المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌طيب الكلام في تحقيق لفظ الصلاة على خير من حملته الأقدام - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ١٢

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌بحث في الصلاة على النبي صلي الله عليه وآله وسلم

- ‌سؤال وجواب عن الصلاة المأثورة على رسول الله صلي الله عليه وسلم

- ‌طيب الكلام في تحقيق لفظ الصلاة على خير من حملته الأقدام

- ‌بحث في الأذكار الواردة في التسبيح

- ‌نزهة الأبصار في التفاضل بين الأذكار

- ‌الاجتماعُ على الذكرِ والجهرِ بهِ

- ‌سؤال وجواب عن أذكار النوم

- ‌ اللغة العربية وعلومها

- ‌جواب الشوكاني على الدماميني

- ‌سؤال: عن الفَرْقِ بينَ الجِنْسِ واسْمِ الجِنْسوبينَهما وبينَ عَلَمِ الجِنْسِ.وبينَ اسمِ الجِنْسِ واسْمِ الجمْعِوبينَ اسْمِ الجمْعِمع الجواب للشوكاني

- ‌بحث في تبادر اللفظ عند الإطلاق

- ‌نُزهةُ الأحداق في علم الاشتقاق

- ‌كلام في فن المعاني والبيان(تعليق من الشوكاني على كلام صاحب الفوائد الغياثية)

- ‌الروضُ الوسيع في الدليل المنيع على عدم انحصارِ علمِ البديع

- ‌بحث في الرد على الزمخشري في استحسان المُرِبَّةَ

- ‌فتح القدير في الفرق بين المعذرة والتعذير

- ‌الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعدعلى ما قاله الشريف من اجتماع الاستعارةالتمثيلية والتبعية في قوله تعالى:{(أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}

- ‌جيد النقد بعبارة الكشاف والسعد

- ‌القول الصادق في ترتيب الجزاء على السابق

- ‌فائق الكسا في جواب عالم الحسا

- ‌فَتْحُ الخَلَاّقِ في جواب مسائل الشيخ العلامة عبد الرزاق الهندي

- ‌بحث فيما زاده الشوكاني من أبيات شعرية صالحة للاستشهاد بها في المحاورات وعند المخاصمات وأضافها إلى ما يصلح لهذه الأغراض في ديوان ابن سناء الملك

- ‌بحث في سيحون وجيحون وما ذكره أئمة اللغة في ذلك ويليه مناقشة لبعض أهل العلم في البحث السابق ثم جواب المناقشة السابقة

- ‌الحد التام والحد الناقص (بحث في المنطق)

الفصل: ‌طيب الكلام في تحقيق لفظ الصلاة على خير من حملته الأقدام

(194)

4/ 5

‌طيب الكلام في تحقيق لفظ الصلاة على خير من حملته الأقدام

تأليف

محمد بن علي الشوكاني

حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه

محمد صبحي بن حسن حلاق

أبو مصعب

ص: 5869

وصف المخطوط:

1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: طيب الكلام في تحقيق لفظ الصلاة على خير من حملته الأقدام.

2 ـ موضوع الرسالة: آداب.

3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه الثقةُ، الحمد لله رب العالمين، الذي علا بحوله ودنا بطوله علا فدنا ودنا فعلى ......

4 ـ آخر الرسالة: نقل هذا من خط يده الكريمة دامت إفادته، وكان نقل هذا بعنايته حفظه الله وأعلاه وحسبي الله وكفى وصلى الله على محمد وآله وسلم.

5 ـ نوع الخط: خط نسخي غير واضح.

6 ـ عدد الصفحات: 5 صفحات، ما عدا صفحة العنوان.

7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 29 سطرًا.

8 ـ عدد الكلمات في السطر: 15 كلمة.

