الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المكونات الكبرى في شعر صقلية الإسلامية
لا يستطيع الباحث في شعر الصقلي - عهد الحكم الإسلامي في الجزيرة - إلا أن ينظر من خلال أربع حقائق كبرى، كان لكل واحدة منها أثرها البعيد في ذلك الشعر وفي طبيعته:
الحقيقية الأولى: موقع الجزيرة وطبيعتها الجغرافية:
فموقع الجزيرة هو الذي تحكم في الهجرة ممن صقلية وإليها، وجعل الشعر الصقلي نفسه صورة من الصادر والوارد، كالحال في حياة التجارة. ولذلك نجد أنغاماً غريبة وافدةً إلى صقلية نفسها. وليس من الضروري أن ننتظر الفتح النورماني لنسمع عن شعراء هاجروا من صقلية إلى البلدان المجاورة، فهناك من الصقليين من كان ينتقل بشعره متكسباً، وخاصة بعد أن أصبحت مصر فاطمية الدولة، تجتذب إليها الشعراء من جميع أنحاء المملكة، وصقلية يومئذ ولاية تابعة للخليفة الفاطمي، وأمراؤها الكلبيون ذوو منزلة رفيعة عند ذلك الخليفة بمصر وصقلية في آن واحد، وبهؤلاء الشعراء الراحلين عرف الناس صقلية معرفة أوضح، وزادها وضوحاً أخبار البحارة والراحلين إليها.
فمن الصقليين الذين هاجروا من بلدهم في هذه الفترة المقداد بن الحسن الكلبى وأخوه ميمون، والأول منهما كان بمصر أيام العزيز نزار، وهو يصرح بأنه شاعر الخليفة، وقد قتله الحاكم سنة 393هـ؟ لقوله في أيام العزيز (1) :
(1) ابن سعيد: المغرب 3 الورقة: 75 والملحق الثاني للمكتبة 16 - 17 نقلا عن الوافي.
الحمد لله حتى الخبز أعوزني
…
في بلدة أنا فيها شاعر الملك ومن هؤلاء الصقليين أيضاً أبو الحسن بن علي الصقلي النحوي ولا نعرف له من الشعر إلا قوله:
في سبيل الله ود حسن
…
دام من قلبي لوجه حسن
وهوى ضيعته في سكني
…
ليس حظي منه غير الحزن
يرقد الليل ويستعذبه
…
وإذا ما رمت طيب الوسن
زارني منه خيال ما له
…
أرب في غير أن يوقظني وقد توفي هذا الصقلي بمكة سنة 391هـ؟، بعد أن حج، ودفن هنالك (1) وكان من أظهر الأسباب التي حدث بشعراء صقلية على الهجرة ارتفاع شأن القيروان أيام المعز بن باديس في النواحي الأدبية، حتى أصبحت تنافس بلرم في نشاطها، وكان قد التف حول المعز عدد كبير من الشعراء من جهات متعددة في المغرب، حتى ليخيل لمن يقرأ ما تبقى من كتاب الأنموذج لابن رشيق أن نهضة المغرب الأدبية إنما تبلورت أيام المعز، لا قبل ذلك ولا بعده. ويقول ياقوت: وكانت القيروان في عهده وجهة العلماء والأدباء، تشد إليها الرحال من كل فج، لما يرونه من إقبال المعز على أهل العلم والأدب وعنايته بهم (2) . ففي ظل الاستقرار السياسي بإفريقية شهدت القيروان نهضة أدبية، وفي ظل نوع من الاستقلال السياسي بصقلية عرفت بلرم حركة أدبية قوية. وكانت هاتان النهضتان متعاصرتين حتى لنستطيع أن نقول إن العنصر المغربي في البرين الأفريقي والصقلي كان يؤدي أقوى أدواره في تأريخ الأدب العربي حين تمت له وسائل النهضة الأدبية في حياته الاجتماعية والثقافية. وربما كان من استباق الحوادث أن أسجل في هذا الموطن هذه الظاهرة الثلاثية التي حدثت تباعاً على الوجه التالي:
(1) ابن عساكر: تهذيب تاريخ دمشق 4: 235.
(2)
معجم الأدباء 19: 37.
(أ) خربت القيروان على يد العرب وذهب الهلالية وذهب ما أنفقه المعز من جهود، فهاجر الناس وفيهم الشعراء والعلماء إلى صقلية والأندلس.
(ب) ثم وقعت بعد وقت قصير فتشعب شعراؤها وعلماؤها الأصليون والطارئون في ثلاث شعب: واحدة ذهبت إلى الأندلس وأخرى عادت إلى إفريقية وثالثة إلى مصر، وسنقف عند هذه الهجرة في فصل تال.
(ج) ثم أخذت الأندلس تهتز تحت غارات الأسبان من جهة وأطماع المرابطين من جهة أخرى، وتشتت تلك الحلقات الأدبية التي كانت حول ملوك الطوائف - وخاصة ابن عماد - واتجه المهاجرون في الغالب إلى أفريقية، وهكذا قام كل بلد من هذا المثلث المغربي بنصيبه في الحياة الأدبية، وكانت الهجرة من واحد إلى آخر غذاء جديداً.
وتتمثل الهجرة إلى صقلية على ثلاث درجات متفاوتة: فهناك هجرة الشاعر العابر المتكسب الذي يتخذ من صقلية منتجعاً أو موطئ قدم، حتى إذا وجد طلبته، أو أخفق في العثور عليها، فارق البلد عائداً إلى وطنه. ومن أشهر هؤلاء الشعراء ابن قاضي ميلة أحد الوافدين على ثقة الدولة وقد مدحه بقصيدة فانية وصفها ابن خلكان بأنها بديعة غريبة ورواها بتمامها (1) ومنهم ابن المؤدب، وهو ممن أسرهم الروم، فلما هادنهم ثقة الدولة استرد بعض الأسرى وفيهم هذا الشاعر فمدحه بقصيدة شكره فيها على صنيعه، ورجا صلته، فلم يصله ثقة الدولة بشيء، فأخذ يتكلم بذمة وأطلق لسانه فيه غير متحرج، واختفى خوفاً على نفسه ممن الطلب، وفي إحدى الليالي خرج وهو سكران ليشتري نقلاً، فما شعر إلا وقد حمله صاحب الشرطة حتى أدخله على ثقة الدولة، فعقبه الأمير على ما كان بلغه عنه ثم أمر بمائة رباعي، وأخرجه من المدينة لئلا تتغير عليه نفسه بعد العفو، فيأخذه بالعقوبة (2) .
