المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تحليل قصيدتين صقليتين - العرب في صقلية

[إحسان عباس]

فهرس الكتاب

- ‌الكتاب الأول

- ‌صقلية في العصر الإسلامي

- ‌الفصل الأول

- ‌الحياة السياسية

- ‌1

- ‌ لمحة جغرافية

- ‌2

- ‌ صقلية في العهد البيزنطي

- ‌(3)

- ‌ الفتح الإسلامي

- ‌4

- ‌ الفتن الصقلية في فترة الانتقال من يد الأغالبة إلى بنيأبي الحسين

- ‌5

- ‌ صقلية تحت حكم بني أبي الحسين الكلبيين

- ‌6

- ‌ أمراء الطوائف

- ‌7

- ‌ الحكومة الإسلامية بصقلية

- ‌الفصل الثاني

- ‌الحياة الاجتماعية

- ‌1

- ‌ طبيعة الفتح العربي

- ‌2

- ‌ أهل الذمة

- ‌3

- ‌ الأجناس التي دخلت صقلية

- ‌4

- ‌ الأنظمة المالية والتفاوت في الثروة

- ‌5

- ‌ النهضة الزراعية والصناعية

- ‌6

- ‌ الدين والأخلاق

- ‌الفصل الثالث

- ‌الحياة العقلية

- ‌1

- ‌ صقلية والصلات الثقافية

- ‌2

- ‌ المدارس والمعلمون

- ‌3

- ‌ هجرة الكتب إلى صقلية

- ‌ 4

- ‌ الفقه والحديث والقراءات

- ‌5

- ‌ النواحي اللغوية

- ‌6

- ‌ الزهد والتصوف

- ‌7

- ‌ علوم الأوائل

- ‌8

- ‌ نظرة إجمالية

- ‌الكتاب الثاني

- ‌صقلية الإسلامية في العصر النورماني

- ‌الفصل الأول

- ‌الفتح النورماني

- ‌الفتح النورماني

- ‌الفصل الثاني

- ‌الحياة الاجتماعية للمسلمينفي العصر الروماني

- ‌1

- ‌ العلاقات السياسية الخارجية وأثرها في مسلمي صقلية

- ‌2

- ‌ أثر الإقطاع في الجماعة الإسلامية

- ‌3

- ‌ الإدارة الإسلامية

- ‌4

- ‌ الصبغة الإسلامية في الدولة

- ‌5

- ‌ المسلمون بين التسامح والاضطهاد

- ‌الفصل الثالث

- ‌الحياة العقلية

- ‌مجالاتها الجديدة ونصيب المسلمين فيها

- ‌الحياة العقلية

- ‌مجالاتها الجديدة ونصيب المسلمين فيها

- ‌الكتاب الثالث

- ‌حياة الشعر العربيفي صقلية

- ‌الفصل الأول

- ‌المكونات الكبرى في شعر صقلية الإسلامية

- ‌المكونات الكبرى في شعر صقلية الإسلامية

- ‌الفصل الثاني

- ‌الشعر الصقلي بين القوة والضعففي العصر الإسلامي

- ‌الشعر الصقلي بين القوة والضعففي العصر الإسلامي

- ‌3

- ‌ ابن الخياط وحياة الحرب والفتن أيام الكلبيين

- ‌4

- ‌ وقفته من مشكلة الغيب والغد

- ‌5

- ‌ الطبيعة الريفية في شعره

- ‌6

- ‌ البيئة المدنية في شعره

- ‌ صنعته الشعرية

- ‌7

- ‌الفصل الرابع

- ‌هجرة الشعر من صقلية

- ‌هجرة العلم والشعر إجمالاً

- ‌الفصل الخامس

- ‌ابن حمديس أثر من آثار الفتح

- ‌1

- ‌ مجمل حياته

- ‌2

- ‌ الشعر الصقلي في ديوانه

- ‌3

- ‌ تحليل قصيدتين صقليتين

- ‌4

- ‌ الآثار التي تركتها صقلية في نفسه وشعره

- ‌الفصل السادس

- ‌حياة الشعر في العصر النورماني

- ‌1

- ‌ شعر هذا العصر من حيث الكم والاتجاه

- ‌2

- ‌ وصف القصور والمتنزهات

- ‌3

- ‌ الشعر في البيئة الإسلامية

- ‌4

- ‌ مقارنة بين الشعر في البيئة الإسلامية والشعر في البلاط النورماني

- ‌الفصل السابع

- ‌هجرة الشعر إلى صقلية

- ‌ابن قلاقس الإسكندري

- ‌هجرة الشعر إلى صقلية - ابن قلاقس الإسكندري

- ‌خاتمة

- ‌الشخصية الصقلية والشعر

- ‌1

- ‌ الطبيعة الأرضية وأثرها في الشعر

- ‌2

- ‌ صقلية ملتقى شعوب لا وطن شعب وأثر ذلك في الشعر

- ‌3

- ‌ الموقع الجغرافي والسمات التي تركها في الشعر

- ‌4

- ‌ صقلية بين التأثر والتأثير

الفصل: ‌ تحليل قصيدتين صقليتين

