الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(209)
15/ 3
القول الصادق في ترتيب الجزاء على السابق
حرره الجاني المتكلم فيما لا يعنيه بلسان التواني لطف الله غُفر ذنبه
فمن وقف على تقصير في هذا أصلحه بقلم البيان ومد ثوب ستره
على العريان وعذرني من التقصير فما يستوي الأعمى والبصير
وصلي الله على محمد البشير النذير وعلى آله وأصحابه
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
وصف المخطوط:
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: القول الصادق في ترتيب الجزاء على السابق.
2 ـ موضوع الرسالة: لغة العربية.
3 ـ أول الرسالة: القول الصادق في ترتيب الجزاء على السابق، بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي صان كتابه من الخلل وتولى حفظه ......
4 ـ آخر الرسالة: هذا ما ظهر تحريره عند الاطِّلاع على السؤال بدون مراجعة وبحث فليتأمل. وحسبي الله وكفى ونعم الوكيل.
في أصل المخطوط على صفحة العنوان حاشية بقلم العلامة علي بن عبد الله الجلال جوابًا لسؤال العلامة لطف الله لفظها: بعد الحمد لله قوله.
5 ـ نوع الخط: خط نسخي جيد
6 ـ عدد الصفحات: 5 صفحات.
7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 16 سطرًا.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة.
9 ــ الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
في أصل المخطوط على صفحة العنوان حاشية بقلم العلامة علي بن عبد الله الجلال جوابًا لسؤال العلامة لطف الله لفظها: بعد الحمد لله قولُه: اطلعتُ على هذا السؤالِ الذي حرره الولدُ العلامةُ النبيهُ لطفُ اللهِ، والولد العلامةُ الحسن بن علي حنش جواباتهم المذكورة، وهو سؤالٌ عظيم مما يستشكلُ مثلُه أولوا الأفهامِ، ووقع في الخاطرِ عند ابتداء النظرِ فيه، قبلَ البحث في كلام المفسرينَ أنه لا بد من التجوُّز في المرجع بأن يُرادَ به غيرُ يوم المعادِ، أو يكون الترتيبُ غيرَ زماني، أو بضربٍ من ضروب المجازِ، ورأيت الكشافَ (1) والبيضاويَّ، (2) وغيرَهُما قد أطبقوا أن قول الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا
…
} إلى آخر الآية، (3) تفسيرٌ للحكمِ، لكنهم لم يستشكلوا كزنَ الحكم في القيامة، وعذاب الدنيا متقدمٌ عليه، فكيف يكون تفسيرًا له! وهو محطُّ نظر السائلِ ـ أبقاه الله ـ ثم بحثت حواشي الكشافِ فرأيتُ صاحب الكشاف قد نقلَ الإشكال عن صاحب التحقيق وجواباتِه.
ومثلُه سعد الدين في حواشيه، فإنه قال على قوله في الكشاف تفسيرًا للحكم ما لفظه واعْتُرِضَ بأن الحكمَ مرتَّبٌ على الرجوعِ إلى الله، أعني المعادَ، وذلك في القيامة لا محالةَ، فكيف يصحُّ في تفسيره العذابُ في الدنيا! وأجيبُ بوجوه:
الأول: أن المقصودَ التأبيدُ وعدمُ الانقطاع من غير نظرٍ إلى الدنيا والآخرة، كما في قوله تعالى:{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} (4)
(1)(1/ 562)
(2)
(1/ 265)
(3)
[آل عمران: 55 ـ 57]
(4)
[هود: 107]. انظر تفصيل ذلك في الرسالة رقم (18).
والثاني: أن المراد بالدنيا والآخرةِ مفهومُهُما اللغويُّ، أعني الأولَ والأخِرَ، ويكون ذلك عن الدوام، وهذا أبعدُ من الأول جدًّا.
الثالث: أن المرجعَ أعمُّ من الدنيوي والأخروي، كونُه بعدَ (جَعَل) الفوقيةِ الثابتة إلى يوم القيامةِ لا يوجِبُ كونُه بعدَ ابتداء يوم القيامة.
