الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صقلية المحدودة تسع أطماعه المترامية، وخرج وهو يقدر أن يعود، ثم أرادت له الأقدار شيئاً آخر فلم يعد يستطيع أن يرجع إلى صقلية ليعيش مادحاً لقوم أعلن عليهم سخطه، ورآهم سبب المصيبة التي حلت بوطنه، ورضى بالغربة ليبكى تقصيره في حق الوطن، ولم تطمئن به حاله حيث وقع، لولا أملٌ كان يراوده بأنه سيكون شاعراً كبيراً في بلاط أمير كبير.
4
-
الآثار التي تركتها صقلية في نفسه وشعره
كثرت المؤثرات في حياة ابن حمديس وفي شعره بعد صقلية - زادت تجاربه في الحياة، واتسعت ثقافته، وأخذت وقدة الشباب تخمد في كيانه، واحتضنته بيئة أو بيئات جديدة تغاير صقلية في مؤثراتها ومظاهرها، فاصبح في شعره مجال للتجربة التي تهيئها السن، ومجال آخر للثقافة التي يزوده بهها الدرس. وبعد أن كانت صقلية تريد لشعره أن يسلم من وصف الناقة والرحلة للمدوح، ووصف الأطلال عادت البيئة الإفريقية فأمدته بهذا اللون، وأملت عليه الحروب المتتالية بين إفريقية وصقلية أن يفسح للدين والجهاد في سبيل الإسلام - بدلا من الجهاد في سبيل الوطن - موضعاً في شعره.
ولكن هذه الحياة بما فيها من ألوان لم تستطع أن تنسيه صقلية إذ لم يكن لها قبل بمحو الشباب وذكرياته، بل لعل صقلية ظلت أقوى من كل مؤثر جديد إذا كان صدق الشعور دليلنا على قيمة كل مؤثر، جديداً كان أو قديماً. وما كان ابن حمديس يتحدث عن شعوره ببساطة صادقة مزودة بشعلة عاطفية، إلا حين كان يذكر صقلية أو شيئاً يتعلق بها، وما كان يصحو إلى حقيقة وجوده المنطوي على مأساة، إلا حين كان يبلغه كتاب من قريب أو صديق أو
يصلى نعي قريب صقلي أو صديق - وكانت أكثر ذكرياته من وطنه تتصل بمتعة الشباب وصداقاته، أي تتصل بالأشخاص، وفي إحدى القصائد نراه يذكر الوطن بأزهاره فقد رأى النيلوفر مرة وقال:
هو ابن بلادي كاغترابي اغترابه
…
كلانا عن الأوطان أزعجه الدهر وهذه العلاقة بالناس وذلك الحب لهم يفسران لنا جانباً هاماً من شخصية ابن حمديس الشاعر الذي كان يحب الجماعة ولا يقوى على العزلة، آما النقمة التي قد تصادفنا في ديوانه على الناس وأهل الدهر فنقمة عارضة تمليها حوادث عارضة.
ولما كان هذا البحث لا يتحمل دراسة الآثار التي تركتها صقلية في نفسه وشعره بالتفصيل - لأن شعره أثناءها بغير صقلية - فإني أجمل تلك الآثار إجمالا:
1 -
قضى ضياع الوطن بتغير فلسفته في اللذة - كما أشرت من قبل - وبعد أن كانت الخمر غاية في نفسها أصبحت عوناً له على نسيان الهموم. ولقوة همومه أصبحت الخمر أداة تحركها بدلا من أن تخمدها، وقد لمح هو هذه الظاهرة في حياته، في قصيدة لعلها من القصائد التي قالها بعد سقوط صقلية فقال:
يجر على شرب الراح هما
…
ويورثُ قلبي الشدوُ اكتئابا
وفي خلق الزمان طباع خلف
…
تمررُ في فمي النغب العذابا 2 - ومن ثم اتصل الحزن بقلبه وبحياته، فقضي طول عمره يبكي مصائب الناس ويشاركهم في أتراحهم. نعم إن نصيبه من الشعور الإنساني كان وافراً ولكنه كان في كل مصيبة جديدة يبكي صقلية القديمة، وكانت الجزيرة تحضر
في نفسه دون استدعاء واستجلاب، لأنها دائماً حاضرة لا تغيب. وقد يفهم من هذا أن بكاءه مع الآخرين كان تظاهراً، ولكن الأمر لم يكن كذلك فإن صقلية كانت تتمثل له في كل حزن فيبكي مصائب الآخرين بشعور من الحزن عميق الجذور، وذلك التمثل الدائم قد جعل حزنه في كل مرحلة وعند أية مصيبة يظهر صادقاً، وكانت كل فاجعة لديه تمثل له بناء ينقض لأمرين: لأن صقلية تهدمت وأصبح يراها طللا - ويبكي الأطلال من أجلها - ولأن ابن حمديس بناء كانت الأعوام تشرف به على السقوط. وحده بكائه على ماضيه مستمدة من علاقة هذا الماضي بصقلية، ومن ثم عاش في ذلك الماضي، فكان كالرحالة الذي يحدث عن عجائب ما رأى، وكان في استطاعته أن يكبر تلك الذكريات ويضخمها لأنه كان يطل على مشارف كل حاضر يجد من ابعد نقطة فيه، ومع ذلك فإن ابن حمديس لم يغل في لك.
