المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌هجرة الشعر إلى صقلية - ابن قلاقس الإسكندري - العرب في صقلية

[إحسان عباس]

فهرس الكتاب

- ‌الكتاب الأول

- ‌صقلية في العصر الإسلامي

- ‌الفصل الأول

- ‌الحياة السياسية

- ‌1

- ‌ لمحة جغرافية

- ‌2

- ‌ صقلية في العهد البيزنطي

- ‌(3)

- ‌ الفتح الإسلامي

- ‌4

- ‌ الفتن الصقلية في فترة الانتقال من يد الأغالبة إلى بنيأبي الحسين

- ‌5

- ‌ صقلية تحت حكم بني أبي الحسين الكلبيين

- ‌6

- ‌ أمراء الطوائف

- ‌7

- ‌ الحكومة الإسلامية بصقلية

- ‌الفصل الثاني

- ‌الحياة الاجتماعية

- ‌1

- ‌ طبيعة الفتح العربي

- ‌2

- ‌ أهل الذمة

- ‌3

- ‌ الأجناس التي دخلت صقلية

- ‌4

- ‌ الأنظمة المالية والتفاوت في الثروة

- ‌5

- ‌ النهضة الزراعية والصناعية

- ‌6

- ‌ الدين والأخلاق

- ‌الفصل الثالث

- ‌الحياة العقلية

- ‌1

- ‌ صقلية والصلات الثقافية

- ‌2

- ‌ المدارس والمعلمون

- ‌3

- ‌ هجرة الكتب إلى صقلية

- ‌ 4

- ‌ الفقه والحديث والقراءات

- ‌5

- ‌ النواحي اللغوية

- ‌6

- ‌ الزهد والتصوف

- ‌7

- ‌ علوم الأوائل

- ‌8

- ‌ نظرة إجمالية

- ‌الكتاب الثاني

- ‌صقلية الإسلامية في العصر النورماني

- ‌الفصل الأول

- ‌الفتح النورماني

- ‌الفتح النورماني

- ‌الفصل الثاني

- ‌الحياة الاجتماعية للمسلمينفي العصر الروماني

- ‌1

- ‌ العلاقات السياسية الخارجية وأثرها في مسلمي صقلية

- ‌2

- ‌ أثر الإقطاع في الجماعة الإسلامية

- ‌3

- ‌ الإدارة الإسلامية

- ‌4

- ‌ الصبغة الإسلامية في الدولة

- ‌5

- ‌ المسلمون بين التسامح والاضطهاد

- ‌الفصل الثالث

- ‌الحياة العقلية

- ‌مجالاتها الجديدة ونصيب المسلمين فيها

- ‌الحياة العقلية

- ‌مجالاتها الجديدة ونصيب المسلمين فيها

- ‌الكتاب الثالث

- ‌حياة الشعر العربيفي صقلية

- ‌الفصل الأول

- ‌المكونات الكبرى في شعر صقلية الإسلامية

- ‌المكونات الكبرى في شعر صقلية الإسلامية

- ‌الفصل الثاني

- ‌الشعر الصقلي بين القوة والضعففي العصر الإسلامي

- ‌الشعر الصقلي بين القوة والضعففي العصر الإسلامي

- ‌3

- ‌ ابن الخياط وحياة الحرب والفتن أيام الكلبيين

- ‌4

- ‌ وقفته من مشكلة الغيب والغد

- ‌5

- ‌ الطبيعة الريفية في شعره

- ‌6

- ‌ البيئة المدنية في شعره

- ‌ صنعته الشعرية

- ‌7

- ‌الفصل الرابع

- ‌هجرة الشعر من صقلية

- ‌هجرة العلم والشعر إجمالاً

- ‌الفصل الخامس

- ‌ابن حمديس أثر من آثار الفتح

- ‌1

- ‌ مجمل حياته

- ‌2

- ‌ الشعر الصقلي في ديوانه

- ‌3

- ‌ تحليل قصيدتين صقليتين

- ‌4

- ‌ الآثار التي تركتها صقلية في نفسه وشعره

- ‌الفصل السادس

- ‌حياة الشعر في العصر النورماني

- ‌1

- ‌ شعر هذا العصر من حيث الكم والاتجاه

- ‌2

- ‌ وصف القصور والمتنزهات

