المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فتح القدير في الفرق بين المعذرة والتعذير - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ١٢

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌بحث في الصلاة على النبي صلي الله عليه وآله وسلم

- ‌سؤال وجواب عن الصلاة المأثورة على رسول الله صلي الله عليه وسلم

- ‌طيب الكلام في تحقيق لفظ الصلاة على خير من حملته الأقدام

- ‌بحث في الأذكار الواردة في التسبيح

- ‌نزهة الأبصار في التفاضل بين الأذكار

- ‌الاجتماعُ على الذكرِ والجهرِ بهِ

- ‌سؤال وجواب عن أذكار النوم

- ‌ اللغة العربية وعلومها

- ‌جواب الشوكاني على الدماميني

- ‌سؤال: عن الفَرْقِ بينَ الجِنْسِ واسْمِ الجِنْسوبينَهما وبينَ عَلَمِ الجِنْسِ.وبينَ اسمِ الجِنْسِ واسْمِ الجمْعِوبينَ اسْمِ الجمْعِمع الجواب للشوكاني

- ‌بحث في تبادر اللفظ عند الإطلاق

- ‌نُزهةُ الأحداق في علم الاشتقاق

- ‌كلام في فن المعاني والبيان(تعليق من الشوكاني على كلام صاحب الفوائد الغياثية)

- ‌الروضُ الوسيع في الدليل المنيع على عدم انحصارِ علمِ البديع

- ‌بحث في الرد على الزمخشري في استحسان المُرِبَّةَ

- ‌فتح القدير في الفرق بين المعذرة والتعذير

- ‌الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعدعلى ما قاله الشريف من اجتماع الاستعارةالتمثيلية والتبعية في قوله تعالى:{(أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}

- ‌جيد النقد بعبارة الكشاف والسعد

- ‌القول الصادق في ترتيب الجزاء على السابق

- ‌فائق الكسا في جواب عالم الحسا

- ‌فَتْحُ الخَلَاّقِ في جواب مسائل الشيخ العلامة عبد الرزاق الهندي

- ‌بحث فيما زاده الشوكاني من أبيات شعرية صالحة للاستشهاد بها في المحاورات وعند المخاصمات وأضافها إلى ما يصلح لهذه الأغراض في ديوان ابن سناء الملك

- ‌بحث في سيحون وجيحون وما ذكره أئمة اللغة في ذلك ويليه مناقشة لبعض أهل العلم في البحث السابق ثم جواب المناقشة السابقة

- ‌الحد التام والحد الناقص (بحث في المنطق)

الفصل: ‌فتح القدير في الفرق بين المعذرة والتعذير

(206)

2/ 4

‌فتح القدير في الفرق بين المعذرة والتعذير

تأليف

محمد بن علي الشوكاني

حقَّقه وعلَّ عليه وخرَّج أحاديثه

محمد صبحي بن حسن حلاق

أبو مصعب

ص: 6113

وصف المخطوط:

1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: فتح القدير في الفرق بين المعذرة والتعذير.

2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية.

3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وبعد، فإنه وصل سؤال من سيدي العلامة جمال الإسلام علي بن يحيى أحيا الله به معاهد العلوم، ولفظه ....

4 ـ آخر الرسالة: لأن سؤال السائل كثر الله فوائده قد تعلق بالآيتين من تلك الحيثية فكان في التعرُّض لتفسيرهما تكميلٌ للفائدة والله أعلم.

حرره في ليلة الاثنين من ليالي شهر ربيع الآخر سنة 1214هـ.

5 ـ نوع الخط: خط نسخي جيد.

6 ـ عدد الصفحات: 15 صفحة.

7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 18 ـ 19 سطرًا.

8 ـ عدد الكلمات في السطر: 9 ـ 12 كلمة.

9 ـ الرسالة من المجد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

ص: 6115

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله.

وبعد:

فإنه وصل سؤال من سيدي العلامة جمال الإسلام علي بن يحيى (1) ـ أحيا الله به معاهد العلوم ـ. ولفظه:

أشكل على المحب قولُ الزمخشري (2) في سورة الأنفال (3) على قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} ولكنها تعمُّكم، وهذا كما يحكي أن علماء بني إسرائيل نُهُوا عن المنكرِ تعذيرًا، فعمهم الله بالعذاب (4) مع قوله فيما تقدم في سورة الأعراف على قوله تعالي:{(وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ .... إلخ} (5).

فإن قلت: الأمة الذين قالوا: (لما تعظون) من أي الفريقين هم؟ أمن فريق الناجين؟ أم من المعذبين؟ قلت: من فريق الناجينَ، لأنَّهم من فريق الناهين. انتهى.

فظهر من هذا أَن الذين نُهوا وقالوا: (معذرةً) لم يعمَّهم العذابُ

وهل أشار في القصة الأولى أعنى قوله كما (يحكى

إلخ) إلى هذا أم لا؟ وهل بين المعذرة والتعذير فرقٌ؟ انتهى.

أقول ـ وبالله الثقة، وعليه التوكل ـ: إن الجواب عن هذا السؤال ينحصر في أبحاث ثلاثة:

(1) انظر (البدر الطالع) رقم الترجمة (351).

(2)

تقدمت ترجمته.

(3)

[الأنفال: 25].

(4)

انظر (تفسير القرآن العظيم) لابن كثير (4/ 38).

(5)

[الأعراف: 164].

