الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصحيحين من داره؟ هل رأيت مسلماً يخرج الصحيحين من داره؟ " وظل يردد ذلك أمام الحاضرين حتى شعر ذلك التلميذ بالندم الشديد (1) . وهكذا تلمس هذا الازدواج في النفس الواحدة وتراها مقلبة بين التساهل والتشدد.
2
-
صقلية ملتقى شعوب لا وطن شعب وأثر ذلك في الشعر
وأهم حقيقة ذات أثر في تكوين الشخصية الصقلية أن صقلية جزيرة في البحر وأنها في ذلك الموقع المتوسط ملتقى يجتمع فيه المسافرون، ويقف عنده المتحاربون، يوم أن كان البحر المتوسط مسرحاً للحضارات وطريقاً للحركات التجارية. فهذا الموقع هو الذي منح صقلية هذا اللون من التاريخ - أي تاريخ جزيرة يتعاقب عليها الغالبون أصحاب السيادة في البحر المتوسط، ولكنها لم تفقد أبداً الروح التي كانت تدفعها إلى الاستقلال حتى لحظ أحد المؤرخين المسلمين أنها لم تزل في يد متملك لا يطيع من حوله من الملوك (2)، غير أن هذه المحاولات كانت دائماً فردية لا تنبثق من نفسية الشعب الصقلي - إذا صح أنه كان هناك مثل هذا الشعب. يقول المؤرخ فريمان:" ولما كانت ملتقى الشعوب وميداناً للصراع فيما بينها لم تستطع أن تكون وطناً ومهداً لشعب واحد؟ ومن ثم لم يتكون فيها شعب صقلي "(3) وفي هذا القول قسط كبير من الحق، وإن كنت لا آخذه على علاته، فأن الروح الوطنية في آخر العصر الإسلامي كانت قد نمت قليلاً، ولو استمر بها الحال لكان هنالك الشعب الصقلي الذي يشعر أنه ابن صقلية، ولكن الظروف لم تمهل هذه الروح طويلا فلم يطل تمتعها بالحياة - نعم
(1) السلفي 2/ 416.
(2)
المكتبة: 115.
(3)
Freeman؛ Hist، of Sicily، vol. I، P. 4.
كانت صقلية الإسلامية جزءاً من عالم يدين بدين واحد ولكنها في البحر والمحيط بها استطاعت أن تنبت أجيالا صقلية المشاعر مسلمة الدين. إلا أن الهجرات المستمرة وغلبة العناصر الغريبة على بعض نواحي الحياة فيها كانت تضعف من قوة هذه الروح أيضاً. ولذلك رأينا مع الشعر الصقلي دائماً شعراً آخر يعيش إلى جانبه هو الشعر المهاجر الوارد إليها من إفريقية وغيرها.
وفي هذه الحقيقة، أي القول بأن صقلية كانت ملتقى شعوب ولا وطناً لشعب صقلي نجد تفسير الضعف الذي نلمسه في إقليمية الشعر أو وضوح النواحي الإقليمية فيه - وهي حقيقة تضاف إلى ما تحدثت عنه من عوامل كروح المحافظة، وحب التقليد للأمثلة الشرقية، والإيمان بمبادئ النقد التي تكونت في المدرسة الإفريقية، وكون هذه الأجناس التي افتتحت صقلية وتعهدت الشعر فيه إنما هي إجناس حظها من المقدرة اللغوية والأدبية، فإذا وضعنا كل هذه الأسباب معاً عرفنا غلبت الصبغة التقليدية على الشعر في أدنى صورها. حتى إنا قلما نعثر بشعر قد اخترق أسوار التقليد وشق لنفسه طريقاً جديدة، أو طريقاً فيها شيء كثير من الجدة.