- ‌3

- ‌ الشعر في البيئة الإسلامية

- ‌4

- ‌ مقارنة بين الشعر في البيئة الإسلامية والشعر في البلاط النورماني

- ‌الفصل السابع

- ‌هجرة الشعر إلى صقلية

- ‌ابن قلاقس الإسكندري

- ‌هجرة الشعر إلى صقلية - ابن قلاقس الإسكندري

- ‌خاتمة

- ‌الشخصية الصقلية والشعر

- ‌1

- ‌ الطبيعة الأرضية وأثرها في الشعر

- ‌2

- ‌ صقلية ملتقى شعوب لا وطن شعب وأثر ذلك في الشعر

- ‌3

- ‌ الموقع الجغرافي والسمات التي تركها في الشعر

- ‌4

- ‌ صقلية بين التأثر والتأثير

الفصل: ‌هجرة الشعر إلى صقلية - ابن قلاقس الإسكندري

‌هجرة الشعر إلى صقلية - ابن قلاقس الإسكندري

كل ما تقدم من حديث عن شعر العصر النورماني يشمل عصر رجار على وجه الخصوص، وليس بعده شعر عربي صقلي إلا نقوش على القصور من أثلتها في قصر لغليالم الثاني (1) :

تأمل وقفْ ترَ خير إيوان

لخير ملوك الأرض غليالم الثاني ولكن إغراء الأدباء والشعراء بالقدوم إلى صقلية وتشجيعهم على ذلك بالمنح والعطايا كان لا يزال دأب الملك النورماني منذ أن سن رجار هذه الطريقة. ولعل هذا هو الذي أثار ابن قلاقس عن مصر وحمله على زيادة صقلية إذ ليس هناك إشارة واضحة إلى الدافع الذي حدا به القيام بتلك الرحلة. وذكر ابن ميسر في تاريخه " أن رجار يحب مديح الشعراء ويجزيهم فذهب إليه جماعة من الشعراء ومدحوه منهم ابن قلاقس، وأمر أن يصنف له تاريخ فصنف له تاريخ كبير "(2) . وفي هذا النص سهو فإن ابن قلاقس لم يزر رجار وإنما زار صقلية أيام غليالم الثاني، وأما التاريخ الكبير الذي صنف له فربما كان إشارة إلى كتاب الإدريسي وهو في الجغرافية لا في التاريخ. ولسنا ندري هل اتصل ابن قلاقس الإدريسي الثاني أو لم يتصل، فقد كان غليالم حين دخل ابن قلاقس صقلية سنة 563هـ؟ لا يزال تحت وصاية أمه. وليس في ديوانه؟ أو ما تبقى منه؟ قصيدة في مدح صاحب صقلية. وينص الصفدي على أنه مدح ملك صقلية الإفرنجي

(1) Amari؛ Le Epigrafi arabiche di sicilia P. 72.

(2)

تاريخ ابن ميسر: 85.

ص: 287

(غليالم) وأن جملة ما أعطاه هذا الملك مركب مملوء جبناً (1) ومما قد يؤدي هذا النص أن ابن قلاقس عرف شخصاً يسمى " جردان "(2) وهو يدعى في ديوانه وزير صاحب صقلية، ومدحه بقصيدة مثبتة فيما بقى من شعره. واتصاله بالوزير أو بهذه الشخصية العظيمة مما قد يجعل اتصاله بصاحب صقلية نفسه محتملا. ولكن من هو (جردان) هذا؟ إن التاريخ لا يسمى إلا اسطفان المستشار عند والدة غليالم الذي كان بمرتبة الوزير. ولكن إذا صدقنا ابن جبير الذي يتحدث عن وزراء غليالم بصيغة الجمع لم نستبعد أن يكون هنالك وزراء كثيرون لغليالم ولا يبعد أن يكون جردانو واحداً منهم، بل ربما كان الأرجح أن جردانو وكثيرين غيره كانوا أعضاء المجلس Curia في بلاط الملك، وإذن فيكون جردانو أحد أولئك الأعوان الشيوخ. وفي مدحه يقول ابن قلاقس (3) :