واتصل بثقة الدولة شاعر مهاجر آخر اسمه محمد بن عبدون السوسي ويصفه
(1) ابن خلكان 3: 183 - 185 والمكتبة: 634 - 641
(2)
ابن خلكان 3: 182 والمكتبة: 632 - 634.
ابن رشيق بأنه شاعر وطئ وسكون جأش، لا يكاد يلغو بالشعر إلا إذا قال. ولما وفد على ثقة الدولة وامتدحه أضافه الأمير إلى ولده جعفر فأدناه وقربه، حتى كان من أكرم الناس عنده. وظل ابن عبدون في صقلية حتى هزه الحنين إلى وطنه، فرفع إلى جعفر قصيدة يتشوق فيها إلى أهله وأحبابه ومعاهدة ويقول فيها (1) :
بالله يا جبل المعسكر دع
…
ريح الجنوب ترق أو تسر
كيما أسائلها فتخبرني
…
ما يفعل الجيران بالقصر فلما سمعها جعفر ازداد به تعلقاً واشتد حرصه على استبقائه عنده حتى ضاق الشاعر بين منع وحنين، وكتب إلى ثقة الدولة يرجوه أن يسرحه ويمدحه بقصيدة مطلعها:
يا قصر طارق حبي فيك مأسور
…
شوقي طليق وخطوي عنك مأسور ثم عاد يلجأ إلى جعفر، ويستأذنه في الرجوع إلى وطنه، فعتب عليه جعفر وحجبه، حتى عز وصوله إليه، وأخيراً تحين الشاعر الفرصة وكتب أبياتاً يتشفع فيها لدى جعفر، يقول فيها أنه أصبح عاجزاً عن لقائه وأنه رأى القمر فقام مسلماً عليه، مظهراً الخضوع لديه ثم يسأل القمر هذا أن يكون شفيعاً له عند شبيهه ابن يوسف، ويذكره بحق شاعر ساءت حاله بعد ما التهبت في صدره نار الحنين. ولقي جعفراً في بستان يتنزه، فقدم إليه الرقعة، فلما قرأها طرب لها وأمر له بمال كثير (2) .
وفي تمسك الأمير بابن عبدون السوسي ما يدل على حرص صاحب صقلية على شاعر يشيع فضائله ويتحدث عنه ويميل غليه القلوب فهل في هذا
(1) تجد من هذه القصيدة الجميلة أبياتاً كثيرة في تذكرة ابن العديم، وانظر ترجمة الشاعر في مسالك الأبصار 11 مجلد 22:347.
(2)
رحلة التيجاني في المكتبة: 379 والنقل عن ابن رشيق ولعله من الأنموذج وانظر ترجمة السوسي في المسالك 11/ 1: 330.
إشارة إلى حاجة صقلية للشاعر القدير وعدم توفره بين أبنائها؟ ربما استطعنا الإجابة على هذا السؤال لو كان لديننا من شعر ابن عبدون ومدائحه في بني أبى الحسين، ما يمكننا من الحكم على إجادته، بالنسبة للشعراء الصقليين أنفسهم، على ان صقلية في زمن ثقة الدولة وابنه جعفر بلغت أقصى النشاط في الشعر، وتوفر لها عدد كبير من الشعراء.
هذا نوع من المهاجرين. وهناك آخرون دخلوا صقلية فراراً بأرواحهم من أزمات حاقت بهم في أوطانهم. وأخص بالذكر حادثتين: هجرة سنة 395 عند ما حدثت مجاعة بإفريقية اضطرت كثيراً ممن أهلها إلى اللحاق بصقلية، وهجرة سنة 456 عند خراب القيروان على يد العرب. ومن أشهر مهاجري هذه الفترة ابن رشيق القيرواني صاحب العمدة والأنموذج، وقد استقر بمدينة مازر، ومنهم محمد بن حسين بن جبارة الفارسي (1) ، والحلواني (2) ، وعبد الحليم الصقلي.
وإنا لندرك اثر ابن رشيق في صقلية من حقيقتين الأولى أنه درس كتاب العمدة بمدينة مازر والتف حوله جماعة من أهل الأدب والدراسين، والثانية أن ابن رشيق كان قبلة أنظار بعض الصقليين في اتجاهه الأدنى والنقدي، وكان أصدقاؤه على اتصال دائم به (3) ويصرح أحد المعجبين به قائلاً:
" كنت ساكناً بصقلية وأشعار ابن رشيق ترد على فكنت أتمنى لقاءه حتى قدم الروم علينا، فخرجت فاراً بمهجتي تاركاً لكل ما ملكت يدي وقلت: أجتمع بأبى على، فبرقة شمائله، وطيب مشاهدته، سيذهب عني بعض ما أجد من الحزن على مفارقة الأهل والوطن "(4) .
ويمثل عبد الحليم الصقلي نوعاً ثالثاً من المهاجرين وهم الذين كانت صقلية مهوى أفئدتهم، يحبونها للثراء والجمال معاً، ويعشقونها أملاً حبيباً، ويجدون لاسمها
(1) انظر ترجمة ابن جبارة في المسالك 11/ 2: 299 وفيه أن أوطن صقلية ثم عمد على الخلاص إلى وطنه.
(2)
ابن بسام: الخيرة 4/ 1: 219 - 231.
(3)
انظر الترجمة رقم 18، 20 من مجموعة الشعر الصقلي.
(4)
ابن ظافر: بدائع البدائه على هامش معاهد التنصيص 2: 36.