ومن المصادفات أن المعتمد سجن وسيم الذل سنة 484 وتم للنورمان احتلال صقلية كلها في هذا العام، وفقد ابن حمديس صقلية والأندلس معاً، وعادت المقادير فطرحته إلى إفريقية. فوجد نفسه من جديد في بلاط تميم. واجتمعت كل المآسي في نفسه تذكره بالفردوس المفقود - ذكر صقلية وفتنتها وشبابه في وطنه وصحبته للعرب متبطلا يضيع عمره سدى. وافتخر بنفسه واستشعر اليأس من العودة إلى الوطن، ووصف بطولة قومه ورث موتاهم، ومدح تميما لأنه حاول ذات يوم أن ينقذ وطنه فاخفق. وتمثل الحال التي هو عليها فبكى جازعاً لما حل به، ومن يومئذ الفت الدموع مجاري عينيه. وفي قصيدة أو ملحمة من تلك الملاحم جمع ابن حمديس كل تلك الخواطر، فمثل فيها فنه الشعري كله، وكأنها البرزخ بين ما قبلها وما بعدها وسأقف عندها لأن فيها صورة ابن حمديس - ابن صقلية -.

‌3

-‌

‌ تحليل قصيدتين صقليتين

لم تكن السابقة من حديثي عن ابن حمديس أكثر من عرض وترتيب زمني مقارب لنماذج من الشعر قالها منذ أول عهده بالقريض، حتى وقف عند ذلك البناء المتهاوي. يتحدث عند حديث الذي يحس صلته الطبيعة بالحياة انقطعت. لأنه دفن تحت الأنقاض كثيراً من الأحباب، وأصبح التشرد في حياته هو قانون تلك الحياة، وفقد الوطن أي عصر الشباب، أي الأمل، وغدا يحيا الحياة كما تجيء، لا كما يريدها، ويتعلل بأشياء من تفاهاتها فيمدح هذا وذاك، وحيناً يصفق للانتصار - وحيناً يعزى بالانكسار، ولكن نفسه كانت غائبة عن كل تلك المشاهد تحوم فيربوع سرقوسة والقصر القديم ونوطس.

فالقصائد التي قالها في صباه، أو التي في الأندلس وهو يرجو الأوبة، أو التي قالها بعد سقوط وطنه حتى تلك الوقفة عند تميم بن المعز هي التي تهمنا في

ص: 244

هذه الدراسة لأنها هي القصائد الصقلية من حيث الروح والموضوع والزمن. وربما كان عددها لا يزيد عن تسع قصائد.

وليس معنى ذلك أنه نسي صقلية فلم يعد يحن إليها ولكن معناه أن تقلب الحياة به قد باعد بينه وبين تلك المشأة، وحكمت عليه السن بالنضج، واستولى له قدر من التجربة، وقدر من الضعف الجسماني، وكان لهذا كله أثر في تلوين فنه بلون جديد غير ذلك اللون الذي سنسميه صقلياً، وكان له أثره في تغير فلسفته ونظرته إلى وجوده، وإن لم تتغير نظرته إلى صقلية. وقبل أن أنتقل إلى تحليل قصيدته التي يمدح بها تميم بن المعز أود أن أقف عند هذه القصائد الصقلية وأجمل خصائصها العامة لتكون أساساً لما بعدها من نظرات.

هذه القصائد الصقلية من اصدق شعر ابن حمديس عاطفة، وسمتها العامة القوة، لقوة الموضوع، ولذلك نحس أن الشاعر يتدفق فيها بكلام متحمس لا يحتاج إلى تلوين أو تصوير، فليس فيه سند من صنعة، وليس فيه وقوف عند التشبيه وعبادة له. وتغلب عليها روح الجندي الفارس الذي يغرق في الحب والحرب، وفيها النواة الأولى لما سيكون موضوعاً رئيسياً للشاعر - أعني وصف السفن والمعارك البحرية، إلا أن القصائد التي قالها قبل أن يغادر صقلية تدل على أنه كان يعني باللذة أكثر من أي شي آخر، وإذا كان لنا أن نحكم منها على مستقبل شعره، قلنا: إنه كان يصبح شاعر حب وخمر، وإن سواهما من الموضوعات كان يكون ثانوياً بالنسبة إليه. وهذه القصائد الصقلية الخالصة فيها ذهاب بالنفس شديد، ولكن الرحلة إلى الأندلس ثم ضياع الوطن غيرا كثيراً من ذلك الاتجاه، والتأثير الأندلسي يتضح في بعض المظاهر السطحية والمعاني العامة أكثر مما هو فر الروح. ولكن الأثر الصحيح هو الذي أحدثه ضياع الوطن: فنغمة الحزن الجديدة، وتغير نظرته إلى اللذة، والإحساس بالغربة كاملة، كلها تتصل بفقده لوطنه وكلها صبغت شعره بلون آخر غير قوة الشباب.

