المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فتح الخلاق في جواب مسائل الشيخ العلامة عبد الرزاق الهندي - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ١٢

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌بحث في الصلاة على النبي صلي الله عليه وآله وسلم

- ‌سؤال وجواب عن الصلاة المأثورة على رسول الله صلي الله عليه وسلم

- ‌طيب الكلام في تحقيق لفظ الصلاة على خير من حملته الأقدام

- ‌بحث في الأذكار الواردة في التسبيح

- ‌نزهة الأبصار في التفاضل بين الأذكار

- ‌الاجتماعُ على الذكرِ والجهرِ بهِ

- ‌سؤال وجواب عن أذكار النوم

- ‌ اللغة العربية وعلومها

- ‌جواب الشوكاني على الدماميني

- ‌سؤال: عن الفَرْقِ بينَ الجِنْسِ واسْمِ الجِنْسوبينَهما وبينَ عَلَمِ الجِنْسِ.وبينَ اسمِ الجِنْسِ واسْمِ الجمْعِوبينَ اسْمِ الجمْعِمع الجواب للشوكاني

- ‌بحث في تبادر اللفظ عند الإطلاق

- ‌نُزهةُ الأحداق في علم الاشتقاق

- ‌كلام في فن المعاني والبيان(تعليق من الشوكاني على كلام صاحب الفوائد الغياثية)

- ‌الروضُ الوسيع في الدليل المنيع على عدم انحصارِ علمِ البديع

- ‌بحث في الرد على الزمخشري في استحسان المُرِبَّةَ

- ‌فتح القدير في الفرق بين المعذرة والتعذير

- ‌الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعدعلى ما قاله الشريف من اجتماع الاستعارةالتمثيلية والتبعية في قوله تعالى:{(أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}

- ‌جيد النقد بعبارة الكشاف والسعد

- ‌القول الصادق في ترتيب الجزاء على السابق

- ‌فائق الكسا في جواب عالم الحسا

- ‌فَتْحُ الخَلَاّقِ في جواب مسائل الشيخ العلامة عبد الرزاق الهندي

- ‌بحث فيما زاده الشوكاني من أبيات شعرية صالحة للاستشهاد بها في المحاورات وعند المخاصمات وأضافها إلى ما يصلح لهذه الأغراض في ديوان ابن سناء الملك

- ‌بحث في سيحون وجيحون وما ذكره أئمة اللغة في ذلك ويليه مناقشة لبعض أهل العلم في البحث السابق ثم جواب المناقشة السابقة

- ‌الحد التام والحد الناقص (بحث في المنطق)

الفصل: ‌فتح الخلاق في جواب مسائل الشيخ العلامة عبد الرزاق الهندي

(211)

30/ 5

‌فَتْحُ الخَلَاّقِ في جواب مسائل الشيخ العلامة عبد الرزاق الهندي

تأليف

محمد بن علي الشوكاني

حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه

محمد صبحي بن حسن حلاق

أبو مصعب

ص: 6251

وصف المخطوط:

1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: فَتْحُ الخَلَاّقِ في جواب مسائل الشيخ العلامة.

2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية.

3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك ......

4 ـ آخر الرسالة: سبحانه ربك ربِّ العزة عمِّا يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

5 ـ نوع الخط: خط نسخي جيد

6 ـ عدد الصفحات: 31 + صفحة العنوان.

7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 20 سطرًا.

8 ـ عدد الكلمات في السطر: 10+ 11 كلمة.

9 ــ الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

ص: 6253

بسم الله الرحمن الرحيم

أحمدك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك، سيد الأنام، وعلى آله الكرام، وصحبه الفخام. يا فتاح، يا عليم، افتح لنا أبواب الهداية، وافتح علينا بفهم ما استصعبَ من علوم الدراية والرواية، إنَّه لا خيرَ إلَاّ خيرُك، ولا يهب المعارفَ الحقةَ على الحقيقةِ غيرُك، وبعدُ:

فيقول الحقير الجاني محمد بن علي الشوكاني ـ غفر الله له ذنوبه، وستر عن عيون العباد عيوبه ـ وأنه ورد عليَّ، ووفد إلىَّ من الشيخ المحقق العلامة المدقق الفهامة، المتحلِّي من المعارف بما دقَّ وفاق، ورقَّ وراق، الفاضلِ عبد الرزاق، وهو الهنديُّ المستوطن دلّي ـ غفر الله له ولي ـ هذه المسائلُ الرشيقة، والمباحث الأنيقة الدقيقة. وها أنا أذكرها لك بنصِّها، واكتبها بلفظها وفصها، ثم أذكر ما ظهر لي من جوابها مسألةً مسألةً، وبالله الاستعانةُ على فك أقفال كلِّ معضلة ومشكلةِ، قال ـ كثر الله فرائد فوائده ـ ومدَّ على الطُّلاب فوائد فرائده ـ:

مسألة: ما قضية نتجتْ غيرَ مكررة الحد الأوسط، وما الشكل الأول ينفي الصغرى فأنتج وإيجابها مشرّط؟

مسألة: وما اقتراني كالاستثناءِ، وهما نقيضان.