9 ــ الرسالة من المجلد الخامس من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

ص: 5871

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه الثقةُ، الحمد لله رب العالمين، الذي علا بحوله ودنا بطوله علا فدنا ودنا فعلى، وملك الآخرة والأولى، الذي دل على ذاته بذاته، وتعالى عن شبهِ الخلائقِ بصفةٍ من صفاته، سبحانه عن إلحاد الملحدين، وجلَّ عن تعطيل المعطِّلين. هو هو لا يعلم قدرَه إلَاّ هو، لا أحد بقادرٍ قدَرَهُ، ولا هو الخليقُ بأن يخالف مخالفٌ بهديه وأمرِه. أحمدُهُ على جزيل نعمهِ، وأشكره على سنى آلائه، ووافر قسْمِهِ، والصلاة والسلام على نبي الرحمة، وسراج الظلمة، وكاشف الغمَّة، من زاده الله على خليقته شرفًا وفخرًا، القائلِ «من صلَّى عليَّ مرةً صلَّى الله عليه بها عشرًا» (1) وعلى آله الذين لن يُقْبَلَ من عبد صلاةٌ إلَاّ بالصلاة عليهم، ولن يوفي رسول الله أجره، كل من جان بمودته لهم، وعنايته بهم، وميلِه إليهم، ورغبته فيهم، وأخْذِه عنهم. وصلاتُه عليهم كلِّ حينٍ آمينَ، اللهم آمينَ.

وبعدُ:

فهذا سؤال صدَّره الحقير الفقير إلى البحر الغزير، والخِضمِّ الزِّخار، والغيثِ المدرارِ والعمرِ النوار، أستاذِ البشرِ، والعقل الحادي عشرَ، شمس سماء المعالي، وبدرِها المنير العالي، مجتهد العصرِ على جهة الحصر والقصر، عزِّ الملَّةِ، وخرِّيْتِ الأدلةِ، ركنِ الدين اليماني محمد بن على بن محمد الشوكاني (2) ـ حرس الله ذاته عن الغير، وحماه من كل ضيم وشرٍّ ـ وعليه من ولده شريف السلامُ الأتمُّ، ورحمة الله وبركاته باللفظِ الأعمِّ.

نعم هذا السؤال لا يزال يخطرُ بالبال ويحك فيه، ولم يزل الأقل يتطلب، أو عسى نجد

(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (408)، وأبو داود رقم (1530)، والنسائي في (السنن)(3/ 50)، والترمذي رقم (485) وقال: حديث حسن صحيح وابن حبان في صحيحه رقم (903). وهو حديث صحيح.

(2)

ندعو الله أن يجعل كل ذلك في ميزان حسناته.

ص: 5875

لدائِه ما يشفيه، ولفاقت ذهنه منه ما يغنيه، فمع كثرة التطلُّب، ومحبة الوقوف على ما تُسْقَى به الغلَّة، وتبرأُ به العِلَّةُ لم أقف منه على طائل، ولم يزده مع الإشكال إلَاّ وفورًا وتكاملاً، حتى أني وقفت على نقل لبعض المحققين فسررتُ حين الوقوفِ عليه، وتاقت النفس لمطالعته، وصرفِ الهمة إليه، وعضضته، بالناجذِ والنابِ، ونظرتَ فيه نظر الناقد البصيرِ من أولى الألباب، وكان وقوفي عليه وقوفَ شحيحَ ضلَّ في التربِ خاتَمُهُ، فلم أعد فيه بسوى خفَّيْ حنينٍ، (1) ووجدت دندنَته وما إليه لمحَ في البينِ، وفهمت أن محطَّ نظره، وغاية مقصده غيرُ ما أريد فهو في وادٍ وأنا في واد، فحينئذٍ قلت: سبحانه الله [أتبلهِتُ](2) من أنت في وقته وأوانه، أو [تطيل](3) الفكر من قرَّبك الله له في حَلَبةِ ميدانه! هذا لعمري هو التغافُل البالغ إلى غاية، والتساهل الواصل أرفَ نهاية، فتراني قد وجَّهته إليك، وعوَّلت في كشف مُدْلهمَّه بعد الله عليك، فأنت ـ حفظك الله ـ وارثُ العلوم عن أربابها بالتعصيب لا بالرَّحامة، وفاتحُ مربحاتِها بفتوح من الله تعالى وكرامة، مع مدة تعب ونصَبٍ فُقْتَ به جميعَ الأقران، وسُدْتَ به كلَّ ما هو في جميع البلدان [1أ] ومحطّ إليه إلى هو أن يقال: قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (4)

