المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الفقه والحديث والقراءات - العرب في صقلية

[إحسان عباس]

فهرس الكتاب

- ‌الكتاب الأول

- ‌صقلية في العصر الإسلامي

- ‌الفصل الأول

- ‌الحياة السياسية

- ‌1

- ‌ لمحة جغرافية

- ‌2

- ‌ صقلية في العهد البيزنطي

- ‌(3)

- ‌ الفتح الإسلامي

- ‌4

- ‌ الفتن الصقلية في فترة الانتقال من يد الأغالبة إلى بنيأبي الحسين

- ‌5

- ‌ صقلية تحت حكم بني أبي الحسين الكلبيين

- ‌6

- ‌ أمراء الطوائف

- ‌7

- ‌ الحكومة الإسلامية بصقلية

- ‌الفصل الثاني

- ‌الحياة الاجتماعية

- ‌1

- ‌ طبيعة الفتح العربي

- ‌2

- ‌ أهل الذمة

- ‌3

- ‌ الأجناس التي دخلت صقلية

- ‌4

- ‌ الأنظمة المالية والتفاوت في الثروة

- ‌5

- ‌ النهضة الزراعية والصناعية

- ‌6

- ‌ الدين والأخلاق

- ‌الفصل الثالث

- ‌الحياة العقلية

- ‌1

- ‌ صقلية والصلات الثقافية

- ‌2

- ‌ المدارس والمعلمون

- ‌3

- ‌ هجرة الكتب إلى صقلية

- ‌ 4

- ‌ الفقه والحديث والقراءات

- ‌5

- ‌ النواحي اللغوية

- ‌6

- ‌ الزهد والتصوف

- ‌7

- ‌ علوم الأوائل

- ‌8

- ‌ نظرة إجمالية

- ‌الكتاب الثاني

- ‌صقلية الإسلامية في العصر النورماني

- ‌الفصل الأول

- ‌الفتح النورماني

- ‌الفتح النورماني

- ‌الفصل الثاني

- ‌الحياة الاجتماعية للمسلمينفي العصر الروماني

- ‌1

- ‌ العلاقات السياسية الخارجية وأثرها في مسلمي صقلية

- ‌2

- ‌ أثر الإقطاع في الجماعة الإسلامية

- ‌3

- ‌ الإدارة الإسلامية

- ‌4

- ‌ الصبغة الإسلامية في الدولة

- ‌5

- ‌ المسلمون بين التسامح والاضطهاد

- ‌الفصل الثالث

- ‌الحياة العقلية

- ‌مجالاتها الجديدة ونصيب المسلمين فيها

- ‌الحياة العقلية

- ‌مجالاتها الجديدة ونصيب المسلمين فيها

- ‌الكتاب الثالث

- ‌حياة الشعر العربيفي صقلية

- ‌الفصل الأول

- ‌المكونات الكبرى في شعر صقلية الإسلامية

- ‌المكونات الكبرى في شعر صقلية الإسلامية

- ‌الفصل الثاني

- ‌الشعر الصقلي بين القوة والضعففي العصر الإسلامي

- ‌الشعر الصقلي بين القوة والضعففي العصر الإسلامي

- ‌3

- ‌ ابن الخياط وحياة الحرب والفتن أيام الكلبيين

- ‌4

- ‌ وقفته من مشكلة الغيب والغد

- ‌5

- ‌ الطبيعة الريفية في شعره

- ‌6

- ‌ البيئة المدنية في شعره

- ‌ صنعته الشعرية

- ‌7

- ‌الفصل الرابع

- ‌هجرة الشعر من صقلية

- ‌هجرة العلم والشعر إجمالاً

- ‌الفصل الخامس

- ‌ابن حمديس أثر من آثار الفتح

- ‌1

- ‌ مجمل حياته

- ‌2

- ‌ الشعر الصقلي في ديوانه

- ‌3

- ‌ تحليل قصيدتين صقليتين

- ‌4

- ‌ الآثار التي تركتها صقلية في نفسه وشعره

- ‌الفصل السادس

- ‌حياة الشعر في العصر النورماني

- ‌1

- ‌ شعر هذا العصر من حيث الكم والاتجاه