وجردنا المدائح فاستقرت

على أوصاف جردنا الوزير

فنظمنا المفاخر كاللآلى

وحلينا المعالي كالنحور

وقمنا في سماء العز نرعى

جبين الشمس في اليوم المطير

وأعجبُ ما جرى أنا أمنا

ونحن بجانب الليث الهصور وواضح أن ابن قلاقس يحوم حول مدح لينفذ إلى صفات يمدح بها، ويبهم في القول فيستعمل ألفاظ المفاخر والمعالي والعز، ولكن قدرة الشاعر في هذا الإبهام جعلت التحويم حول المدح خيراً من المدح نفسه، فلما نفذ إلى المدح المباشر عاد يرتطم بصخور المبالغة، وهو يحاول أن يقلبها على كتفي ممدوحه ويقول:

لهيبُ صواعق العزَمات منه

يكادُ يذيبُ أفئدة الصخور

(1) أعيان العصر مجلد 2 الورقة 219 والنص على أ، هـ مدحه عند ابن خلكان أيضاً.

(2)

في نسخة الديوان المطبوعة يسمى يزجرد.

(3)

النص في الخريدة نسخة نور عثمانية.

ص: 288

وماءُ مكارم الأخلاق منه

يكادُ يردّ صاعدةَ الزفير

وأغراسُ الأماني في يديه

تهز معاطف الروح النضير ويدل ما تبقى من رسائله على أ، هـ تعرف في حضرة غليالم إلى القائد غارات ابن جوشن " خاصة المملكة الغليلمية بصقلية " وفي كتاب له كتبه إليه شكر على ما لقيه في جنابه من حفاوة وإكرام " فقد فارق جنابها (الحضرة) الكريم ممتلء اليد نعمةً، والفم نغمة والخاطر آمالا، والناظر أموالا، اصطناعاً منها، وتفضلاً أبى الله أن يصدرَ إلا عنها "(1) .

وكات كذلك السديد الحصري وهو اسم يذكرنا بمنافس ابن الحجر الذي يسميه هوجر فلقندو Sedictus وفي كتابه إليه دعابة تدور حول شهر رمضان، وأنه شهر عظيم البركة، ثقيل الحركة، ودعاء لعله أن يمضي سريعاً، ويقضي بخنجر الفطر صريعاً (2) . ولكنه كان أكثر أنساً بشخص ثالث اسمه ابن فاتح وهو شيخ فقيه أديب بصقلية، يطلب إليه في رسالة عوناً على السفر " فإن رأت (الحضرة) أن تيسر له أسباب سفره، وتفتح له أبواب ظفره، قبل خروج ركابها العالي، فلسان شكره ينقلب دعاء، ويكون له سمع الإجابة وعاء "(3) .

فهذه الرسائل قد عرفتنا بثلاثة من المسلمين في بلرم ولعلهم كانوا جميعاً من رجال الدولة ومن الزعماء في بني قومهم.

ولكن ابن قلاقس في صقلية اختص بمدائحه أبا القاسم بن الحجر، ابن حمود زعيم المسلمين حينئذ في الجزيرة والذي نعرفه من التاريخ أن أبا القاسم

(1) ترسل ابن قلاقس: 34 من نسخة خطية رقم 617 أدب بالتيمورية.

(2)

المصدر نفسه: 47 - 48.

(3)

لمصدر نفسه: 43.

ص: 289

كان يلقب بالقائد، وينافس في الزعامة مسلماً آخر، ويحرض المسلمين على أسطفان، وأنه كان من الأغنياء ذوي الإقطاعات الواسعة، وقد رأى ابن جبير له ولإخوته وأهل بيته في بلرم قصوراً مشيدة أنيقة، وكان ذا أطماع بعيدة، يحلم بعودة الجزيرة إلى حوزة المسلمين، ويعمل لذلك، ويعمل لذلك، حتى ليقول الهروي إنه اجتمع به في صقلية فأعطاه أبو القاسم كتاباً إلى السلطان يحثه فيه على أخذ الجزيرة (1) . ولعل هذا التدبير قد استغله أعداؤه فوشوا به إلى الملك، فغضب عليه وصادر أمواله حتى أغرمه ما يزيد على ثلاثين ألف دينار مؤمنية، وتخلى عن جميع دياره وأملاكه الموروثة عن سلفه، حتى بقي دون مال (2) ولما زار ابن جبير صقلية كان غليالم قد رضى عنه، وأخذ ينفذه في بعض أشغاله السلطانية " نفوذ المملوك المغلوب على نفسه وماله "(3) .