في آذانهم رنيناً عذباً، وقد عبر عبد الحليم عن هذا الظمأ إلى الجزيرة بقوله:
عشقتُ صقليةً يافعاً
…
وكانتْ كبعض جنان الخلود
فما قدرَ الوصلُ حتى اكهلتُ
…
وصارتْ جهنمَ ذاتَ الوقود وفي هذه النغمة المتألمة نحس بحقيقة ما كان يشعر به عبد الحليم من عشق - عشق اليافع الذي مضى به العمر وهو ظامئ فلما قدر له اللقاء وجد الحبيبة قد حالت عن عهدها، ولقيت آماله بضدها. فما استطاع عبد الحليم أن ينال أمنيته إلا حين أصبحت صقلية جهنماً بالفتنة، ومثل عبد الحليم شعراء آخرون كانت تدفعهم بوهيمية الآمال إلى صقلية فيخرجون. أثر حبيب هاجر إليها قبلهم (1) أو يلقيهم على ساحلها شوقهم إلى حياة الحانات ودور الرقص والغناء. ولم يكد عبد الحليم يحل صقلية حتى وجدها بركاناً تقذف بالحمم، فلجأ إلى ساحة ابن منكود، حيث لجأ ابن رشيق قبله وذهب يسخر أصالته الفنية الجميلة في المدح حتى استفرغ فيه جهده، وشعر هو بأنه قد زاد في النزع عن تلك القوس - في مدح ابن منكود - فقال معتذراً عن نفسه (2) .
يقولون كثر عبد الحليم
…
فإلا اقتصاداً وإلا اقتص
وفضلُ أبى القاسم المجْتبي
…
كفاني احتجْاجاً لهمْ واعتذرا
تغارُ العلا لابن منكودها
…
فلا تقبلُ المدْح فيه اختصارا لقد أحب عبد الحليم صقلية فلم يستطع أن يفارقها حين غزاها النورمان، ودالت دولة ابن منكود ممدوحه، وانتقل من بعد إلى بلرم وعاش في كنف رجار، ولكنا لا نسمع بعد ذلك شيئاً عن حياته (3) .
(1) من هؤلاء عمر بن معمر الفارسي، انظر تذكرة ابن العديم، الورقة 382 نقلا عن الأنموذج لابن رشيق.
(2)
معجم السلفي، الورقة: 175 والترجمة رقم: 6 من مجموعة الشعر.
(3)
رجح أمارى أن عبد الحليم من شعراء عصر غليالم الأول وأنه حضر الفتنة التي قتل فيها المسلمون سنة 550، ولكن مدحه لابن منكود يؤيدها اذهب إليه، إلا أن يكون هناك خطأ ونقرأ في المخطوطات ابن حمود مكان ابن منكود، فيكون فرض أمارى صحيحاً.
تلك هي صورة الشعر في صقلية حين نذكر موقعها الجغرافي، فنجد حركة دائبة، منها وإليها، كحركة الموج أو المد في اندفاعه وتراجعه. أما حين تتمثل لنا طبيعتها الجغرافية في خصبها وتنوع أزهارها وكثرة بساتينها ومياهها، ونضارة الطبيعة فيها، فإنه يخيل إلينا - بادي الرأي - أن خير ما أنتجته صقلية من شعر إنما كان يدور في فلك الجمال الطبيعي، ويهيم بمحاسن الريف، ويتغنى بمناظر القطاف ومواسم الحصاد والينابيع والجداول المتدفقة، وأسراب الطيور وهدوء الحياة الرعوية. ولكن الأمر على غير لك. فأن الشاعر في صقلية هو ابن بلرم - وقلبه عالق بحاناتها وأسواقها، معقود ببركة القصر، مثلما هو معقود بعطايا الأمير، مستمع بنعومة السجاد، مذهول أمام روعة المباني. ولا تعطفه على الريف عاطفة إنسانية، أو قلب يحن إلى مناظره الجميلة، وليست لديه روح الصوفي الذي يرى الجمال الإلهي كامناً في النملة والصخرة والعشب. حتى ابن حمديس ابن صقلية الباكي على مجدها لا يذكر منها إلا الدار والدير والكأس والساقية الفاتنة، وينسى الجو الجميل الذي كان يضم هؤلاء جميعاً. ولا نجد في شعره إلا نغمات قليلة تمتزج بأنفاس العطر الطبيعي في حياة وطنه كقوله (1) :
ويا ريحُ إما مرَيت الحيا
…
وروّيت منه الربوعَ الظماءَ
فسوقي إلىّ جهَام السحاب
…
لأملأهنّ من الدمع ماءَ
وسقى بكائي رَبعَ الصبا
…
فما زالَ في المحل يسقى البكاء
ولا تُعطشي طللاً بالحمى
…
تدانى على مزْنة أو تناءَى
وإن تجهليه فعيدانه
…
لظى الشمس يلذَعُ منها الكباء ولذلك فإن الأمكنة الجميلة التي يتغنى بها شعراء صقلية قليلة. ولعل من أكثرها تردداً في شعرهم " المعسكر " في بلرم، وكان مجالاً للذين يفرون من صخب الحياة في المدينة، وهو موضع اشهر بكثرة العيون، كعين الغربال وعين
(1) الديوان: القصيدة رقم: 2.
التسع وعين أبي وعين أبي علي (1) وتدل الأوصاف التي أسبغها عليه الشعراء أنه كان حافلاً بالأشجار والأزهار، ويقول فيه ابن الأضبطي الكاتب (2) :
أنا في المعسكر مفردٌ في جحْفَل
…
من نَوْحِ قُمري وزنّة بلبل
فكأنما يلقى علىّ بصوته
…
نغمات معبدَ في الثقيل الأول ويقول فيه الحسن بن أحمد الكاتب (3) :
انظر إلى وَرْد المعسكر قد كسا
…
أشجارهُ نوراً يخيل نارا
جادَ الربيع لنا به فكأنما
…
سلبَ الحدودَ وألبس الأشجار وقد أوحت كلمة " المعسكر " إلى الشعراء فكرة الجحفل، والمواكب، وأنواع الأسلحة ولذلك نسمع ابا عبد الله الحسن ابن أبى علي القار يقول في وصفه (4) :
أرى المعسكر قد صُنف مواكبه
…
فجمعت كل أمحال تحارب
قضبانها الملدُ أرْماحٌ أسنها
…
ثمارها، وسواقيها قواضبه وجلس ثقة الدولة مرة وسط أرض ناضرة ومعه الحسن بن محمد الطوبي الكاتب فسأله أن يصنع فيها شعراً فقال بديهاً (5) :
روضٌ يحار الطرف في زهراته
…
ويهيجُ المشتاق من زهراته
يبدى باصفره بوادىَ عاشق
…
ويُرى بأحمره لظى زفراته ويقول آخر واصفاً بركة ماء (6) :
(1) ابن حوقل1: 123.
