الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَلَا أَحْسَنَ مِمَّا قَضَى بِهِ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم، وَهَذَا التَّفْصِيلُ فِي الْمَسْأَلَةِ هُوَ الْحَقُّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِنَا قَدَّسَ اللَّهُ رَوْحَهُ قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ، مُحْتَجًّا لِمَذْهَبِهِ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ نُكُولَ النَّاكِلِ عَنْ الْيَمِينِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عَلَيْهِ، يُوجِبُ أَيْضًا عَلَيْهِ حُكْمًا، وَهُوَ الْأَدَبُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى كُلِّ مَنْ أَتَى مُنْكَرًا يُوجِبُ تَغْيِيرَهُ بِالْيَدِ. فَيُقَالُ لَهُ: قَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا فِي نُكُولِهِ، غَيْرَ آثِمٍ بِهِ، بِأَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ أَقْرَضَهُ وَيَكُونُ قَدْ وَفَّاهُ، وَلَا يَرْضَى مِنْهُ إلَّا بِالْجَوَابِ عَلَى وَفْقِ الدَّعْوَى. وَقَدْ يَتَحَرَّجُ مِنْ الْحَلِفِ، مَخَافَةَ مُوَافَقَةِ قَضَاءٍ وَقَدَرٍ، كَمَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ.
فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْبَسَ حَتَّى يَحْلِفَ. وَقَوْلُهُمْ: " إنَّ هَذَا مُنْكَرٌ يَجِبُ تَغْيِيرُهُ بِالْيَدِ " كَلَامٌ بَاطِلٌ، فَإِنَّ تَوَرُّعَهُ عَنْ الْيَمِينِ لَيْسَ بِمُنْكَرٍ، بَلْ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا أَوْ جَائِزًا، وَقَدْ يَكُونُ مَعْصِيَةً.
وَقَوْلُهُمْ: " إنَّ الْحَلِفَ حَقٌّ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَبَى أَنْ يَقُومَ بِهِ ضُرِبَ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ " فَيُقَالُ: إنَّ فِي الْيَمِينِ حَقًّا لَهُ وَحَقًّا عَلَيْهِ. فَإِنَّ الشَّارِعَ مَكَّنَهُ مِنْ التَّخَلُّصِ مِنْ الدَّعْوَى بِالْيَمِينِ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ لِلْمُدَّعِي، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ الْيَمِينِ فَقَدْ امْتَنَعَ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ، وَامْتَنَعَ مِنْ تَخْلِيصِ نَفْسِهِ مِنْ خَصْمِهِ بِالْيَمِينِ. فَقِيلَ: يُحْبَسُ أَوْ يُضْرَبُ، حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يَحْلِفَ، وَقِيلَ: يُقْضَى عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ مُقِرٌّ بِالْمُدَّعَى. وَقِيلَ: تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي. وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ.
وَقَوْلٌ رَابِعٌ بِالتَّفْصِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِنَا. وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ خَامِسٌ: وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي مُتَّهَمًا: رُدَّتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا قُضِيَ عَلَيْهِ بِنُكُولِ خَصْمِهِ. وَهَذَا الْقَوْلُ: يُحْكَى عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَلَهُ حَظٌّ فِي الْفِقْهِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَّهَمًا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ، فَإِذَا نَكَلَ خَصْمُهُ قَوِيَ ظَنُّ صِدْقِهِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى الْيَمِينِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ مُتَّهَمًا لَمْ يَبْقَ مَعَنَا إلَّا مُجَرَّدَ النُّكُولِ، فَقَوَّيْنَاهُ بِرَدِّ الْيَمِينِ عَلَيْهِ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ.
[فَصَلِّ يَمِين الْمُدَّعِي هَلْ هِيَ كَالْبَيِّنَةِ أُمّ كَإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ]
50 -
(فَصْلٌ)
إذَا رُدَّتْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي، فَهَلْ تَكُونُ يَمِينُهُ كَالْبَيِّنَةِ، أَمْ كَإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلشَّافِعِيِّ. أَظْهَرُهُمَا عِنْدَ أَصْحَابِهِ: أَنَّهَا كَالْإِقْرَارِ. فَعَلَى هَذَا: لَوْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً بِالْأَدَاءِ وَالْإِبْرَاءِ بَعْدَ مَا حَلَفَ الْمُدَّعِي، فَإِنْ قِيلَ: يَمِينُهُ كَالْبَيِّنَةِ سُمِعَتْ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَإِنْ قِيلَ: هِيَ كَالْإِقْرَارِ لَمْ تُسْمَعْ، لِكَوْنِهَا مُكَذِّبَةً لِلْبَيِّنَةِ بِالْإِقْرَارِ.