- ‌2

- ‌ وصف القصور والمتنزهات

- ‌3

- ‌ الشعر في البيئة الإسلامية

- ‌4

- ‌ مقارنة بين الشعر في البيئة الإسلامية والشعر في البلاط النورماني

- ‌الفصل السابع

- ‌هجرة الشعر إلى صقلية

- ‌ابن قلاقس الإسكندري

- ‌هجرة الشعر إلى صقلية - ابن قلاقس الإسكندري

- ‌خاتمة

- ‌الشخصية الصقلية والشعر

- ‌1

- ‌ الطبيعة الأرضية وأثرها في الشعر

- ‌2

- ‌ صقلية ملتقى شعوب لا وطن شعب وأثر ذلك في الشعر

- ‌3

- ‌ الموقع الجغرافي والسمات التي تركها في الشعر

- ‌4

- ‌ صقلية بين التأثر والتأثير

الفصل: ‌ الفقه والحديث والقراءات

وكان أولى من ادخل هذه الرسائل إلى الأندلس هو الكرماني المتوفى سنة‌

‌ 4

58هـ؟ (1) ، ولعلها دخلت صقلية في تاريخ مقارب.

ولعل صقلية كانت تستمد بعض الكتب في الطب من شمال إفريقية فمنذ بدء العصر الفاطمي عرفت القيروان نشاطاً واسعاً في الطب، واشتهر فيها إسحاق بن عمران وابن سليمان الإسرائيلي وابن الجزار وقد ترك هذا الأخير ما يقرب من ثلاثين مؤلفا ولا يعقل أن تكون هذه الكتب مجهولة كلها في صقلية.

4

-‌

‌ الفقه والحديث والقراءات

استمدت صقلية من إفريقية ناساً يعمرونها بعد الفتح، فذهب إليها هؤلاء بعقلياتهم وثقافاتهم ومذاهبهم، فإذا أردنا ان نتصور حياة ناحية ثقافية في صقلية كان لابد لنا من ان نتعرف إلى حالها في أفريقية قبل ذلك.

وفي الفقه كان يغلب على إفريقية في القديم مذهب الكوفيين ومذهب الأحناف (2) . ثم اخذ جماعة ممن درسوا مذهب مالك يحاولون نشره، ولكن هذا المذهب لم يستطع ان يبسط ظله على أفريقية إلا أيام أسد وسحنون اللذين استمدا ثقافتهما الفقهية من المشرق.

وأصحاب سحنون هم الذين نشروا مذهب مالك في صقلية فكان عبد الله ابن حمدون (أو حمدويه) الكلبي الصقلي أحد من سمع منه (توفي سنة 270هـ؟)(3) من أوائل فقهائها، وكان من أصحابه أيضاً دعامة بن محمد الفقيه

(1) ابن أبي أصيبعة، طبقات الأطباء 2/ 40.

(2)

centenario. p. 261. نقلاً عن المدارك.

(3)

centenario المجلد الأول: 369.

ص: 95

الذي ولى فيها القضاء لبني الأغلب (توفي سنة 297هـ)(1) . ومنهم أيضاً محمد بن ميمون بن عمرو الأفريقي قاضي القيروان أولاً ثم قاضي صقلية (320)(2) وكان لقمان بن يوسف الغساني يدرس المدونة ويأخذها في اللوح مدة أربع عشرة سنة أقامها في صقلية، ويقال انه كان عالما باثني عشر صنفاً من العلوم (319هـ؟)(3) .

وفي سنة 281 عين سالم بن سليمان الكندي للقضاء في صقلية فسار فيها بسيرة العدل. وكان إلى جانب القضاء مهتما بتدريس الفقه، ولذلك انتشر عنه مذهب مالك في صقلية وظل في القضاء حتى سنة 289هـ؟ وعرف فيه الناس حسن أخلاقه وتقشفه وبره بطلبة العلم، ولعله ان يكون ألف في صقلية كتابه في الفقه الذي دعى " السليمانية " نسبة إليه (4) .