والقصيدة التي أشرت إليها تمثل هذا الطور من حياته، ففي تحليلها بيان

ص: 245

لمذاهبه في الشعر ولبعض خصائصه ويزيد هذا المذهب وضوحاً مقارنة هذه القصيدة بأخرى قالها بعد ثلاثين عاماً من نظمه للأولى، والموضوع في الثانية تشوقه وحنينه إلى صقلية، وبالمقابلة بين القصيدتين يظهر الأثر الذي أحدثه الزمن في شعر ابن حمديس.

أما القصيدة الأولى فمطلعها:

تدرعت صبري جنة للنوائب

فإن لم تسالم يا زمان فحارب وفي هذه القصيدة يخلق ابن حمديس الفارس الذي فقد قرنه شخوصاً كثيرة ليبارزها، ويصب عليها نقمة يعجز أن يوجهها إلى عدالة السماء أو إلى القدر، فهو يطالعنا بالتحدي أو يطالع به الزمان الذي أودع عنده ثأراً لا يموت، ليقبل الزمن محارباً إن يشأ السلم، فإنه قد عجم من ابن حمديس حصاه لا تلين لعاجم، وهذه الفكرة الحربية تستولي على نفسه فيظن أنه في المعركة حقاً، فإذا به يتحدث عن السيف ومآربه فيه، ثم يشفق من هذه الثورة لأنه يحس ان غدره قليل إذا قيس بغدر الصاحب:

أتحسبني أنسى وما زلتُ ذاكراً

خيانة دهري أو خيانة صاحبي

تغذى بأخلاقي صغيراً ولم تكن

ضرائبه غلا خلافَ ضرائبي

ويا رب نبت تعتريه مرارةٌ

وقد كان يسقى عذب ماء السحائب

علمتُ بتجريبي أموراً جهلتها

وقد تجهلُ الأشياء قبل التجارب فمن هو ذلك الصاحب الخائن؟ أترانا وقعنا على السر الذي فارق الشاعر أجله صقلية وذهب يجوب في الأرض؟

وابن حمديس شاعر عاهد نفسه على أن لا يهجو ولكن أي ثورة هذه التي يعلنها في قصيدته؟ إنه يتحدى الزمن ويهجو الصحراء الإفريقية التي عوض بها عن وطنه:

بلادٌ جرى فوق البلادة ماؤها

فأصبح منه ناهلاً كل شارب

ص: 246

فطمتُ بها عن كل كأس ولذة

وأنفقت كنز العمر في غير واجب

يبيت رئاس السيف في ثني ساعدي

عارضةٌ من جيد غيداء كاعب وإنه ليمقت هذه الصحراء التي لا تجمع له بين الحب والحرب، لأنها ليبست عوضاً صالحاً عن ذلك الوطن، ولأنها لم تحقق له أمنية كان يطلبها:

بصادق عزم في الأماني يحلني

على أمل من همة النفس كاذب فما هي تلك الأمنية التي طلبها في غير وكنه؟ أتراه طلب العلا كما يقول في بعض قصائده؟ وما العلا؟ أم تراه ذهب يطلب المال؟ لست أدري وإن كنت أقف عند التعابير " المالية " الكثيرة في ديوانه، وعد طلبه الصريح أحياناً للمال من ممدوحيه، وأحسن أحياناً بأني لم أستطع أن أقول إن المال كان غاية له. فهل هناك رابطة بين رحلته وبين الذهب وهو يقول لابن عباد في الأندلس (1) .

بالله يا سمرات الحي هل هجعتْ

في ظل أغصانك الغزلانُ عن سهري

وهل يراجعُ وكراُ فيك مغتربٌ

عزت جناحيه أشراكٌ من الغدر

ففيك قلبي ولو استطيع من وله

طارتْ إليك بجسمي لمحةُ البصر

قولي لمنزلة الشوق التي نقلتْ

عنها الليالي إلى دار النوى أثري

نلتُ المنى يابن عباد فقيدني

عن البدور التي لي فيك بالبدر وهل تلك البدرُ هي التي انتزعته من أحضان الوطن؟ ليس من السهل أن يجيب الإنسان على ذلك إن كان يتحدث عن ابن حمديس، لأن مسألة الفقر والغنى غير واضحة في شعره ولن تكون واضحة عند شخص متحفظ في بعض أمور تتصل بنفسه وبيته، متحرج يعرف مواقع القوة ويتحراها، ويعرف مواطن الضعف ويتجنبه، وحسبك مفتاحاً لشخصيته أنه حين رثى امرأته جعل ذلك على لسان ولديه، ولكنه حين رثى جاريته تفجع عليها وتغنى بجمالها، وفي هذه

(1) القصيدة رقم 127.

