الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْوَاجِبَةُ هَاهُنَا عِدَّةٌ مِنْ غَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا، فَهِيَ مِنْ نِكَاحٍ مَحْضٍ، وَكَذَلِكَ الْمِيرَاثُ، فَإِنَّهُ لَوْلَا ثُبُوتُ النِّكَاحِ لَمَا وَرِثَتْ.
وَقَوْلُ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: " يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ فَأَيَّتُهُنَّ أَصَابَتْهَا الْقُرْعَةُ فَهِيَ امْرَأَتُهُ "، صَرِيحٌ فِي ثُبُوتِ الزَّوْجِيَّةِ بِالْقُرْعَةِ، ثُمَّ قَالَ:" وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ فَهِيَ الَّتِي تَرِثُهُ " وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ فِي حَالِ حَيَاةِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْقُرْعَةِ وَرِثَتْهُ بِحُكْمِ النِّكَاحِ، وَلَا إشْكَالَ فِي ذَلِكَ بِحَمْدِ اللَّهِ، فَإِذَا أَقْرَعَ بَيْنَهُنَّ فَأَصَابَتْ الْقُرْعَةُ إحْدَاهُنَّ: كَانَ رِضَا الزَّوْجِ بِهَا وَرِضَا وَلِيِّهَا وَرِضَاهَا تَصْحِيحًا لِلنِّكَاحِ. وَلَا يُقَالُ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْقُرْعَةُ أَصَابَتْ غَيْرَهَا، فَيَكُونُ جَامِعًا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، لِأَنَّ الْمَجْهُولَ كَالْمَعْدُومِ، وَلِأَنَّا نَأْمُرُهُ أَنْ يُطَلِّقَ غَيْرَ الَّتِي أَصَابَتْهَا الْقُرْعَةُ، فَيَقُولُ: وَمَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ فَهِيَ طَالِقٌ احْتِيَاطًا، فَهَذَا خَيْرٌ مِنْ تَوْرِيثِ الْجَمِيعِ وَحِرْمَانِ الْجَمِيعِ؛ وَأَنْ يُوقَفَ الْأَمْرُ فِيهِنَّ أَبَدًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْحَالُ وَيَنْكَشِفَ، وَقَدْ لَا يَتَبَيَّنُ إلَى الْيَوْمِ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فَالْقُرْعَةُ طَرِيقٌ شَرْعِيٌّ، شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لِلتَّمْيِيزِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، فَسُلُوكُهُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الطُّرُقِ. وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا طَلَّقَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ لَا بِعَيْنِهَا، فَإِنَّهُ لَا يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ، وَلَهُ أَنْ يَطَأَ أَيَّتُهُنَّ شَاءَ، فَإِذَا وَطِئَ انْصَرَفَ الطَّلَاقُ إلَى الْأُخْرَى، وَاخْتَارَهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ، فَجَعَلُوا الْوَطْءَ تَعْيِينًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّعْيِينَ بِالْقُرْعَةِ أَوْلَى مِنْ التَّعْيِينِ بِالْوَطْءِ، فَإِنَّ الْقُرْعَةَ تُخْرِجُ مِنْ قَدَّرَ اللَّهُ إخْرَاجَهُ بِهَا، وَلَا يُتَّهَمُ بِهَا، وَالْوَطْءُ تَابِعٌ لِإِرَادَتِهِ وَشَهْوَتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَهِيَ غَيْرَ مَنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ إرَادَةُ طَلَاقِهَا، فَهُوَ مُتَّهَمٌ، فَالتَّعْيِينُ بِالطَّرِيقِ الشَّرْعِيِّ أَوْلَى مِنْ التَّعْيِينِ بِالتَّشَهِّي وَالْإِرَادَةِ.
وَمِمَّا يُوَضِّحُهُ: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَدْ قَالَ - فِيمَا إذَا أَعْتَقَ إحْدَى أَمَتَيْهِ، ثُمًّ وَطِئَ إحْدَاهُمَا - أَنَّ الْوَطْءَ لَا يُعَيِّنُ الْمُعْتَقَةَ مِنْ غَيْرِهَا.
وَقَالَ أَصْحَابُهُ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الطَّلَاقَ يُوجِبُ التَّحْرِيمَ، وَذَلِكَ يَنْفِي النِّكَاحَ، فَلَمَّا وَطِئَ إحْدَاهُمَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ مُخْتَارٌ أَنْ تَكُونَ زَوْجَتُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَطَأُ مَنْ لَيْسَتْ زَوْجَتَهُ، وَأَمَّا الْعِتْقُ: فَإِنَّهُ - وَإِنْ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ الْوَطْءِ - فَلَا يُنَافِي مِلْكَ الْيَمِينِ، كَأُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ.
فَقَالَ الْمُنَازِعُونَ لَهُمْ: الطَّلَاقُ لَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ عِنْدَكُمْ، فَإِنَّ الرَّجْعَةَ مُبَاحَةٌ، وَإِنَّمَا الْمُوجِبُ لِلتَّحْرِيمِ: انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ وَاسْتِيفَاءُ الْعَدَدِ.
وَقَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُكُمْ بِذَلِكَ، عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ - وَإِنْ نَافَاهُ التَّحْرِيمُ - فَالْمِلْكُ يُنَافِيهِ التَّحْرِيمُ، فَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي أَنَّ الْوَطْءَ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي مِلْكٍ، وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ لِمِلْكِ الْمَوْطُوءَةِ.