ص: 6121

الأول: الفرق بين المعذرة والتعذيرِ ـ وبه يندفع الإشكالُ، ويتضح مرادُ ذي الجلال ـ إذ هذا الأمرُ هو الحامل على السؤال.

البحث [1أ] الثاني: في تقرير معنى قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (1)

البحث الثالث: في تقرير معنى قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ

} (2) الآية.

الفتح 3

من 6123 إلي آخر ص6277

(1)[الأنفال: 25].

(2)

[الأعراف: 164].

ص: 6122

[البحث الأول

الفرق بين المعذرة والتعذير]

أما البحث الأول: فاعلم أن التعذير مصدرُ عذَّر بتشديد الذالِ المعجمة، ومعناه عند أهل اللغة عدمُ ثبوتِ العذرِ.

قال في القاموس: (1)(عذَر تعذيرًا لم يثبتْ له عذْرٌ) انتهى.

ومنه قوله تعالى: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ} (2) أي المقصرون الذين لا عُذْر لهم، كما صرح بذلك أئمة التفسير، (3) ومصدره (التعذير)، فمراد العلامة الزمخشري (4) بقوله:(إن بني إسرائيل نهوا عن المنكر تعذيرًا) أي أَنهم لم يُنْهَوْا عن المنكر لقصد القيامِ

(1)(ص561).

(2)

[التوبة: 90].

(3)

انظر: (الجامع لأحكام القرآن)(8/ 228 ـ 229).

قال الراغب الأصفهاني في (مفردات ألفاظ القرآن)(ص 555 ـ 556):

العُذرُ: تحرِّي الإنسان ما يمحو به ذنوبه ويقال: عُذْرٌ وعُذُرٌ وذلك على ثلاثة أضرب:

إما أن يقول: لم أفعلْ، أو يقول: فعلت لأجل كذا، فيذكرُ ما يخرجه عن كونه مذنبًا. أو يقول: فعلت ولا أعود، ونحو ذلك من المقال. وهذا الثالث هو التوبةُ، فكل توبة عُذرٌ وليس كل عُذر، واعتذرت إليه: أتيت بعذر، وعَذَرتْه عذره قال تعالى:{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا} [التوبة: 94].

والمُعذِّر: من يرى أن لا عذْرًا ولا عُذْر له. قال تعالي: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ} [التوبة: 90] وقرئ: المُعْذِرون، وقوله:{قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} [الأعراف: 164]، فهو مصدر عذَرْتُ، كأنه قيل: اطلب منه أن يعذرني وأعذر: أتى بما صار به معذورًا، وقيل: أعذَرَ من أنذر أتى بما صار به معذورًا.

وقال بعضهم: أصل العُذْر من العَذِرة وهو الشيء النجس.

(4)

في الكشاف (2/ 122).

ص: 6123

بما أوجبه الله عليهم، ولأجل إبلاء العذرِ، بل نهوا عنه لقصد التعذير مع قيام الحجة عليهم، وقدرتِهم على دفع المنكرِ، وعدمِ وجود عذرٍ لهم مسوِّغٍ لما وقع منهم من التعذير، وذلك كما يفعله من كان قادرًا على دفع ما يراه من المنكر بالفعل من التكلُّم باللسان مع ضعف عزيمةٍ، وانكسار شكيمةٍ في المواقف التي لا تأثير للكلام فيها معتِقدًا أن مجر تكلُّمِهِ بلسانِه في غير مواطن النفعِ ينفعُه ويقومُ بإسقاط ما أوجبه الله عليه من إنكار المنكرِ، وهو يعلم يقينًا أنه قادرٌ على دفع المنكر بالفعل، والأخذِ بيد الظالم، والحيلولة بينه وبين انتهاك الحرمِ المحرَّمةِ فمن كان بهذه المثابةِ، وله هذه المنزلة والمكانة ففرضُه تغييرُ المنكر بيده لا تبرأُ ذمتُه ويسقطُ فرضُه بدون ذلك [1ب] فإذا ترك المنكر وتعلَّل بمجرد توجُّعه وتحسُّره وتَلَهُّفِه في مواقف الخلواتِ بين أحبابِه وأترابه ومعارفه، فلم يأت بشيء مما أمره الله به، بل هو التعذيرُ بعينه، وإن لوى شِدْقَهُ وعَصَر جفْنَه، وقطَّبَ وجهَهُ فهو عن الأمر الذي أوجبه الله عليه وتعبَّد به بمراحلَ {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} (1) وهكذا استروح إلى مجرد الإنكار بقلبه، وهو قادر على التكلم بلسانه فهو أيضًا لم يأت بما أمره الله به، ولا قام بما هو فرضُه.

بل ما فعل إلا مجرَّدَ التعذيرِ فقطْ، لأن الله ـ سبحانه ـ أوجب على عباده إِنكارَ المنكر بالقول مع الاستطاعةِ، ولم يسوغِ العدولَ إلى القول إلا مع عدم الاستطاعةِ للفعل، ولا سوّغ العدولَ إلى مجرد الإنكار بالقلب إلا مع عدم الاستطاعةِ للقول.

وقد صح عن رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أنه قال: «من رأى منكم منكرًا فليغيرْهُ بيده، فإِنْ لم يستطعْ فبلسانِه، فإِن لم يستطعْ فبقلبِه، وذلك أضعفُ الإيمانِ» (2) وهذا الحديث قد اتفق الناسُ على صِحَّتِه، ولم يخالف في ذلك مخالفٌ. فانظر

(1)[البقرة: 9].