ص: 247

اللمحة دلالة نفسيته حيت تتصل الأمور بحياته اتصالا وثيقاً.

إذن فهو ثائر في قصيدته ناقم مغيظ يتهجم على الزمن ويتمرر بذكر الخيانة ويهجو الصحراء وسكانها، ويأسى على غبن ناله بها بعد وطنه، ويعلن أنه لا يجد من يأنس إليه بل لعله أحس أنه أصبح منبوذاً يضيق الناس به، شريداً غريباً لا وطن له، حتى طيف كان يزوره في المنام أصبح يصد عنه مزوراً:

ولا سكنٌ إلا مناجاةُ فكرة

كأني بها مستحضرٌ كل غائب

ولما رأيت الناس يرْهبُ

تجنبهم واخترتُ وحدةَ راهب

أحي خيالٌ كنت أحظي بزوره

له في الكرى عن مضجعي صدَ عاتب

فهل حالَ من شكلي عليه فلم يزُرْ

قضافة جسمي وابيضاض ذوائبي وسكن قليلا حين ذكر الطيف واستحضر كل غائب - كل ما عرفه بصقلية، فإذا به يذكر الوطن أو السماء التي كان يطلع فيها كوكباً، وعرج على صداقاته ونداماه، ووقف عند الخمر ولم يستطع أن يخفي علينا السبب النفسي الذي حمله على تلك الثورة المستطيرة، وانقلب السكون من جديد إلى صيحة تطير في أذيالها النقمة والأسى، إن سبب تلك الثورة الحانقة معروف لنا حتى ولو لم يصرح به، إنه عجزه عن أن يعود إلى وطنه:

ولو أن أرضى حرةٌ لأتيتها

بعزم يعد السير ضربة لازب

ولكن أرضى لي بفكاكها

من الأسر في أيدي العلوج الغواصب

لئن ظفرت تلك الكلاب بأكلها

فبعد سكون للعروق الضوارب ولقد عرفنا ابن حمديس من قبل يثنى على أعدائه ويصفهم بالشجاعة والقوة، ولكنه في هذه الفورة من الغيظ نسي كل ذلك وأقذع في السب، وهو عفيف اللسان، وعذره العجز وقلة الحيلة التي يصورها قوله " كيف لي بفكاكها من الأسر " - كلمة أسير مقيد في الأصفاد يريد أن يبلغ وطنه فلا يستطيع.

ص: 248

وهذه الأصفاد هي التي تغل روحه الشاعرة في هذه القصيدة وتشد فيجيء شعره صيحات من الغضب والنقمة والسخط والتحدي.

وابن حمديس يخفي تحت السخط والنقمة حزناً مكبوتاً مكفوفاً ليس له مسرب يتصعد فيه أو ينحدر. وكيف يكون له مسرب وهو قد بدأ قصيدته بالتجلد وادراع الصبر. وهذا الكبت في الحزن آت من حقيقة واحدة لو وجدت في القصيدة لاتخذت شكلا آخر. وتلك الحقيقة هي فقدان صوت " الصارخ الفزع " - إنه يتفجع على وطنه ليستصرخ لناس ويستنجدهم ويهيب بهم العمل من أجل وطنه باسم الدين أو باسم الجهاد، ولا يتحدث عن وطنه ليستمد منهم عطفهم ودموعهم، هو ناقم حقاً ولكن على من؟ إنه مع إعلانه في القصيدة بمسؤلية بني وطنه، لأنهم تفانوا في فتنة وحصلوا وحطبوا لنارها - مع ذلك كان شعره الداخلي يحدثه أن هنالك مسئولية أكبر تقع على عاتق المسلمين الذين تخلوا عن صقلية حين كانت في حاجة إلى نصير، ولكن عوامل نفسية من القوة لم تخل بينه وبن الإفصاح عن هذا الشعور، فذهب يتحدث عن غدر الصاحب وخيانته. وأكبر الظن أنه ليس هناك صاحب معين، وإنما ذلك رمز إلى كل المسلمين الذين تجاهلوا الأخوة الإسلامية والقرابة الدينية، وتركوا صقلية تعاني الموت وحدهها، وهو مندهش مستغرب من السلبية المطلقة التي واجه المسلمون بها ضياع وطنه، حيران في أمره وأمر المسلمين معه، وأقوى شيء يصور هذه الحيرة تساؤله الجازع " كيف لي بفكاكها من الأسر ".