كل هذا يفيد ان مذهب مالك اخذ في الانتشار في صقلية قبل انتهاء القرن الثالث. فكيف نوفق بين هذا وبين قول المقدسي " والغالب على أهل صقلية أصحاب أبي حنيفة "(5) ؟ إذا عرفت ان المقدسي كتب كتابه بعد قيام الدعوة الفاطمية في إفريقية قدرنا ان يكون المذهب المالكي قد انهزم أمام هذه الدعوة في صقلية كما انهزم في إفريقية. ولكن لم يقبل الناس هنالك على مذهب أبي حنيفة ولا يأخذون بالمذهب الفاطمي؟ ربما كان في صقلية أقلية من اتباع أبي حنيفة فلما هزم المذهب المالكي ظهروا على غيرهم وربما لجأ المالكيون إلى مذهب أبي حنيفة فرارا من ترك السنة لان بني أبي عبيد كانوا متسامحين مع الأحناف متشددين مع المالكية..

(1) المكتبة الصقلية، الملحق الأول: 5، نقلا عن بيان المغرب.

(2)

رياض النفوس في المكتبة الصقلية: 191 وانظر الديباج المذهب: 334.

(3)

رياض النفوس في المكتبة الصقلية: 192 وانظر كذلك طبقات أبي العرب: 171.

(4)

centenario، vol،ii p.108 نقلا عن المعالم الجزء الثاني: 136 - 137 وانظر طبقات أبي العرب: 148.

(5)

المكتبة الصقلية، الملحق الأول: 57 واحسن التقاسيم ص 238.

ص: 96

وكان من المقاومة العنيفة التي واجه بها المالكية بني عبيد، ثم اخفق ثورة أبي يزيد مخلد بن كيداد التي كانت تعبيراً عن نقمة الفقهاء المالكيين على العبيدين؟ كان من ذلك ان هاجر كثير من الإفريقيين إلى صقلية لينجوا بأنفسهم من الاضطهاد المذهبي.

غير ان بلاط صقلية؟ وصاحبة فاطمي الهوى؟ كان يؤوى الفقهاء الذين يميلون إلى بني عبيد أو الذين لا يقفون منهم موقف المتشددين، لأن من كان متساهلا من الفقهاء في نظرته إلى العبيديين، لم يكن يقدره علماء القيروان المتشددون؟ كرهوا أبا إسحاق التونسي لأنه لم يفت بكفر من يقول بتفضيل علي بن أبي طالب على سائر الصحابة (1)، وكرهوا البرادعي (خلف بن أبي القاسم الأزدي) لأنه كان يصحب سلاطين القيروان ولأنه؟ فيما يقال؟ تمثل في بعض كتبه مشيراً إلى العبيديين:

أولئك قوم إن بنوا احسنوا البنا

وإن وعدوا أوفوا وان عقدوا شدوا فأفتوا بطرح كتبه (2) فلما نبت به القيروان خرج إلى صقلية وقصد أميرها فحصلت له عنده مكانة؟ وهذا دليل على ترحيب البلاط الصقلي بمن كان يسالم المذهب والسياسة الفاطمية؟ وفي صقلية ألف البرادعي كتبه مثل كتاب التهذيب في اختصار المدونة وغيره. وطارت كتبه بصقلية حتى لقد قيل ان المناظرة في جميع بلدانها كانت بكتابة المسمى بالتهذيب (3) . وواضح من مقدمة هذا الكتاب انه ألفه تسهيلا على الطلبة في دروس الفقه إذ يقول هنالك: " هذا كتاب قصدت فيه إلى تهذيب مسائل المدونة والمختلطة خاصة دون غيرها، إذ هي أشرف ما ألف في الفقه من الدواوين، واعتمدت فيها على الإيجاز والاختصار، دون البسط والانتشار، ليكون ذلك ادعى لنشاط الدارس،

(1) القاضي عياض، ترتيب المدارك 2/ 151.

(2)

ابن فرحون، الديباج المذهب:112.

(3)

المصدر السابق (الديباج) .

ص: 97

وأسرع لفهمه وعدة لتذكرته

وجعلت مسائلها على التوالي حسبما هي في الأمهات، إلا شيئاً يسيراً قدمته أو أخرته، واستقصيت مسائل كل كتاب فيه، خلا ما تكرر من مسائله أو ذكر منها في غيره، فإني تركته مع الرسوم وكثير من الآثار كراهية التطويل " (1) وقد فرغ البرادعي من كتابه هذا سنة 372هـ، وفي مقدمته؟ التي اقتبست منها ألفاً؟ ما يشير إلى ان الطريقة المدرسية في تلخيص المطولات كانت قد أخذت تجد طريقها إلى حلقات العلم بصقلية، وهي طريقة فيها شيء من الخطر يشبه من الناحية الأخرى كثيرة التعلق بالشروح والحواشي. وليس للبرادعي في " التهذيب " رأي ذاتي ومع ذلك فقد استدرك عليه عبد الحق الصقلي فيما وهم فيه على المدونة مع أن البرادعي صرح في مقدمة كتابه بأنه صحح روايته على أبي محمد بن أبي زيد (2) .