(2)
المختصر، الورقة:99.
(3)
المختصر، الورقة:104.
(4)
المختصر، الورقة 105 والترجمة 87 من المجموعة.
(5)
المختصر 103 والترجمة 79 من المجموعة.
(6)
المختصر: 104 والترجمة 82 من المجموعة.
بركة للماء تطردُ
…
للصبا في متُها زَرَد
بات في أحشائها قمرٌ
…
مثلُ قلب الصبّ يرْتعدُ ومن الأماكن الأخرى مكان سماه أبو القاسم الكلبي " البروج " وقال فيه (1) :
ألا رُبّ يوم لنا بالبروج
…
بخْيلِ الضّياء جواد القِطٌار
كأن الشقيقَ بها وجنةٌ
…
بآخرها مقلةٌ من عذار
كأن البنفسجَ في لونه اخ؟
…
تلاطُ الظلام بضوء النهار
وسوسنها مثلُ بِيضِ القبابِ
…
بأوساطها عُمد من نضار وأبو القاسم الكلبي، صاحب هذه القطعة، من اكثر الشعراء التفاتاً إلى الطبيعة، وطريقته في الوصف قائمة على محاولة التشبيه في كل بيت، وهي طريقة ابن حمديس نفسه. وهذه القطعة وما سبقها تدل على مدى الضعف في شعر الطبيعة عند شعراء صقلية. وليس في الإكثار من الأمثلة كبير غناء.
الحقيقة الثانية: الأجناس التي أنتجت الشعر الصقلي:
يتبين لنا مما سبق أن الذين أنتجوا الشعر الصقلي ينقسمون حسب الاستقرار في ثلاث فئات (أ) صقليين أصلاً أو ولادة عاشوا أكثر حياتهم في الجزيرة (ب) صقليين هاجروا صغاراً وبقيت النسبة عالقة بهم. (ج) مهاجرين وفدوا على صقلية وتفاوتت فيها إقامتها، ولا شأن لنا بالفئتين الثانية والثالثة وإنما نوجه اهتمامنا إلى الفئة الأولى. ومن الصعب أن نتلمس في هذه الفئة شاعراً صقلياً من تلك العناصر الأصلية كالإغريق والطليان فأكثر الشعراء الذين وصلتنا أسماؤهم من أبناء العناصر التي هاجرت مع الفتح إلى صقلية واتخذتها دار إقامة. وأول حقيقة هامة في هذه العناصر أنها إفريقية، وأن حظها من التميز الأدبي كان ضئيلاً يقول ابن خلدون في أهل المغرب: " وكذلك أشعارهم، كانت بعيدة عن الملكة، نازلة عن الطبقة، ولم تزل كذلك لهذا العهد، ولهذا ما كان بإفريقية من مشاهير
(1) المختصر: 97 والترجمة: 66 وليس من المقطوع به ان " البروج " في صقلية.
الشعراء إلا ابن رشيق وابن شرف وأكثر ما يكون الشعراء فيها طارئين عليها " (1) زدْ على ذلك أن اكثر الذين شاركوا في الفتح إنما كانوا من الجماعات العسكرية أو من أهل التجارة والصناعة. وأننا حين درسنا حياتهم الثقافية وجدنا الاتجاه إلى الفقه من بعد أغلب عليهم من أية دراسة أخرى. وكان هذا الفقه هو طابعهم القوي الذي يريدون أن يطبعوه على بيئة مسيحية، كما كان فيما بينهم مقياساً لصحة التعامل المادي، في باب التجارة والصناعة والزراعة، وهو في الوقت نفسه النواة التي تقوم حولها فكرة الجهاد في حياتهم العسكرية. نعم إن الفتح قد حول كثيراً من السكان الأصليين إلى الإسلام، ولكن أكثر هؤلاء كانوا من العبيد، وقد كانت الملكة فيهم مقتولة بطول الاستعباد، ولا شك في أن حالهم تحسن بعد الفتح، ولكن المهاجرين كانوا ينظرون إليهم أيضاً نظرة من عل، ويحتقرونهم كما احتقرهم ابن حوقل الذي سماهم " العجم الغم الصم والبكم " ويصورهم ابن الصباغ في رسالة له بصورة الوحوش الضارية التي يتأذى منها أصحاب الأملاك وأهل الثراء. فارضُ ابن الصباغ " بين يأكلون الشجر قبل الثمر، ويرعون الأب قبل الحب، وما آمن مع ما أحدقت به من الأسوار، وخرجت في النفقة عن المقدار، أن يوجفوا إليها بالجوالق، وينقضوا فيها كالسواذق، كما يفعلون في بستان فلان الذي أنفق فيه عمره وماله، وصرف غليه همه واهتباله ن فهو في الشتاء من علوج الزبر والحفر، وأصحاب الغرس والبذر، فإذا بلغت ثمرته ووجبت غلته، حام عليه بنو حام، وبم يمتنع منهم بحارس ولا حام، وأحيط بثمره، فاصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها " (2) وقد أخذ الإفريقيون المهاجرون منذ البدء يحسون بأنهم متميزون عن السكان الأصليين، وهذا هو ما عنته صيحة أسد بن الفرات في جيشه حين قال يحمسهم: " هؤلاء عجم الساحل، هؤلاء عبيدكم لا تهابوهم " (3) . ومع الزمن اصبح هناك
(1) المقدمة: 565ط. بيروت.