وَإِذَا قُضِيَ بِالنُّكُولِ فَهَلْ يَكُونُ كَالْإِقْرَارِ أَوْ كَالْبَذْلِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، يَنْبَنِي عَلَيْهِمَا مَا إذَا ادَّعَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَاسْتَحْلَفْنَاهَا فَنَكَلَتْ، فَهَلْ يُقْضَى عَلَيْهَا بِالنُّكُولِ وَتُجْعَلُ زَوْجَتَهُ؟ فَإِنْ قُلْنَا: النُّكُولُ إقْرَارٌ حُكْمٍ لَهُ بِكَوْنِهَا زَوْجَتِهِ وَإِنْ قُلْنَا: بَذَلَ، لَمْ نَحْكُمْ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ لَا تُسْتَبَاحُ بِالْبَذْلِ. وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى رِقَّ مَجْهُولِ النَّسَبِ، وَقُلْنَا: يُسْتَحْلَفُ، فَنَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ. وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى قَذْفَهُ وَاسْتَحْلَفْنَاهُ فَنَكَلَ، فَهَلْ يُحَدُّ لِلْقَذْفِ؟ يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَالنُّكُولُ بَذْلٌ عِنْدَهُ وَإِقْرَارٌ عِنْدَ صَاحِبَيْهِ.
قَالَ صَاحِبَاهُ: فَلَا يُسْتَحْلَفُ فِي النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ وَالْإِيلَاءِ وَالرِّقِّ وَالِاسْتِيلَادِ وَالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَالْحُدُودِ، لِأَنَّ النُّكُولَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بَذْلٌ وَهُوَ لَا يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَعِنْدَهُمَا يُسْتَحْلَفُ، لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْإِقْرَارِ، وَهُوَ مَقْبُولٌ بِهَا.
وَاحْتَجَّ مَنْ جَعَلَهُ كَالْإِقْرَارِ بِأَنَّ النَّاكِلَ كَالْمُمْتَنِعِ مِنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ ظَاهِرًا، فَيَصِيرُ مُعْتَرِفًا بِالْمُدَّعَى، لِأَنَّهُ لَمَّا نَكَلَ مَعَ إمْكَانِ تَخَلُّصِهِ بِالْيَمِينِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَكَانَ كَاذِبًا، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِرَافِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ دُونَ الْإِقْرَارِ الصَّرِيحِ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلَهُ فِي الْحُدُودِ وَالْقُيُودِ. وَاحْتَجَّ مَنْ جَعَلَهُ كَالْبَذْلِ، بِأَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَاهُ إقْرَارًا مِنْهُ يَكُونُ كَاذِبًا فِي إنْكَارِهِ، وَالْكَذِبُ حَرَامٌ، فَيَفْسُقُ بِالنُّكُولِ بَعْدَ الْإِنْكَارِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، فَجَعَلْنَاهُ بَذْلًا وَإِبَاحَةَ صِيَانَةٍ لَهُ عَمَّا يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ، وَيَجْعَلُهُ كَاذِبًا.
وَالصَّحِيحُ: أَنَّ النُّكُولَ يَقُومُ مَقَامَ الشَّاهِدِ وَالْبَيِّنَةِ، لَا مَقَامَ الْإِقْرَارِ وَلَا الْبَذْلِ. لِأَنَّ النَّاكِلَ قَدْ صَرَّحَ بِالْإِنْكَارِ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُدَّعِي بِهِ. وَهُوَ مِصْرُ عَلَى ذَلِكَ، مُتَوَرِّعٌ عَنْ الْيَمِينِ. فَكَيْفَ يُقَالُ: إنَّهُ مُقِرٌّ، مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى الْإِنْكَارِ، وَيُجْعَلُ مُكَذِّبًا لِنَفْسِهِ؟ وَأَيْضًا، لَوْ كَانَ مُقِرًّا لَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ بَيِّنَةُ نُكُولِهِ بِالْإِبْرَاءِ وَالْأَدَاءِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُكَذِّبًا لِنَفْسِهِ. وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ وَشَهَادَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ. فَكَيْفَ يُجْعَلُ مُقِرًّا شَاهِدًا عَلَى نَفْسِهِ بِنُكُولِهِ، وَالْبَذْلُ إبَاحَةٌ وَتَبَرُّعٌ، وَهُوَ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِهِ. وَقَدْ يَكُونُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَرِيضًا مَرَضَ الْمَوْتِ، فَلَوْ كَانَ النُّكُولُ بَذْلًا وَإِبَاحَةً اُعْتُبِرَ خُرُوجُ الْمُدَّعَى مِنْ الثُّلُثِ. فَتَبَيَّنَ أَنْ لَا إقْرَارَ وَلَا إبَاحَةَ. وَإِنَّمَا هُوَ جَارٍ مَجْرَى الشَّاهِدِ وَالْبَيِّنَةِ، فَإِنَّ " الْبَيِّنَةَ " اسْمٌ لِمَا تَبَيَّنَ الْحَقَّ، وَنُكُولُهُ - مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ الَّتِي يَبْرَأُ بِهَا مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَتَخَلَّصُ بِهَا مِنْ خَصْمِهِ - دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَى خَصْمِهِ وَبَيَانِ أَنَّهَا حَقٌّ، فَقَامَ مَقَامَ شَاهِدِ الْقَرَائِنِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجْرَى السُّكُوتَ مَجْرَى الْإِقْرَارِ وَالْبَذْلِ فِي حَقِّ الْبِكْرِ إذَا اُسْتُؤْذِنَتْ؟