(2)

أخرجه مسلم رقم (49)، وأبو داود رقم (1140)، والترمذي رقم (2172) وقال: حسن صحيح، والنسائي (8/ 111 ـ 112)، وابن ماجه رقم (1275) و (4013)، وأحمد في (المسند)(3/ 10، 20، 49، 54) من حديث أبي سعيد الخدري. وقد تقدم.

ص: 6124

كيف جعل مراتبَ الإنكار هاهنا ثلاثةَ أقسام:

القسم الأَول: مرتبةُ من كان قادرًا على تغيير المنكر بيده، فإِنه جعل فَرْضَهُ التغييرِ باليد، ولم يسوغ له الانتقالَ عن هذه الرتبةِ التي بعدها إِلا بشرط عدمِ الاستطاعةِ ثم لم يسوغْ له الانتقالَ إلى الرتبة الثالثةِ وهي الإنكارِ بالقلب ـ إلا بشرط عدم الاستطاعةِ على الرتبة الثانيةِ، فمن كان مستطيعًا لتغيير المنكرِ بيده فعدلَ إِلى الإنكار بلسانه فهو إِنَّما جاء بالتعذير، وكذا من [2أ] كان قادرًا على الإنكار بلسانه فعدلَ إلى الإنكار بقلبه فهو إِنما فعل مجرَّد التعذيرِ، ولا يصدقُ عليه القيامُ بما افترضه الله عليه من إِنكار المنكر، ولا يقال له: إِنه أَنكر المنكر، ولهذا عمَّ الله بني إسرائيلَ بالعذاب، مع أَنهم قد أَنكروا في الصورةِ، ولكنهم عدلُوا عن الذي أَوجبه الله عليهم إِلى غيره بغير عذرٍ كما قال العلَاّمةُ:(إنهم نُهُوا عن المنكر تعذيرًا).

إذا تقرر لك معنى التعذير فاعلم أَن معنى المعذرة إِبداءُ العذْرِ بفعل ما يجب، وهي مصدر عَذَرَ مخفَّفُ الذال وأعْذَرَ، قال في القاموس (1): (عذر يعذُرُ ـ عذرًا ومعذِرةً ومعذُرة وأعذره، والاسم المعذَرة مثلثةُ الذال.

قال: وأعذر أبْد عذرًا، وأحدث، وثبت له عذرٌ) انتهى.

وقال: الرازي في مفاتيح الغيب (2): (المعذرةُ مصدرٌ كالعُذْرِ) وقال أبو زيد (3) عذرتُه أعذرَ عذرًا ومعذرةً) ومعنى عذره في اللغة (4): إذا أقام بعذره (وقيل عذره يقال: من يعذرُني، أي من يقوم بعذري، وعذرتُ فلانًا فيما صنع أي قمتُ بعذرِه،

(1)(ص561).

(2)

(16/ 159)

(3)

انظر: (لسان العرب)(9/ 103).

(4)

قال ابن فارس في (مقاييس اللغة)(4/ 254): قال أهل المُعْذِرون بالتخفيف هم الذين لهم العُذْر، والمعذِّرون:

الذين لا عذر لهم ولكنّهم يتكلَّفون عُذرًا.

ص: 6125

فعلى هذا معنى قوله: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} أي قيامٌ منا بعذرِ أنفسِنا إلى الله تعالى، فإذا طُوْلِبْنَا بإقامة النهي عن المنكر قلنا قد فعلنا، فنكون بذلك معذورينَ.

وقال الأزهري (1): (المعذرة اسمٌ على مَفعُلَة) من تعذَّر وأقيمَ مقامَ الاعتذار، كأنهم قالوا: موعظتُنا اعتذرٌ إلى ربنا، فأقيم الاسم مقامَ الاعتذار. يقال:(اعتذر فلان اعتذارًا وعذرًا ومعذرةً من ذنبِه [2ب] (انتهى كلام الرازي في مفاتيح الغيب (2).

فعرفتَ أن معنى المعذرةِ القيامُ بما أوجبه الله من نهي المنكر، وفعل ما يقوم بالعذر عند الله على وجه لا يكون للفاعل بعده خطابٌ من الله، لأنه قد أبدى عذرَه، وفعل ما يجب عليه، بخلاف التعذير، فإنه فِعْلُ ما لا يثبتُ به العذرُ، ولا يسقطُ به الغرضُ كما تقدم تحقيقُه وحينئذ يتبين أنه لا مخالفةَ بين الآيتينِ الكريمتينِ، ولا بين ما ذكره العلامة الزمخشريُّ (3) في تفسيرهما، ويظهر أنه لم يشرْ بما ذكره في تفسير قوله تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (4) حيث قال: (نُهُوا عن المنكر تعذيرًا إلى الآية الأخرى ـ أَعني ـ قوله تعالي: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} لما قدمنا من التخالف بين معنى التعذير والمعذرةِ: بل هما ضدَّا لما عرفت من أن معنى المعذرة ثبوتُ العذر، ومعنى التعذيرِ عدمُ ثبوت العذر. (5)

(1) في (تهذيب اللغة)(2/ 306).

(2)

(16/ 159).

(3)

في (الكشاف)(2/ 100، 122).

(4)

[الأنفال: 25].