ولم يتكون لصقلية مدرسة فقهية من أبنائها إلا في أواخر القرن الرابع حين نجد أمثال الحصائري أبي بكر الصقلي الفرضي الذي كان عليه اعتماد الطلبة الصقليين في دراسة الفرائض، وأبي بكر بن العباس الفقيه الذي كان يشتغل بالتدريس، وكل هؤلاء استمدوا ثقافتهم من أساتذة غرباء في صقلية أو غيرها ثم كان لهم الفضل في تخريج اكبر فقهاء صقلية ومحدثيها في القرن الخامس فمن تلامذتهم ابن يونس، وعبد الحق الصقلي والسمنطاري. وعلى يد هؤلاء تخرج متأخرو الفقهاء الصقليين الذين أدركهم الفتح النورماني ومنهم من بقى في صقلية كابن الحكار الصقلي وابن مفرج وابن الكلاعي وابن القابلة (3) ومنهم من غادرها عند الفتح كأبي الحذاء القيسي الصقلي وأبي البهاء عبد الكريم بن عبد الله بن محمد المقرئ وأبي القاسم السرقوسي (4) .

(1) البرادعي، تهذيب المدونة (نسخة خطية بدار الكتب المصرية رقم 405 فقه مالكي) الورقة الأولى.

(2)

البرادعي، تهذيب المدونة ص1.

(3)

centenario، المجلد الأول ص383 ما بعدها.

(4)

السلفي، المعجم ورقة 120، 246.

ص: 98

ومع امتياز طبقة ابن يونس، وعبد الحق والسمنطاري في الشهرة التي كسبوها خارج حدود صقلية، لا نجد لهم تميزاً بدراسة معينة فكلهم يحومون حول المدونة في الفقه وحول الموطأ في الحديث. فتناول ابن يونس الفرضي المدونة وأضاف إليها غيرها من الأمهات وجعل منذ ذلك كتاباً كان عليه اعتماد طلبة العلوم للمذكراة حتى لقد انتقل الكتاب إلى المغرب وانتسخ في سبتة (1) وهذا أول مثل على كتاب تصدره صقلية إلى الخارج. وبعد ان تفقه عبد الحق بالشيوخ القرويين، وحج أول مرة، والتقى بالقاضي عبد الوهاب المالكي وأبي ذر الهروي؟ بعد ذلك عاد إلى صقلية يتناول المدونة يدرسها ويؤلف الكتب حولها فألف كتاب " النكت والفروق لمسائل المدونة "؟ وهو من أول ما ألف؟ واشتهر الكتاب وأقبل عليه الطلبة (2) ثم ندم على تأليفه هذا وتغيرت نظرته إليه، فتولاه بالتغيير ورجع عن كثير من اختياراته وتعليلاته، وكان يقول لو قدرت على جمعه وإخفائه لفعلت (3) . وألف كتاب تهذيب الطالب واستدرك على تهذيب البرادعي للمدونة، وكتب جزءاً في بسط ألفاظ المدونة. وبسببه أقبل الناس على كتاب " التقريب " وهو اختصار للمدونة.

ومع ذلك فان عبد الحق اكبر فقيه صقلي أحرز شهرة في وطنه وفي خارجه حتى انه لما حج حجته الثانية سنة 540 هـ ولقي بمكة الجويني أعجب به إمام الحرمين وكان يجله ويعترف بفضله - كما اعجب به عبد الحق؟ وكان جويني يخاطبه ف يكتبه إليه بالشيخ الأوحد والشيخ الجليل إذ تبودلت الرسائل بينهما وهما في مكة، ومن العجيب ان يتبادلا هذه الرسائل وهما في بلد واحد، ولكن يظهر ان عبد الحق أراد أن يثبت أجوبة الجويني في كتاب ينشره على الناس، وتدور الأسئلة التي تقدم بها عبد الحق على عدة موضوعات فقهية وكلامية فقد سأله مثلاً عن اعتقاد بعض العوام أن الله سبحانه كالأجسام

(1) ابن فرحون: الديباج الذهبي: 274.