مسألة: وما قضايا حوتْ ثلاثةَ الآلفِ في الحسبان، وما شكل ثانٍ اتفقت مقدمتاهُ إيجابًا وسلبًا، فأنتج دون ما عداهُ.

مسألة: ما بين الصورة الجسمية [1أ]، والصورة النوعيّة من أنواع التقابل الحكمية.

مسألة: وما بين العارضِ والعرضِ من النسبِ الأربع قد عرض، فإن قلتم يتساويان قلنا يتغاير الحدَّان، وإنْ قلتم نقيضان، قلنا يرتفعانِ، وإن قلتم غير ذلك فعليكم البيان.

مسألة وما بين الكمال الأول والثاني من هذه النسبِ، وهل السؤالُ عنها بما أو بأيّ قد وجب.

ص: 6257

مسألة وما شيءٌ لا من وجود ولا معدوم، ولا كلِّي ولا جزئي، ولا خاصٍّ ولا عامٍّ. وهل يدخل في مسمَّي الشيء؟ وهل يحسن السؤال عنه بأيِّ؟ وهل معنى لا شيء ولا موجود متَّحدٌ؟ وهل التلازم بين الوجود والشيئية من الأمور الخارجيَّة أو الذهنية، أو لا ملازمة أصلاً؟ وما بين اللاشيء واللاموجود من التقابل حكمًا.

مسألة: قالوا: في قام زيد خمسةٌ وعشرون وجهًا فانعموا بالقيد. مسألة قول الشاعر:

لا يألف الدرهمُ المضروبُ صُرَّتَنا

لكن يمرُّ عليها وهم منطلقُ

لم آثر لفظ يألفُ على غيره من الألفاظ التي تولفُ، وَلِمَ أتى بالدرهم دون الدينارِ؟ وبلا دونَ ما، ولِمَ اختار التعريفَ على التنكير، والإفراد على جمع التكسير؟ ولم وصَفَه بالمضروب؟ هل فائدة أوقع في القلوب؟ ولم أختار لفظ الصَّرة على ما يقوم مقامَها؟ بيِّنوا سرَّهُ. ولم قدَّم لفظ المرور على ما يرادفُه بما على الألسنة يدور؟ ولمَ جاء به مضارعًا دون ماضٍ؟ وهل زمانه الحالُ، أو الاستقبال، أو الاستمرار؟ وما عليها من الاعتراض. وهل المرور الانطلاق؟ فكيف قيَّده به؟ وتقييد الشيء بنفسه منعه الاتفاق، وهل يصح الاستشهاد بهذا البيت للحشو والتطويل والإيماء؟ وأين موضع كُلّ يا نبيلُ [1ب].

مسألة: هل الإعراب والبناء نقيضان؟ فإن قلتم: نعم. قلنا: يرتفعانِ. وإنْ قلتم: لا. فما بينَهما عند ذوي الشأن، وهل لهما عارضان أو عَرَضَان؟

مسألة: أي خبر مشتق استكنَّ فيه ثلاثةُ ضمائرَ وخبرينِ مشتقَّين ليس فيهما إلَاّ ضميرُ دائرة.

مسألة: ما مبتدأ رفعتُه حال.

مسألة: إذا بنيت من آي على مختال كيف تجمعُه جمعَ السلامةِ. وتصغِّره. وتكسِّره وترخِّمُهُ على القاعدة المقامةِ؟

مسألة: ما حرف ناب عن حرف حذف فنابَ عن ذلك النائبِ اسمٌ ربما عرف

ص: 6258

فعرف؟

مسألة إذا سمَّيتَ بلا كيف تثنيه، وكيف تجمعه، وكيف تكسره، وكيف ترخمه منادي، وتصغره؟