وعلى هذا فوقيةُ الأجور أيضًا تتناولُ نعيمَ الدارينِ. ولا يخفى أن في لفظ: {كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (1) بعضَ نبوَّةِ عن هذا المعنى، وأن المعنى: أحكم بينكم في الآخرة فيما كنتم فيه تختلفونَ فيه فِي الدنيا.
الرابع: أن العذابَ في الدنيا هو الفوقيةُ عليهم، والمعنى: أضمُّ إلى الفوقية السابقةِ عذابَ الآخِرة، وهذا بعيدٌ في اللفظ جدًّا، إذ معنى أعذِّبه في الدنيا والآخرة ليس إلَاّ أني أفعلُ عذابَ الدارينِ. إلَاّ أن يقالَ: إن اتحادَ الكلِّ لا يلزم أن يكون باتحاد كلِّ جزء، فيجوز أن يفعلَ في الآخرةِ عذابَ الدارينِ بأن يفعلَ عذابَ الآخرةِ. وقد فُعِلَ في الدنيا، فيكون تمامُ العذابينِ في الآخرة. انتهى ما أفاده سعدُ الدين ـ قُدس سرُّه ـ.
والمحلُّ محلُّ إشكال. ولا يخفى الراجحُ من تلك الجواباتِ. وقد نقلت كلامَ السعد فقد لا يكونُ لدى السائل نسخةٌ أو لم يكنْ قدِ اطَّلع على البحثِ. والله أعلم.
كتبه عليُّ بن عبد الله الجلال ـ لطف الله به ـ
…
انتهى.
(1)[آل عمران: 55].
القول الصادق في ترتيب الجزاء على السابق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي صان كتابه من الخلل وتولى حفظَه فما غيَّره بجراءتِه، ولا بدَّل، وصانه عن الزيغ والتحريفِ، وأبدع إتقانَه، وأحكم منه الترصيفَ.
وإن مما قصُرَ عنه فهمي ولم يصل إلى ذروة معناه علمي وتقاعدتْ عنه مُشَمُخِرهِ همَّتي وحسرتْ في محجَّتِه فكرتي ترتيبُ الجزاء على سابقه في قول الله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِين (57)} (1).
قال العلامة (2) رحمه الله في تفسيره (3) ما لفظُه: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (4) يعلونَهم بالحجَّةِ وفي أكثر الأحوال بها، وبالسيف ومتبعوه هم المسلمون لأنَّهم متبعوه في أصل الإسلام، وإن اختلفتِ الشرائعُ دون الذين كذَّبوه، وكذبوا عليه من اليهود والنصارى. وتفسير الحكم قوله: (فأعذِّبهم، فنوفيهم أجورهم
…
انتهى بلفظه
…
(1)[آل عمران: 55 ـ 57].
(2)
الزمخشري.
(3)
في (الكشاف)(1/ 562).
(4)
انظر الرسالة رقم (29).
فأشكل علينا هذا الكلامُ، وكان قد دار بيني وبين الوالد العلامة درةُ تاجِ الفضلِ والكرامة، مَعيْنُ المعارفِ، سلوةُ المؤلفِ والمخالفِ، الحسن بن علي حنش (1) ـ كثر الله فوائده، ومد على الطلاب موائده [1]ـ فقلت له: أيُّ معنى لتفسير حكم الله في عَرَصاتِ القيامة بين هؤلاء بأنَّه سيعذِّبهم في الدنيا حال كونه يومَ القيامة؟ هل هذا إلا تناقضٌ ظاهرٌ؟ ولو كان سَوْقُ الآية هكذا: (فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابًا شديدًا في الآخرة) لكان المعنى واضحًا لا غبار عليه، وكان التفسير للحكم ظاهرًا لمن لمح إليه.
