الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفتح النورماني
أحب أن أترك للتاريخ كثيراً من الحقائق التي تتصل بالنورمان أنفسهم - بأصلهم وبسبب مجيئهم إلى إيطاليا الجنوبية وبجهودهم فيها. وأدع لهذا التاريخ كثيراً من القول في بنائهم المملكة الصقلية وأنظمتهم في الإدارة والتشريع، والشئون المالية، وعلاقاتهم السياسية والدينية بالبابا وبالملوك والأباطرة. وأتجنب الحديث عن دورهم في الحروب الصليبية، وعن استيلاء أساطيلهم على الساحل الأفريقي، فإن الأخذ بكل هذه الحقائق يقصيني عن الهدف الذي أسعى إليه وهو الحديث عن حياة الشعر العربي في عصر النورمان، وفي سبيل هذه الغاية أراني سأقصر الحديث أولا على الفتح نفسه، لا لأن سيره كان ذا أثر في توزيع الأجناس، وفي نوع الحياة العقلية، ولكن لأنه يدل على الطريقة التي استقبله بها المسلمون، والنفسية التي دخلوا بها تحت لوائه. وهذا بدوره هو فاتحة القول فيمن بقي بصقلية من الجماعة الإسلامية، وفي تأثرها بالحياة الجديدة وأثرها فيها، ولجلاء هذه الأمور لابد من استعانة بوصف الحياة الاجتماعية والعقلية لتلك الجماعة وحدها إذ ليس من الطبيعي أن أصور كل جوانب الحياة - عقلية كانت أو اجتماعية - بين الجماعات كلها، وإنما أحاول أن أرسم الجو الذي عاش فيه الشعر.
وتعود بنا هذه البداية إلى النهاية التي بلغتها صقلية على أيدي قواد يتقاتلون فيما بينهم، على أسباب تختلف في تفاهتها، ولكن يوحد بينها الجشع وجب السيطرة. وفي إحدى المعارك هزم ابن الثمنة فخف إلى النورمان يستعين بهم ويعدهم ويمنيهم ويهون عليهم أمر القادة والجند (1) . وكان فتح صقلية حلماً من أحلامهم يزينه غني الجزيرة وخصبها، ويؤيده خوفهم من مجاورة المسلمين لهم
(1) ابن الأثير، والمكتبة:276.
وقربهم من أملاكهم (1) . فلما فاتحهم ابن الثمنة في الأمر واستوثقوا من ولائه لهم هاجموا مسينة بمعونته، واستولوا عليها 1016م واتخذوها قاعدة لأعمالهم الحربية، ثم ركدت الريح التي كانت تحدوهم حين توفي صديقهم ابن الثمنة في السنة التالية، واختلف الأخوان المحاربان روبرت ورجار، إلا أن اتفاقهما بعد قليل جعل رجار يجدد المحاولة لفتح الجزيرة، فحاول الاستيلاء يعون من أخيه على بلرم، ولكنه أخفق، ولم تكن المعارك الحربية التي قام بها في حقيقة الأمر إلا مناوشات بسيطة (2) .
في هذه الأثناء ذهب المسلمون بستصرخون المعز بن باديس لعله ينقذهم فأعانهم بأسطول كبير غرق أكثره في البحر. ومن جراء ذلك ضعفت قوة المعز، واستطاع العرب الهلاليون أن يتملكوا البلاد من يديه، فلما تولى تميم الحكم، أرسل أسطولا إلى الجزيرة، وعلى رأسه ابناه علي وأيوب. أما أيوب فنزل في بلرم، وأما علي فتوجه إلى جرجنت، ثم أنضم إليه أيوب وقد استطاع أن يستأثر بحب الجرجنتيين فغار منه ابن الحواس، وثار لحربه، وتحزب أهل جرجنت لأيوب ودارت بين الفريقين معركة قتل فيها ابن الحواس، ثم قامت فتنة أخرى بين أهل المدينة وعبيد تميم فرجع أيوب وأخوه على إلى إفريقية (3) .
والحقيقة التي لم تذكرها المصادر العربية هي أن ابني تميم حاربا النورمان عند مكان يدعى مسلمري Misilmeri (4) وهزما، وأصبحت عودتهما إلى أفريقية أمراً مؤكداً. وبعد هزيمة ابني تميم اضطرب أمر المسلمين في الجزيرة، ولم يبق فيهم من يوحد قوتهم، ويقف بها في وجه العدو، وكان النورمان قد تقووا بمعونة بحرية من بيشة Pisa، وصمموا على أن يحتلوا بلرم لغناها
(1) Cambridge Med. Hist. VOL. 5 P. 176
(2)
E. Curtis؛ Roger of Sicily، P. 66
(3)
ابن الأثير، والمكتبة: 277، والنويري في المكتبة:448.
(4)
Amari؛ S.D.M. vol، 3 P. 114.