مسألة ما به اسمٌ عوضٌ عن نون التثنية في غير الإضافةِ العادية. مسألة: ما حدُّ علةِ الفرق، وعلة الاستغناء، وعلة التوكيد، وعلَّة النقيض، وعلَّة حمل المعنى على المعنى؟ وما علَّة القرب، وما علَّة الوجوب، وما علة المعادلة، وما علة الجواز، وما علة الأصل، وما علة التعليل، وما علَّة المشاكلة؟. وما مثالِ كلٍّ من هذه العلل عند النحاة؟ فأنعموا بالمثل، وما حدُّ العلَّة، وما رسْمُه، وما مثالُه؟ وهل يجوز التعليلُ بالعلَّة القاصرةِ، وما مثاله، وما فساد الاعتبار في علم العربيّة، ومتى تعارض شاذ ولغة ضعيفةٌ، فهل ارتكابُ الضعيف أولى أو لا؟ والله أعلم. تفضَّلوا بتحرير الجواب، ولكم جزيل الثواب انتهى السؤال.

قال المجيب ـ أمدَّ الله أيامه، ونشر بمناهج التحقيق أعلامَه ـ[2أ] وقبل تحرير الجواب تقدم مقدمةً مشتملةً على فوائدَ يزدادُ بها الواقفُ على هذه الأسئلةِ وأجوبتها بصيرة، وينتفع بها فيها انتفاعًا تامًّا.

الفائدة الأولى: اعلم أنَّ المسائل التي يوردها السائل على طريقة التعميةِ والألغاز (1)

(1) الألغاز قصدتها العرب وألغازٌ قصدتها أئمة اللغة، وأبيات لم تقصد العرب الإلغاز بها، وإنما قالتها فصادف أن تكون ألغازًا وهي نوعان:

فإنّها تارة يقع الإلغاز بها من حيث معانيها، وأكثر أبيات المعاني من هذا النوع وقد ألف ابن قتيبة في هذا النوع مجلدًا حسنًا. وكذلك ألف غيره. وإنما سموا هذا النوع أبيات المعاني لأنها تحتاج إلى أن يسأل عن معانيها ولا تفهم من أول وهلة. وتارة يقع الإلغاز بها من حيث اللفظ والتركيب والإعراب. انظر (المزهر في علوم اللغة وأنواعها) للسيوطي (1/ 578).

وقال السيوطي في (الأشباه والنظائر)(1/ 7) واللغز النحوي قسمان:

أحدهما: ما يطلب به تفسير المعنى والآخر ما يطلب به وجه الإعراب. ?

واللُّغز: هو أن يكون للكلام ظاهر عجب لا يمكن وباطن ممكن غير عجب.

واشتقاق اللغز من: ألغز اليربوع ولغَزَ إذا جفر لنفسه مستقيمًا ثم أخذ يمنة ويسرة. يورِّ بذلك ويُعمِّي على طالبه.

قال الخفاجي: إن قيل: فما تقولون في الكلام الذي وضع لغزًا، وقصد ذلك فيه؟ قيل: إن الموضوع على وجه الإلغاز قد قصد قائله إغماض المعنى وإخفاءه، وجعل ذلك فنًّا من الفنون التي يستخرج بها أفهام الناس، وتمتحن أذهانهم، فلما كان وضعه على خلاف وضع الكلام في الأصل كان القول فيه مخالفًا لقولنا في فصيح الكلام. حتى صار يحسن فيه ما كان ظاهره يدل على التناقض، أو ما جرى مجرى ذلك، كما قال بعضهم في الشَّمع:

تحيا إذا ما رؤوسها قطعت

وهنَّ في الليل أنجم زُهرُ

وقال صاحب البرهان: وأما اللغز: هو قول استعمل فيه اللفظ المتشابه طلبًا للمعاياة والمحاجاة.

والفائدة في ذلك في العلوم الدنيوية، رياضة الفكر في تصحيح المعاني، وإخراجها من المناقضة والفساد إلى معنى الصواب والحق، وقدح الفطنة في ذلك، أو استنجاد الرأي في استخراجه. انظر:(معجم البلاغة العربية)(ص622 ـ 623).

ص: 6259

ليس المعتبرُ في حلِّها إلا ما يصلُح أن يكون حلا لها على الوجه المعتبر، سواءً كان ذلك هو الذي قصدَه المورِدُ لها أو غيره، مما يتجلى به إشكالُها، ويتضح عنده إعضالُها، وينفتح لديه مُغْلَقُها. ومن زعم أنه لا يتمُّ الحلُّ، ولا تتضح التعميَّة إلَاّ بالتنصيص على الصورة التي أرادها من جاء بالتعميةِ فقد ركبَ أبعد الشططِ، وغلط أقبحَ الغلطِ. وإذا تقرر لك هذا علمت أنه ليس على المسؤولِ، فالمسائل الواردة على تلك الصورة إلَاّ مجرَّد تخريجها على وجهٍ صحيح، فإن تمَّ له ذلك فقد أصاب في الجواب، وعلى السائل التسليمُ، وإن لم يكنِ الحلُّ بعين تلك الصورة التي قصدها فإن زعم أن ذلك التخريجَ مختلٌّ بوجه من وجوه الاختلال فعليه أولاً إيضاحُ مُعَمَّاهُ، وتقريرُ انطباقهِ على تلك الصورة التي قصدها دون غيرها، وليس له أن يمنعَ منعًا مجردًا، وعليه ثانيًا بيانُ وجه الخللِ في ذلك التخريج الذي جاء به المجيب.