لم يكن ابن حمديس يحمل بني وطنه مسئولية ضياعه، كما فعل بعض الشعراء الصقليين، لأنه كان يقدر دور الجهاد الذي قامت به سرقوسة ونوطس وقصريانة، فهو إذا تحدث عن الفتن بين قومه مر بها مروراً سريعاً لأنه موضوع يكرهه ويراه مناقضاً لما يحس به حقيقة، ولعل الذي حمله على التعرض له في هذه القصيدة وقفته أمام تميم الذي حاول إنقاذ صقلية، وكانت فتنة صقليين من أسباب الإخفاق الذي منى به جيشه، وأحب من هذا الموضوع إليه أن يتحدث

ص: 249

عن بطولة قومه في الحرب البرية والبحرية وعن بلائهم في الروم، ليكون هو واحداً منهم وليعيد من أبطالهم ويتحقق وجوده النفسي في وجودهم، ولكن تلك البطولة قذفت بهم في هوة الفناء فغاروا كما تأفل النجوم " وأبقوا على الدنيا سواد الغياهب " ولم تكن الدنيا التي أبقوا عليها ذلك السواد إلا التي كانت تراها عيناه، ومن خلل السواد أخذ يتطلع في حسرة إلى المعاهد والديار، وبعد أن كان يتحدى الكون، تحدته شعلة الحنين في صدره فإذا به يبكي كالضعيف:

ألا في ضمان الله دارٌ بنوطس

ودرت عليها معصرات الهواضب

أمثلها في خاطري كل ساعة

وأمري لها قطر الدموع السواكب

أحن حنين النيب (1) للموطن الذي

مغاني غوانيه إليه جواذبي

ومن سار عن أرض ثوى قلبهُ بها

تمنى له بالجسم أوبة آيب وفي كل تحية وداع أو خاتمة قصيدة يغلب الحزن ذلك الرجل القوي فتتساقط الدموع من عينيه.

هذه القصيدة بناء شاهق وأكثر قصائد ابن حمديس أبنية شاهقة فيها أجزاء كثيرة تجعل منها في النتيجة كلاً ضخماً كبيراً - كما تمتاز قصائده العاطفية الأخرى التي نظمها في هذه الفترة - بعد ضياع صقلية مباشرة - بوشيجة تنظم أجزاءها وتضمن لها الاتساق والانسجام، فهي بناء ضخم من حيث النغم وتراكب الأجزاء وتسلسلها، ومما يلفت الانتباه أن أكثر قصائده في هذه الفترة بخلاف المقطوعات التي نظمها وهو في صقلية جاءت على البحر الطويل.

وإذا كانت صقلية هي موضوع القصيدة لم يحس الإنسان هذه التجزئة في القصيدة ولكن ابن حمديس، حين كان يفقد التعطف بينه وبين الأشياء التي يتحدث عنها، كان يرقص نظره بين أجزائها ويسافر فيها مستقصياً ليتكلم عن كل جزء على حدة - ذلك اصبح شأنه إذا وصف قصراً أو أسداً أو سفينة أو أي

(1) في الديوان: حنين البنت.

ص: 250

شيء آخر، يحضر الأشياء المبعثرة كلا على حدة ويسلم نفسه إلى التشبيه ولا يعنيه من بعد أن يكون منها صورة مغمورة بالانسجام، ولست أدعي أن الوحدة مفقودة في قصائده - وقد تكون - ولكني أحس بالفرق بين القصائد التي تزخر بالعاطفة والحنين إلى صقلية وبين غيرها من القصائد. فابن حمديس الشاعر الصادق، لا الشاعر الصانع، هو ابن هذه الفترة الغارقة في أحلام صقلية. أما القصيدة الثانية فمطلعها (1) :

قضت في الصبا النفس أوطارها

وأبلغها السيب إنذارها وفي هذه القصيدة يريد ابن حمديس أن يجمع أمامنا أجزاء ذكريات قديمة فليس من الغريب إذا جمعها مبعثرة، لأن ذا ذاكرته تقفز من منظر إلى آخر. وإنما يوحدُ بين هذه المناظر أنهها مستمدة من الماضي ومن صقلية، وتنبسط صورة الخمر - التي أصبح محروماً منها - على كل منظر وتصرف الشاعر عن إطالة النظر إلى المناظر الأخرى. وتركه للخمر حين نظم هذه القصيدة حقيقة هامة تفسر هذا الاضطراب في ذكر الخمر ثم الانصراف عنها والعودة إليها وهكذا، والدليل التاريخي على هذه التوبة تصريح ابن حمديس نفسه في غير قصيدة أنه تارك ما ارتآه في الصبا وقوله في قصيدة كتبها إلى ابن عمته أبي الحسن وهو في سن الستين (2) :

فرغتُ من الشباب فلستُ أرنْو

إلى لهو فيشغلني الرحيقُ

ولا أنا في صقلية غلاماً

فتلزمني لكل هوى حقوق

ليالي تعمل الأفراح كاسي

فمالي غير ريق الكأس ريق

تجنبتُ الغواية عن رشاد

كما يتجنب الكذبَ الصدوق

وإن كانت صبابات التضابي

يلوحُ لها على كلمي بروق

(1) القصيدة رقم 110.