(5)

قال الجوهري في (الصحاح)(2/ 741): (كان ابن عباس يقرأ (وجاء المعْذِرون) مخففة من أعذر ويقول والله هكذا نزلت. قال النحاس إلا مدارها عن الكلبي وهي من أعذر ومنه قد أعذر من أنذر، أي قد بالغ في العذر من تقدّم إليك فأنذرك.

وأمَّا المعذّرون بالتشديد ففيه قولان:

أحدهما: أنه يكون المحقّ، فهو في المعنى المعتذر لأن له عذرًا فيكون المعذورون على هذه أصله المعتذرون. ولكن التاء قلبت ذالاً فأدغمت فها وجعلت حركتها على العين كما قرئ (يخصِّمون) بفتح الخاء. ويجوز (المعذِرون) بكسر العين لاجتماع الساكنين ويجوز ضمها اتباعًا للميم.

الثاني: أن المعذِّر على جهة المُفعِّل لأنه الممرّض والمقصّر يعتذر بغير عذر.

وقال غيره: يقال عذَر فلان في أمر كذا تعذيرًا، أي قصر ولم يبالغ فيه والمعنى أنهم اعتذروا بالكذب.

قال الجوهري في (الصحاح)(2/ 741) كان ابن عباس يقول: لعنَّ الله المعذِّرين، كأن الأمر عند أن المعذّر بالتشديد هو المظهر للعذر اعتلالاً من غير حقيقة له في العذر.

انظر: (جامع البيان)(6ج10/ 209 ـ 210).

ص: 6126

البحث الثاني: [عدم اقتصار الفتنة على الظالم

]

في تقرير معنى قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (1) قال أبو السعود (2): (أي لا تختصُّ إصابتُها من يباشرُ الظلم منكم، بل تعمُّه وغَيْرَهُ كإقرار المنكر بين أَظهرِهم، والمداهنةِ في الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكرِ، وافتراقِ الكلمة، وظهورِ البدعِ، والتكاسُلِ في الجهاد، وقوله: {لَا تُصِيبَنَّ} إما جوابُ الشرطِ مقدرٌ على معنى: (إن أصابتْكم لا تصيبنَّ) وفيه أن جوابَ الشرط مترددُ، فلا تليقُ به النونُ المؤكدةُ، لكنه لما تضمن معنى النهي [3أ] ساق فيه، كقوله تعالى:{لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ} وإما صفة لفته و (لا) للنفي، وفيه شذوذ، لأن النون لا تدخلُ المنفي في غير القسمِ أو للنهي، على إرادة القول، كقول من قال:

حتى إذا جنَّ الظلامُ واختلطْ

جاؤوا بمِذقٍ هل رأيتَ الذئبَ قطْ

وإِما جواب قسم محذوفٍ كقراءة من قرأ: (لَتُصِيْبَنَّ)(3)

(1)[الأنفال: 25].

(2)

في تفسيره (إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم)(3/ 314) بتحقيقي.

(3)

قال القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن)(7/ 391 ـ 392): قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فيه مسألتان:

الأولى: قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين ألا يُقرّوا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب.

الثانية: اختلف النحاة في دخول النون في (لا تصيبن) قال الفراء: هو بمنزلة قولك: انزل عن الدابة لا تطرحنَّك فهو جواب الأمر بلفظ النهي أي إن تنزل عنها لا تطرحنَّك ومثله قوله تعالى: {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ} أي إن تدخلوا لا يحطمنكم فدخلت النون لما فيه من معنى الجزاء.

وقيل: لأنه خرج مخرج القسم، والنون لا تدخل إلا على فعل النهي أو جواب القسم.

وقال أبو العباس المبرّد: إنّه نهي بعد أمر، والمعنى النهي للظالمين أي لا تقربنَّ الظلم.

وحكى سيبويه: لا أرينّك هاهنا، أي لا تكن هاهنا فإنّه من كان هاهنا رأيته.

وقال الجرجاني: المعنى اتقوا فتنة تصيب الذين ظلموا خاصة فقوله: {لَا تُصِيبَنَّ} نهي في موضع وصف النكرة وتأويله الإخبار بإصابتها الذين ظلموا ـ وهذا القول مردود فقد قال محيي الدين الدرويش. في (إعراب القرآن الكريم)(3/ 555): واختلفوا في (لا) من قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} على قولين: أ) أن (لا) ناهية وهو نهي بعد أمر، أي إنّه كلام منقطع عما قبله، كقولك صلِّ الصبحَ ولا تضرب زيدًا، فالأصل: اتقوا فتنة، أي عذابًا، ثم قيل: لا تتعرضوا للفتنة فتصيب الذين

.. وعلى هذا فالإصابة بالمتعرضين، وتوكيد الفعل بالنون واضح لاقترانه بحرف الطلب، مثل:{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا} ولكن وقوع الطلب صفة للنكرة ممتنع، فوجب إضمار القول. أي: واتقوا فتنة مقولاً فيها ذلك كما قيل في قوله:

حتى إذا جن الظلام واختلط جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط (ب) أنها نافعة واختلف القائلون بذلك على قولين:

1 ـ أن الجملة صفة لفتنة، ولا حاجة إلى إضمار قول، لأن الجملة خبرية وعلى هذا فيكون دخول النون شاذًّا مثله في قوله:

فلا الجارة الدنيا بلها تُلحَّينَّها

ولا الضيف فيها إنْ أناخ مُحَوِّل

بل هو في الآية أسهل، لعدم الفصل، وهو فيهما سماعي والذي جوزه تشبيه لا النافية بلا الناهية وعلى هذا الوجه تكون الإصابة عامة للظالم وغيره لا خاصة بالظالمين. كما ذكره الزمخشري، لأنها قد وصفت بأنها لا تصيب الظالمين خاصة فكيف تكون مع هذا خاصة بهم!!