الفائدة الثانية: إنَّ عدم فهم المسألة الواردةِ على طريق التعميةِ لا يستلزم عدمَ فهم نفس تلك المسألةِ لو وردتْ بغير ذلك العنوانِ، وعلى غير تلك الصور، بل المعتبرُ في

ص: 6260

تحقيق العلوم، وتدقيق المعارف أن يكون العالمُ عارفًا بالمسائل، [2ب] قادرًا على استخراج الدلائل، متمكنًا من استحضارها على الوجهِ الذي دُوِّنت عليه في العلوم، ولا يلزمه أنْ يفهمَها إذا غُيِّرتْ تغييرًا خرجت به عن الطريقة المألوفة، وخالفت بسببه المسالكَ المعروفةَ. فإنَّ ذلك لا يقدحُ في علم العالِمِ بلا خلاف. ومن أنكر هذا فقد أنكر الأمرَ الواضح البيِّنَ، وما سبيل هذه المسائل التي أوردَهَا السائل ـ كثر الله فوائده ـ إلَاّ سبيلَ ما أورده أذكياء أهل الفنون في فنونهم على اختلافها من المسائل المعمَّاة في كل فن، بحسب ما يتعارفه أهلُه، ويدور بينهم في مجامعهم، فإنَّ ذلك قد يخفي على أكثرهم تدقيقًا، وأكملِهم تحقيقًا. فإذا انكشف وجهُ التعمية وجد ذلك من أصغر ما يعرفه، وأوضح ما يقومُ بتحريره وتقريره، ويلتحق برياضة أذهانِ الطلبةِ بالتعمية في مسائل العلوم ما يعقدُ من التعمية تارةً بالنظم، وتارةً بالنَّثر في أمور معروفة مألوفة. صارت بإيرادها على ذلك الوجهِ مما يصعُب حلُّه، ويبعدُ فهمُهُ، وكثيرًا ما يقع ذلك بين المشتغلين بالأمور الأدبيَّة، والمحاضرات المجلسيَّة. فإذا ظهر وجهها، وحصل حلُّها ظهر عند ذلك أن ذلك المعمَّى الذي تقاصرت الأذهان عن حلِّه، وتعبت في استخراجه في شيء يعرفُه كلُّ أحدٍ.

الفائدة الثالثة: أنَّ مسائل التعمية إذا كان كشفُها وحلُّ ألغازِها بما يشابهها في التغطية. ويناسبها في الوجه الذي وردت عليه، وعلى تلك الصورة التي جاءت بها كان ذلك حَسَنًا مقبولاً، مشتملاً على زيادة فائدةٍ، وهي شَحْذُ ذهن الواقفِ على الجواب [3أ]، وتحديدُ فهمه، وتقوية إدراكِهن وتصيفة صورة تصوُّره، وربما نسلك في بعض هذه الأجوبةِ هذا المسلكَ، ونمشي على هذه الطريقة التي مشَاها السائل ـ كثر الله فوائده ـ.

الفائدة الرابعة: قد كان رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ يكره كثرةَ السائل، ولما أكثروا عليه في بعض المواطن غضبَ، ثم طلب منهم أنْ يسألوه، وتقاضَاهم ذلك غيرَ مرَّة حتى قال بعضُهم: مَنْ أبي يا رسول الله؟ فقال: أبوك فلان، ثم

ص: 6261

كرر الطلبَ لهم مغضَبًا، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: رضينا بالله ربًّا، والإسلام دينًا، وبمحمدٍ رسولاً، فسكن. والحديث في الصحيح. (1)

وقد ورد في حديث صحيح تعليلُ كراهةِ كثرةِ المسائلِ بأنْ يتسبَّبب السائلُ لإيجاب حكم لم يجب وإثبات شرع لم يثبتْ.

