الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَالْأَفَّاكُ: الْكَاذِبُ، وَالْأَثِيمُ: الظَّالِمُ الْفَاجِرُ
وَقَالَ تَعَالَى: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} [العلق: 15]{نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق: 16] وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ» .
وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَلِيِّ أَمْرٍ أَنْ يَسْتَعِينَ فِي وِلَايَتِهِ بِأَهْلِ الصِّدْقِ وَالْعَدْلِ، وَالْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ كَذِبٌ وَفُجُورٌ، فَ " إنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ " وَ " بِأَقْوَامٍ لَا خَلَاقَ لَهُمْ ".
قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: " مَنْ قَلَّدَ رَجُلًا عَلَى عِصَابَةٍ، وَهُوَ يَجِدُ فِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ ".
وَالْغَالِبُ: أَنَّهُ لَا يُوجَدُ الْكَامِلُ فِي ذَلِكَ، فَيَجِبُ تَحَرِّي خَيْرِ الْخَيْرَيْنِ، وَدَفْعُ شَرِّ الشَّرَّيْنِ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم يَفْرَحُونَ بِانْتِصَارِ الرُّومِ وَالنَّصَارَى عَلَى الْمَجُوسِ عُبَّادِ النَّارِ؛ لِأَنَّ النَّصَارَى أَقْرَبُ إلَيْهِمْ مِنْ أُولَئِكَ، وَكَانَ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ عليه السلام نَائِبًا لِفِرْعَوْنَ مِصْرَ، وَهُوَ وَقَوْمُهُ مُشْرِكُونَ، وَفَعَلَ مِنْ الْخَيْرِ وَالْعَدْلِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَدَعَا إلَى الْإِيمَانِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ.
[فَصَلِّ فِي عُمُوم الْوِلَايَات وَخُصُوصهَا]
98 -
(فَصْلٌ)
عُمُومُ الْوِلَايَاتِ وَخُصُوصُهَا: إذَا عُرِفَ هَذَا فَعُمُومُ الْوِلَايَاتِ وَخُصُوصُهَا، وَمَا يَسْتَفِيدُهُ الْمُتَوَلِّي بِالْوِلَايَةِ: يَتَلَقَّى مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْأَحْوَالِ وَالْعُرْفِ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ، فَقَدْ يَدْخُلُ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ - فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ - مَا يَدْخُلُ فِي وِلَايَةِ الْحَرْبِ فِي زَمَانٍ وَمَكَانٍ آخَرَ، وَبِالْعَكْسِ، وَكَذَلِكَ الْحِسْبَةُ، وَوِلَايَةُ الْمَالِ، وَجَمِيعُ هَذِهِ الْوِلَايَاتِ فِي الْأَصْلِ وِلَايَاتٌ دِينِيَّةٌ، وَمَنَاصِبُ شَرْعِيَّةٌ، فَمَنْ عَدَلَ فِي وِلَايَةٍ مِنْ هَذِهِ الْوِلَايَاتِ، وَسَاسَهَا بِعِلْمٍ وَعَدْلٍ، وَأَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، فَهُوَ مِنْ الْأَبْرَارِ الْعَادِلِينَ، وَمَنْ حَكَمَ فِيهَا بِجَهْلٍ وَظُلْمٍ، فَهُوَ مِنْ الظَّالِمِينَ الْمُعْتَدِينَ، وَ {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13] {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14] .
فَوِلَايَةُ الْحَرْبِ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ، فِي الْبِلَادِ الشَّامِيَّةِ وَالْمِصْرِيَّةِ وَمَا جَاوَرَهَا: تَخْتَصُّ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ: مِنْ الْقَتْلِ، وَالْقَطْعِ، وَالْجَلْدِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا الْحُكْمُ فِي دَعَاوَى التُّهَمِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شُهُودٌ وَلَا إقْرَارٌ، كَمَا تَخْتَصُّ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ بِمَا فِيهِ كِتَابٌ وَشُهُودٌ وَإِقْرَارٌ، مِنْ الدَّعَاوَى الَّتِي تَتَضَمَّنُ إثْبَاتَ الْحُقُوقِ وَالْحُكْمَ بِإِيصَالِهَا إلَى أَرْبَابِهَا، وَالنَّظَرِ فِي الْأَبْضَاعِ وَالْأَمْوَالِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا وَلِيٌّ مُعَيَّنٌ، وَالنَّظَرِ فِي حَالِ نُظَّارِ الْوُقُوفِ، وَأَوْصِيَاءِ الْيَتَامَى، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَفِي بِلَادٍ أُخْرَى - كَبِلَادِ الْغَرْبِ - لَيْسَ لِوَالِي الْحَرْبِ مَعَ الْقَاضِي حُكْمٌ فِي شَيْءٍ، إنَّمَا هُوَ مُنَفِّذٌ لِمَا يَأْمُرُ بِهِ مُتَوَلِّي الْقَضَاءِ.