(2)

القصيدة رقم 215.

ص: 251

وقد نظم هذه القصيدة في الستين أيضاً ففيها اعتراف الفنان لنفسه لا للناس بأن الخمر هي محبوبته الجميلة، وإن يكن انصرف عنها، وللسن حكمها ومن ثم لن تسمع ذلك النغم الصاخب الثائر الذي سمعته في القصيدة السابقة، ولا تلك القوة التي تتحدى الناس أجمعين، فلا السيف من آلاته، ولا الغضب من أدواته - إنه أفنى آلات الحرب ووقع في عمر مسالم هادىء، خمدت فيه الجذوه القديمة ولم تبق غلا ذكراها - لا وطن ولا شباب، هذه هي الغربة الكاملة التي أحسسها ابن حمديس حينما كبر ولذلك نسمعه في بعض قصائده إذا ذكر الوطن صدر قصيدته بذكر الشيب - وهو غربة عن الزمان الجميل - ثم ثنى الكلام إلى الوطن - وهو غربة عن المكان الجميل - وأصبحت تلك النقلة في الزمان والمكان هي المؤثر الوحيد في نفسه وشعره، ولو كانت ذات طرف واحد لما كان حزنه بهذه الحدة.

وفي هذه القصيدة غاب الوجود كله من حوله وانعدمت صور الأشياء من ذاكرته إلا صورة ليلة ساهرة قضاها في صقلية. كانت ليلة ذات أشباه، رأى فيها شيئاً واحداً تعددت له الآسباب، رأى الخمر فذكرته بالساقية، ثم رأى الندامي فعاد يتحدث عن الخمر، ثم تذكر ليلة في دير فرجع إلى الخمر؟ رأى الخمر في عدة أوضاع وأحس بها هنا وهناك كأنما تخيلها تتسرب كالروح في جسم الوجود، رآها في يد الساقية ليلحظ اختلاط لونها بخضاب كف الساقية كأنه رأى المعجزة أو اتحاد العنصرين، وهو كلف بالعناصر فإذا تغزل خاطب حبيبته بقوله (1) :

عذبتني بالعنصرين

بلظى حشاى وماء عيني فللعنصرين في شعره سيطرة بعيدة المدى. ورأى الخمر بين الندامى تبعث الضياء وتنسج شبكاً من الحباب تصيد به ما يحاول منها أن يطير، ورآها في الدير

(1) القصيدة رقم 310.

ص: 252

واهتدى إليها برائحتها الجميلة، وإلى جانبه نديم متفرس عارف بالخمر يستطيع أن يحسب عمرها من رائحتها.

في كل حين وقفة عند الخمر، تتردد فيها المعاني الخمرية التي اشرت إليها من قبل نى الخمر الصقلي عامة، وهي اجتماع العنصرين، وفكرة الشبكة والصيد، واستمداد بعض الصور الحربية في قتل الخمر للهموم أو شنها الغارة عليها. وليست هنا وقفة عند الخمار أو الساقية أو الندامى أو لون الخمر وأثرها بقدر الوقوف عند رائحتها، فهي التي هدت الشاربين إلى نفسها بما أذاعته من سر لأنوفهم، وهي عديل المسك في دراين، والمتفرس فيها يزكيها برائحتها وشم طيبها.

وتمام ذلك المجلس الخمري صورة القيان والمغنيات والراقصة، والقاعة مضاءة بالشموع التي تحمل الدجى على رأسها، وتحاول أن تهتك أستار الظلام بالنور، وكأن الآجال مسلطة على أعمارها فهي تنمحق ولا تفنى في يسر. ولم يقل ابن حمديس إن هذه الشموع مثله تسعى إلى الفناء مع أنه كان يحس بمر الزمن ويعد عمره عدا. ولم يتعز بمنظرها وهي تموت فقد كان يريد أن يبعد فكرة الموت عن نفسه لأن الموت لا يتفق والشباب، وهو في هذه القصيدة يصور الشباب. ولكنه في واقع أمره كتلك الشموع - حمل مسئولية الأسى على رأسه طيلة عمره، من شدة أسفه على وطنه وشبابه فيه، حتى ليقول لنا إن الناس قد بكوا الشباب ولم ينصفوه، وجاء هو يستدرك ما فات الناس جميعاً (1) :

بكى الناس قبلي فقد الشباب

بدمع القلوب فما أنصفوه

وإني عليه لمستدرك

من البث والحزن ما أهملوه وهو كتلك الشموع صهر نفسه شعراً حزيناً منيراً بصدق العاطفة، وهو الذي ينمحق عمره بما سلطه عليه من أجل.