وأفاد ذلك جوازَ المسائل التي لا تستلزمُ مثلَ ذلك، بل جوازَ ما لم يتعلق بأمر الدين منها، ويؤيد ذلك حديثُ ابن عمر الثابت في الصحيح، الذي ترجم عليه البخاري بقوله: باب طرحِ المسألةِ.

وقد كان كثيرٌ من السلف يكرهون المسائلَ التي هي من نوع الأغلوطاتِ، ومن جنس ما لم يكن للناس إليه حاجةٌ.

وقد كان كثير منهم لا يجيبُ في مثل ذلك، ولا يلتفت إليه.

وأمَّا علماء المعقول فقد استكثروا من ذلك، ووضعوا له مؤلَّفات مستقلةً، فإن أرسطا طاليس (2) صنَّف كتابًا مستقلاً في بيان الأمور التي يُقْصَدُ بها التمويهُ، وذكر جميع

(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4621)، ومسلم رقم (134/ 2359) من حديث أنس بن مالك قال: بلغ النبي صلي الله عليه وسلم عن أصحابه شيءٌ فخطب فقال: «عرضت على الجنة والنار، فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً وبكيتم كثيرًا» قال فما أتي على أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم أشدّ منه، قال: غطوا رءوسهم ولهم خنينٌ، قال: فقام عمر فقال: رضينا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا. قال: فقام ذاك الرجل فقال: من أبي؟ فقال: (أبوك فلان) فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} .

وأخرج البخاري في صحيحه رقم (92)، ومسلم رقم (138/ 2360) عن أبي موسى قال: سُئل النبي صلي الله عليه وسلم عن أشياء كرهها. فلمَّا أُكثر عليه غَضِبَ. ثم قال للناس: «سلوني عم شئتم» فقال رجل: من أبي؟ قال: «أبوك حذافةٌ» فقام آخر فقال: من أبي؟ يا رسول الله، قال:«أبوك سالم مولى شيبة» فلما رأى عمر ما في وجه رسول الله صلي الله عليه وسلم من الغضب قال: يا رسول الله إنّا نتوب إلى الله.

(2)

أرسطاليس: ومعناه محب الحكمة، ويقال الفاضل الكامل. وهو أرسطاليس بن نيقوماخس بن ماخامرون. ومن ولد اسقليبادس الذي اخترع الطب لليونانيين. وكان اسم أمه افسيطياء، وترجع إلىاسقلبيادس، وكان من مدينة لليونانيين تسمى اسطاغاريا. وكان أبوه نيقوماخس مطببًا لفيلبس أبي الأسكندر. وهو من تلاميذ أفلاطون ـ عاش ما بين (382 ـ 322 ق. م).

من مصنفاته: الجدل. العبارة أو التفسير. السماء والعالم ..

انظر: (الفهرست) لابن النديم (ص347)، (تاريخ الفلسفة اليونانية)(ص179) ليوسف كرم.

ص: 6262

ما يوضِّح الأقاويلَ التي يستعملُها المموهون، وبأيِّ الأشياء تُفْتَتَحُ، وكيف يتحرر الإنسان منها، ومن أين تقع المغالطةُ [3ب] في المطويَّاتِ، وسمَّى هذا الكتابُ سوفسطيقا (1) ومعناه الحكمة المموّهة. وصنف كتابًا آخَرَ في كيفية السؤالِ الجدلي، والجواب الجدلي، وسمَّاه طويبقًا، (2) ومعناه بالعربية المواضعُ الجدليَّة، وصنف كتابًا ثالثًا في الأقوال التي يمتحى بها، وسمَّاه أنا لوطيقنا، (3) ومعناه بالعربية كتاب البرهان.

بسم الله أشرع الآن في الجواب، مستعينًا بفاتح مُغْلَقَاتِ الأبواب.

قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ: ما قضية نتجت غيرَ مكررةِ الحدِّ الأوسط.

أقول: القضية هي التي يصحُّ أن يقال لقائلها أنه صادقٌ أو كاذبٌ، كما صرَّح به المحقق الشريفُ في التعريفات، (4) وهي التي يقول فيها أهلُ النحو والبيانِ أنها ما احتملت الصدقَ والكذبَ، فإن كان المرادُ بالنتيجةِ التي ذكرها السائل هي ما تستلزمهُ تلك القضية

(1) نقله ابن ناعمة وأبو بشر متى إلى السرياني، ونقله يحيي بن عدي من تيوفيلي إلى العربي، وللكندي تفسير لهذا الكتاب. (الفهرس) لابن النديم (ص349).

(2)

وللفارابي تفسير هذا الكتاب، نقل إسحاق هذا الكتاب إلى السرياني ونقل يحيى بن عدي الذي نقله إسحاق إلى العربي ونقل الدمشق منه سبع مقالات.