فالصبغة العامة للشعر هي الصورة التي نلمحها في الشعر العربي حين أصبح نماذج مكررة يسري عليها التقليد، وتتمشى فيها المبالغة بقدم عنيفة، ويتوارثها الشعراء كأنها ملك عام لهم، في هذا الشعر لا يزال النهد كالرمان والورد يلوح من الوجنتين، والعذار ميدان لهم يتسابق في وصف جماله الشعراء، والفم لؤلؤ من شقيق، والجفن حد سيف مرهف. ولا يزال الشيب والخضاب فيه موضوعاً للأسى والأسف ومفتاحاً لتذكر الشباب واسترجاع الندم على فواته. حتى التعبير عن هذه الحقائق لم يصبح موضع تميز يفرد شاعراً عن شاعر حتى يقال فيه ما كان يقوله الأقدمون قد استحق هذا المعنى وأصبح به جديراً - ولا يزال الشاعر يفيء إلى ما اختزنه من دراسات في الصبا فإذا رأى الجميل ذكر يوسف
ذكراً عابراً، وإذا قيل له أنت قد سرقت قبلة وحد واجب عليك، تفقه في الجواب بقوله: إن الحد لا يجب إلا في السرقة من حرز، وإذا رأى المرجان الذي تصنع منه التماثيل اذكر داود الذي ألين له الحديد. وهو في هذه الإشارات والتلويحات يبني على أسس كانت حية فأحالها إلى التركز والثبات، وأخذ يستدعيها لتعينه على نقل أفكاره ومشاعره. وكلما انصرفت نفسه إلى الليل لم يستقل بتصوير تأثره، ولكنه كان دائماً يستحضر معنى النابغة فيه، فهو إلى جانب مخزوناته من فقه وقصص قرآنية يفيء إلى ما يملكه من معان شعرية ومن أمثال وحكم لقنها في نشأته. وكان اهتداؤه إلى هذه الأمثلة المقدسة المرعية هو الشاعرية الحقة في عصره، ومن الظلم أن نحاسبه في الشعر بما نحب ونكره، حتى التكرار الممل الواحدة في تلك العصور لم يكن أمراً منكراً يضيق به الناس كما نضيق به نحن اليوم.
فالشعر الصقلي بهذه النظرة هو الطاقة التي هيأت لها جميع النواحي في الحياة من اجتماعية وثقافية وسياسية، فهو كفاء بحاجة الناس الذين من أجلهم وجد وعن نفوسهم عبر. وعلى هذا الاعتبار - أي على أنه طاقة اشتراك في إخراجهم عوامل متعددة حتى كانت على هذا الوضع - يتقدم الدارس لدراسته. فالضعف فيه ظاهر بالنسبة لمقاييسنا. ويتجلى الضعف في أشد حالاته حين تكون المقاييس التي نستعملها فنية - عندئذ يتفتت هذا الشعر ولا يقف عند مقياس فني. ومن ثم تجنبت الحكم على فنية هذا الشعر قدر المستطاع، وإن كان من العسير كثيراً أن أدرس هذا الشعر وأخرس أثناء دراستي له صوت النقد، فاقل ما في هذه الطاقة وأضعفه جانبها الشعوري، حتى ليقال إن حظ هذا الشعر في الضعف وفير في كل ناحية - التعبير قاصر في الأكثر، والموضوع ميت لا حياة فيه. وقد حاول ابن حمديس أن يجعل صقلية موضوعاً لقصيدته، ويجعل فكرة الوطن محط التعبير في شعوره، فلم ينجح كثيراً وعاد يتأثر التقاليد الموضوعة ويخلط بين صقلية وبين الطلل - والدراسات الفقهية
تغمر هذا الشعر بقواعدها، والوعظ الديني يسيطر عليه بنصائحه ومقاييسه الخلقية. وفكرة المناظرة تنخر فيه - فمناظرة بين الشيب والشباب، والسوداء والبيضاء - وكلها تدور في رأس الشاعر الذي يحاول أن ينتصر للشيء وضده، ويظهر بذلك براعته. وهي لوثة جاءته من المشرق أيضاً. والشكل ظاهر على كل ما حوله عند الشاعر وهمه أن تتوفر له المقدمة ثم يتوفر له التخلص ولا يعنيه بعد ذلك شيء في اللب الذي تقوم به القصيدة. وللغزل والرثاء وغيرهما طابع لا يفارقه الشاعر. فكل غزله تذلل وشكوى وضراعة وسهر.. إلخ، وكل رثائه جار على نمط قول الشاعر الصقلي:" للموت ما يولد لا للحياة ".. والتذكير بأن النفس عارية مردودة، والتهويل بالفاجعة التي كادت تهز أرجاء الكون أو لعلها هزتها بالفعل - كما يفعل أبو تمام في مراثيه - هذه هي حال الشعر فيما يتناول من أمور، ودع عنك ما سقط الشعر دون تناوله فذلك كثير - وقد بينت منه طرفاً في فصول سابقة.
بهذا الضعف يقف الشعر الصقلي إذا قورن إلى أمثلة من الشعر العربي نفسه، فكيف لو حاولنا أن نضعه بازاء الشعر اليوناني كما فعل البارون فون شاك؟ إننا عندئذ نقدم قزماً إلى جانب عملاق ضخم، وهي مقارنة غير مستجلبة أو مقتسرة؟ على أي حال؟ لأن الأدبين عاشا في الجزيرة وخضعا لبيئة طبيعية متشابهة، وتكاد النتائج التي تتمخض عنها أية مقارنة لا تكون أسوأ من هذه النتائج التي تحصل عليها حين نجري المقارنة بين ما أنتجته صقلية الإسلامية وما أبدعته هيلاس (1) .