(1) قال أبو عبيد: أصل المثل أن حنينًا كان إسكافيًا، من أهل الحيرة فساومه أعرابي بخفين، فاختلفا حتى أغضبه، فأراد غيظ الأعرابي، فلما ارتحل الأعرابي أخذ حُنين أحد خفيّه وطرحه في الطريق، ثم ألقى الآخر في موضع آخر، فلمَّا مرَّ الأعرابي بأحدهما قال: ما أشبه هذا الخفَّ بخفّ حنين ولو كان معه الآخر لأخذته! ومضى فلمَّا انتهى إلى الآخر ندم على تركه الأول، وقد كمن له حنينٌ فلمّا مضى الأعرابي في طلب الأوَّل عمد حنين إلى راحلته وما عليها فذهب بها، وأقبل الأعرابي وليس معه إلا الخفَّان، فقال له قومه، ماذا جئت به من سفرك؟ فقال: جئتكم بخفي حنين، فذهبت مثلاً.

يُضرب عند اليأس من الحاجة والرجوع بالخيبة.

(2)

غير واضحة في المخطوط.

(3)

غير واضحة في المخطوط.

(4)

[الأحزاب: 56].

ص: 5876

وفي الصحيح (1) أنها لما نزلت جاء جماعة من الصحابة رضي الله عنهم إليه ـ عليه وآله الصلاة والسلام ـ فقالوا: يا رسول الله قد عرفنا السلامَ عليك، فكيف نصلي عليك إذا نحن صلَّينا؟ فقال:«قولوا: اللهمَّ صلَّ على محمد وعلى آل محمد» . إلخ. الرواية على اختلاف ألفاظها، وفي جميعها التصريحُ بأنَّ الصلاة على الجملة الإنشائية الطلبيةِ. (2)

وإذا تقرر هذا فلم أكَدْ أسمعُ، بل وكأني به لم يقع من أحد من المحدثين، ولا غرمتم في قراءة ولا كتب سوى أنه إذا ذكر ـ عليه وآله الصلاة والسلام ـ قال الذاكر هكذا: ـ صلي الله عليه وآله وسلم. وهذه جملة خبريةٌ تفيد الإخبارَ بوقوع صلاة وسلامٍ من الله عز وجل لا أنها تفيدُ أحداثَ صلاة في الحال كما هو لفظهُ.

فإن قيل هذا من باب تنزيل المطلوبِ وقوعُه بمنزلةِ الواقعِ كما إذا قيل لك: ادع لفلان.

فقلت: غفر الله له، فكأنك تريد أن تقولَ: اللهم اغفر له، فنزَّلتَ المطلوبَ وقوعُه بمنزلة كأنه قد طلب ووقع. (3)

قلت: هاهنا فرق واضح هو أن الصلاة عليه وآله معلومةُ الوقوعِ من الله ـ سبحانه ـ فالإخبار بوقوعها تحصيلُ حاصل، ولا كذلك طلبُ المغفرة لزيد لنحو حديث: «ولا أنا

(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4797) و (4798) وقد تقدم.

انظر الرسالة (191، 192).

(2)

انظر: (إعراب القرآن الكريم) محيي الدين الدرويش (8/ 42 ـ 43).