(الفهرست) لابن النديم (ص349).

(3)

نقله ثيادورس إلى العربي، وللكندي تفسير لهذا الكتاب.

(الفهرست) لابن النديم (ص348).

(4)

(ص183 ـ 184) للشريف الجرجاني.

ص: 6263

فقد لزم عنها لذاتِها قولٌ آخَرُ، وهو عكسُها، وعكس نَقِيْضِها. وإن كان المراد النتيجة التي تلزم القولَ المؤلِّف من قضايا فجوابه مبين في القضايا التي قياساتُها معها، وما يشابها. فإنَّ قولنا: الأربعةُ زوجٌ نتجت، ولم يتكرر فيها الأوسط، لأنَّ الأوسط هنا معلومٌ لكل من يعلم أنَّ الأربعة عدد منقسمٌ بمتساويينِ، وكلُّ عدد منقسم بمتساويينِ زوجٌ، فالأربعة زوج. فهذه قضية نتجت غَيْرَ مكررةِ الحدِّ الأوسط، ويمكن الحلُّ بقياس المساواةِ على ما رجَّحهُ صاحب المطالع، ثم نقول له على طريقة المشاكلةِ لسؤاله: والمماثلة لمنواله [4أ] ما قضية نتجتْ وليس فيها من الشروط المعتبرةِ. وأخرى لم تنتج مع كمال شروطها المعتبرة.

ثم نقول له أيضًا: ما قضيّةٌ صحَّ فيها أن تكون موجهةً بجهتين متناقضتينِ، وصدقتا لكن بنوع من العنايةِ ترتفع عنده العماية. وما قضيّةٌ صدقتْ موجبةً وسالبةً، وما قضيّة خبريةٌ ليست بصادقة ولا كاذبة.

قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ: وما الشكل الأول ينفي الصغرى فأنتج وإيجابها يشترط.

أقول: ينظر السائل جوابه في بحث المعدولاتِ، فإنه عند ذلك يظفر بالمطلوب، وفي المشروطة الخاصَّة، والعُرفيَّة الخاصَّة، والوجودية اللاضرورية، والوجودية اللاذعة ما يغني عن التطويل، ويقتضي الاكتفاءَ بالحلِّ في هذا الكلام القليل على أنه إذا جعلَ موضوع الكبرى ما سلبَ عن الأوسط في الصغرى السالبةِ كان الإنتاج متحقِّقًا، والقياس من الشكل الأول كما صرَّح به السعدُ، ثم نقول له: وما شكل أنتج وصغراهُ منفيَّةٌ وكبراه ليست بكليَّةٍ.

قال السائل ـ عافاه الله ـ مسألة وما اقترافي كالاستثنائي وهما نقيضان.

أقول: إنْ أراد المشابهةَ بينهما في وجهٍ من الوجوه، وعلى حالةٍ من الحالات، ولو بمجرد التألُّف منهما، والصحبة بينهما، فجوابُه مبينٌ في قياس الحلفِ، وإنْ أراد المشابهةَ بينهما في بعض الوجوه ففي مباحث المركَّباتِ ما يرشدُ إلى الحلِّ على بعض الحالات،

ص: 6264

وإن أراد المشابهةَ في كل الوجوه ففي صور الاعتبارات، ووجوه عدم تزاحُمِ المقتضياتِ ما يوضَّحُ له هذه [4ب] المقامات، ثم نقول: ما وجه الحصر في النوعين؟ وأي دليل على عدم وجود ثالث للقسمين؟ فإن قال: من العقل، فما هو؟ وإن كان من استقراء أقسام الكلام فأين هو؟

قال: مسألة: وما قضايا حوتْ ثلاثةَ الآلفِ في الحسبانِ.

أقول: لما أطلق القضايا ولم يبينْ لها عددًا، ولا أوضح لها مدَدًا لم يمتنع أن يقال أنَّ هذه القضايا مساويةٌ لما حوتْ مساواةً يطيحُ عندها الإشكالُ، ويطير ببيانها طائرُ الإعضالِ، أو مساوية لمخرج من مخارجها القريبةِ أو البعيدة، مع تكثُّر وجوه الحاوي وتنوُّعه إلى المقدارِ المساوي، ثم نقول على مقتضى هذا الإهمال، ما قضيةٌ واحدة صحيحة القاعدةِ حوتْ ما لا ينحصرُ في الحسبان؟ وما أخرى حوت بالاجتلابِ ألفَ ألفِ ألفِ ثلاثَ مرَّاتٍ؟

قال: وما شكل ثانٍ اتفقت مقدِّمتاه إيجابًا وسلبًا فأنتج دون ما عداه؟ أقول: جواب هذا السؤال قد أرشدْنا إليه فيما سبق، فإنْ أراد السائل مزيدَ الإيضاح ففي تركيبه من كبرى ممكنةٍ خاصَّة مع صغرى اللاضروريةِ يحصلُ الحلُّ، ويتبيَّن به الدٌّقُّ والجُلُّ، ولكن في قوله دون ما عداهُ تساهلٌ لا يرضاه.