وقد لحظ شاك أن هذا الشعر العربي الصقلي يشارك الشعر العربي الأندلسي خصائصه الأساسية، وإذا قلنا الأساسية كان هذا القول صحيحاً لأن التمييز الفارق
(1) Shack؛ Poesie und Kunst der Araber in Spanien und Sicilien VOL، 2. P.1.
في الشعر الأندلسي - فيما يظهر - كان قليلاً، ولكنه على أية حال أظهر تميزاً من الشعر الصقلي. ويجد شاك سر هذا التقصير في أن العرب يتذبذبون في دائرة ضيقة من الآراء والأفكار، وهذا ما يوصف عادة بروح المحافظة الغالبة عليهم. وهم قد جهلوا أساطير الأمم التي سبقتهم فلم يعرفوا شيئاً عن نبع أرثوسة وعن وادي يانة حيث كانت برسيفونة وصواحبها يجمعن الأزهار، ولم يكونوا يعرفون شيئاً عن عالم الأوديسية إلا ما تسرب منها إلى أسطورة السندباد، ولم يرد لأتنا الشامخ ذكر في شعرهم أبداً مع أن جغرافييهم وصفوه وصفاً دقيقاً. ولا جذب انتباههم تلك العظمة المتداعية التي كانت تمثلها المدن وهياكلها، لا شيء من ذلك أبداً (1) .
حقاً إن المسلمين لم يعرفوا شيئاً من هذا الذي يذكره شاك لأن قداسة الأمور الأرضية كان قد انتزعت من أنفسهم وعادوا يرون في أرثوسة وإتنا مظهراً عادياً، ولكنهم مسئولون عن إغفالهم الجمال - لا القداسة - في هذه المناظر وقد حاولت من قبل أن أشير إلى ضعف صلتهم بالبيئة الريفية في وطنهم لأسباب ذكرتها هنالك.
ويرى هذا المؤرخ الناقد أن الشعر العربي في الغرب كان نبتة من ارض بعيدة، يتوقع لها أن تستمد أنواعاً جديدة من التغذية، حيث زرعت في التربة الجديدة، ولكنها تغيرت قليلا في شكلها في هذا المناخ الغريب، ولم تتغير شيئاً في أصلها.. فكانت الصحراء هي التي تمد الشعراء بالمادة والصور في قصائدهم، وإذا كان شعراء أوروبة الحديثة يفيئون إلى ما تلقوه في دراستهم من أدب يوناني أو روماني، فإن الشعراء العرب كانوا يرون مصادر وحيهم في الحياة البدوية وما فيها من أبطال وشعراء، ومنها استعاروا اصطلاحاتهم وتعابيرهم. فإذا تصوروا " أركاديا " تمثلوا وادياً مقفراً بين جبلين من الرمل تقوم فيه أطلال مية؟ الخ ولعب الجمل والغزال في قصائدهم دوراً هاماً مع أنهما غير موجودين بصقلية.
(1) op. Cit. P. 9
ولعل صنعاء التي لم تكن خيراً من بلرم في ازدهار عهدها كانت مثال الحضارة ومحط السعادة في نظرهم، وأمراء غسان والحيرة (1) يتبدون لخيالهم أعلى ما بلغه العالم من أبهة وجلال (2) .
ولست أرى في هذا الحكم جوراً على الشعر الصقلي، بل لعلني ذهبت إلى أبعد من ذلك فلم أبد إعجابي بذلك الشعر الذي يصور القصور والمتنزهات والبرك وأشجار الليمون والنارنج ويصف الحدائق والأزهار - لم ابد إعجابي بهذا الشعر الذي يفرده شاك بالعناية ويعده أصدق ما يمثل الطبيعة الصقلية حين يقول " وننصت بإعجاب إلى هؤلاء الشعراء حين يصورون الدور والقصور والزخرفة الفنية والسقوف في أبهاء القصور والعرائش والنافورات المرسومة في أشكال أسود ينبعث الماء من أفواهها. وننقاد في سرور أيضاً وراءهم حين ينتقلون بنا بين الأشجار الخضر حيث يلتمع الليمون من بين الأوراق ويبسق رأس النخلة في السماء؟ ونرحب بهم حين يطلقون العنان لعواطفهم ويتغنون بالحب البدوي دون توار أو مواربة. أو حين يصفون خمر سرقوسة ولياليها الصاخبة مصحوبة بأنغام المغنية وألحان الجواري على الناي، أو حين نسمعهم يتحدثون عن الإسلام الذي اندحر في خضوع أمام المسيحية، أو حين يمدحون الملك النورماني ويصورون روعة بلاطه، ويرسمون لنا حالة حضارة هي بين المسيحية والإسلام. فإلى هذه القصائد التي كانوا يبتعدون فيها عن التقليد ويستوحون المحيط بهم نريد أن نوجه اهتمامنا وفي هذه القصائد وحدها تخيم على الشعر الصقلي شخصيته المتفردة (3) .