(2)

المصدر السابق: 174.

(3)

المصدر السابق.

ص: 99

العظيمة التي تعظم بكثرة الأجزاء، وعن ذهول العوام عن وجه الدلالة على صدق الأنبياء هل يضربهم، وثمة أسئلة عن الجوهر والعرض وعن الكرامات وما يصح منها وما لا يصح، وهل يجوز ازدياد الطعام كرامة للولي مع منع انقلاب الدجلة ذهباً، وأسئلة عن المنجمين، وعن معنى تمثل جبريل للنبي عليه السلام في صورة دحية الكلبي وهل تنفصل أجزاء ثم تعاد أثناء هذا التمثل أم تصير بعض الأجزاء على صفة رجل وتبقى الأجزاء الأخرى (1) .

ونحن نتساءل هل كانت هذه المسائل تدور في رؤس الفقهاء ودارسي الفقه بصقلية أو أنها صورة مما كان يعتلج في نفس عبد الحق وحده؟ والى أي حد تمثل أسئلته عن الكرامات وعن التنجيم جوانب من الحياة العقلية في بلده؟ وهل كان الناس مهتمين حقاً بالاطلاع على أمور تتعلق بالصفات وثبوت النبوات؟ وهي أسئلة لا يمكن ان نقطع فيها بالقول الفصل.

وعن طريق عبد الحق امتد اثر صقلية إلى خارج فقد درس في صقلية والقيروان ومكة والإسكندرية؟ درس عليه في القيروان ابن الخياط (2) ومحمد بن نعمة الأسدي (3) ولقيه بمكة ابن قطري الزبيدي (4) وعبد الرحمن بن المعافري (5) ودخل أثره الأندلس لأن بعض تلامذته هاجر إليها كثابت الفقيه الصقلي (6) وكان من تلامذته في صقلية نفسها طلبة أندلسيون كما كان فيمن لقيه أثناء رحلاته جماعة من الأندلسيين أيضا كابن أبي الدنيا القرطبي (7) الذي صحبه بمكة ومصر واخذ عنه كثيراً وابن الحصار (8) الذي درس عليه في صقلية نفسها،

(1) مسائل للشيخ عبد الحق بن محمد بن هارون الصقلي (مجموعة رقم 11 ش فقه مالكي بدار الكتب المصرية) .

(2)

ابن بشكوال: الصلة رقم 836.

(3)

المصدر السابق رقم 1207.

(4)

ابن الأبار: التكملة رقم 508.

(5)

ابن الأبار: رقم 1648.

(6)

ابن بشكوال رقم 287.

(7)

ابن بشكوال رقم 455.

(8)

ابن بشكوال رقم 392.

ص: 100

وأبي عبد الله الميورقي الذي صحبه في رحلته الثانية واخذ عنه تواليفه (1) . وليس لدنيا من مؤلفات عبد الحق ما يجلي لنا أثره الصحيح في الفقه، ولعله كان متشددا في أحكامه وفتاواه والمثال الوحيد الذي نملكه على ذلك إفتاؤه بعدم جواز الصلاة خلف من يظهر في قراءته النون الخفيفة او التنوين عند الياء والواو وعد هذا من اللحن، قياساً على من يتكلم في الصلاة متعمداً (2) .