(2)
ابن بسام: الذخيرة 4/ 2: 17 - 18.
(3)
رياض النفوس في المكتبة: 184.
عنصران متباينان: عنصر صقلي وعنصر إفريقي وهذه التفرقة مبينة في الأصل على أساس عسكري، ولكنها كانت تشمل نواحي أخرى من الحياة الاجتماعية. فالصقليون لم يكونوا أصحاب هذا الشعر وإنما كان أصحابه هم الأفريقيين من عرب وبربر.
وأكثر الشعراء إذا اعتبرنا نسبتهم، ينتسبون إلى يمن ففيهم الكلبي والمعافري واللخمي والأنصاري والزبيدي والأزدي. وهناك شعراء من قبائل أخرى كالتغلبي والتميمي والسعدي والهاشمي والربعي، وشعراء من بربر كاللواتي والقرقودي والمكلاتي وماعات تنسب إلى مواطنها كالشامي، وإفريقيون لا تعرف نسبتهم إلى عرب أو بربر كالطوبي نسسبة إلى قصر الطوب بإفريقية والود أنى نسبة إلى مدينة ودان.
وبعد أن تم شيء من الامتزاج بين الأجناس، وشعر المهاجرون بأن صقلية هي وطنهم، نشأ جيل من الناس ينتسب إليها ويشعر بالرابطة العاطفية بينه وبينها وعندئذ يلتقينا شعراء ينتسبون إلى بلدان صقلية نفسها، وأخذت النسبة القبلية تقل، وتحل محلها النسبة البلدانية فهناك الطرابنشي والصقلي (البلرمي) والبثيري والسرقوسي والبلنوبي والسمنطاري.
وفي ببلرم ملتقى العناصر من نواحي العالم القديم كله، نشأت أقوى حركة أدبية عرفها الجزيرة، ويبدو أن العناصر العربية - الإفريقية - هي التي تمت على يديها تلك النهضة، لأننا إذا نظرنا إلى بلد آخر مثر جرجنت، مجتمع الجماهير البربرية، فإننا لا نسمع عن شعراء ينسبون إليها.
ولم تنصهر هذه الأجناس المختلفة بحيث تنسى عصبياتها القبلية، ولذلك مثل الشعر هذه الروح القبلية في بعض جوانبه، وإن لم تكن الخصومات بين القبائل عنيفة مثلما كانت بالأندلس.. وتتجلى هذه الروح في شعر أمراء بلرم من الكلبيين، وتمتزج بنزعة أرستقراطية، تتسلل إلى موضوعات الفخر والغزل. فمن الفخر قول الأمير عمار بن المنصور الكلبي (1) :
(1) الترجمة 37، 105 من مجموعة الشعر الصقلي.
تقولُ لقد رأيتُ رجالََ نجد
…
وما أبصرتُ من يمان
ألفتَ وقائعَ الغمرات حتى
…
كأنك والوقائع توأمان
وتقتحم الحروبَ رخىّ بال
…
كأنك من رَدَاها في أمان
إلى كم ذا الهجوم على المنايا
…
وكم هذا التعرضُ للطعان
فقلت لها لكل الناس عذٌر
…
ولا عذٌر لكلبي جبان ومن أمثلة هذه الروح الأرستقراطية في الغزل قول الأمير مستخلص الدولة وهو من الكلبيين:
قلتُ يوماً لها وقد أحرجتنْي
…
قولةً ما قدرْتُ أنفك عنها
أشتهي ولو ملكتُ أمرك حتى
…
آمرََ الآن فيك قهراً وأنهى
فبكت ثم أعرَضَتْ ثم قالت
…
خنتني في محبة لم أخنها وليس في هذا الشعر الصقلي فخر بالأجناس عامة، ليس فيه شعر يمجد العرب أو البربر وإنما فيه اعتزاز بالقبيلة، فالكلبي يفتخر بكلبيته، والقيسي بأن قومه غلبوا قيصر وفتكوا بحمير (1) حتى الفقهاء يفتخرون بقبائلهم، وهم أحق بالتخلي عن روح العصبية. من ذلك قول الفقيه عمر بن مازوز اللواتي يفتخر بقبيلته لواتة (2) :
لمن تعزى المكارمُ والأيادي
…
وردّ الخيل ذاهبةَ الهوادى
سوى قومي الذين سَمتْ نفوسٌ
…
بهم شرفاً إلى السبع الشداد الحقيقة الثالثة: الفترة التي نما فيها الشعر الصقلي:
وتمتد هذه الفترة من 212هـ إلى 464هـ وهي ليست طويلة في حياة الإنتاج الفني والعلمي. وفيها ضروب من القلاقل الداخلية وفيها إلى ذلك جهاد طويل مرير. وقد يكون هذا النوع من الحياة مهيئاً لنمو الشعر واكتماله، ولكنا إذا
(1) الترجمة رقم 20 من مجموعة الشعر.
(2)
الترجمة رقم 93 والعيد المئوي 1: 376.
تذكرنا طبيعة الجماعات المهاجرة المستقرة، وطبيعة الاتجاهات المدرسية فيها، لا نعجب إذا لم نجد هذه الحياة غنية بالأدب الجميل، وقد كان من الضروري قيام شعور وطني يربط الناس بهذه الأرض التي عاشوا فيها ليساعد ذلك على اشتداد ساق الأدب، وهذا لا يتم إلا بعد أن يولد جيل جديد على أرض صقلية ويحس بأنها هي، لا إفريقية، المكان الذي يقاتل عنه ويعيش من أجله، فأما المهاجرون الأوائل فإنهم يرون في صقلية رباطاً كبيراً يشنون منه الغارة لحماية الحدود الإفريقية وإعلاء شأن الدين.
