الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والخلاصة أن صقلية بموقعها وببحرها وروحها الحربية استطاعت أن تتحكم في توجيه الأدب ولكنها لم تستطع أن تتحكم في تكوينه، وإذا كان هناك شاعر يمثل جوانبها المتعددة في وصف الخمر والبحر والجهاد، وفي الروح الدنيوية وفي قوة التعبير عن هذه جميعاً فهم ابن حمديس، ومع ذلك فإنه تكوين لم يتم لأنه فقد صقلية وهو اشد ما يكون تعلقاً بها، ومن ثم صهرت كل هذه الاتجاهات عنده في شعور بالوطن قد لا نجد له مثيلا عند أي شاعر آخر رثى وطنه.
4
-
صقلية بين التأثر والتأثير
ويحكم هذا الموقع أيضاً كانت صقلية متأثرة مؤثرة؟ كانت تستقبل المؤثرات الخارجية المهاجرة أليها من الكتب والمهاجرين على اختلاف مهنهم، وظهر هذا التأثر في فنها، حتى لم يعثر دارسو الفن في صقلية الإسلامية على ما يميزها فيه عن سائر الأقطار الإسلام، وظهر كذلك في شعرها وخاصة في صورته التقليدية - كانت متأثرة حين تعتبرها جزءاً من بلاد الإسلام، وكانت مؤثرة حين تعتبرها جزءاً من ذلك العالم متفوقا على ما حوله في الحضارة، حتى كانت حضارتها مما تقتبس، وكان مبلغ من الجودة في الأشياء عند بعض العارفين بالحضارة الإسلامية انه شئ يعجب اليونان والمسلمين، وهذه الحضارة هي التي احبها النورمان وشجعوها وجاء من بعدهم فردريك الثاني منفريد وسارا على منوالهم (1) .
وقد كان فردريك شخصية ذات جوانب متعددة فهو شاعر محب للفلسفة وتربية الحيوانات والتريض والصيد، وهو مشرع مستنير يضطهد المارقين، ويصادق اليهود والمسلمين، ويحسن لغات عدة ويقول فيه معاصره سالمبين:
(1) Haskins: Studies in Med. Gulture p. 124.
" لو أنه أحب الله والكنيسة لما كان له إلا أشباه قليلون! " وقد أصبحت شخصيته في عهد مبكر موضوعاً للأساطير وصوره الدينيون عدوا للمسيحية، حتى جعله يصلي اللظى في الجحيم مع ملحدي الأبيقوريين، وهو في القصص الشعبي الألماني يشبه " المهدي المنتظر " متلبث في الكهوف بين الجبال يرقب اليوم الموعود ليرجع فيعيد الإمبراطورية ويخلص المظلوم. وقد كانت الثقافة الإسلامية ذات أثر فعال في حياته وتتحدث المصادر العربية أن الذي رباه وهو صغير قاضي صقلية وتصفه هذه المصادر بأنه كان فاضلا محباً للحكمة والمنطق والطب (1) .
في بلاط ملوك النورمان، وفي بلاط فردريك الثاني وابنه منفريد كان الشعراء المسلمون ينشدون قصائدهم إلى جانب شعراء اليونان واللاتين. وليست لدينا الشواهد التي تظهر مقدار الصلة بين هؤلاء الشعراء ولكن كل الذي نعرفه أن مدرسة صقلية تنظم الشعر باللغة الدارجة تكونت في بلاط غليالم الثاني، وبلغت ذروتها حول فردريك، الذي كان عارفاً باللسان اللاتيني واللغات الدارجة في
(1) انظر ابن سعيد في القسم الرابع من مجموعة الشعر الصقلي. والمكتبة الصقلية ص419،511 ويقول فيه المقريزي " وكان هذا الملك عالماً متجراً في علم الهندسة والحساب والرياضيات. وبعث إلى الملك الكامل بعده مسائل في الهندسة والحكمة والرياضة وعرضها على الشيخ علم الدين الحنفي المعروف بتعاسيف وغيره فكتب جواباً:(المكتبة ص 522) وكان يوجه إلى علماء المسلمين أسئلة منها المسائل الصقليات التي أجاب عنها ابن سبعين وفيها أسئلة عن قدم العالم وعن العلم الإلهي والمقولات والنفس؟ إلخ وفي بلاطه احتشد كثير من العلماء، ومنهم سكوت وترجم له عن العربية كتباً في التنجيم وكتاباً لابن سينا ومنهم تودور المنجم الأناضولي الذي ترجم له شرح المنطق لابن رشد والمحبسطي لبطليموس وكان لديه أيضاً مسلمون عارفون بالبيزرة. وقد أتم ابنه منفريد العمل في هذا الاتجاه وزاره ابن وصل صاحب مفرج الكروب رسولا من الظاهر بيبرس واجتمع به مراراً ووصفه بالتميز بالعلوم العقلية وأنه كان يحفظ عشر مقالات من كتاب اقليدس وصنف له الأنبرورية في المنطق. وكانت مكتبته تضم كتباً فلسفية ورياضية باللغتين العربية واليونانية (انظر في الحياة العقلية أيام فردريك وابنه صفحات كثيرة في المكتبة الصقلية وكذلك الفصل الثاني عشر من كتاب Haskins؛ Med. Science وتاريخ أماري 3/ 711 وما بعدها وكذلك عند Huillard - Breholles ولم يجد جديد يضاف إلى ما كتب عن الحياة العلمية في بلاط فردريك بعد هؤلاء الباحثين.