ثم نقول له: ما شكل ثانٍ لم يحصلْ ما هو معتبرٌ فيه من دوام صغراهُ، ولا انعكاس سالبة كبراه، أنتج قولاً صحيحًا، واستلزم لذاتِه دليلاً رجيحًا، ثم ما شكل ثالث أنتج مع عدم إيجاب صغراهُ، وما شكل رابع أنتج مع عدم إيجاب كبراه؟

قال: مسألة ما بين الصورة الجسميَّة، والصورة النوعية [5أ] من أنواع التقابل الحكميَّة.

أقول: يتضح الجواب بذكر مفهومي الصورتين، ومفهوم التقابل.

أمَّا الصورة الجسميَّةُ فهي جوهر متصلٌ غيرُ بسيط، لا وجودَ لمحلِّه دونَه، قابل للأبعاد الثلاثة، والصورة النوعيَّة جوهر بسيطٌ لا يتمُّ وجودُه بالفعل دون وجود ما حلَّ

ص: 6265

فيه، وأمَّا التقابلاتُ فهما اللَّذان لا يجتمعانِ في شيء واحد من جهة واحدة، وأقسامه أربعة:

أحدها: الضدَّان، وهما الموجودانِ غير المتضايقينِ كالسواد والبياض. (1)

وثانيهما: المتضايقان وهما موجودان يُعْقَلُ كلٌّ واحد منهما بالنسبة إلى الآخر كالأُبوَّة والنبوَّة. (2)

وثالثها: المتقابلانِ بالعدم والملَكَةِ، وهما أمران يكون أحدُهما وجوديًّا، والآخر عدميًّا، لكن لا مطلقًا بل يعتبرُ منهما موضوعٌ قابلٌ لذلك الموجود، بل الوجودي كالبصرِ والعمى، والعلمِ والجهلِ. (3)

ورابعها: المتقابلانِ بالسَّلْبِ والإيجابِ كالفرسيةِ والأفرسيَّة (4) إذا عرفت هذا، وتقرَّر لديك قيدُ البساطةِ في إحدى الصورتينِ وعدمِها في الأخرى علمتَ أن تقابُلَ المقام من النوع الأول من تلك الأقسامِ، وعلى تقدير البساطة فيهما كما قاله البعض يكون توقُّفُ المحلِّ على الحال في الأولى، وتوقُّفُ الحال على المحلِّ في الثانية، مماله مدخل في ذلك التقابُلِ لما تقرر من استلزام تنافي اللوازمِ لتنافي الملزوماتِ، ثم نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ: كم عدد ما يطلق عليه اسمُ الصورةِ عند أهل الفنِّ؟ وهل يصحُّ وجود تقابل غيرِ الأربعةِ المذكور لا يصدق عليه مفهومٌ واحد منها؟ فإن قال نعم فما هو؟ وإن قال لا فما وجه الحصر؟ [5ب] ثم هل تنحصرُ الموجوداتُ في الجواهر والأعراض، أو ثَمَّ

(1) هو مقابلة الشيء بضده: قال تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} ألا ترى صحة هذه المقابلة البديعة حيث قابل الضحك بالبكاء. والقليل بالكثير.

(معجم البلاغة العربية)(ص535)، (جواهر البلاغة)(ص291).

(2)

انظر: (معجم البلاغة العربية)(ص367).

(3)

بناء على أن العجز نفي القدرة عمَّن من شأنه الاتصاف بالقدرة.

(معجم البلاغة العربية)(ص367).

(4)

انظر: (معجم البلاغة العربية)(ص279)، (جواهر البلاغة)(ص292).

ص: 6266

واسطةٌ بينهما لا يصدقُ عليها مفهوم أحدهما، ولا يندرج تحتَ واحد منهما؟ ولهذا السؤال تعلّق كاملٌ بتحقيق ما سأل عنه السائل.

قال: مسالة: وما بين العارض والعَرَضِ من النِّسبِ الأربع قد عرضَ، فإن قلتم يتساويانِ قلنا تغايَرَ الحدَّانِ، وإن قلتما هما نقيضانِ قلنا: يرتفعانِ، وإن قلتم غيرَ ذلك فعليكم البيانُ.