فأجاب الوالد العلامة الحسن ـ دامت فوائده ـ بأن قال: المساقُ صحيحٌ، والتفسير في الآية واضح صريحٌ، وأن الله أخبر أن حُكْمَهُ في الكافرين تعذيبُهم في الدنيا والآخرة، وأن كلام العلامة جار الله (2) لا يحتمل زيادةً على هذا
…
وقال ـ عافاه الله ـ لما بشَّر الله عيسى بأنه رافعه ومطهِّرُه، وكذا وكذا رتَّب على تلك البشارةِ بشارةً أخرى لعيسى وغيره فقال:{فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} إلخ الآيات. لكنه لم يظْهَرْ لي ما قاله ـ أي قول الوالد العلامة الحسنِ ـ عافاه الله ـ ولا تبيَّن لي صحَّةُ كلام جار الله على إيجازه، وعدم الإطالة.
وكان قد ظهر لي بعد التأمل الطويلِ شيءٌ، وهو أن جَعْلَ الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلي يوم القيامة مجهولٌ، (3) بيَّن بأن الذين كفروا معذَّبين في الدنيا:{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} (4) والأمرُ كذلك، وفي الآخرة لهم عذابُ النارِ. فهذا معنى جَعْلِ الذين اتبعوه فوقَ الذين كفروا.
وأما الذين آمنوا ففوقيَّتُهم متحققة في الدنيا والآخرة: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ
(1) تقدمت ترجمته.
(2)
أي الزمخشري في (الكشاف)(1/ 562).
(3)
انظر تفصيل ذلك في الرسالة رقم (29).
(4)
[آل عمران: 112].
وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1){فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ} (2)، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (3)، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (4)، {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (5)، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (6).
وفي القيامة كذلك: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ} (7)، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (8)، {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} (9) وآياتٌ عديدة.
فإن قلت: هذا الحكم ظاهرُهُ على مقتضي الآية إنما هو إلى يوم القيامة، ولا تدخل (ما) بعد إلى ما في قبلها.
قلت: لا مانعَ من دخولِه، وعلى فرض عدم التسليم فقد جاءت بمعنى مع كقوله تعالى:{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (10) أي معَ المرافق.
فإن قلت: سلَّمنا عذابَ الكافرِ في الدنيا بالذِّلَّةِ، فكيف جوَّزتَ إتيان المؤمن الأجر
(1)[التوبة: 32].
(2)
[الصف: 14].
(3)
[غافر: 51].
(4)
[المنافقون: 8].
(5)
[المائدة: 3].
(6)
[آل عمران: 85].
(7)
[الأنبياء: 103].
(8)
[المائدة: 69].
(9)
[التحريم: 8].
(10)
[المائدة: 6].
في دار الدنيا؟ ....
قلتُ: هو صحيحٌ لا مانعَ في إتيانهِ فيها، وقد جاء:{وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (1) فهذا ما ظهر لي ووضحَ معناه. والآية [2] مشكلةٌ غايةَ الإشكال فيرفع ذلك الكلامُ، ويحال على مولانا العلامة خاتمةِ المجتهدينِ، جَهْبَذِ السادة المحققينَ، نورِ عينِ الذكاء، نادرةِ الدهرِ من أوضح الله له طريق الدقائقِ مسلكًا، وفتحَ له المغْلق، وأطلَعَهُ على سرِّ المقيِّد والمطلقِ، وهدى به العامَّ والخاصَّ، وجعله مرجعًا لأهل الحَلِّ والعقدِ من الخواصِّ، العالم الربَّاني، المترجم عن السرِّ الصمداني محمد بن علي الشوكاني ـ أدام الله إفادته ـ فليكشفْ عن ما وضح، وينصرُ القولُ الصحيح بالدليل الأصحِّ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
(1)[العنكبوت: 27].
[جواب القاضي الشوكاني على الرسالة السابقة]
الحمد لله وحدَه. لما وقفَ الحقير على هذا التحرير ظهر له أن قولَه تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ
…
} إلى قوله {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} استئنافٌ (1) تقدير السؤالِ، كأنه لما سمعَ السامعُ ذِكْرَ حزبِ الإيمان وحزب الكفرانِ مع ذكر كونِ طائفةِ المؤمنينَ فوقَ طائفةِ الكافرين تشوَّق إلى استيضاحِ الأمرِ، ومعرفةِ جليِّة الحال عن شأن الحزبينِ، فكأنه قال: ما ذاك تكونُ حالُ طائفةِ الكافرينَ، وطائفة المؤمنين، بعد أن أخبر الله عز وجل أنه جاعل إحدى الطائفتين فوق الأخرى، فإن هذا الجعلَ المجملَ لا ريبَ أنه أعظمُ باعثٍ على أخفاء [3] السؤال عن أسبابه. فقال جل جلاله:{فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} . {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} ولا يلزمُ انحصارُ الجعل المجمل في هذا البيان، بل يمكن أن يكون بأسباب كثيرةٍ وقعَ البيان لبعضها، وأهمُّها.