(3)

في هامش المخطوط: الجواب على السؤال أن يقول: قول المصلي: صلي الله عليه مكان اللهمَّ صلِّ عليه. مثل قول القائل: غفر الله له مكان اللهم اغفر له، ولا فرق لا واضح ولا خفي. قولك الصلاة عليه وآله معلومةُ الوقوع إن أردت بالمعلومة الوقوع هذه التي أنشأها المصلِّي بقوله: صلي الله عليه مكان اللهم صلِّ عليه فممنوع لأنَّه إنشاء والتنزيل بمنزلة الواقع لا يصيِّره واقعًا فإنَّه تحصيل حاصل وإن أردت بالمعلومة الواقع غيرها فمسلم ولا يضر فافهم. والله أعلم.

ص: 5877

إلَاّ أن يتغمَّدني الله برحمته» (1) وإذا كان المهمُّ هو إحداثَ صلاةٍ من العبد في الآن عند ـ عليه وآله الصلاة والسلام ـ أو يبدأ فكأن القائل ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ يقول أخبركم أنها قد وقعتْ عليه صلاةٌ من الله ـ سبحانه ـ فلم يمتثلْ، إذْ يقول الله: إن الله، ويقول صلُّوا فالمغايرةُ تدل عليه لا سيما أنَّ الصحابة وهم فصحاءُ الألسنِ ومن صميم العرب احتاجوا أن يفزعوا إلى [ ..... ](2) جبريل للتعليم، كيف تكون هذه الصلاة المطلوبة من العبد فَعَلَّمَهُمُ، فكيف يكون التخلُّص عن العهدة بغير ما أمر الإنسان به! وكأني بهذه النكتة عقلَ عن التنبه لها المخلَّفون، ولم يعلم ما يترتب عليها المصلون، وكأني بإبليسَ الرجيمِ ـ نعوذ بالله منه ـ ألقى هذه الدسيسةَ، ونمقَ هذا الهجّيرا يريد إحرام المصلين آخر الصلاة لما علم عِظَمَ أجرها، وإكثارَ أهل العلم من ذكرها، فإنْ والبرهان، وإن لم يكن إجمالاً للمعاني، وغفلةٌ عن تصحيح المباني فمثلي أهل لذلك، ومحل يكن ما حررته إشكالاً يحتاج إلى تفكيك وإيضاحٍ وبيانٍ فلديكم غايةُ ما يكون من التبين

(1) أخرجه أحمد (3/ 52).

وأورده الهيثمي في (المجمع)(10/ 356) وقال: رواه أحمد، وإسناده حسن.

من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «لن يدخل الجنة أحدً إلا برحمة الله» قلنا: يا رسول الله، ولا أنت؟ قال:«ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» .

وهو حديث صحيح لغيره. وله شواهد؟.

(منها): ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6463)، ومسلم رقم (2816) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «لن ينجِّى أحدًا منكم عمله» . قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته سدِّدوا وقاربوا، واغدُوا ورُوحوا، وشيءٌ من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا» .

(منها): ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6467) ومسلم رقم (2818) عن عائشة عن النبيِّ صلي الله عليه وسلم قال: «سدِّدوا وقاربوا وأبشروا، فإنَّه لا يُدخل أحدًا الجنةَ عملُه» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلَاّ أنْ يتغمَّدني الله بمغفرةٍ ورحمة» .

(2)

هنا كلمة غير مقروءة.

ص: 5878

لما هنالك. والذي يجهل يعلم فقد جعلكم الله حملة شريعته [1ب] وجِرانَ علمه وتراجمه. دمتُم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وتحياته كلِّ حين آمين والصلاةُ والسلام على محمد الأمين وآله الميامين كلَّ آنٍ آمين.

حرره الحقير إسماعيل بن حسين جغمان (1) ـ غفر الله لهما ـ حامدًا لله مصليًا ومسلمًا على رسوله وآله الطاهرين بتاريخ شهر القعدة الحرام سنة 1245.

(1) القاضي العلامة الشهيد إسماعيل بن حسين بن حسن بن هادي بن صلاح بن يحيي بن صلاح جغمان اليمني الخولاني الصنعاني. مولده بمدينة صنعاء سنة 1212.