أما الثالث المشهورين وهو عتيق السمنطاري فقد انصرف إلى تدريس الحديث وتلقى ثقافته على الفرضى والحصائري بصقلية، وسكن بلرم، أي أنه هجر قريته سمنطار ولزم حلقات الدرس في المدينة. وكانت له رحلة زار فيها الحجاز فحج وساح في البلدان من أرض اليمن والشام إلى أرض فارس وخرسان، ولقي بها من العباد وأصحاب الحديث والزهاد فكتب عنهم جميع ما سمع وصنف كل ما جمع (3)، وكان للسمنطاري نشاط واسع في التصوف - سنتحدث عنه في حينه؟ كما أنه ألف في الفقه تآليف وصفت بأنها في غاية الترتيب والبيان (4) . وقام السمنطاري على الموطأ وإفراغ له كثيرا من جهده كما دأب عبد الحق على المدونة. وظل عتيق يدرس الحديث في صقلية حتى سقطت في يد النورمان. ويحدثنا أحد تلامذته انه رآه ببلرم ووصفه بأنه كان مستجاب الدعوة فعندما قوى دوقه (5) الإفرنجي على الجزيرة وأهلها قال: اللهم انك قضيت على المسلمين بما قضيت فان تمت ولايته فسخره لهم. فلما ملكها صار عليهم أحن من الوالد على الولد (6) . وفي سنة 464هـ؟ توفي السمنطاري، وهاجر بعض تلامذته من صقلية ووصل مصر منهم ابن الحذاء القيسي الصقلي وعبد الكريم

(1) ابن الأبار رقم 443.

(2)

ابن مكي الصقلي: تثقيف اللسان (الباب35) .

(3)

معجم البلدان لياقوت مادة (سمنطار) والمكتبة الصقلية: 113.

(4)

المصدر السابق.

(5)

في الأصل ذوقه: وهو رجار الأول وظاهر من النص أنه استعمل اللقب ظناً منه انه الاسم.

(6)

السلفي الورقة 286.

ص: 101

بن عبد الله بن محمد المقرئ الواعظ (1) .

وظل الفقه بعد هؤلاء الأعلام، يدور حول المدونة ومختصراتها، حتى إن ابن الحكار الصقلي شرحها بتفصيل في نحو ثلاثمائة جزء (2) ، وذكر من حضر مجالسه انه كان ينظر بالبرادعي ويتكلم عليه كلاماً دقيقاً (3) . ثم جاء ابن فروج الصقلي (أو ابن مفرج) فأعاد النظر في تمهيد البرادعي ورتبه على نسق المدونة (4) .

وفي غضون هذا العصر اعتنق كثير من المالكية مذهب الأشعري في تأييد السنة فكانوا حرباً على الاعتزال كما كانوا متشددين في التمسك بحرفية مذهب أبي الحسن، ويقول السبكي (والأشاعرة ولا سيما المغاربة منهم كانوا يستصعبون الخروج عن حرفية ما رسمه الأشعري ولا يرون مخالفة أبي الحسن في نقير ولا قطمير (5) . وقد التقى ابن حوقل في صقلية بمن يكره أهل العراق ويسميهم مرجئة لتركهم القطع على أهل الكبائر بالخلود، ومن يرى المعتزلة فرقة ضالة ويكفر أهلها (6) . ولكن هذا لا يعني ان الجزيرة خلت من الاعتزال والتشيع ومذهب الخوارج وغير هذه من مذاهب. وكيف تخلو وسكانها أصلهم من أفريقية وقد كانت المذاهب في إفريقية متنوعة، فالتشيع في كتامة ومذهبا الاباضية والراسبية منتشران في قسطيلية وقفصة ونفطة والحامة، والاعتزال في مزاتة وزناتة من قبائل البربر على مذهب واصل بن عطاء، وفي السوس شيعة ومالية وبينهم القتال المتصل والدماء الدائمة (7) . ولا بد أن القائلين بالاعتزال

(1) المصدر السابق ورقة 110، 246.

(2)

centenario، المجلد الأول:383.

(3)

المصدر السابق.

(4)

المصدر السابق.

(5)

طبقات شافعية: 4/ 124.

(6)

ابن حوقل 1/ 127.

(7)

المصدر نفسه 1/ 96.

ص: 102

في صقلية قد أظهروا رءوسهم عند قيام الدعوة الفاطمية كما تقوت نفوس المتشيعين.

