الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أو هذه الصورة الأخرى (1) :
بتنا على فرش العفاف وبيننا
…
نجوى ترق لها الصفا وتلين
والليل كالزنجي شد وثاقه
…
والنجم مطلع عليه أمين
4
-
مقارنة بين الشعر في البيئة الإسلامية والشعر في البلاط النورماني
ولتوضيح الفرق بين الشعر في الجماعة المسلمة والشعر في بلاط الملك النورماني أتناول شعر الرثاء بالمقابلة وأدع المدح، لأن الذي وصلنا منه في رجار قليل لا يسمح بعقد مقارنة وافية. أما الرثاء فلدينا منه قصيدة لأبي الضوء سراج في رثاء ولد رجار كما أن هناك عدة قصائد في رثاء بعض زعماء المسلمين. وكثرة الرثاء والتفجع على من يموت من هذه الجماعة فيه إحساسها بالخسارة الاجتماعية كلما ذهب فرد عظيم من أفرادها، ولابد من أن نقدر الفروق القائمة في كل مناسبة حتى لا يقع الحيف على ابي الضوء في قصيدته. يقول أبو الضوء (2) :
خبا القمرُ الأسى فاظلمت الدنا
…
ومادَ من العلياء والمجد أركانُ
أحين استوى في حسنه وجلاله
…
وتاهتْ به أوطارُ عزّ وأوطانُ
تخطفهُ رَيبُ المنون مخاتلاً
…
على غزة، إن المنون لخوان
كذلك أغراض البدور يعوقها
…
إذا كملت من حادث الدهر نقصان فهو يصف الظواهر التي صاحبت وفاة المرثى ثم ينحى على الموت الخائن القادر الذي استلبه حين استوى في جلاله، ومثله بالبدر الذي يعتريه النقص إذا سعى إلى الكمال.
وبعد انتهى من هذه المقدمة قال: إنه من الحق أن يبكي عليه بدموع
(1) الخريدة الورقة 15 والترجمة: 11.
(2)
المصدر السابق الورقة 118 والترجمة: 61.
بيض وحمر كالدر والمرجان، وأن تحرق الأكباد وتمرض الأنفس وتعظم الأتراح والأحزان. فانظر كيف جعل الشاعر البكاء حقا على سواه أما هو فلا شأن له بتنفيذ هذا الذي يعده حقاً:
لحق بأن يبكي عليه بأدمع
…
لها في مسيل الخد درٌ ومرجان ثم ما قيمة تشبيه الدموع في موطن الحزن أو تقسيمها إلى فئات إن كان الحزن صحيحاً؟ وقد ذكر الدموع في هذا البيت فلم عاد يذكرها بعد بيت واحد؟
وتبتاع أحزان وتهمى مدامع
…
وتجمع أمواه غزار ونيران وما الفرق بين الدمع هنا والدمع هنالك وما هذه الأمواه إلا الدموع؟ وما الفرق بين قوله: وتعظم أتراح؟ وتكبر أشجان؟ وتبتاع (؟) أحزان؟ من هنا ترى الفقر شاملاً في كل شيء - في العاطفة، في الأسلوب، في الترتيب، والشاعر إنما يحشد ألفاظاً تتصل بمعنى الحزن ولا تنطوي عليه. وقد يكون هذا من ضعف شاعريته، ولكن مما زاد الضعف وضوحاً، انعدام العاطفة في موضوع يحتاج إلى قسط كبير من الصدق ولا ينفع فيه الانفعال البسيط.
ضع هذه القطعة مقابل قول محمد بن عيسى:
عز العزاء وجل البين والجزع
…
وحل بالنفس منه فوقَ ما تسعُ
يا عينُ جودي بدمع خالص ودم
…
فما عليك لهذا الرزء ممتنع
فالجسم ينحلُ والأنفاس خافتةٌ
…
والقلبُ يخفق والأحشاء تنصدع
كوني على الحزن لي يا عينُ مسعدة
…
فإن قلبي لما تأتينه تبع فهنا هذا التهويل المقارب للتهويل السابق، وفيه هذه الدموع البيض والحمر، وفيه تصوير للحالة الجسمية والنفسية التي نزلت به من جراء الحادث الجلل - فيه كل التكلف الذي ورد في القطعة الأولى ولكن فيه عنصراً واحداً ينقص شعر ابي الضوء فقد ابى أن يقول للناس إنه بكى أو أن كبده احترقت أو أن الماء
اجتمع مع النار من شدة حزنه هو - أبى أن يقول ذلك لأنه في حقيقة الأمر صادق مع نفسه لم يحزن ولم يبك ولم تحترق كبده، وإذن فلم يرثى ولم يطلب إلى غيره أن يفعل ما لم يفعله؟ كلا الشاعرين يرثى شخصاً غريباً عنه وكلاهما يلجأ إلى التهويل في تصوير الحزن ولكن حتى في هذا التهويل فرق لأن التعاطف المشترك مفقود بين أحدهما وبين المرثى.