له مؤلفات منها الصوارم المنتضاة في جوهر من المناقب المرتضاة، بلوغ الوطر والأنموذج في أعمال الحج وله ديوان شعر.

(نيل الوطر)(1/ 270 ـ 273 رقم 127).

ص: 5879

وهذا جواب شيخ الإسلام حفظه الله منقول من خط يده الكريمة ولفظُهُ:

بسم الله الرحمن الرحيم ـ

كثر الله فوائدك ـ:

اعلم أنَّ الله ـ سبحانه ـ أمر عباده بالصلاة على رسوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ فكان حقُّ الامتثال أن يقولوا صلَّينا على رسول الله بالذي هو يقتضيه الأمرُ بالصلاة من الله عز وجل لعباده، فكيف وقع منه تعالى الأمر لعباده بالصلاة فوقع امتثالهم بغير ما يقتضيه ذلك الأمر في لغة العرب، فقالوا: اللهم صلّ على محمد إلخ فهو مثل قول الآمر لغيره: قم فقال المأمور له قم. قال لنا عز وجل: صلُّوا فقلنا: صلِّ. فهذا الإشكال يحتاج إلى جواب قبل الجوابِ على سؤال السائلِ.

فإن قلت: أبِنْ لنا جوابَ هذا. قلت: هذه الصلاةُ التي أمر بها ربنا ـ سبحانه ـ عبادَه أنْ يقولوها لرسلِه على شعارٍ عظيم، ولهذا كان مختصًا بالأنبياء مع أنَّ أصل الصلاة في اللغة الدعاءُ كما هو منصوصٌ عليه في صحاح الجوهري، (1) وفي غيره من كتب اللغة، (2) فكان مقتضى هذه المعنى اللغوي جوازَ قول البعض من العباد للآخر: صلَّيت عليك، لأنه بمعنى دعوتُ لك، لكن هذا الشعارَ لا يجوز أن يكون في غير الربَِ ـ سبحانه ـ. فإن قلت: إذا كان المعنى اللغويُّ ما ذكرتَ فما المانع من التكلُّم به على مقتضى لغة العرب، وإرادة المعنى فيكون قولُ القائل صلَّيت عليك بمنزلةِ قوله دعوتُ لك.

قلت: قد عُلم من رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أنه لما نزل الأمر القرآني بالصلاة عليه قالوا له: كيف نصلِّي عليك؟ قال: «قولوا: اللهم صلِّ على محمد

(1)(6/ 2402).

(2)

انظر: (لسان العرب)(7/ 398 ـ 399).

(مفردات ألفاظ القرآن)(ص 490 ـ 491) للراغب الأصفهاني.

ص: 5880

وعلى آل محمد» إلى آخره، وبيَّنت في ذلك تعليمات منه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ لأمَّته، وليس في واحد منها أنه قال:«قولوا: صلَّينا عليك» ، بل كلُّها واردة بإرجاع الأمر إلى الله ـ سبحانه ـ.

وكذلك لم يقل رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ لأحد من الأحد: صلِّيتُ عليك، بل كان يحيل ذلك على الله عز وجل كما في قوله:«اللهمَّ صلِّ على آل أبي أوفي» . (1) والنكتةُ في ذلك الاعتراف بعظم أمرِ هذا وتقاصُرِ القُوى البشريةِ عن القيام به، فكأنهم قالوا بلسان الحال في هذا [2أ] المقام: نحن يا ربَّنا لا نقدِرُ على ما أمرتنا به، فقِوَانا تتقاصَرُ عن القيام به، فرددنا ذلك إليك. ولا بد من هذا التنكيت، لأنَّ تعليم رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ لنا كيفية الصلاة التي أمرنا الله ـ سبحانه ـ بها اقتضى أنَّ ذلك هو الحقيقة الشرعيةُ للصلاة المأمورِ بها، والحقيقة الشرعية تنقلُ عن الحقيقةِ اللغويةِ ويكون الاعتماد عليها، لأنَّ الشارع ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ بعثه الله تعالى ليبين للناس ما نزل إليهم، فكان اللائق تفسيرَ الكتاب العزيز بهما.