إيطاليا وفرنسا، الذي كان يجتذب إلى بلاطه رجالاً ممتازين في العلم والأدب (1) ولا شك أنه تمم في عصره وبتأثير منه تقدم في تركيز الألفاظ والشكل والشعر فقد اجتمع في بلاطه شعراء من عدة جهات لهم لهجاتهم المحلية فتخلوا عن كثير من محليهم واتخذوا نموذجاً من القول يناسب المقام، ومن المنتظر أنهم فضلوا اللهجة الصقلية على غيرها في نظمهم (2) وصقلوا لهجاتهم ونبوها الخشونة والشذوذ اللذين فيها (3) .
ولكي نتصور الحال الأدبية لابد أن نذكر أن النظم حينئذ كان ألهية البلاط، كان فردريك وابناه ومستشاره يتابعون هذه الهواية، وكان الكتاب والقضاة والمحامون يخففون عبء الزمن البطيء بالنظم، حتى إن أحدهم تقدم مرة إلى فردريك وأنشده قصيدة فتوجه بإكليل ولقبه " ملك القريض "(4) .
حينئذ كان الأدب باللغة الدارجة قد أخذ ينافس الأب باللاتينية، ففتح أمام الناس ينابيع جديدة تهيء لهم التمتع بالحياة. وفي بلاط فردريك أخذ الوزن الشعري صورته التي جرى عليها الشعر الإيطالي فيما بعد (5) . وبدأت فيه بوادر القافية وأشكال معنية من الشعر منها Tenzone، Canzone.
ولكن هذا الشعر الذي نشأ في بلاط فردريك تقليدي محافظ ضحل، أولا لأنه نتاج جماعة أرستقراطية، وثانياً لأنه ترسم مثلا معنية كان قد جرى عليها شعر بروفانس مدة طويلة فتحجرت. فما كان من هذه المدرسة الصقلية وتقليدا لتلك الأمثلة بلغة جديدة فهو شعر ضعيف البنية في مهده، ولابد أن يظهر فيه الحبيب المهجور كالأوزة التي تغني أغنيتها الأخيرة، وهي تطلع في الغيب على
(1) J.A. Symonds؛ Renaissance in Italian Lit. part 2 p.18
(2)
op. Cit. P. 19
(3)
op. Cit. P. 20
(4)
H. Fisher؛ The Med. Empire، VOL. 2، p. 266
(5)
symonds؛ part 2، p.20
دنو المنية. وشعلة الحب كالذهب المصفي، وبسمة من الحبيبة تسوي الجنة، فهي وردة وزنبقة ونجم ومرآة للأنوثة، وهي تقتل بعينيها، وحبيبها في لظى الحب، ولو استطاع أن يعبد الله كما يعبدها لدخل الجنة (1) .
ومن العسير الشاق أن نحدد للشعر العربي صلة بهذه المدرسة من ناحية أو بالحركة الشعرية عامة في صقلية وجنوبي إيطاليا.
فالشعر الصقلي العربي قليل إذا كانت مشكلة التأثير موضوع البحث، وليس بين أيدينا منه شيء من الموشحات أو الزجل وهي التي أحدثت أثراً في شعراء التروبادور بجنوبي فرنسا، ثم إن الشعر الذي بقى من المدرسة الصقلية قليل أيضاً يجعل إثبات المسألة صعباً. ولكن الذي حدث فعلا هو أن الاتصال الحضاري بين المسلمين وغيرهم بصقلية وجنوبي إيطاليا، ثم تلك النهضة العلمية التي كانت في بلاط ملوك النورمان وعند فردريك وابنه، قد خلقت في الواقع جواً من الحيوية هو مجال التأثر. وقد كان أمثال يوجين في عهد غليالم الثاني يعرفون اللغة العربية ويترجمون عنها كتباً ليست كلها ذات صبغة فلسفية أو رياضية، فلم لا يكون أمثال يوجين ممن ينظمون ويشتغلون بالدراسات العربية قابلين للتأثر؟ ورب قائل يقول إن الضعف الذي تمثل به الشعر الصقلي يجعل من العبث أن نتخذه أداة للتأثير في غيره هذا الضعف الذي نراه نحن اليوم لا ينفي ان هذا الشعر كان يمثل في عصره اتجاهات معينة.
(1) H. Fisher؛ The Med. Empire، VOL، 2 p.269