ثم انظر المسألة حين تخف حاجة الشاعر إلى هذا التعاطف القائم في أصله على وحدة ما - والوحدة الدينية يومئذ أقواها - واستمع إلى أبي الضوء يعد الأشياء التي حزنت على ولد رجار تجده يقول:
تبكت له خيماته وقصوره
…
وناحت عليهُ مرهفات ومران
وعاد صهيلُ في لهواتها
…
حنيناً وعاقتهن لُجمٌ وأرسان
وما ناح وُرْقُ الأيك إلا لهُ فلوْ
…
دَرَت لبكت قبل الحمائم أغصان فهذا ميت قد بكت عليه الخيمات والقصور والمرهفات والمران والخيل والورق وكذلك مرثى ابن عيسى بكت عليه الخيل والسيوف (المرهفات) والخطيئة (المرن) . فالباكون متقاربون أو متشابهون ولكن أين الفرق؟ استمع إلى ابن عيسى يقول:
بكته المذاكي المقربات وقطعت
…
شكائمها إذ منه أعدمت الركضا
مشت وهي بين الخيل أنزرها دما
…
وأبرزها جسما وأهزلها نحضا
وكادت سيوف الهند تندق حسرة
…
وأجفانها تنشق عنها لكي تنضا
وخط على الخطيئة الرزءُ أحرفاً
…
أرادت لها خفضاً فحولها خفضا تجد أن صورة أبي الضوء ألطف لأن فيها عبوراً سريعاً في الصورة - المستحيلة أصلا - أما ابن عيسى فوقف عند المحال يغرق فيه، ويمد في
جوانبه، ويضفي على الصورة زيادات تزيدها افتعالاً، ولا شك في أن أبا الضوء حين جعل صهيل الخيل حنيناً كان ألطف طبعاً من محمد بن عيسى الذي أخرج الخيل عن طورها حتى قطعت الشكائم ونحل جسمها وبانت عظامها وأدركها الهزال والإعياء. فلما لم يكن أبو الضوء في حاجة إلى سند من شعور عميق في هذا المعنى استطاع أن يجلوه خيراً من ابن عيسى.
ثم راح أبو الضوء يصور هول ذلك اليوم وأنه تشيب فيه الولدان ويشبهه بيوم الحشر وقد اجتمع فيه الرجال والنساء حتى ضاقت بهم الأرض، ولحظ لبسهم للسواد فشبههم بالأغربة، بعد أن كانوا في ثياب اللهو كالحمائم:
كأن منادي البعث قام منادياُ
…
لحشر فهب الخلق طرا كما كانوا
وقد ضاق رحب الأرض بالخلق فالتقت
…
جموعهمُ مرجاً رجالٌ ونسوان
وكانوا بلبس اللهو حمائماً
…
فعادوا وهم في ملبس الحزن غربان وهذه المعاني مفرقة عند ابن عيسى في غير قصيدة. ففي معنى يوم القيامة يقول:
شهدنا على قرب بمشهد موته
…
مشاهد لم تخط القيامة والعرضا وفي لبس السواد:
سعوا مشاة وهم في الزي أغربة
…
مسودة من وراء النعش تتبع وانفرد ابن عيسى بمعان لم يكن أبو الضوء يستطيع أن يقترب منها وهي أمور إسلامية كذكر العيد وحال السرور فيه، وكيف منعت الوفاة الناس من ورود المصلى ضحى، والتعزي بالرسول والصحابة، والتحدث عن الملائكة التي جاءت لترفع الميت إلى السماء. أبو الضوء إنما يحشد المبالغات حشداً لأن المضطرب الذي يهوى فيه محدود، وربما لم يساعده كثيراً في الرثاء أنه ليس من الشعراء الذين يجدون العزاء في مظاهر كونية حتى يلجأ إلى الحكمة والتفلسف في
أمر الموت فهو ضيق الباع قصير الرشاء من ناحيتين: ناحية المعاني التي لابد له أن يتجاوزها في مثل موقفه، وناحية مذهبه الشعري، والضعف في الناحية الأولى يجئ من ضعف الشعور الديني المتبادل. وهناك معنى لا يمكن أن يتعرض له أبو الضوء، وأفاد منه الشعراء المسلمون في رثاء عظمائهم، وهو أن كل مفقود منهم فان فقده ضربة في صميم العزة الإسلامية بالجزيرة وركن كانوا يستندون إليه فخفت هيتهم بعده:
لقد مات فيه عدة أي عدة
…
لنا فعدمنا كل عيش به يرضى
وأبصارنا كانت تسامى له وقد
…
غدا الكل منا طرفه اليوم قد غضا
وقد كان طرفي ليس يغضى على القذى
…
فأصبح عن أقذائه اليوم قد أغضى
فراغ