الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1
-
لمحة جغرافية
في ذات يوم من أيام الربيع خرجت برسيفونة الجميلة ابنة ربة الخصب تخطر في المروج الصقلية الخضر، وتمتع طرفها بالنظر إلى الجداول المترقرقة ومن حولها صواحبها يطفن الأزهار، واقترب منها رب الجحيم والعالم الأدنى في خفة واختطفها وانحدر بها إلى عالمه.
أسطورة قديمة من تلك الأساطير الكثيرة التي أوحت بها إلى الطبيعة صقلية ولكن الحقائق الجغرافية من وراء رموزها لا تزال جديدة، فربة الخصب لم تتخذ مقامها في تلك الجزيرة عبثاً، والجحيم لا يزال قابعاً في ناحية من نواحي الجزيرة تحت بركان إتنا الجبار، ولا يزال مردة الحدادين يضربون بمطارقهم صفائح الحديد تحت ذلك البركان؟ الذي كان لغز القرون حتى الفتح الإسلامي؟ ليعدوا منها صواعق لرب الأولمب. وما تزال سكلا الوحشية تعوي عند المجاز المسيني عواء لا ينقطع وتتقاتل مع خاربديس قتالا كانت تجأر منه سفن القرون الوسطى بالشكوى.
نعم قد تكون بعض المظاهر الطبيعية والاقتصادية تغيرت في الجزيرة التي كان عرشاً لربة الخصب، ربما اختفت منها أنواع من المزروعات وقلت غابات البلوط التي يذكرها ثيوقريطس، واختفت مدن وقلاع كثيرة جنى عليها تتابع الهجرات وتغير الحكام؟ كل ذلك قد يخضع للتغير ولكن المظاهر الأساسية لا تزال هنالك؟ فالخصب لم يفتأ يتكشف عن القمح الذي كانت تعيش عليه روما، والكرمة والزيتون اللذين جلبهما اليونان، والليمون والبرتقال اللذين جلبهما العرب وأشجار اللوز والتين، وأنواع الأزهار. ولا تزال الأرض التي أوحت لثيوقريطس أغاني الرعاة مسرحاً للأغنام السائمة في السهول
والربى: ولولا أن الغابات فيها قليلة وبعض الجبال قد أصبح عارياً مجرداً من زينته الخضراء لتقدمت فيها حرفة الرعي وصناعات الألبان. وتزدان هذه الطبيعة بالجداول والعيون والفوارات والحمامات وكلها كانت في يوم ما موضوعات الأساطير.
أما إتنا الشامخ على كل ما حوله في الجزيرة فإنه يهدر منذراً بالويل، وقد تلفع بعمامته الثلجية، وتضرم جوفه بالنار، فإذا به ذلك السيد الرحيم القاسي في آن، الذي يستطيع أن يجمع معجزة القرون الوسطى في شخصه، لأنه يمزج (العنصرين) في كفه. وإذا ثارت حممه غطى الأرض بطبقة خصبة، وفزع الآمنين.
والحقائق الجغرافية هي التي رسمت للجزيرة حياتها الداخلية: مرتفعات وهضاب في الداخل لا تسمح للأرضي بالانبساط الواسع وتتباين تباينا واضحاً في ارتفاعاتها وأشكالها نحو السواحل، فترسم مواقع المواني. وعلى أعلى أجزائها بينت المدن الداخلية لتكون حصينة، وكان لذلك أثره في توجيه كل فتح، وبنيت المدن الساحلية عند خير المواقع صلاحية للملاحة، وهيأت السواحل حظوظاً متفاوتة لتلك المدن. فالشاطئ الغربي والجنوبي الغربي المقابل لأفريقية أقلها أهمية، وموانيه قليلة الصلاحية للملاحة، ونادراً ما تصل المرتفعات فيه إلى البحر إلا في نتوء واضح يبرز عند شنت ماركو. والساحل الشمالي يكاد يكون مستويا وفيه تقع ثرمة وجفلوذ وبلرم، ووراء هذه الأخيرة تنحسر الجبال مكونة سهلا من أخصب السهول. وفي الساحل الشرقي ذى الميزات الطبيعية والتاريخية تقع سرقوسة وطبرمين، وفيه سجل للتاريخ اليوناني والحضارة اليونانية. كما أن الساحل الشمالي شهد بدوره أروع الحضارات السامية.
وموقعها الجغرافي شارك شخصيتها الجغرافية في تدوين تاريخها وتلوينه. فموقعها في البحر جعلها ابنة لهذا البحر لا يحوزها إلا من قهره، ولذلك كانت القوى المتصارعة في ذلك الميدان المائي تلتقي فيها وجهاً لوجه حتى تقرر تلك السيادة، وتوسطها بين أوروبة وأفريقية جعلها محط النزاع بين أقوام