2 ـ أن الفعل جواب الأمر وعلى هذا فيكون التوكيد خارجًا عن القياس شاذًّا وممن ذكر هذا الوجه الزمخشري وهو فاسد، لأن المعنى حينئذ: فإنكم إن تتقوها لا تصب الظالم خاصة. وقوله: إن التقدير إن أصابتكم لا تصيب الظالم خاصة، مردود لأن الشرط إنما يقدر من جنس الأمر لا من جنس الجواب.

ص: 6128

والظاهر أَن (لا) للنفي (1)، بل هو الوجه الذي لا يحمل النظمُ القرآني سواهُ، وتكون هي وما دخلت عليه إما جوابَ شرط محذوفٍ أو صفةًً لفتنة

ويقال في توجيه النونِ المؤكدةِ مثلُ ما سلف، وقد اقتصر على ذلك جماعةٌ من أئمة التفسير، وقال صاحب مدارك التنزيل أبو البركات عبدُ الله بن أحمد بن محمود النسفي (2): إن قوله تعالى: {لَا تُصِيبَنَّ} جوابٌ، وبين المعنى بقول: و (لكنَّها تعمُّكم) ـ، وقال محمد بن جزء الكلبي ـ في التسهيل لمعالم التنزيل (3) ما لفظه:(أي لا تصيب الظالمين وحدَهم، بل تصيبُ معهم من لم يغيِّر المنكرَ، ولم يَنْهَ عن الظلم، وإن كان لم يظلم)، وقال الرازي في مفاتيح الغيب (4):(والمعنى: [3ب] واحذروا فتنةً إن نزلت بكم لم تقتصرْ على الظالم خاصَّةً، بل تتعدي إليكم جميعًا، وتصل إلى الصالح والطالح).

وقد ذكر الطبري (5)، والبغوي (6)، والرازي، (7) وغيرهم (8) أَنها نزلت في جماعة من الصحابة وأن الفتنةَ هي ما جرى يومَ الجمل، ولا يخفى على ذي لُبٍّ أن الجزْمَ بكون الفتنةِ المذكورة في الآية هي فتنةُ يوم الجملِ محتاجًا إلى دليل، فإن الله ذكر الفتنةََ منكرةً، ثم القولُ بنزولها في المباشرين للقتال في ذلك اليوم لا يصحُّ، لأن الفتنة يومَ الجمل وقعت بَعْدَ موت النبيِّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ وانقطاع الوحي بزيادة على عشرين سنةً، بل الآية تحذير لجمع من يصلحُ للخطاب وقتَ النزول أن يقع أحدٌ منهم في فتنة

(1) انظر التعليقة السابقة.

(2)

(مدارك التنزيل المعروف بتفسير النسفي)(2/ 100).

(3)

(ص241).

(4)

(15/ 149).

(5)

في (جامع البيان)(6/ج6/ 219).

(6)

في تفسيره (معالم التنزيل)(3/ 345).

(7)

(15/ 149).

(8)

انظر: (الجامع لأحكام القرآن)(7/ 391 ـ 392).

ص: 6130

كذلك، كذلك هي خطابٌ لمن وجد من المسلمين بعد انقراض عصر الموجودين وقتَ النزول كسائر الآيات القرآنية (1) والخطابُ وإن كان لا يصلح لمن كان معدومًا لكن قد قرَّر أئمة الأصول الكلامَ في ذلك فيما يعرفه من يعرف علمَ الأصول. (2)

وبالجملة فالمخاطب بهذه الآية بهذه الآية هو المخاطبُ بقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (3)، {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (4)، {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (5)، والتعبُّد بما اشتملت عليه شاملٌ لكل من تعبَّده الله بما اشتملت عليه هذه الآيات الواردةُ في الصلاة والزكاة والصوم والحج، فكل طائفةٍ من طوائف المسلمين مأمورةٌ باتقاءِ الفتنة [4أ] التي هذا شأنُها. بل كل فرد من أفراد المسلمين مأمور بذلك

ولا يصح تعيينُ فتنةٍ من الفتن الواقعة في الإسلام بأنها هي المرادةُ دونَ غيرها، ولا أنَّ الآية نزلتْ في بعض أَفراد الصحابة دون بعض إلا بدليل، ولا دليلَ فيما أعلم. بل قد ورد في أحاديثِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يدل على عدم التعيينِ، من ذلك ما أورده البغويُّ (6) بإسناده في تفسير هذه الآية ولفظه: عن سيف بن أبي سليمان قال:

(1) قال ابن كثير في تفسيره (4/ 38) والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم ـ وإن كان الخطاب معهم ـ هو الصحيح.

(2)

تقدم توضيحه. وانظر: (إرشاد الفحول)(ص76 ـ 77)، (نهاية السول)(1/ 307 ـ 309).

(3)

[البقرة: 43، 110].

(4)

[البقرة: 185].

(5)

[آل عمران: 97].

(6)

في تفسيره (3/ 345).