وَأَمَّا وِلَايَةُ الْحِسْبَةِ: فَخَاصَّتُهَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فِيمَا لَيْسَ مِنْ خَصَائِصِ الْوُلَاةِ وَالْقُضَاةِ، وَأَهْلِ الدِّيوَانِ وَنَحْوِهِمْ، فَعَلَى مُتَوَلِّي الْحِسْبَةِ أَنْ يَأْمُرَ الْعَامَّةَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي مَوَاقِيتِهَا، وَيُعَاقِبَ مَنْ لَمْ يُصَلِّ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ، وَأَمَّا الْقَتْلُ: فَإِلَى غَيْرِهِ، وَيَتَعَاهَدُ الْأَئِمَّةَ وَالْمُؤَذِّنِينَ، فَمَنْ فَرَّطَ مِنْهُمْ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ الْأُمَّةِ وَخَرَجَ عَنْ الْمَشْرُوعِ أَلْزَمَهُ بِهِ، وَاسْتَعَانَ فِيمَا يَعْجَزُ عَنْهُ بِوَالِي الْحَرْبِ وَالْقَاضِي.
وَاعْتِنَاءُ وُلَاةِ الْأُمُورِ بِإِلْزَامِ الرَّعِيَّةِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ أَهَمُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَإِنَّهَا عِمَادُ الدِّينِ، وَأَسَاسُهُ وَقَاعِدَتُهُ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَكْتُبُ إلَى عُمَّالِهِ: " إنَّ أَهَمَّ أَمْرِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ،
فَمَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ، وَمَنْ ضَيَّعَهَا كَانَ لِمَا سِوَاهَا أَشَدُّ إضَاعَةً ". وَيَأْمُرُ وَالِي الْحِسْبَةِ بِالْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَالصِّدْقِ، وَالنُّصْحِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَيَنْهَى عَنْ الْخِيَانَةِ، وَتَطْفِيفِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَالْغِشِّ فِي الصِّنَاعَاتِ وَالْبِيَاعَاتِ، وَيَتَفَقَّدُ أَحْوَالَ الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ، وَأَحْوَالِ الصُّنَّاعِ الَّذِينَ يَصْنَعُونَ الْأَطْعِمَةَ وَالْمَلَابِسَ وَالْآلَاتِ، فَيَمْنَعُهُمْ مِنْ صِنَاعَةِ الْمُحَرَّمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، كَآلَاتِ الْمَلَاهِي، وَثِيَابِ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ، وَيَمْنَعُ مِنْ اتِّخَاذِ أَنْوَاعِ الْمُسْكِرَاتِ، وَيَمْنَعُ صَاحِبَ كُلِّ صِنَاعَةٍ مِنْ الْغِشِّ فِي صِنَاعَتِهِ، وَيَمْنَعُ مِنْ إفْسَادِ نَقْدِ النَّاسِ وَتَغْيِيرِهَا، وَيَمْنَعُ مِنْ جَعْلِ النُّقُودِ مَتْجَرًا، فَإِنَّهُ بِذَلِكَ يُدْخِلُ عَلَى النَّاسِ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ، بَلْ الْوَاجِبُ: أَنْ تَكُونَ النُّقُودُ رُءُوسَ أَمْوَالٍ، يَتَّجِرُ بِهَا، وَلَا يَتَّجِرُ فِيهَا، وَإِذَا حَرَّمَ السُّلْطَانُ سِكَّةً أَوْ نَقْدًا مُنِعَ مِنْ الِاخْتِلَاطِ بِمَا أَذِنَ فِي الْمُعَامَلَةِ بِهِ.
وَمُعْظَمُ وِلَايَتِهِ وَقَاعِدَتُهَا: الْإِنْكَارُ عَلَى هَؤُلَاءِ الزَّغَلِيَّةِ، وَأَرْبَابِ الْغِشِّ فِي الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُفْسِدُونَ مَصَالِحَ الْأُمَّةِ، وَالضَّرَرُ بِهِمْ عَامٌّ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، فَعَلَيْهِ أَلَّا يُهْمِلَ أَمْرَهُمْ، وَأَنْ يُنَكِّلَ بِهِمْ وَأَمْثَالِهِمْ، وَلَا يَرْفَعُ عَنْهُمْ عُقُوبَتَهُ، فَإِنَّ الْبَلِيَّةَ بِهِمْ عَظِيمَةٌ، وَالْمَضَرَّةَ بِهِمْ شَامِلَةٌ وَلَا سِيَّمَا هَؤُلَاءِ الْكِيمَاوِيِّينَ الَّذِينَ يَغُشُّونَ النُّقُودَ وَالْجَوَاهِرَ، وَالْعِطْرَ وَالطِّيبَ وَغَيْرَهَا، يُضَاهِئُونَ بِزَغْلِهِمْ وَغِشِّهِمْ خَلْقَ اللَّهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا فَيَقْدِرُ الْعِبَادُ أَنْ يَخْلُقُوا كَخَلْقِهِ، قَالَ تَعَالَى - فِيمَا حَكَى عَنْهُ رَسُولُهُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -:«وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، فَلْيَخْلُقُوا شَعِيرَةً» .
وَلِهَذَا كَانَتْ الْمَصْنُوعَاتُ - كَالطَّبَائِخِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ - غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ إلَّا بِتَوَسُّطِ النَّاسِ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس: 41]{وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس: 42]، وَقَالَ تَعَالَى:{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95]{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وَكَانَتْ الْمَخْلُوقَاتُ مِنْ الْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالدَّوَابِّ غَيْرَ مَقْدُورٍ لِبَنِي آدَمَ أَنْ