ولا نسمع شعراً صقليا في مدة خمسة وثمانين عاماً طواها بنو الأغلب في فتح الجزيرة وحكمها. وهذا شيء مستغرب وإن كان تعليله سهلاً. وإذا وجد شعراء في هذه الفترة فإنهم إفريقيون يوجه عواطفهم معنى الغربة أولاً، وطبيعة الجهاد ثانياً:: أما الغربة فلابد أنها بعثت في نفوسهم الحنين إلى مواطنهم الأولى، وتمثل هذا الحنين في قصائد ورسائل شعرية بعثوا بها إلى أهلهم وأصدقائهم في الوطن، وأما الجهاد فلابد أنه أذكى روح الحماسة من ناحية وروح الحزن على من أكلتهم الحرب من ناحية ثانية. ولا يمكننا القول بخلو صقلية من كل شعر، فذلك مناف لطبيعة الأشياء في حياة الناس.
ولدينا من أمثلة هذا الشعر قصيدة لأسير أغلبى اسمه مجبر بن إبراهيم بن سفيان، ومطلعها (1) :
ألا بيت شعري ما الذي فعل الدهر
…
بإخواننا يا قيروان ويا قصر وهذا الشاعر يتأسى في قصيدته بأن الفرج غنما يجيء بعد الشدة، أليس يوسف قد نجا من الحب، وأيوب زال عنه الضر، وإبراهيم خلص من النار؟ إن الله قد نجى هؤلاء، وهو قادر على أن يخلص أهل السر من ربقة إسارهم.
وأقدم الشعر الصقلي الذي وصلنا يعود إلى العصر الكلبي، وأول شعر نستطيع تأريخه وصلنا في أيام ولاية أبي القاسم الملقب بالشهيد (359 - 372) . ومن
(1) الحلة السيراء في المكتبة: 329.
هذا التاريخ يبدأ استقلال صقلية السياسي، وفيه يبدأ الشعر الصقلي حياته الصحيحة، وقد كان أبو القاسم يعيش حياة مثالية إذ قضى عمره في الجهاد بقلورية (كالابريا) وصدفت نفسه عن متاع الدنيا فأوقف كل ما يملك على فقراء شعبه. وبحق لقب بالشهيد لما قتل في غزاته الخامسة، وكانت له في نفوس أعدائه صورة مهيبة لرجل يزن كلامه ويحكم أجوبته (1) وربما كانت هذه السيرة الفاضلة ذات أثر في استقلال الشعر بحدود صقلية وعد انسياحه بالعواطف إلى ما وراءها. ومع ذلك فإن الشعر الذي وصلنا يتحدث عن صمصام الدولة ويشيد ببطولة وشجاعته، ويكاد ينسى أبا القاسم إلا قليلاً.
وفي الطبقة الأولى من شعراء هذه الفترة علي بن الحسن بن أبي سعيد القاضي وسهل بن مهران مادح أبي القاسم وهو يوصف بأنه من المطيلين المحسنين والمداح المجيدين (2) وأبو إسحاق إبراهيم بن مالك المعافري القاضي.
فإذا بلغنا عهد الأمير يوسف ثقة الدولة وجدنا صقلية قد أصبحت حافلة بالشعراء من أهلها والطارئين عليها. ز فمن أهلها محمد بن أحمد أبو عبد الله الصقلي صاحب ديوان الإنشاء بصقلية، وهو الذي رثى ثقة الدولة بقصيدة مطلعها (3) :
حنانيك ما حي على الدهر يسلم
…
ومنهم الحسن بن محمد الطوبي الذي كان ملازماً لثقة الدولة (4) ، ومحمد بن الحسين بن القرقودي (5) والمشرف بن راشد (6) .
وبعد ثقة الدولة نلتقي تلك الأسماء الكثيرة، وهي أسماء الشعراء الذين عاشوا
(1) انظر موقفه من الراهب نيلو الذي بعث في فكاك ثلاثة من الرهبان كانوا ببلرم (أماري 2/ 2: 375) .
(2)
مختصر الدرة: 99.
(3)
القفطي: المحمدون: 20.
(4)
المختصر: 103.
(5)
الجريدة 11: 39 وما بعدها.
(6)
المصدر نفسه، الورقة 37 وما بعدها.
بين 390 - 460 وهم أكثر من ذكرهم ابن القطاع في الدرة الخطيرة: عندئذ نجد ثلاثة من أبناء الطوبي واثنين من ابناء الرقباني وثلاثة من بني الشامي، كما نجد ابن الصباغ والود اني وابن الخياط وابن مكي صاحب تثقيف اللسان وسليمان الصقلي وميمونا الوراق ومحمد بن قاسم بن زيد القاضي وابن الفقيه الكلاعي وابن الكموني وأبا العرب الصقلي وابن حمديس وغيرهم كثيرين.
ويلتف الشعراء في آخر عهد الكلبيين حول أعظم شخصيتين بصقلية وهما الوالي - وكان حينئذ صمصام الدولة - وصاحب الخمس وكان يومئذ إبراهيم بن محمد الشامي (1) ومن الشعراء الصمصام: ابن الخياط وابن الرقباني والمشرف ابن رشد. ومن مداح صاحب الخمس المذكور: ابن الصباغ والمشرف بن راشد والحلواني.
فإذا تمثلنا الشعر الصقلي نامياً في تلك الفترة التي حددناها، وجدنا أن موعد إثماره إنما تم في نهاية القرن الرابع وأوائل الخامس، وكان مما ساعد على ذلك، الاستقلال السياسي والهدوء النسسبي في حياة البلاد، وتمثل صقلية للمؤثرات المشرقية، والدراسات العلمية والفلسفية بعد أن ضلت عهداً طويلاً تعيش على الفقه والحديث. ومع هذا النمو نلمح شيئاً من يقظة ابنائها على الرابطة الوطنية. فقد اتضح مع تبلور الشعر الصقلي شعور الناس " بالجزيرة " وتجسد معناها في نفوسهم. ويكفي الشاعر ان يقول " رعى الله أكناف الجزيرة " أو أن يمدح صاحب الخمس بقوله: شيخ القبيلة في الجزيرة (2) ، فيفهم الناس ما يعني ويتمثلون لهذه الجزيرة صورة واضحة في نفوسهم، وإنما جاء ذلك الشعور من سيطرة الاستقلال والوحدة السياسية على نفوس الناس.