[فَصَلِّ فِيمَنْ طلق إحْدَى نِسَائِهِ وَمَاتَ قَبْل الْبَيَان]
127 -
(فَصْلٌ)
وَمِنْ مَوَاضِعِ الْقُرْعَةِ مَا إذَا طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ، وَمَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ، فَإِنَّ الْوَرَثَةَ يُقْرِعُونَ بَيْنَهُنَّ، فَمَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهَا الْقُرْعَةُ لَمْ تَرِثْ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ وَأَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ مَنْصُورٍ وَمُهَنَّا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقَسَّمُ الْمِيرَاثُ بَيْنَ الْجَمِيعِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُوقَفُ مِيرَاثُ الزَّوْجَاتِ حَتَّى يَصْطَلِحْنَ عَلَيْهِ.
وَلَوَازِمُ الْقَوْلَيْنِ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْقُرْعَةِ، فَإِنَّ لَازِمَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: تَوْرِيثُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ، فَإِنَّهَا مُطَلَّقَةٌ فِي حَالِ الصِّحَّةِ ثَلَاثًا، فَكَيْفَ تَرِثُ؟ وَلَازِمُ الْقَوْلِ الثَّانِي: وَقْفُ الْمَالِ، وَتَعْرِيضُهُ لِلْفَسَادِ وَالْهَلَاكِ، وَعَدَمُ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا فَرُبَّمَا كَانَتْ مَئُونَتُهُ تَزِيدُ عَلَى أَضْعَافِ قِيمَتِهِ، وَهَذَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُنَّ إذَا عَلِمْنَ أَنَّ الْمَالَ يَهْلَكُ إنْ لَمْ يَصْطَلِحْنَ عَلَيْهِ: كَانَ ذَلِكَ إلْجَاءً لَهُنَّ إلَى إعْطَاءِ غَيْرِ الْمُسْتَحِقَّةِ، فَالْقُرْعَةُ تُخَلِّصُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ: أَنَّ الْمُسْتَحِقَّةَ لِلْمِيرَاثِ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، فَوَجَبَ أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُمَا كَمَا يُقْرِعُ بَيْنَ الْعَبِيدِ إذَا أَعْتَقَهُمْ فِي الْمَرَضِ، وَبَيْنَ الزَّوْجَاتِ إذَا أَرَادَ السَّفَرَ بِإِحْدَاهُنَّ، وَالْحَاكِمُ إنَّمَا نُصِّبَ لِفَصْلِ الْأَحْكَامِ، لَا لِوَقْفِهَا وَجَعْلِهَا مُعَلَّقَةً، فَتَوْرِيثُ الْجَمِيعِ - عَلَى مَا فِيهِ - أَقْرَبُ لِلْمَصْلَحَةِ مِنْ حَبْسِ الْمَالِ وَتَعْرِيضِهِ لِلتَّلَفِ، مَعَ حَاجَةِ مُسْتَحَقِّيهِ إلَيْهِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّا عَهِدْنَا مِنْ الشَّارِعِ أَنَّهُ لَمْ يُوقِفْ حُكُومَةً قَطُّ عَلَى اصْطِلَاحِ الْمُتَخَاصِمِينَ، بَلْ يُشِيرُ عَلَيْهِمَا بِالصُّلْحِ، فَإِنْ لَمْ يَصْطَلِحَا فَصَلَ الْخُصُومَةَ، وَبِهَذَا تَقُومُ مَصْلَحَةُ النَّاسِ.
قَالَ الْمُوَرِّثُونَ لِلْجَمِيعِ: قَدْ تَسَاوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ، لِأَنَّ حُجَّةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كَحُجَّةِ الْأُخْرَى، فَوَجَبَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْإِرْثِ، كَمَا لَوْ أَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ بِالزَّوْجِيَّةِ.
وَقَالَ الْمُقْرِعُونَ: الْمُسْتَحِقَّةُ مِنْهُمَا هِيَ الزَّوْجَةُ، وَالْمُطَلَّقَةُ غَيْرُ مُسْتَحِقَّةٍ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّهُمَا اسْتَوَيَتَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ؟ عَلَى أَنَّهُمَا إذَا أَقَامَتَا بَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا وَسَقَطَتَا، وَصَارَتَا كَمَنْ لَا بَيِّنَةَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.
وَقَالَ الْمُوَرِّثُونَ: قَدْ اُسْتُحِقَّ مِنْ مَالِهِ مِيرَاثُ زَوْجَتِهِ، وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَنْ تَكُون هِيَ الْمُسْتَحِقَّةَ أَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى، فَيُقَسَّمُ الْإِرْثُ بَيْنَهُمَا، كَرَجُلَيْنِ ادَّعَيَا دَابَّةً فِي يَدِ غَيْرِهِمَا وَأَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ: فَإِنَّهَا تُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا.
وَقَالَ الْمُقْرِعُونَ: هَذِهِ هِيَ الشُّبْهَةُ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَالْجَوَابُ وَاحِدٌ.
وَقَالَ الْمُوَرِّثُونَ لِأَصْحَابِ الْقُرْعَةِ: قَدْ تَنَاقَضْتُمْ، فَإِنَّكُمْ تُقْرِعُونِ بِإِخْرَاجِ الْمُطَلَّقَةِ فَإِذَا أَخْرَجْتُمُوهَا بِالْقُرْعَةِ أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ، إذَا كَانَتْ أَطْوَلَ مِنْ عِدَّةِ الطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً فَكَيْفَ تَعْتَدُّ