ولما نزل ابن قلاقس في ساحته كان لا يزال على حالته الأولى من الرفعة والغنى، فمدحه بقصائد كثيرة، وألف له كتاب " الزهر الباسم في أوصاف أبي القاسم " والكتاب كما تصوره القطعة التي اقتبسها العماد في خريدته لا يعدو أن يكون في مقدمته وصفاً للرحلة التي قام بها الشاعر حتى بلغ إلى ممدوحه، ثم المدائح التي قالها فيه وفي أبنائه، ثم وصف لبعض المجالس التي استدعت قول الشعر.

ولكن ما هو المنصب الذي يحتله أبو القاسم بدقة؟ إذا اعتمدنا على الزهر الباسم نثره وشعره، سمعنا ابن قلاقس يصفه بالبلاغة ويقول: إن " ألبس قلمه المداد عرى من الفصاحة قس إياد، وأنطلق طرسه الرسائل أخرس عن الخطابة سحبان وائل، يلزم لديه ابن العميد سمت العبيد، ويغدو عليه عبد الحميد غير حميد، يقول له الصاحب أنا عبد لا صاحب، ونهاية الصبابي أنه بألفاظه صابي،

(1) الهروي - الإشارات إلى معرفة الزيارات، المكتبة الملحق الثاني:2.

(2)

ابن جبير - والمكتبة: 102.

(3)

المصدر نفسه.

ص: 290

حتى لو انقلب الديوان ديوان شعر والقرطي (؟) اقراط شذر لكان هو المقرظ المعلى والمقرط المحلى " (1) فابو القاسم كان صاحب ديوان ولكن أي ديوان؟ وما هو القرطي الذي يشير إليه؟

ثم هو في موضع آخر يمدحه بقوله (2) :

وبيمناك طييرُ وسعد

أصفر الظهرُ أسود المنقار

قلمٌ دَبرَ الأقاليم فالكت؟

ب به من كتائب الأقدار

يا طرازَ الديوان والملك أصبح؟

ت طراز الديوان والأشعار هو صاحب قلم يدبر الأقاليم، والأقاليم اصطلاح كان جارياً في صقلية على الأقسام العسكرية - في الغالب - ثم ما الذي جعله يعرج على الطراز؟ هل كان لأبي القاسم علاقة بديوان الطراز في بلرم؟ وأوضح من هذه الأبيات قوله فيه (3) :

وتلتقي كُتبهُ الكتائب في

جيش من الخط صائد الصيد

بكل لفظ كأنه نفسٌ

غيرُ ممل بطول ترديد

صَحتُ معانيه فانتسبن إلى

فضل ابتكار وحسن توليد فهذا يخيل إلينا أنه كان صاحب ديوان الإنشاء ولعل الأصح أنه كان رئيساً على كل " الدوائر " الإسلامية من ديوان إنشاء وطراز وسلطة إدارية وغيرها.

وإذا كان أبو القاسم في بلرم فمعنى ذلك أن ابن قلاقس أقام في ظله هنالك. فهل تعرف إلى غيره في مدينة سرقوسة؟ أو هل عرج عليها في دخوله إلى صقلية أو في رحيله عنها، لأنه يقول (4) :

(1) الخريدة نسخة نور عثمانية الورقة 52.

(2)

الخريدة نسخة نور عثمانية الورقة 54.

(3)

المصدر نفسه الورقة 33.

(4)

الديوان: 8 والنص هنالك محرف كثيراً وانظر الأبيات في معجم البلدان مادة بلرم.

ص: 291

قد سعى بي الوشاةُ نحو علاهُ

فسعوا لي فلا عدمتُ الوُشاتا

حركوا لي الشباةَ منهم فظنوا

أنهم حركوا على الشباتا

فدعا من بلرم حجي فلبي؟

تُ وكانت سرقوسةُ الميقانا فمن هو الذي سعى به؟ وهل اجتمعا في سرقوسة ثم توجهها إلى بلرم أو أن هناك شخصاً آخر سافر إليه ابن قلاقس ونزل عنده في سرقوسة؟ وهذه القصيدة - حسب ما في الديوان - يقولها في مدح رجل يسمى القاسم بن خليع.