وقد اختلفت هذه القصيدة في النغمة عن سابقتها فليس لها ذلك الشكل

(1) القصيدة رقم 327.

ص: 253

" القوطى " الضخم، ولكنها حزينة ذابت في أثنائها وطواياها تلك الفحولة التي كانت تملى قصائد الشباب، وخفقت تلك الفروسية التي كانت تشيع القوة في النفس، وفيها أوتي ابن حمديس القدرة على التعبير الجميل - لا التعبير القوي كما في أختها السابقة - إذ كان الحزن قد مسح شعره بهذه المسحة المحببة، وكان نضجه في السن قد صرفه عن القوة إلى محاولات أخرين يزين بها شعره. فالقهوة تذيع لأنفك أسرارها، وفي التردد بين الحركة والسكون جمال عجب يتمثل في قوله:

وقد سكنت حركات الأسى

قيان تحرك أوتارها وتكاد القصيدة كلها تكون نموذجاً لجمال التعبير، وفيها القدرة على التصوير الجميل. وكصورة الشموع التي تقل الدجى على رأسها:

تقل الدياجي على هامها

وتهتك بالنور أستارها وفيها صورة بارعة الراقصة وخفة حركتها. ومع ذلك فإن الشاعر لا يزال في بعض صوره يذهب مع تلك المبالغات التافهة المحلية، وهي أمور تسربت إلى شعره منذ البدء فلم يسلم منها من بعد، فالدن مضمار للكوب، والدموع أنهار صقلية لولا ملوحتها - مبالغات فيها الاستجلاب المتكلف لصورة بعيدة أو حقيقة مستحيلة، واجتمع إلى القدرة على التعبير الجميل تلك الحركة التي تنبض بها كل صورة وكل لفظ..

وربما كان يستعين على التصوير بالتحريك لأنه يحس بسكون القوى الطبيعية في جسمه، وتأمل كيف يخونه الضعف الجنسي الذي صار إليه فيعلن عن نفسه بقوله في القيان:

فهذى تعانق لي عودها

وتلك تقبل مزمارها وكلمة " لي " في هذا البيت، التي تدل على الملكية والتخصيص إنما

ص: 254

تؤكد ضياع لك الملك الذي كان - ضياع قوة الشباب، ولكن الشاعر قد نسى واقعه وهو يخلق هذه القصيدة، وعاش في فترة الشباب يوم كانت تلك الملكية من أدواته.

وسواء أحس الشاعر أم لم يحس بضعفه فإنه لجأ إلى أمور يخفى بها وجه ذلك الضعف، فاستمد من روح الفتك القديمة بعض تعابيره:

خطبنا بنات لها أربعا

ليفترع اللهو أبكارها وتلاعب تلاعباً جميلاً - لفظياً كان أو معنوياً - ليزين الصورة:

طرحت بميزاتها درهمي

فأجرت من الدن دينارها أو جانس في اللفظ أو اتكأ عليه - كما كانت تضغط يده على العصا - وهو يشد على الحروف شداً يخيل إليك معه أنه يفتعل القوة افتعالا.

فالساقية " زرّرَت " أزرارها والقيان " سكَّنت حركات الأسى، وواحدة منهن " تقبل " مزمارها والشمع عمد " صفَّفت " وهي " تقلّ " الدجى على هامها وكأنها " تسلط " عليها آجالها " فتمحق " أعمارها والأسى " يهيج " التذكار وهكذا في كل قصيدة حتى لتستطيع أن تصلح بعض الروايات في قراءة أبيات معنية منها فابن حمديس لا يقول في هذه القصيدة " وراهبة أغلقت ديرها " ولكن يقول " غلقت " ولا يقول تثور فيقتل ثوراها وإنما يقول " فإن ثرن قتل ثوارها " حتى إذا انتهى الوصف في هذه القصيدة ووقفت الحركات، وقف ابن حمديس - كما يفعل دائماً - وقفة الحزين الذي يجر لحنه الأخير جرا ليشعرنا بأنه قارب النهاية فقال:

ذكرت صقلية والأسى

يهيج للنفس تذكارها

ومنزلة للصبا قد خلت

وكان بنو اللهو عُمارها

فإن كنتُ أخرجت من جنة

فإني أحدث أخبارها وعند هذه الغاية نشهد آدم القديم يتحدث عن نفسه وعن لجنة التي أخرج