قلت: وأخرجه أحمد في (المسند)(4/ 192) بإسناده ضعيف لإبهام الراوي عن الصحابي وباقي رجال الإسناد ثقات والدولابي في (الكنى)(1/ 44) والطحاوي في (شرح مشكل الآثار) رقم (1175) والطبراني في (الكبير)(ج17 رقم 343) من طرق.

وهو حديث حسن لغيره. وله شواهد تقدم كثير منها وسيأتي بعضها.

ص: 6131

سمعت عديًا الكندي قال: حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يقول: سمعت رسولَ الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ يقول: «إن الله لا يعذِّب العامَّة بعمل الخاصَّة حتَّى يروا المنكرَ بين ظهرانِيهم، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذَّب الله العامَّة والخاصَّة» انتهى.

ولا شك أَن كثيرًا من الفتن الواقعة في أيام الصحابةِ هي من هذا القبيلِ، فإن فتنةَ يوم الجمل لم يُصَبْ بها الباغي وحدَه، بل قُتِلَ فيها جماعة من المحقِّينَ، وكذلك أيامُ صفِّينَ فإِنه قتل فيها من المحقينَ ألوف مؤلَّفة منهم عمار بن ياسر، ولكن الشأن في كون الفتنةِ التي هي سببُ النزول هي فتنة معينة، فإن ذلك لم يثبتْ. وقد أورد الرازي في تفسير هذه الآية من مفاتيح الغيب (1) سؤالَا وأَجاب عنه فقال:(فإن قيل)(حاصل) الكلام في الآية أَنه تعالى يخوِّفهم بعذابٍ لو نزل [4ب] لعمَّ المذنبَ وغيره، وكيف يليق برحمة الرحيم الحكيمِ أن يوصلَ الفتنة والعذابَ إِلى من لم يذنبْ: ـ؟ قلنا: إنه تعالى قد ينزل الموتَ والفقر والعمى وإنزاله بعبيده ابتداء، لأَنه يحسن منه تعالى ذلك بحكم المالكيةِ، ولأنه تعالى علم اشتمالَ ذلك على نوع من أنواع الصلاح على اختلاف المذهبينِ، وإِذا جاز ذلك لأجل هذين الوجهين فكذا هاهنا والله أعلم بمراده) انتهى.

وأقول: هذا إنما يكون مشكلاً إِذا كانت الفتنةُ المذكورة تصيب من لم يكن له ذنبٌ قطُّ، وأَما إِذا قيل إِنها تصيب الذين ظلموا ـ أَي باشروا المعصيةَ الموجبة لاتصَّافهم بالظلمِ، والذين لم ينكروا المنكرَ مع وجوب ذلك عليهم كما تقدم، لم يكن ما في الآية مشكلاً، لأن الذين ظلموا أصيبوا أيضًا بذنوبهم ـ وهي ترك إنكارًا المنكرِ مع التمكُّن منه، لكنه يشكل على هذا أن الذين تركوا إِنكار مع وجوبه قد صاروا من جملة الظلمةِ، لأنهم اقترفوا ذنبًا ـ وهو ترك الإنكار الواجبِ، اللَّهم إلا أن يقالَ: إِن المرادَ بالذين ظلموا في الآية هم الفاعلون للمعصية التي يجب

(1) في تفسيره (15/ 150).

ص: 6132

إنكارُها كما يدلُّ على هذا كلام محمد بن جزيّ المتقدَّم ذكْرُه. فإنه فسر الآيةَ بما تقدم من قوله: (إنها لا تصيبُ الظالمين وحدَهم، بل تصيب معهم من لم يغيرِ المنكرَ، ولم ينه عن الظلمِ، وإن كان لم يظلم). انتهى.

فهذا فيه تصريح بما ذكرناه [5أ]، ومثلُه كلامُ أَبي السعود (1) المتقدِّمُ نقلُه

وإِذا صح هذا اندفع السؤالُ الذي أورده الرازي من أَصله، فإِنه إِنما نشأ من قوله في تفسير الآية:(أن الفتنة تتعدَّى إِلي الجميع كما تقدم نقله) ولكنه يقدحُ في تخصيص إصابة الفتنةِ لفاعل المعصية، ولمن لم ينكر عليه مع وجوب الإِنكارِ ما قدمنا من دخول بعض الفتنِ الواقعةِ بين الصحابة تحت الآية: إذ من أَصابتْه الفتنةُ من المحقينَ منهم لم تصبْه لأجل تركهِ لإنكارِ ما وجب عليه من المنكرِ، لأنهم قد قاموا بواجب الإِنكار، وسلُّو سيوفَهم في وجوه المبطلينَ من أهل الشام والخوارجِ ونحوِهم، وربما يجاب عن هذا بأن ترك الإنكار الذي هو سببُ الوقوع في الفتنة مع الظلمة لا يختصُّ بالتَّرك في نفس تلك الفتنةِ الثائرة لإمكان أن يكون قد وقع التَّرك لما يجب من الإنكار في أُمور آخرةٍ بمقدمةٍ على ثوراِنها فتسببتْ عن تلك الأسباب.