ويكاد ما تقدم من بحث يكون قاصراً على الفقه دون غيره من الدراسات كالحديث والتفسير والقراءات لأن المعلومات التي بين أيدينا عن هذه الفروع لا تعدو النتف، وهي لا تطلعنا على شيء مهما جهدنا في تتبعها واستقصائها فقد يقال لنا مثلا أن عمار بن منصور الكلبي كان ذا يد في الفقه والحديث (1) وأن ابن مكي كان فقيهاً محدثاً (2) أو ما هو من هذا القبيل. ولكن مثل هذه الأخبار لا تستند البحث بشيء ذي بال. وكل ما هو واضح لدينا أن دراسة الحديث كانت تدور؟ إبان ازدهار الدراسات الدينية؟ حول الموطأ أو ملخصات منه، وأن عبد الحق الصقلي والسمنطاري من أكبر من قاموا بهذه الدراسة في عصر واحد. ومن الطريف أن أحد تلامذة السمنطاري روى في مصر حديثاً رواه فيها تلميذ آخر من تلامذة عبد الحق (3) . وقد عقد ابن مكي في كتاب تثقيف اللسان فصلا في أغلاط المحدثين (4) وهو فصل لا يدل على نشاط متميز بخصائص معينة، ولكن له دلالة أبعد، ففيه إشارة إلى أن علماء صقلية كانوا يتحرزون من الخطأ اللغوي في الحديث،وربما لم يكونوا يجيزونه إطلاقاً. فابن مكي لم يكن لغوياً فحسب، ولكنه كان فقيها محدثاً، وتعقبه لأخطاء الباحثين لا يميله عليه الحس اللغوي وحده، وإنما يبعث عليه أيضاً مبدأه الفقهي، وابن مكي أيضاً ممن سمع عبد الحق وتتلمذ له.

وإذا كنا نعرف هذا القدر الضئيل عن الحديث والمحدثين، فنحن في

(1) العماد الاصفهاني: الخريدة الجزء الحادي عشر الورقة 42 والترجمة رقم 37 من مجموعة الشعر.

(2)

المصدر نفسه الورقة 45 والترجمة رقم 46 من مجموعة الشعر.

(3)

هو قول الرسول: الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله، انظر معجم السلفي الورقة 120، 246.

(4)

هو الباب السادس والثلاثون.

ص: 103

الواقع نجهل كل شيء عن التفسير والمفسرين، لأن المصادر لا تذكر شيئاً من ذلك خلا مرة واحدة جاء فيها ان محمد بن عبد الله المقرئ من أهل صقلية المقيمين بها، كان من أهل القران والتفسير (1) .

وربما لم يكن حظنا من المعلومات عن القراءات بأحسن كثيرا من حظنا فيما نعرفه عن الحديث ولكنه على أي حال خير من معلوماتنا عن التفسير. ونستطيع ان نطمئن إلى هذه الدراسات تكاد تكون من نصيب كل دارس للعلوم الإسلامية فالفقيه محدث مقرئ فرضى أصولى، والمقرئ لغوي نحوي محدث وهكذا. وإذا اتخذنا القيروان مثالا لصقلية استطعنا ان نحكم بان قراءة نافع هي التي كانت شائعة فيها فمنذ ان حل محمد بن عمر خيرون المعافري الأندلسي مدينة القيروان، وكان إماماً في هذه القراءة اخذ يقرئ الناس بها في مسجد هنالك عرف باسمه، وكان يأخذ أخذاً شديداً على مذهب المشيخة من أصحاب ورش، وقد روى القراءة عنه عامة أهل القيروان وسائر المغرب (2) .

ونستطيع ان نلمس اثر مصر في توجيه للقراءات بصقلية، حقاً ربما كان المعافري الأندلسي ذا أثر في هذه الناحية ولكنا نرى محمد بن خراسان (توفي 386) - وأبوه مولى بني الأغلب؟ يطلب العلم بمصر ويجمع إلى النحو معرفة بالقراءة ويتصدر للإقراء والحديث في صقلية، ومنه سمع بها يوسف بن أبي حبيب بن محمد وأبو الحسن غيلان ابن تميم الفزاري (3) .

وفي عصر عبد الحق والسمنطاري كثر أهل القراءات في صقلية من الصقليين والغرباء، فكان من الصقليين عبد الله بن فرح المديني ومحمد بن إبراهيم الشامي المديني ومحمد بن علي الأزادي بن بنت العروق ومحمد بن عبد الله القتال (القناد؟) وهؤلاء جميعاً هم " شيوخ المدينة بصقلية والمقدمون

(1) القفطي: إنباه الرواة 2/ 121.

(2)

ابن الأبار: التكملة رقم 319.

(3)

المقفى للمقريزي في المكتبة الصقلية: 665.

ص: 104