وأمَّا ما سأل عنه السائل ـ كثر الله فوائده ـ فاعلم أنه قد كثر مثلُ ذلك من النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ فكان يقول في الدعاء لأصحابه رحمه الله كما قال لآل عامر، فقالوا: يا رسول الله، لو أمتعتنا به (2) فقد أراد النبيُّ ـ صلي الله عليه وآله

(1) أخرجه أحمد (4/ 353، 355، 381، 388)، والبخاري في صحيحه رقم (1497) و (4166) و (6332) و (6359)، ومسلم رقم (1078)، وأبو داود رقم (1590)، والنسائي (5/ 31) من حديث ابن أبي أوفي قال: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا تصدق إلى أهل بيت بصدقةٍ، صلّى عليهم، قال: فتصدَّق أبي إليه بصدقةٍ فقال: «اللهمَّ صلِّ على آل أبي أوفى» .

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4196)، ومسلم رقم (123/ 1802) من حديث سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى خيبر فسِرْنَا ليلاً، فقال رجلٌ من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هنياتك؟ وكان عامرٌ رجلاً شاعرًا، فنزل يحدو بالقوم يقول:

اللهم! لولا أنت ما اهتدينا

ولا تصدقنا ولا صلينا

فاغفرْ، فِداءً لك، ما اقتفينا

وثبت الأقدام إن لا قينا

وألقينْ سَكينةً علينا

إنَّا إذا صيح بنا أتينا

وبالصياحِ عوَّلوا علينا.

فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «من هذا السائق؟» قالوا: عامر. قال: «يرحمه الله» . فقال رجل من القوم: وجبت يا رسول الله! لولا أمتعتنا به .... وهو حديث طويل. فراجعه في مظانه وقد ذكرت.

ص: 5881

وسلم ـ بهذا اللفظ إنشاء الدعاء له فالرحمة كما يختص (1) الصحابةَ ولو كان ذلك إخبارًا عن وقوع الرحمةِ له فيما مضي لنزلَ به ما يدلُّ من الشهادة في ذلك الوقت، ومعلوم أنه لم ينزل به إلا بعد هذه الدعوةِ. وهكذا كان يقول لمن يطلب منه الاستغفارَ له: غفر الله لكَ، ونحوُ هذا كثيرٌ. وقد أطلق على ذلك السلف والخَلفُ، فإنهم يقولون عند رواية الحديث عن الصحابي رضي الله عنه، ويقولون عند الرواية عن غير الصحابي: رحمه الله. وقد جعل أهلُ علم البيان هذا اللفظَ أبلغَ مما يدل على الاستقبالِ كالأمر، وجعلوا النكتة في ذلك هي دلالة الماضي المعبر به عن المستقبل على الوقوع، أي أنه قد تحقق وقوعُه فهي وإن كانت بصيغة الماضي فالمراد بها إنشاء الوقوع بخلاف الأمر، فإنه لا يدلُّ إلَاّ على مجرد الإنشاء، ولا يدل على تحقيق الوقوع.

ومن ذلك قول القائل: بعتُ شريت، تزوجت، زوَّجْتُ، وهبْتُ، نذرتُ، فهذه جمل إنشائيةٌ لا إخبار به بالاتفاق. ولو كان المراد بها الإخبارَ لم يصحَّ بها شيء من تلك الأمورِ، لعدمِ وقوع مضمونها في الماضى. ومع هذه النكتة التي ذكرها علماء البيان نكتةٌ أخرى هي تأدُّب العبد مع ربه عز وجل حيث جاء بغير صيغة الأمر، فظهر بهذا أن صيغة الماضي تدل هاهنا على معنى الاستقبال مع زيادة هي تلك النكتة اللطيفة البيانيةُ، والنكتة الأخرى التي ذكرنا، وليس في صيغة الأمر شيء من هاتين النكتتين.