في هذه النواحي التي يعددها شاك يكاد يكون الشعر الصقلي صادقاً لبيئته حقاً ولكنه صدق وحسب. أما الأصالة الفنية في هذا الشعر فشيء نادراً جداً وكثير من هذه الصور التي يذكرها شاك مستمدة من ابن حمديس نفسه مثل
(1) في نقش شعري بقصر رجار أنه فاق الخورنق والسدير.
(2)
Schak؛ VOL، 2، p.10 - 11
(3)
op. Cit. P. 10 - 11
ليالي سرقوسة وخمرها والحديث عن الإسلام الذي ارتد على أعقابه أمام المسيحية، وهي صور جميلة في الواقع، فابن حمديس قد استطاع أن يرتفع بالشعر الصقلي ارتفاعاً يجعل له موضعاً بين سائر الشعر العربي، وأما تلك المدائح التي كانت تقال في الملك النورماني أو التي قبلت في وصف المتنزهات والقصور، فقد قلت فيها رأيي من قبل، وإن كنت لا أنكر أبداً أنها خير ما يصور صقلية في صدق. وموطن الطرافة فيها تلك الروح التسامحية التي يعيش بها المادح والممدوح على تباين الدين، في عصر لم يكن يسمح بذلك التسامح. وفيها شعور ساذج بالجمال - ساذج جدا - وهي بهذا القدر وحده جميلة في الشعر الصقلي.
وإذا قلت الشعر الصقلي عنيت دائماً هذا القدر منه، فإن هذا القدر الذي نملكه يكاد لا يتمتع بشيء يميزه. فمظاهر القوة فيه قليلة ولكنها غير منعدمة. وقد رأينا فيه خروجاً على بعض النواحي التقليدية وعرفناه تخطي قاعدة التذلل في الحب، وشهدنا كيف يعلو الشاعر أحياناً في رقة فيقول:
ليَ وعدٌ عينيك مضَى
…
دونه عمري ووافي أجلي كما في أشعار عبد العزيز البلنوبي وهو من أصدق الشعراء الصقليين أصالة في القطع التي رويت له، ولكنها قليلة بحيث لا تستطيع أن تعطي عنه صورة صادقة، وستعجبك في هذا الشعر بعض الصور كقول ابن الخياط:
ترى كبرياء الحسن في لحظاتهم
…
تشاب برهانية المتعبد او كقول ابن حمديس:
وقد سكت حركات الأسى
…
قيان تحرك أوتارها وستجد في الخصائص العامة لهذا الشعر تلك النعومة المتشهية التي تغلب على شعر عبد الرحمن البلنوبي، أو ما يسميه شاك الخضوع للمتعة المؤقتة المستمدة من الطبيعة الجميلة، حتى لتكاد تظن في هذه الخاصة، أنك لم تبعد كثيراً عن
ثيوقريطس على اختلاف في الناس والزمان. والحق أني لست أذكر بهذا الشعر شاعر الرعاة وكيف يأخذ جماعة الرعاة عنده بالغناء تحت شجرة الصنوبر وفي ظلها الظليل والجنادب الداكنة تصوت وتصر والريح المثقلة برائحة الأزهار في الحقول تداعب الجفون بالسنة - لست أرى هذا في الشعر الصقلي العربي إلا إذا كانت الرائحة المنبثة في أشعار ابن حمديس وغيرها تستطيع أن تنقل قارئها إلى ذلك الجو الريفي الجميل.
ولقد طال بي الحديث عن نقد هذا الشعر حتى لاحسبني جرت عليه في التقدير ولكن ما إلى هذا قصدت، فأنا أتحدث عن الشعر الصقلي وحده، وهذا يجعل نقدي له يبدو أكبر مما هو، ولو قد نقد هذا الشعر في نطاق عام، لو قد أخذ بين الشعر العربي جميعاً لأصابة نصيبه العادل من النقد، إذ لم يكن الشعر الصقلي غريباً بمظهره ذاك في تلك العصور وأكاد أقول ولم يكن ضعيفاً، وهؤلاء هم الشعراء الصقليون لم يموتوا في البيئات التي انتقلوا إليها حين هاجروا من وطنهم بل عاشوا إلى جانب غيرهم إن لم نقل تفوقهم عليهم، وابن حمديس وأبو العرب في الأندلس مثالان واضحان على ذلك. وأسارع فأضيف أن العوامل التي دخلت في تقديرهم لم تكن دائماً عوامل فنية ولكنها كانت هي العوامل المؤثرة في تقدير غيرهم.