والظن قوي بأنه عرج على سرقوسة سواء كان ذلك في عودته إلى وطنه أو في قدومه إلى صقلية، لأن هناك قصيدة نونية يصف فيها رحلته، وربما كان الوصف ينطبق على رحلة من بلرم إلى سرقوسة لا العكس، وليست القصيدة في ديوانه وإنما احتفظ ياقوت بقطع متفرقة منها في معجم البلدان ولعل لها مقدمة غزلية هي تلك التي أوردها الصفدي في أعيان النصر (1) ومطلعها:

أصبحت بين سوالف وعيون

وقفاً على أمنية ومنون وإذا كانت هي حقا فلدينا من هذه القصيدة قطعة فريدة، هي قصة رحلة فيها شيء كثير من صفات الشعر الجميل، فيها الانفعال والحركة وفيها قدرة شاعر ذي دربة في تقليب الأداة الشعرية في يديه كالعجينة المرنة، ولم يستطع الموضوع نفسه. موضوع الرحلة - أن يقف في سبيلها بحيث يجعلها جامدة، أو يجعلها حقيقة جغرافية منظومة، لأنها استمدت قسطاً وافراً من حيوية ابن قلاقس الشاعر الشاب العنيف المنفعل دائماً، وقد مر في وصفه بثرمة وجفلوذ والقارونية واجتاز ببقطس ولبيري وحاذي ميلاص إلى أن بلغ مسيني، فنزل فيها ثم عاد فجدد الرحلة إلى سرقوسة فهو يقول في ثرمة وجفلوذ:

فدخلتُ ثرمة وهو تصحيفُ اسمها

لولا حسينُ الندب ذو التحسين

(1) الورقة 229 المجلد الثاني.

ص: 292

في حيثُ شبّ الماءُ جمرة قيظه

وبقيت في مقلاهُ كالمقلين

وشربت ماء المهل قبل جهنم

وشفعتهُ بمطاعم الغسلين

حتى إذا استفرغتُ منها طاقتي

وملأت من أسف ضلوع سفيني

أجفلتُ من جَفلوذَ إجفال امرىء

بالدين يُطلبُ ثم أو بالدين

مع أنها بلدٌ أشم يحفه

روضُ يشم فمن منى ومنون

تجري بأعيننا عيونُ مياهه

محفوفةً ابدا بحورٍ عين

وتركتها والنوءُ ينزل راحتي

عن مالِ قارونٍ إلى قارون ويقول في مسيني وسرقوسة:

وأظل أنُشد حين أنشد صاحبي

من ذا يُمسيني على مسينى

وحللتُها وحللتُ عقد عزائمي

بيدي إلى السيد المبادر دونى

فأقامني تسعين يوماً لم تزل

نفسي بها في عقدة التسعين

بتجلف لا يستقل جناحه

ولو استطار بريشي جبرين

بردٌ جرى في معطفيه وفكه

وكلامه وعجانه المعجون

ثم استقلتْ بي على علاتها

مجنونةٌ سحبتْ على مجنون

هوْجاءُ تُقسيمُ والرياحُ تقودها

بالنون أنا من طعام النون

حتى إذا ما البحر أبدتهُ الصبا

ذا وجنة بالموج ذات غضون

ألقت به النكباءُ راحةَ عائث

قلبتْ ظهورَ مشاهد لبطون

وتكلفتْ سرقوسةٌ بأماننا

في ملجأ للخائفين أمين وفي هذه القصيدة التي علت على موضوعها وذللته، واستحقت اسم الشعر، يحدثنا ابن قلاقس كيف كره ثرمة لشدة حرارتها، ولم يجد فيها صدراً رحباً إلا عند رجل اسمه حسين، ثم أجفل من جفلوذ كما يجفل الذي يطلب بالدين أو بالدين - شأن مسلمي صقلية قبل زيارة ابن قلاقس لها بقليل - وسر الشاعر من جفلوذ ومن رياضها وعيون مياهها المحفوفة بالنساء الجميلات - صورة صقلية

ص: 293

ريفية لم يلمحها غلا شاعر غريب، وفي مسينة أقام تسعين يوماً - إن صحت رواية البيت - عند جلف ثقيل الظل لا تخف روحه ولو علق في جبينه جناحي جبريل مع أنه مسينة نفسها أعجبته خين نزلها غرة شعبان سنة 363هـ؟ (1) وأعلن عن إعجابه بقوله:

بلد أعارتهُ الحمامة طوقها

وكساهُ حُلة ريشة الطاووس

فكأنما الأزهار منه سُلافةٌ

وكأن ساحات الديار كؤوس صورة صقلية أخرى لم تفتن إلا شاعراً غريباً.