ومن هذا القبيل تسليمه عز وجل على كثير من أنبيائه كما في القرآن

(1) غير واضحة في المخطوط.

ص: 5882

الكريم، كما في تسليمه على نوح عليه السلام (1) ـ، وعلى مَنْ بعدَه من الأنبياء بلفظ: سلامٌ، (2) فإنَّ أصل ذلك الجملة الفعلية، أي سلَّمتُ سلامًا، وهذا إنشاء سلام عليهم من الربَّ عز وجل إخبارٌ، وإنما عدل به إلى الرفع ليفيدَ الدوامَ والثباتَ الذي هو مدلول الجملِ الاسميةِ، كما هو مقرَّر [2ب] في علم البيان بخلاف الجمل الفعلية، فإنها ربما تدل على مجرد الحدوث مع زيادة التجدُّدِ في المضارعية.

فعرفت بهذا أنَّ صيغة المضيِّ في مثل ذلك أدلُّ على الوقوع وأبلغ، وفي هذا المقدار كفاية، والله ولي التوفيق.

وقد اقتصرنا على بيان تسويغ مثل ذلك اللفظ الذي سأل عنه السائل، ولا يقال أنه لم يوجد في البيانات النبوية كهذه الصلاة، لأنا نقول لم يرد في التعليمات النبوية ما يدل على انحصار الصلاة المشروعة في اللسان النبوي، ولهذا كثُرتِ الأحاديثُ المبيَّنة لألفاظ الصلاةِ، واختلفتْ اختلافًا كثيرًا وهي ما بين صحيح لا شك في صحته، وحسنٍ لذاته أو لغيرهِ، وبعضُها فيه مقالٌ، لكنه لا يخرج عن القسم المعمولِ به لكثرةِ طرقِه، وشهادة بعضِها لبعضِ، مع أنه قد ورد ما يصلُح للاحتجاج به على ذلك.

فأخرج النسائي (3) بإسناد صحيح، والطبراني، (4) والحاكم (5) في الدعاء في قنوت الوتر أنه قال النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ في آخره: وصلى الله على النبيِّ، وهو

(1) قال تعالى: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات: 79].

(2)

منها قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 109]، وقوله تعالى:{سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات: 120].

(3)

في (السنن)(3/ 248).

(4)

في (الكبير) رقم (2712).

(5)

في (المستدرك)(3/ 172).

قلت: وأخرجه أحمد (1/ 200)، والطيالسي رقم (1177، 1179)، وعبد الرزاق في مصنفه رقم (4984) من طرق.

ص: 5883

من حديث الحسنِ السِّبْطِ رضي الله عنه قال: علمني رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ كلمات أقولهنَّ: «اللهم أهدني فيمن هديت» إلى آخره. وقد اتفق عليه أهلُ السنن الأربع، (1) وابن حبان، (2) والحاكم، (3) وابن أبي شيبة. (4) وإلى هنا انتهى الجواب.

كتبه محمد بن على الشوكاني ـ غفر الله لهما ـ نقل هذا من خط يده الكريمة دامت إفادته، وكان نقل هذا بعنايته حفظه الله وأعلاه وحسبي الله وكفى وصلى الله على محمد وآله وسلم.

(1) أخرجه أبو داود رقم (1425)، والترمذي رقم (464)، وقال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه، من حديث أبي الحوراء السّعديِّ، واسمه: ربيعة بن شيبان. والنسائي (3/ 248).

(2)

في صحيحه رقم (945).

(3)

في (المستدرك)(3/ 172).

(4)

في مصنفه (2/ 300).

عن الحسن بن على رضي الله عنهما قال: علمني رسول الله صلي الله عليه وسلم كلمات أقولهنَّ في الوتر: «اللهمَّ اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولَّني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت وقني شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت» .

وهو حديث صحيح.

ص: 5884