وبدأت الأثمار الأدبية تتكور على تلك الشجرة التي طال عليها الأجل حتى ترعرعت، وقبل أن ينضج الثمر جاء الفتح النورماني يسقطه ويبدده، وفي لحظة من لحظات الفزع، هرع الشعراء والعلماء يلوذون باذيال الفرار، ويفارقون الجزيرة كأنها لم تكن ذات يوم وطناً حبيباً.
(1) ورد اسمه في الذخيرة 4/ 1: 224 أبو عبد الله محمد بن إبراهيم وصوابه إبراهيم بن محمد.
(2)
الذخيرة 4/ 1: 224 - 228.
الحقيقة الرابعة: الفتنة الأخيرة وأثرها في الشعر:
وأعني بها الفتنة التي أسقطت بني الفتنة التي أسقطت بني أبي الحسين الكلبي، وقسمت صقلية إلى دويلات صغيرة، وجعلت في كل مدينة أميراً، كما حدث في الأندلس بعد ذهاب العامرين، وانقسام مدنها بين ملوك الطوائف، وهي الفتنة التي جرت من بعد إلى الفتح النورماني، وإلى فقدان الجزيرة وضياع الوطن.
وأول شي فعلته تلك الفتنة أنها مزقت الشعراء بعد ان كانوا يلتفون حول وال واحد، فاختص ابن الخياط بابن الثمنة يمدحه ويشيد بانتصاراته، وذهب محمد ابن قاسم بن زيد القاضي يمدح على بن نعمة المعروف بابن الحواس، والتف حول ابن منكود بمازر جماعة من الشعراء الصقليين والطارئين وفيهم عبد الحليم الصقلي ابن رشيق. ولما استدعى الصقليون المعز بن باديس ليدخل الجزيرة - كما استدعى الأندلسيون يوسف بن تاشفين - انحاز إلى المنقذ الجديد جماعة من الشعراء منهم ابن الفقيه الكلاعي.
وكان حرياً بهذا الانقسام أن يجعل خصباً كثيراً، وأن يهيء للإجادة بما يبعث من منافسة، كما حدث في الأندلس أيضاً أيام ملوك الطوائف ولكن حال دون ذلك أساب منها: قصر الفترة التي عاشها صقلية تحت حكم أمراء الطوائف - أو القواد المستقلين - ولم يجد على صقلية في هذه الفترة شيء جديد، فالشعراء هم الشعراء، وكل ما حدث أن القواد توزعوهم فيما بينهم.
وقد عملت الفتنة شيئين في آن: أسقطت البيت الكلبي وحملتهم على مغادرة الجزيرة، وجاءت بحكام جدد، فقسمت الشعراء أيضاً فريقين: فريق ذهب يبكي بني أبي الحسسين، ويعدد فضائلهم، وفريق آخر يرحب بالمنقذين وفي طليعته ابن الفقيه الكلاعي الذي رفع عقيرته يقول (1) :
الله أكبر أودي الجور وانقشعت
…
سحب النفاق وزال الحادث النكر
(1) الترجمة رقم 143 عن المحمدين، الورقة، 20.
وتلك الفتنة هي التي جعلت الشاعر يفف موقف الحكيم الذي يحس، ببعد نظره، ما تنطوي عليه من نتائج سيئة، فهو يحذر منها ويدعو قومه إلى الائتلاف. وفي ذلك التحذير امتداد لما قلته عن تجسم الجزيرة بحدودها الجغرافية والسياسية في النفوس، وفيه روح من الحرص على مستقبل تلك " الجزيرة " التي لها أبناء يحبونها، لا مهاجرون يرون فيها مكاناً سخيا بالسمن والعسل. غير ان هذه الروح لم تلبث ان خفتت حين اصبح الانقسام حقيقة واقعة وغلب على نفوس أصحابها حب البقاء، فآثروا الانضمام إلى هذه الفئة أو تلك، واستسلموا لحكم المقادير.
ثم كانت الفتنة سبباً في ضياع الوطن وزوال السيادة الإسلامية عنه، فأي شيء أحدثه ذلك المصاب الكبير في نفوس الشعراء؟ إننا إذا استثنينا تلك الدموع الصادقة التي ذرفها ابن حمديس على وطنه لم نجد لضياع ذلك الوطن اثراً عميقاً في النفوس الصقلية، فلم يكن تجسد " الجزيرة " واضحاً مكتملاً، هذا مع أن القيروان حين سقطت، وجدت الشعر يخلد مأساتها ويحكي حالها بعاطفة صادقة، أما حين سقطت فلم تجد إلا شاعرها الشاب ابن حمديس. ومن أهم العوامل التي أضعفت التجاوب بين الصقليين ونكبهم في وطنهم نظرتهم إلى المأساة عن طريق الاستسلام، واعتقادهم أنه لم يصبهم إلا ما كتب الله لهم، وهذه نظرة تؤسى الجازع، فيستشعر قلة الجدوى في الحزن والبكاء ويحمل نفسه على الأخذ بفلسفة الصبر. ثمة عامل آخر لعله اقوى من سابقة وهو تعليل النوازل التي تحل بالناس على أساس الخطيئة، فقد أخطأت صقلية فلتذق جزاء ما اقترفت من ذنوب، وليس ما أصابها، وخاصة في رأي المتدينين، إلا عقاب من الله صبه عليها، وهي له مستحقة. ولست أناقش قرب هذا الرأي أو بعده ن الحقيقة، ولكن الجماعة إذا انتهت إلى هذا التلاوم في تحديد المسئولية فقدت القدرة على أن تلمس طبيعة المأساة نفسها في فقد الوطن. وقد عبر أحد الفقهاء الصقليين عن هذا الاتجاه حين ربط بين نهاية صقلية وجحود أهلها للنعمة في قوله (1) :
(1) الترجمة رقم 147 من المجموعة.