3 -
واستولى عليه الشعور الدائم بالغربة وفي هذا وحده دليل كاف على أن البيئات الجديدة لم تكن تتجاوب مع قلبه. وقد بدأت الغربة في حياته حقيقة تتصل بيوم الفراق، وانتهت أكبر حقيقة تاريخية عاطفية في حياته ولما شاء أن ينظر إلى أول يوم أزمع فيه الرحلة، قرنه بالتنبؤ لها، وأنها ستكون رحلة وحسب، طرفها الأول يوم الفراق وطرفها الثاني الأجل. وربما لم يكن لهذا التنبؤ من وجود ولكن عز عليه أن لا يكون للاشفاق من فراق الوطن نصيب في قلبه منذ البداية وإلى هذا يشير قوله:
وقالت غرابيبٌ دَرجنَ ببينه
…
سيستدرج الأيام وهو غريب
فما كان إلا ما قضي بالها به
…
فهل كان عنها الغيبُ ليس يغيب؟ وتنبه هذا المعنى - الغربة - في حياته لما مات أبوه، وأصبح يرى في وطنه منبعاً يقذف بالغرباء سواء في ذلك من يموت أو من يرحل:
ورحت إلى غربة مرّة
…
وراح إلى غربة ساجيه ولما توفيت عمته لم يؤلمه شيء بقدر ما آلمه أنها ماتت غريبة:
فيا ليتني شاهدتُ نعشك إذ مشى
…
حواليه لا أهلي حفاةً ولا صحبي
ودفنك بالأيدي الغريبة والتقت
…
مع الموت في إخفاء شخصك في حدب وحسبك أنه رجل لم يطمئن به جنبه في أي مكان حله، حتى إنه ليحس في الثمانين أنه غريب، وقد كان من المنتظر أن ينسيه مر الأعوام أمله بالعودة إلى الوطن، ويمهد وطناً جديداً، ولكن الأعوام زادت شعوره بأن الوطن في ذلك الاتجاه الواقع على مسافة كذا من حيث يسكن، وظل ينظر في تلك الوجهة إلى البقعة التي انتزع منها. رجل في الثمانين من عمره لا يزال يحس أنه غريب أي بعد مضى ست وخمسين سنة منذ أن خرج من وطنه؟ إن كان لهذا دلالة فإن معناه أن الوطن كان؟ كل شيء في حياته - وليس كثيراً أن يكون أي أثر إلى جانبه سطحياً، وفي سن الثمانين قال يرثى ابنته (1) :
أراني غريباً قد بكيتُ غريبةً
…
كلانا مشوقٌ للموطن والأهل
بكتني وظنتْ أنني مت قبلها
…
فعشت وماتت وهي محزونة - قبلي - ومن هذا الوجد الشديد تشخصت الغربة في نفسه فلم تعد معنى مجرداً هائماً، وإنما أصبحت هي ابن حمديس، فإذا ذكرت الغربة أو دعيت أجاب:
أنا من صاح به يوم النوى
…
عن مغانيه غرابٌ فاغتربْ
طفت في الآفاق حتى اكتهلت
…
غربتي واحتنكت سن الأدب وتلك الغربة التي اكتهلت هي ابن حمديس الذي اكتهل.
4 -
وبقدر ما عمقت صقلية شعوره بالحزن لم تستطع أن تخلق له " مشكلة " يحاكمها ويحوم حولها ويحاول حلها، كان الحزن في حياته ذكريات متصلة وحلماً
(1) القصيدة رقم 145.
طائفاً من عالم الماضي، ولكنه لم يصبح في حياته فلسفة ولا كان نتاجاً لها، حتى الموت ظل حيث كان - ظل تلك القوة الجبارة التي تتخطف العصم وتردى عقاب الجو - كما رآه أبو ذؤيب ذات مرة، أما هو فلم يسأل نفسه عن التناقضات التي طرحته الحياة فيها، ولم تتعقد في نفسه مشكلة الوجود أو مشكلة الفناء، ولم يصرخ ثائراً لأنه غريب، بل لم يستفد من هذه الغربة في المكان فلسفة الغربة الإنسانية عامة، - كان يشعر دائماً بالعجز إزاء كل مشكلة فيتركها لنفسها، وكان ليطمئن نفسه بعجز الطبيب الذي لا يرد العوداي عن نفسه، ويعجز الفيلسوف " عن طرق ليست لأهل العقول منسلكة "، وبعجز القائد القوي الذي لا يغني عنه سلاحه. وظل ينحدر في درجات السلم لا ليسأل نفسه إلى أين ولكن ليعد تلك الدرجات، أربعون، خمسون، خمس وخمسون، ستون، ست وستون، كان مشفقاً من أن يبلغ النهاية ولما بلغها كانت صقلية لا تزال على شفتيه، والغربة لا تزال محور حديثه، وكانت الشيخوخة قد حالت بينه وبين رؤية مشاهد الوجود بعينيه، لير - بعين المخيلة - صقلية وشبابه فيها.