فالحاصلُ أن قولَه تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ} استئناف بيانيٌّ جوابٌ لسؤالٍ منشؤُه قولُه تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} وما رجَّحه جار الله رحمه الله لا ريب أن فيه إشكالاً، لأن الأفعال إذا انضم إليها ذِكْرُ الأزمنة أو الأمكنة تقيَّدتْ بالمذكور. تقول ضَرَبْتُه يوم الجمعةِ، وفي الدار، فكان الضربُ مطلقًا. فلما قيل يومَ الجمعة، وفي الدار لم يبقَ له صدقٌ على ضربٍ واقعٍ في يوم السبتِ مثلاً، وفي المسجد، وهكذا سائرُ القيودِ والمتعلقاتِ.
إذا تقرر هذا فقولُه تعالى: {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} مفيدٌ بكونِه بعد المرجعِ إلى الله، كما تُشْعِرُ به (الفاءُ) الدالةُ على الترتيبِ والتعقيبِ. (2)
(1) الفاء: استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتكون تفسيرًا للحكم بين الفريقين.
انظر: (إعراب القرآن الكريم وبيانه)(1/ 521) محيي الدين الدرويش.
(2)
أي أن المعطوف بعد المعطوف عليه بحسب ما يمكن. وهو معنى قولهم إنّها تدل على الترتيب بلا مهملة أي: في عقبه ولهذا قال المحققون منهم: إن معناها التفرق على مواصلة. وهذه العبارة تحكي عن الزجاج وأخذها ابن جني في (لمعه) ومعنى التفرق أنها ليست للجمع كالواو. ومعنى على مواصلة: أي: أن الثاني لما كان يلي الأول من غير فاصل زماني كان مواصلاً له. انظر: (البحر المحيط)(2/ 261 ـ 262).
رجوِعكم إلىَّ أوقعتُ الحكمَ بينكم فيما كنتم فيه تختلفون. فهذا الحكمُ قد تقيَّد بوقتِ الرجوعِ، ولا ريب أن الرجوعَ إلى الله هو بعد المفارقةِ لهذه الدارِ، فلا يصح أن يكون من جملةِ المحكومِ به عذابُ الدنيا الذي قد مضى وانقضى في تلك الحال [4]، وليس الحكم هو مجرَّد الإخبارِ حتَّى يقال أنه أخبرَ بذلك خبرًا خاليًا عن الحكم، بل المرادُ إيقاعُهُ للحكم حينئذٍ، كما هو المشعورُ به من الصيغة والتركيبِ.
ولا أقول أن المعنى كما ذكره السائلُ ـ كثر الله فوائدِه ـ في هذا السؤالِ، وهو أن قوله تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ} إلخ بيانٌ لقوله تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} إلخ، لأنَّ البياناتِ لا تجيء على هذه الصيغة، بل لا بد من توسيطِ تقديرِ السؤالِ والحكمِ على الجملة بالاستئنافِ، فتكون منفصلة عن قوله:{وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} بخلاف ما لمح إليه السائل ـ عافاه الله ـ فإنه يوجبُ أن تكون متصلةً، وهذا يحتاج إلى مزيدِ تدبُّر لما قُرِّرَ في علمِ المعاني من أحكامِ الوصل (1) والفصل. (2)
(1) الوصل عطف: بعض الجمل على بعض.
قيل للفارسي: ما البلاغة؟ فقال: معرفة الفصل والوصل.
(معجم البلاغة العربية)(ص513).
