الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4
-
وقفته من مشكلة الغيب والغد
وهناك معنى يديره ابن الخياط كثيراً في شعره، وهو يمدح الأمراء الكلبيين، وذلك هو نفاذ البصيرة وبعد النظر، حتى كأن الممدوح امرؤ يضرب بسهم في الغيب، ولديه المقدرة القادرة على تصور ما يجيء به المستقبل، من ذلك قوله في انتصار الدولة:
تبدو بخاطرة الغيوب جليةً
…
ويرى الضمائر إثرهن خواطر وقوله في:
فطنٌ يحدّثُ بالغيوب تظنياً
…
فكأنما لحظاته في الخاطر وقوله فيه وفي أبيه مستخلص الدولة:
فكأنما الحدثان خلف زجاجة
…
تريانه خلل الغيوب شفيفا
وكأن أسرار الوجوه تصورت
…
لكما بأسرار القلوب حروفا ويبدو لي أن هذا المعنى جاءه من ناحيتين: من تأثير الحالة السياسية المتقلبة التي كانت تنذر بالشر، ومن حالته النفسية التي كان يعييها التفكير في الغيب، وتحس بالعجز عن معرفة كنهه، كلما حاولت ذلك، فاقدر الناس أقدرهم بالنسبة إليه، والعظيم عظيم لأنه يستطيع ما يعجز هو منه، وهو يريد أن يشيح بوجهه عن الغيب لأنه يقلقه فيحيل الاطلاع عليه إلى غيره، والحالة النفسسية التي كان يجدها ومعنى العجز الذي كان يحسه إزاء الغيب ينقله لك بقوله:
وغدٌ وبعد غد بمضمونيهما
…
عدةٌ تغيبُ والغيوبُ لها نبا
وحوادثُ الأيام أكثرُ عبرةً
…
من أن يحيطَ بها القياس فتحسبا
فهو مشغول بقياس القادم على الماضي ولكن هذا القياس يخيب ظنه ويرد تأويله في نحره.
ومن جراء هذه الحيرة تجده تعلق بالحاضر لا بالماضي ولا بالمستقبل، بينما قضت الظروف على ابن حمديس مثلا أن يعيش دائماً في ماضيه، ولذلك تسمع ابن الخياط يقول:
ما كان أمس فقد فات الزمانُ به
…
وما يكون غداً في الغيب موعودُ
وبين ذينك وقتٌ أنت صاحبه
…
في حالتيه فمذمومٌ ومحمود وتعلو هذه الفلسفة عنده وتكون على أشدها في قوله:
تمتعْ بالمنام على شمال
…
فسوف يطولُ نومكَ باليمين
ومتعْ من يحبك من تلاق
…
فأنت من الفراق على يقين وقد كان وصف الممدوح بنفاذ البصيرة وبعد النظر واستطلاع الغيب ديدن المداحين من شعراء صقلية، وليس لهذه الظاهرة صلة بفكرة الألوهية، ورفع الممدوح إلى مرتبة علية، ولكن فيها شيء من سخرية الواقع بالصقليين لإحساسهم بالعجز عن النفاذ في هذا الباب المغلق، وليس في حياتهم السياسية ولا في شوراهم الاجتماعية شيء من بعد النظر، لأن المصلحة العاجلة كانت تبتسر أفكارهم، وتختزل لباقتهم في حساب النتائج، أما سخرية المستقبل بآراء ابن الخياط في ممدوحيه فغنية عن التنويه بها، فقد كان من مصيبة أولئك الممدوحين ببعد النظر أن أفقدهم بعد نظرهم الجزيرة، وأما سخرية الغيب بابن الخياط نفسه فهي تلك النومة الطويلة على اليمين.
بهذه الفلسفة في الغد والوقوف الحائر عند مشكلته نرانا إزاء شاعر صقلي ذي فلسفة ذات معالم بينة، وقد رأينا ابن حمديس ذا مذهب في اللذة. وهذا شاعر ذو مذهب في تأمل الحياة، وكلاهما صادق في استمداد تلك الفلسفة من واقع حياته بصقلية، وقد كانت مشكلة الغد المحجوب في حياة الصقليين واقعاً
اجتماعياً وسياسياً - لا قدراً فحسب - فهم على أطراف خطر دائم من جيرانهم ومن أنفسهم، فليست المشكلة هنا، كما يراها كل فرد، ولكنها قضية الجماعة التي تعيش متوجسة خائفة فإذا ثقل عليها الخوف والتوجس، تبلد إحساسها بما كان وما سيكون، وقنعت من دنياها بالحاضر تحياه إلى أن يقع بها على حدود الزمان المقبل، وهكذا أبداً.
وقد كان ابن الخياط من جراء واقعه الذي خلق فيه تلك الفلسفة يعيش في انتظار الأحوال أن تنقلب إلى أحسن ليعانق انقلابها ويحييه. أرأيت إليه وهو يرتفع ببني أبي الحسين ويتحدث عن بقايا الحسن وعن ذبول النوار وعن تلك الوجوه التي مزج ماؤها بالكرم، أرأيت إليه كيف انقلب في ساعة واحدة لما استوى ابن الثمنة على غارب الأمر وراح يسير في موكبه مهللا يقول:
سر حيثُ فأنتَ وحدك عسكرُ
…
والناسُ بعدَكَ فضْلةٌ لا تذكرُ ولقد شهد ابن الخياط فتنة صقلية فلبس فيها عباءة الحكيم، وذهب يحذر قومه أمرها ويحدثهم عن صدور الأمر الكبير من الصغير، والنار من الشرارة، ويقول:
وقلتُ تلَافوا شجة الدهر إنها
…
إذا نغلتْ أعيت مطبة آس فإذا جرت إلى الويل قال لهم: ألم أنبهكم؟
لا يهنْ عليك حقيرٌ
…
رب شأن يكون منه شئون وشجة الدهر التي نغلت وأعيت كل طبيب - هذا التعبير دليل على يقظة حسية في ابن الخياط لما كان يراه في وطنه، ولعل هذه اليقظة ثم اعتقاده أنه أدى واجبه بتلك النصائح هما الأمران اللذان خففا وقع الحزن على نفسه عند ضياع ذلك الوطن فلم يرثه بشيء.
ثم انتهت الفتنة بعد ما خرج ابن الثمنة من وسط اللهب فإذا ابن الخياط يطلب الحياة من جديد، ويعيش كما يريد الحاضر وينسى الماضي، لأنه خلق لحاضره وخلق حاضره له أملاً يكفيه حتى ينقضي، ولم يكن مثالياً لنقول إنه سقط دون مثله وتنكر لها.