وعاد بعدها إلى تلك المجنونة التي كانت تسحب نفسها على ماء مجنون مثلها، سفينة هوجاء تحلف لهم بالنون أنهم سيكونون طعاماً للحيتان، وأخيراً. رحبت به سرقوسة فنزل في ملجأ أمين.

لا نعرف على وجه الدقة المدة التي قضاها ابن قلاقس في صقلية ولكنه كانفي اليمن سنة 565هـ، فمقامه فيها رما لا يتجاوز السنتين. وفي أثناء هذه الإقامة تعرف إلى حياة بلرم وبعض رجلاتها، وحضر مجالس الشراب، ووصفها وذهب يطيل المدائح في أبي القاسم بن الحجر، ويثني على قدرته في الكتابة وعلى جوده، ويمدح بنيه أبا بكر وعمر وعثمان، ويهنئه بالصوم والعيد، وعرف من حياة صقلية ومن جمالها ما لمسنا أثره في القصيدة المتقدمة. ومن المغالاة أن ننسب إلى صقلية اثراً في شاعريته وصنعته لأن ذلك القدر من الإقامة لا يبيح مثل هذا التأثر السريع. وإذا كان شعره تحت سماء صقلية امتلأ بأسماء أمكنة صقلية وأعلام من أهلها، فهذا شيء لا يضفي على الشعر سمات جديدة والذين يدرسون أثر بيئة معنية في الشاعر سيجدون في مثل ابن قلاقس عقدة من نوع ما، لأنه لم يكن يستقر في مكان.

ولم تستطع صقلية أن ترضي ابن قلاقس ولذلك نجده يقول لصديقه الشيخ

(1) انظر الخريدة نسخة نور عثمانية الورقة 54.

ص: 294

أبي الحسن علي بن أبي الفتح بن خلف الأموي الصقلي، لما قرر الرحلة عنها.

وقمت لي من جفاءٍ في صقلية

بلطف مصرَ عليه ظرفُ بغداد

إن كان طبعك من ماء ورقته

فإن ذلك [..] بين الفولاذ ويقول له في قطعة أخرى:

تخذتك من صقلية خليلاً

فكنت الوردُ يقطف من قتاد

وسمتك بين أهليها صفيا

فكنت الجمر يقبسُ من زناد فلم استحقت منه صقلية هذا الذم؟ لم وجدها قتاداً وزناداً صلداً وفولاذاً صلباً ووصفها بالجفاء ونفي عنها الرقة؟ علينا أن لا نثق كثيراً بأحكام أولئك الغرباء الذين كانت تتغير عليهم البيئة، وخاصة إن كان ذلك متصلا بعاطفتهم، وما نظن أن الشاعر يصدق صدقاً - موضوعيا - حين يمدح أو يهجو إلا قليلا، زد على ذلك أن ابن قلاقس عاش في صقلية تلك المدة محكوماً بالحنين إلى وكنه يحلم بالعودة.

ولما قرر أن يعود كان الفصل شتاء، فهبت ريح ردتهُ من عرض البحر إلى صقلية فكتب إلى أبي القاسم يقول (1) :

منع الشتاءُ من الوصو

ل مع الرسول إلى دياري

فأعادني وعلى اختيا

ري جاءَ من غير اختيار

ولربما وقع الحما

رُ وكان من غرض المكاري وحين نزل في ميناء الإسكندرية خرج اصدقاؤه للسلام عليه، ولكنه لم يستقر غلا ريثما يعد نفسه لرحلة جديدة.

(1) انظر ابن خلكان في ترجمة ابن قلاقس.

ص: 295

فراغ

ص: 296