وبعدَ هذا فالأنسبُ بالعموم المستفاد من المفهوم القرآني هو ما ذكره الرازي (2) من تعدى الفتنةِ إلى من لم يكن له ذنبٌ قطٌ، لا بمباشرته للظلمِ، ولا بترك إنكار، لأن مفهوم الآية الكريمة هكذا:(بل تصيبهم وغيرهم) والغيرُ يعمٌ المذنبَ بترك الإنكارِ وغَيْرَهَُ، ويؤيد هذا ما يتفق في كل عصر، ويشاهدُ من حلول محنِ الفتنِ [5ب] بمثل النساءِ والصبيانِ، ومن لا قدرة له على إنكار المنكر، بل ومن كان من القائمينَ بواجب الإنكار، وهذا يعرفهُ كلُّ إنسان بالمشاهدةِ والتواتُرِ. وقد اشتملت كتبُ التاريخ من ذلك على عجائب وغرائبَ، فإن فتنة التتار (3) طحنتْ غالبَ البلاد الإسلاميةِ، وكان من

(1) في تفسيره (3/ 314) بتحقيقي.

(2)

في (مفاتيح الغيب)(5/ 149).

(3)

تقدم ذكره

ص: 6133

عادتهم أنهم إِذا دخلوا مدينةً من مدائن الإسلام قتلُوا جميع من فيها من كبير وصغير، وذكرٍ وأنثى، وصالح وطالحِ، وعالم وجاهل، وكذا فتنةُ (تيمورلَنْكْ) فإنه فعل في البلاد الإِسلاميةِ ما يقارب فعل التتار

وكذا لشاهُ إسماعيل وأمثالُهم من رءوس الفتنِ، فما ذكره الرازي (1) أنسب بالمفهوم القرآني، وبما يقع في الخارج، ويشاهد ويتواتَرُ، وإن كان ما ذكره غيره من التخصيص أَنسبَ بعدل الله وحكمتِه في حلول نقمته بمن يستحقُّها دون من لا يستحقُّها، فإنه جل جلاله لا يظلم الناس شيئًا {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] ويؤيدُ هذا الحديثُ الذي ذكرناه من رواية البغوي، (2) وفي معناه أَحاديثُ كثيرة (3) وبالجملةِ فالمقام من المعارك، وعلى فرض إمكان التخلُّ عن بعض الصور كما يكون من أفعال العبادِ من الفتن بأن يقال: إن المصابينَ من غير المذنبينَ، ومن النساء والصبيان والمجانين مظلمون، وليس إلى الله من ظلم العباد بعضِهم لعضًا شيء، ولا [6أ] يردُّ به الإشكال على ما في الآية الكريمة من التعميم، فقد لا يمكن التخلُّص عن العقوبات التي هى من أفعال الله كالخسفِ، والمسخِ، والجدْسِ، والعاهاتِ، وسائر الأمورُ السماويةِ إلا بمثل ما ذكَرَ الرازي.

(1) في (مفاتيح الغيب)(5/ 149).

(2)

في تفسيره (3/ 345).

(3)

منها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3346) ومسلم رقم (2880) عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أنَّ النبي صلي الله عليه وسلم دخل عليها فزعًا يقول: (لا إله إلا الله) ويلٌ للعرب من شرِّ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج مأجوج مثل هذه) وحلَّق بين إصبعيه الإبهام والتي تليها، فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم. إذا كثر الخبثُ).

ومنها: ما أخرجه ابن حبان في صحيحه رقم (7270) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلتُ: يا رسول الله إن الله إذ أنزل سطوته بأهل الأرض وفيهم الصَّالحون، فيهلكون بهلاكهم؟ فقال:(يا عائشة، إنَّ الله إذا أنزل سطوته بأهل نقمته وفيهم الصَّالحون فيصابون معهم، ثمَ يبعثون على نيَّاتهم).

وهو حديث صحيح لغيره.

ص: 6134

البحث الثالث

[مصير الفرق الثلاث من بني إسرائيل]

في تقرير معنى قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} . [الأعراف:164]

قال أبو السعود: (1) إن المراد بقوله تعالى: {أُمَّةٌ مِنْهُمْ} جماعة من صلحائهم الذين ركبوا في وعظهم كل صعب وذلول حاى يئسوا عن احتمال القبول لأخرين، والمقول لهم جماعة آخرون لا يقلعون عن التذكير رجاء للنفع والتأثير، مبالغة في الإعذار، وطمعا في فائدة الإنذار، والقول هو:{لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} أي مخترمهم بالكلية، ومطهر الأرض منهم {أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} دون الاستئصال بالمرة، وقيل مخزيهم في الدنيا أو معذبهم في الآخرة، لعدم إقلاعهم عما كانوا عليه من الفسق والطغيان، والترديد لنتع الخلو دون منع الجمع، فإنهم مهلكون في الدنيا ومعذبون في الآخرة، وإيثار صيغة اسم الفاعل مع أن كلا من الإهلاك والتعذيب مترقب ـ للدلالة على تحققهما وتقررهما البتة، كأنهما واقعان، وإنما قالوه مبالغة في أن قالوه بمحضر من القوم حثا لهم على الاتعاظ، فإن بت القول بهلاكهم وعذابهم مما يلقي [6ب] في قلوبهم الخوف والخشية، وقيل المراد طائفة من الفرقة الهالكة أجابوا به وعاظهم ردا عليهم، وتهكما بهم، وليس بذاك.