ص: 255

منها. غير أن آدم أخرج من الجنة حقا فهل خرج ابن حمديس من جنته مختارا أو وجد من أخرجه؟ ويعود هذا التساؤل يثير الحيرة في غربة مختارة أو غير مختارة، وحسبنا أن حمديس يقول إنه أخرج من هذه الجنة دون أن يذكر لنا الخطيئة التي أخرجته أو الثمرة المحرمة التي أكل منها. ولكن من تتبع ابن حمديس في ديوانه يجد " الذنب " شبحاً يلاحقه كقوله في غربته (1) :

ألم ترَ أنا في نوىً مستمرة

نروح ونغدو كالمصر على الذنب وقوله في الصحراء (2) :

كأنك في ذنب عظيم بقطعها

فأنت إلى الرحمن منه تتوب وتتردد صورة آدم في نفسه فيقول (3) :

قد كنت في عهد النصيح كآدم

لكن ذكرتُ هوى الدمى فنسيت ولست أرى بأساً من اعتبار ابن حمديس تحت ظل ذنب معين بهذه الأبيات وغييرها.

نعم إنه آمن بأن حياة اللهو كانت ذنوباً، وأظهر الندم عليها في آخر عمره، وكانت صورة جده الشيخ الناسك الذي ضمه إلى صدره تتعرض من وراء السنين لتنظر إليه نظرة لوم على حياته اللاهية، ولكن لعل الخطيئة الكبرى كانت تشغل حاله، والخطيئة الكبرى في حياته أنه قصر حتى في حق وطنه، وإذا كان آدم قد نسى فأكل من الثمرة فإن ابن حمديس نسي الثمرة حين كانت في حاجة إلى رعايته. لقد رأيناه يحرض الصديق على أن يموت دفاعاً عن وطنه فلم لم يقل هذا لنفسه؟ ورأيناه دائماً يتمدح ببطولة قومه ليمدح نفسه فيهم، ويتستر وراء حادثة أن اثنتين باشر فيهما العمل فعلاً من أجل وطنه، ولكن ضميره كان يحدثه

(1) القصيدة رقم 28.

(2)

رقم 29.

(3)

رقم 47 وانظر أيضاً رقم 40.

ص: 256

بالذنب الذي ارتكبه، ومن ذلك الذنب نجمت طائفة كبيرة من الحزن الذي ظل يصبغ حياته حتى لقي الأجل، وقد كنا نتساءل خرج من صقلية فدعنا نسأل لم لم غليها، ففي الجواب على هذا السؤال تفسير لفكرة الذنب. لقد قال لنا إنه يعيش في ظل مثل معنية ولا يطيق أن يرجع إلى بلد فقد حريته:

ولو أن أرضي حرةٌ

بعزم يعدٌ السير ضريه لازب

ولكن أرضي كيف لي بفكاكها

من الأسر في أيدي العلوج الغواصب وحدثنا أنه يطلب العلا وتكلم عن ذلك كلاماً مبهماً. أما في الحقيقة فإنه لم يرجع لأنه كان يتمثل وطنه عاتباً عليه، وكان ذا حس مرهف بمرارة ذلك العتاب، فآثر الغربة ليغسل بدموعه ما كان يعده ذنباً. لم تكن عودته مستحيلة حتى أيام الحكم النورماني، وكان أهله يكاتبونه لعله يعود، فكان يقول لهم: كيف أعود إليكم وأمري بيد القضاء وبأي عين أراكم شيوخاً بعد أن عرفتكم شباباً، وتروني شيخاً بعد أن عرفتموني غلاماً، ولم تغربت؟ ألا تذكرون أنني أطلب العلا (1) :

وكيف أرى لي قْصدَ وجهي إليكمُ

إذا كان في كف القضاء زمامي

وما هي إلا غربة مستعمرةٌ

أرى الشيخ فيها بعد سن غلام

كأن قذالي بالقتير معوضٌ

قبيلة سام من قبيلة حام

وما شيبَ الإنسان مثلُ تغربُ

يمرّ عليه اليوم منه كعام

وهل رحتُ إلا طالباً بالنوى علاً

كأني منها للنجوم مسام لم يكن ابن حمديس كاذباً في حزنه على وطنه وما صار إليه قومه، ولكنه كان مغلوباً بطمع واحد صرف قوته في وجهة أخرى - ذهب يطلب العلا - ولا أستطيع أن أفهم من هذه العلا إلا أنه ذهب يطلب الشهرة بالشعر. كان ذلك هو حلمه منذ أن أصبحت تطيعه القوافي - وإن لم يصرح لنا بهذا - ولم تكن

(1) رقم 282.

ص: 257