ولأهمية موقعها، فأعدوا لحصارها خمسين سفينة جمعها جسكارد Guiscard من باري ومدن أبولية وتقدم بها من البحر، بينما سار إليها رجار من البر في جييش عدده ثمانية عشر ألفاً. وصب الأسطول على مينائها وأحاط بها الجيش البري إحاطة تامة، وظلت المدينة تقاوم الحصار مدة خمسة أشهر كان السكان في أثنائها شديدي الثقة بأنفسهم، حتى كانوا يأبون أن يغلقوا أبواب مدينتهم (1) . غير أن المؤن قلتْ فانتشرت بينهم المجاعة والوباء لكثرة الجثث التي تركت بالعراء دون دفن (2) . وشدد الأسطول الحصار وكان معظم السكان لجأوا إلى الميناء وأغلقوه بالسلاسل. غير أن الجوع الوباء والتعب جميعاً كسرت من شرتهم، فوقعت الخالصة أولا في أيدي الأعداء فدخلوا ينهبون ويذبحون السباب ويفرقون الأطفال فيما بينهم ليبيعوهم عبيداً (3) . ومع أن البلرميين كانوا يرون قدم المصيبة يطأ رقابهم فإنهم لم يكفوا عن الاختلاف والتناجر، وعجل اختلافهم وتناحرهم بسقوط المدينة القديمة بعد الخالصة، ودخلها رجار ووراءه فرسانه، واستولى على مسجدها وحوله إلى كنيسة.
وسلمت مازر لما رأت ما حل ببلرم، وانتهى الدور الأول من الفتح حين سقطت عاصمة الكلبيين سنة 464هـ - 1072م وظل النورمان عشرين سنة حتى تم لهم الاستيلاء على الجزيرة كلها، ولم يكونوا قد ملكوا في هذا الدور الأول إلا بلرم ومازر ومسينة وقطانية ولكنهم باستيلائهم على هذه المنطقة أحاطوا بما تبقى للأمراء المسلمين في سرقوسة وطرابنش وجرجنت وقصريانة (4) .
أما سرقوسة فقام فيها رجل اسمه Benavert (ابن عباد)(5) ونظم المقاومة
(1) Freeman؛ Hist. Essays، 3rd scries، P. 453
(2)
Amari؛ cp. Cit. P. 124
(3)
Amari؛ S.D.M. VOL، 3 P. 130
(4)
Amari؛ S.D.M. VOL، 3 P. 153
(5)
هذا هو اسمه عند ملاترا ولا تذكره المصادر العربية، وقد كان أماري يظن أنه هو ابن بريده الذي يمدحه ابن حمديس ثم عدل عن رأيه ومن العجيب أن ابن حمديس لا يذكره على شدة العلاقة بين قصائده وأعمال البطولة الأخيرة في سرقوسة.
في ولاية نوطس براً وبحراً، حتى استحق من المؤرخ النورماني ثناء عليه بالدهاء والجرأة والمهارة في القيادة، وإتقان الخدعة في الحرب (1) . وفي إحدى المعارك استطاع أن يكسر جردان ابن رجار (2) مما اضطر رجار أن يوجه إليه اهتمامه، غير أ، هـ عاد فانصرف عنه واحتل بأسطول كان قد بناه مدينة طرابنش سنة 1077م وهدم سورها، وتملك أرضها ووزعها على اتباعه (3) . ثم استولى على طبرمين سنة 1079م فلم يبق في يد المسلمين إلا جرجنت وسرقوسة وقصريانة ونوطس وبثيرة. ويحدثنا المؤرخ ملاترا أن ابن عباد استطاع في سنة 1081م أن يشتري بالمنح والوعود حاكم قطانية من قبل رجار واسمه Bencimino وهو لفظ قريب الشبه بابن الثمنة (وربما كان ابناً أو قريباً لابن الثمنة الكبير مما يدل على أنه كان يتعاون مع النورمان غير خائن واحد من تلك الأسرة) فسلمه هذا مدينة قطانية فاتسع سلطانه حتى أصبح لا يكتفي بالمقاومة والدفاع بل توجه سنة 1084 إلى قومه إلى قلورية ونهب ريو ونقطرة وعاد ظافراً. ورأى رجار أنه لابد من جولة حاسمه مع ابن عباد فقابله عند سرقوسة أسطول قوي سنة 1085، وأخذت سفن ابن عباد تغرق بعد أخرى، وكلما غرقت به واحدة وثب منها إلى واحدة لم تغرق، ولكنه زلت به القدم فتلقاه البحر، ويقول المؤرخ المجهول إن رجار أرسل جثته إلى الأمير تميم بإفريقية. وبعد ذلك القائد الجريء استسلمت سرقوسة لما قدر عليها أواخر أكتوبر عام 1086، وفي إحدى الليالي تسلل منها بعض زعماء المسلمين إلى نوطس ومعهم زوج ابن عباد وابنه (4) .
ثم سقطت جرجنت ولحقت بها قصريانة وكان أميرها ابن حمود، وقد تنصر هذا الأمير وطلب إلى رجار أن ينقله من قصريانة لأنه لم يعد يأمن
(1) Amari، op. Cit
(2)
Amari، op. Cit. P. 154؛ Curtis؛ Rroger of Sicily، P.67
(3)
Amari،، 3 P. 157
(4)
Amari، 3، P. 169
المسلمين على نفسه، ولأنه لم يكن يحب أن يتحمل مسؤلية ما قد يحكيه أهل المدينة من مؤامرات وفتن، ويقول أماري: - " إن ذلك العلوي الدنيء الرخيص لجأ إلى إيطاليا حيث أكنه رجار قريباً من ميلاطو وظل هنالك يحيا هنالك يحيا في هدوء مدة طويلة "(1) . ثم سقطت نوطس وتبعتها بثيرة سنة 1091، وانتهت بذلك عمليات الفتح النورماني، ولا شك في أن بعض المقاومة التي لقبها النورمان مضافاً إليها قلة عساكرهم وضعف أسطولهم هي العوامل التي أطالت فترة الفتح.
(1) Amari؛ OP. Cit
فراغ