَتْهَا الْقُرْعَةُ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ فَهِيَ الَّتِي تَرِثُهُ أَيْضًا، فَهَذِهِ أَصَرْحُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ.
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ، إنَّمَا هِيَ فِي الْقُرْعَةِ عَنْ الْمِيرَاثِ، كَمَا ذُكِرَ مِنْ أَلْفَاظِهِ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْتَنَعُ أَنْ يُقَالَ بِالْقُرْعَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ظَاهِرِ رِوَايَةِ حَنْبَلٍ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ: تَعْيِينُ الزَّوْجَةِ بِالْقُرْعَةِ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْ لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ، وَهَذَا حَقِيقَةُ الْإِقْرَاعِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُطَلَّقَةِ، فَإِنَّ الْقُرْعَةَ تُمَيِّزُ الزَّوْجَةَ مِنْ غَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّجَهَا الْوَلِيَّانِ مِنْ رَجُلَيْنِ، وَجَهِلَ السَّابِقَ مِنْهُمَا: فَإِنَّهُ يُقْرِعُ، عَلَى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ، وَذَلِكَ لِتَمْيِيزِ الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِهِ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ تَمْيِيزِ الزَّوْجِ بِالْقُرْعَةِ وَتَمْيِيزِ الزَّوْجَةِ بِهَا؟ فَالْإِقْرَاعُ هَاهُنَا لَيْسَ بَعِيدًا مِنْ الْأُصُولِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: أَنَّا نُوجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ بِهَذِهِ الْقُرْعَةِ، وَالْعِدَّةُ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ، وَلَا سِيَّمَا فَالْعِدَّةُ