وجواب القول المتقدم هو قوله تعالى: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} أي قال الواعظ: نعظهم معذرة إلى الله على أنه مفعول له ـ وهو الأنسب بظاهر قولهم: لم تعظون، أو

(1) في تفسيره (3/ 258)

ص: 6135

نعتذر معذرة على أنه مصدرٌ محذوفٍ، وقرئ بالرفع على أنَه خبرٌ لمبتدأ محذوف ـ أي موعظتُنا معذرةٌ إليه تعالى، بحيث لا ننسب إلى نوع تفريطٍ في النهي عن المنكرِ، وفي إضافة الربِّ إلى ضمير المخاطبينَ نوعُ تعريضٍ بالسائلين.

وقوله تعالى: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} عطفٌ على مقدَّر ـ أي ورجاءٍ لأَن يتَّقوا بعضَ التقاةِ، وهذا صريح في أَن القائلين {لِمَ تَعِظُونَ} ليسوا من الفرق الهالكةِ

{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} أي تركوا ما ذَكَّرَهم صلحاؤُهم تَرْكَ الناسي للشيء، وأعرضوا عنه إعراضًا كليًا لم يخطُرْ بباله شيءٌ من تلك المواعظِ أصلاٍ {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} ومن الفريقان المذكورانِ، وتصدير الجواب بإنجائِهم للمسارعة إِلى بيان نجاتِهم من أول الأمر، {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [7أ] بالاعتداءِ ومخالفةِ الأَمر {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} أي شديد.

وصرح صاحب مدارك التنزيل (1) بأن المقولَ لهم هم الوعاظُ القائلينَ هم الصلحاء. وقال في تفسير: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} أَنهم الراكبون للمنكرِ، وجزَمَ بـ (لأن) الذين قالوا {لِمَ تَعِظُونَ} هم من الناجينَ، وروى عن الحسن أَنه قال: نجت فرقتانِ، وهلكت فرقةٌ، وهم الذين اتخذوا الحيتانَ.

وقال محمد بن جُزيّ في التسهيل (2) في تفسير الآية: (افترقتْ بنو إسرائيلَ ثلاثَ فِرَق: ـ فرقةً عصتْ بالصيدِ يومَ السبت، وفرقةٌ نهتْ عن ذلك، وفرقةً سكتتْ واعتزلتْ لم تنهَ، ولم تعص، ـ وإن هذه الفرقةَ لما رأت مجاهرةَ الناهيةِ، وطغيانَ العاصيةِ قالوا للفرقة الناهية: (لم تعظونَ قومًا يريدُ الله أن يُهْلِكَهم أو يعذّبهم).

فقالتِ الناهيةُ: ننهاهم معذرةً إِلى الله، ولعلهم يتقون، فهلكتِ الفرقةُ العاصِيةُ،

(1)(المعروف بتفسير النسفي)(2/ 83).

(2)

(ص299)

ص: 6136

ونجت الناهيةُ. واخْتُلِفَ في الثالثةِ هل هلكت لسكوتِها أو نجتْ لاعتزالها وبترك العصيان؟).

وبالجملة فكلام أهل التفسير مختلفٌ في الفرقة الثالثة (1): هل نجت أو هلكتْ؟ ولا حاجة بنا إلى التطويل باستيفاءِ كلامهم [7ب] لأَن محلَّ السؤال هو في الذين قالوا {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} والاتفاقُ كائن أنهم ناجونَ، وأَن ذلك ليس من التعذير الذي لا يُسْقِطُ الواجبَ، وقد وقع الجواب عن سؤال السائلِ ـ عافاه الله ـ في البحث الأول من الثلاثةِ، وإنما ذكرنا البحثين الآخرينِ ليتضحَ بهما ما حررناه في البحث الأول، لأن سؤال السائل كثر الله فوائده قد تعلق بالآيتين من تلك الحيثية فكان في التعرُّض لتفسيرهما تكميلٌ للفائدة والله أعلم.

حرر في ليلة الاثنينِ من ليالي شهر ربيع الآخر سنة: 1214هـ.

(1) قال القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن)(7/ 307) قال جمهور المفسرين: إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق وهو الظاهر من الضمائر في الآية، فرقة عصت وصادت، وكانوا نحوًا من سبعين ألفًا.

وفرقة نهت واعتزلت، وكانوا اثنى عشر ألفًا، وفرقة اعتزلت ولم تنه ولم تعص. وأن هذه الطائفة قالت للناهية: لِم تعظون قومًا تريد العاصية ـ الله مهلكهم أو معذبهم على غلبة الظنَّ. وما عهد من فعل الله تعالى حينئذ بالأمم العاصية. فقال الناهية: موعظتنا معذرة إلى الله لعلهم يتقون. ولو كانت فرقتين لقالت الناهية للعاصية: ولعلكم تتقون، بالكاف.

ثم اختلف بعد هذا، فقالت فرقة: إن الطائفة لم تنته ولم تعص هلكت مع العاصية عقوبة على ترك النهي قاله ابن عباس: وقال أيضًا. ما أدري ما فُعل بهم، وهو الظاهر من الآية.

وقال عكرمة: قلت لابن عباس لما قال لا أدري ما فعل بهم: ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم فقالوا: لم تعظون قومًا الله مهلكهم؟ فلم أزل به حتى عرّفته أنهم قد نجوا، فكساني حُلّة، وهذا مذهب الحسن ومما يدل على أنه هلكت الفرقة العادية لا غير قوله:{وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا} وقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ ....... } الآية.

انظر: (مفاتيح الغيب) للرازي (15/ 39).

ص: 6137