(مدينة) كانت وكنا بها
…
في ظل عيش ناعم رطب
مدّ عليها الأمن أستاره
…
فسار ذكراها مع الركب
لم يشكروا نعمة ما خولوا
…
فبدلوا الملح من العذاب ولو خفت صوت هذا التبرير، لارتفع صوت العاطفة الحزينة على ضياع الوطن. والتبرير نوع من التعزي، وهو في الوقت نفسه تهرب من مواجهة الألم ونبعه الحقيقي. أليس أبو العرب الصقلي قد فقد وطنه كما فقده ابن حمديس؟ فكيف كان وقع الشتات في نفسه؟ ذهب يفلسف ذلك التشرد على طريقة التصبر الكاذب ويقول:
إذا كان أصلي من تراب فكلها
…
بلادي وكل العالمين أقاربي كل تراب بلد، وكل العالمين أقارب - صلة ميتة، لم ينفخ فيها التجاوب الشعوري شيئاً من روحه فيجعل منها وطناً.
ومن الطريف أن البارون فون شاك تنبه إلى أن أبا العرب راح يقول عند ما خرج من صقلية " إن وطنه فارقه " - لا أنه فارق وطنه، وهو ملحظ مبني على قول الشاعر:
ويا وطني إن بنت عني فإنني
…
سأوطن أوكار العتاق النجائب والشاعر لم يقصد إلى هذا الفهم " الحرفي "، ولكن التعبير ذو دلالة صادقة على نفسية أبى العرب، فهو بالهفوات اللسانية أشبه، وإن كان صحيحاً مقبولاً.
ثم إن سقوط صقلية لم يتخذ في نفوس الصقليين شكل المأساة بالفتح النورماني، لأن النورمان لم يلجئوا الناس إلى فراق دينهم أو إلى الهرب عن أوطانهم بل أبقوهم حيث هم، واحتفظوا لهم بما كانوا يتمتعون به من حقوق، ولذلك لم يشعر كثير منهم أن وطنهم ضاع، كما شعر الأندلسيون. وهذه حقيقة هامة في فهم الرابطة بينهم وبين وطنهم، إلا ابن حمديس فإنه بكي ضياع الوطن، وبكي شبابه في ذلك الوطن لأنه شهد وقفة بلده أمام الغزاة
كما شهد استلامه. وكان الذين استسلموا من الشعراء لهذا الحادث مشمولين بالروح الدينية أما ابن حمديس فكانت " الوطنية " في شعره أقوى من التدين. وإذا طلبت الأثر الديني في شعره الذي بكي فيه وطنه وجدته يسيراً. وليس في تلك القصائد شاعر يطلب الرحمة لقومه، وإنما فيها صورة الوطن بكل ما فيه من جمال ورجولة وذكريات عذاب.
ومجمل القول أننا إذا استثنينا أشعار ابن حمديس العاطفية في البكاء على وطن ضاع، وجدنا سائر الشعر المتصل بالفتنة والفتح النورماني إما ينعي ذهاب مجد بني أبي الحسين الكلبيين كما في أشعار ابن الخياط، أو يلوم الصقليين على تماديهم في الفتنة، كما في شعر أبي محمد القاسم بن عبد الله التميمي فلهذا الشاعر قصيدة من طوال الصقليات، يؤرخ فيها حال صقلية أيام الفتنة، واقتتال الصقليين فيما بينهم، ثم كيف دخل الإفرنج الجزيرة وقاتلوا أهلها وغلبوا عليها، ومنها مصوراً حال الفتنة بعد مقدمة غزلية (1) :
سقى الله هيمَ الغرب لا بعض هامه
…
كما يمنع الغمضَ السليمٌ المنادم
وما كنت أسقي الغرب لو كان لم تكن
…
صقلية منه - وإن لام لائم
وإني لمنهم واحدٌ غير أنه
…
وشيء بيننا واش من البين غاشم
رزينا بذات البين حتى كأننا
…
نرى أن من يبغي سوى البغي آثم
يغير الفتى منا على مال نفسه
…
ويقتله عدواً أخوه الملائم
يجورُ دليلُ القوم عن سبل رشده
…
ويمضي على المكروه من هو نادم
نروح ونغدو في أمور لو أنه
…
رأى بعضها ما عاود النومَ حالم
كأن بحاراً بالوغى وكأنما
…
معاركنا طول الزمان مواسم
فطوراً نذود الموتَ عنا وتارةً
…
نموتُ كما ماتَ الحماةُ الأكارم
فلو كان مسلماً ذلك الحرب بيننا
…
ثلاثين عاماً ضامناً منه ضائم ثم يتطرق بعد ذلك إلى وصف هجوم الروم عليهم فيقول:
(1) عنوان الأديب1: 136.
سليي عن الإفرنج إن شئت واسمعي
…
حديثاً كنشر الروض والروض ناعم
أتوننا ولكن بالدروع أساوراً
…
ولكن أتينا والسيوفُ عزائم
على كل مشكول الطريد كأنما
…
قوائمه عند الطراد قوادم
إذا ما علا منا على الظهر فارسٌ
…
فليس بعيداً أن تطير القوائم
سماءٌ وأرضٌ من جناح وحافر
…
وليل وصبحٌ جحفلٌ وصوارم
فلا دَجنَ الإ أن تثور عجاجة
…
ولا مزن إلا أن تخر جماجم
كأنهمُ قد أحجموا حين أقدموا
…
فعادتْ عليهم والأنوف رواغم والشعر في هذه القصيدة ناظر إلى المتنبي في قصيدته " على قدر أهل العزم تأتي العزائم ". وحين ينهى من الوصف لحال صقلية يملأ قصيدته بالحكم فمن ذلك قوله:
إذا كان لا ينجيك أنك هاربٌ
…
فلم يبق حزمٌ غير أنك هاجم
وقد يجهلُ الإنسان في بعض حلمه
…
ويحملُ عنك الظلم أنك ظالم
وما السيفُ إلا من غرارة حلية
…
وإن رث منه غمدُهُ المتقادم
كأنك في دنياك ما زالت جاهلاً
…
إذا نتَ لم ينفعك أنك عالم
فلا تتزود غير ما أنت واجدٌ
…
إذا رُحتَ يقظاناً كأنك نائم