(2)
الفصل: هو ترك هذا العطف ـ فإذا أتت جملة بعد جملة، فالأُولى إما أن يكون لها محل من الإعراب، بأن تكون خبرًا نحو: الله يعز من يشاء ويذل من يشاء. أو حالاً نحو: أبصرت عليًّا يلهو ويلعب. أو صفة نحو: أبصرت ولدًا يلهو ويلعب، أو مفعولاً نحو: أتخال الحق يخفي ويُطمس؟ أو مضافًا إليه نحو: جاء الحق وزهق الباطل. فإذا كان للأولى محل، وقصد تشريك الثانية لها في حكم إعرابها عطفت عليها بالواو وغيرها، ليدل العطف على التشريك المقصود كالمفرد، فإنه إذا قصد تشريكه لمفرد قبله في حكم إعرابه من كونه فاعلاً أو مفعولاً أو نحو ذلك وجب عطفه عليه نحو اقبل عليٌّ وأخوه، وقابلت عليًّا وأخوه (معجم البلاغة العربية)(ص 513 ـ 515). ?
قال الرازي في تفسيره (8/ 71 ـ 72): قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} .
اعلم أن الله تعالى لما ذكر: {مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} بين بعد ذلك مفصلاً ما في ذلك الاختلاف، أما الاختلافُ فهو أن كفر قوم وآمن آخرون وأما الحكم فيمن كفر فهو أن يعذبه عذابًا شديدًا في الدنيا والآخرة، وأما الحكم فيمن آمن وعمل الصالحات فهو أن يوفيهم أجورهم وفي الآية مسائل:
1) أما عذاب الكافر في الدنيا فهو من وجهين:
أ) القتل والسبي وما شاكله حتى لو ترك الكفر لم يحسن إيقاعه به، فذلك داخل في عذاب الدنيا.
ب) ما يلحق الكافر من الأمراض والمصائب. وقد اختلفوا في أن ذلك هل هو عقاب أم لا؟
قال بعضهم: إنّه عقاب في حق الكافر. وإذا وقع مثله للمؤمن فإنه لا يكون عقابًا بل يكون ابتلاءً وامتحانًا.
وقال الحسن: إن مثل هذا إذا وقع للكافر لا يكون عقابًا بل يكون أيضًا ابتلاءً وامتحانًا ويكون جاريًا مجرى الحدود التي تقام على التائب، فإنها لا تكون عقابًا بل امتحانًا والدليل عليه أنّه تعالى يعد الكل بالصبر عليها والرضا بها والتسليم لها وما هذا حاله لا يكون عقابًا.
فإن قيل: فقد سلمتم في الوجه الأول إنه عذب للكافر على كفره: وهذا على خلاف قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} وكلمة (لو) تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فوجب أن توجد المؤاخذة في الدنيا.
وأيضًا قال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} وذلك يقتضي حصول المجازاة في ذلك اليوم لا في الدنيا، قلنا الآية الدالة على حصول العقاب في الدنيا خاصة، والآيات التي ذكر نحوها عامة، والخاص مقدم على العام.
2) لقائل أن يقول وصف العذاب بالشدة، يقتضي أن يكون عقاب الكافر في الدنيا أشد، ولسنا نجد الأمر كذلك، فإن الأمر تارة يكون على الكفار وتارة يكون على المسلمين ولا نجد بين الناس تفاوتًا.
قلنا: بل التفاوت موجود في الدنيا، لأن الآية في بيان أمر اليهود الذين كذبوا بعيسي عليه السلام، ونري الذلة والمسكنة لازمة لهم. فزال الإشكال.
3) وصف الله هذا العذاب بأنه ليس لهم من ينصرهم ويدفع ذلك العذاب عنهم.
فإن قيل: أليس قد يمتنع على الأئمة والمؤمنين قتل الكفار بسبب العهد وعقد الذمة. قلنا: المانع هو العهد. ولذلك إذا زال العهد حل قتله. انظر: (جامع البيان)(3 جـ3/ 293 ـ 294).
هذا ما ظهر تحريره عند الاطِّلاع على السؤال بدون مراجعة وبحث فليتأمل. وحسبي الله وكفى ونعم الوكيل [5].