أقول: العارض أعمَّ من العَرَضِ، إذ يقال للجوهر عارضٌ كالصورة تعرضُ على للهيولَى، (1) ولا يقال لها عرضٌ، صرَّح بذلك المحققُ الشريف، (2) فعرفت أنَّ بينهما عمومًا مطلقًا لصدق العارضِ على الصورة، فإنها عارض للهيولى، وليست بعرض، لأنها من قبيل الجوهر، لكن في قوله: وإنْ قلتُم نقيضانِ قلنا يرتفعان تسامحَ في العبارة، فإنَّ التناقُضَ من النسبِ الأربعِ، إلَاّ أن يريد التبايُن على ما فيه من الخلل، فإنَّ الارتفاعَ لا يمنعُ من التباين، والتباين لا يمنع من الارتفاع، ثم نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ: هل يمكن وجود نسبة خامسةٍ؟ فإنْ قال: نعم فما هي؟ وإنْ قال لا فما وجه الحصر؟ ونقول له أيضًا: إذا كان العارض هو المحمولَ على الشيء الخارجَ عنه، فما النسبة بين العارض والمعروض؟ وما النسبة بين العرض الموجود والعرض اللازم؟ وما النسبة بين كل واحد منهما، وبين العرض المفارقِ؟ (3)

قال: مسألة: وما بين الكمال الأول والثاني من هذه النسبِ، وهل السؤال عنها بما أو بأيّ قد وجب؟

(1) كلمة يونانية الأصل، ويراد بها المادة الأولى، وهو كل ما يقبل الصورة وترجع إلى أرسطو، ثم أخذها المدرسون من بعده.

(المعجم الفلسفي)(ص208).

(2)

في (التعريفات)(ص139).

(3)

انظر: (الكوكب المنير)(1/ 33 ـ 35).

(بغية المرتاد) لابن تيمية (ص 413 ـ 417).

ص: 6267

أقول: قال المحقق الشريف (1) وغيره [6أ]: الكمال ما يكملُ به النوعُ في ذاته، أو في صفاته. والأول هو الكمال الأول ليقدمه على النوع، والثاني هو الكمال الثاني لتأخُّره عنه، ووجه تسميّة ما يكملُ به النوعُ في ذاته كمالاً أو لا، فما يكمل به في صفاته كمالاً ثانيًا أنَّ كمال الشيء في صفاتِه متوقِّفٌ على كماله في ذاته، والصفة متأخرة عن الموصوف، وإذا تقوَّى لك هذا، وعلمتَ أنَّ عدم اجتماعِ اللوازِم يستلزمُ عدمَ اجتماع الملزوماتِ عرفتَ أنَّ النسبةَ بينَهما التبايُنُ، وعرفت أيضًا أنه يصحُّ السؤالُ في كل واحد منهما بأيٍّ إذا كان المطلوبُ شرحَ ماهِيَّتهما، ويصح أيضًا السؤالُ في كل واحد منهما بأيِّ إذا كان المطلوبُ تمييزهَ عن المشاركاتِ له، ثم نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ: هل الكمالُ الأول متَّحدٌ أو متعددٌ؟ وعلى تقدير التعدُّد هل تلك الأمور المتعددةُ متفاوتةٌ أو متوافقةٌ؟ وهل هي من باب التواطؤ أم من قسم التشكيك؟ وهكذا يقال في السؤال عن الكمال الثاني، ثم يقال أيضًا: هل ثَمَّ كمالٌ ثالثٌ خارجٌ عن الكمالين؟ فإنَّ الوهب الذي لا تحصلُه الذات، ولا تكتسبه الصفاتُ لا يصحُّ أن يقال فيه أنه من الكمال الأول، ولا من الكمال الثاني، فإن كان كمالاً ثالثًا فما وجهُ الاقتصار على كمالين؟ وما النسبة بينَه وبين كل واحد من الكمالينِ؟ وإن كان داخلاً فيهما أو في أحدهما فعليكم ببيان تحقيقِ الدخولِ، وإن كان ذلك مما يبعدُ إليه الوصولُ.

قال: مسألة: وما شيء لا موجودٌ، ولا معدومٌ، ولا كليَّ، ولا جزئي، [6ب] ولا خاصٌّ، ولا عام؟ وهل يدخل في مسمَّى الشيء؟ وهل يحسنُ السؤال عنه بأيِّ؟ وهل معنى لا شيء ولا موجود متحدٌ، وهل التلازمُ بين الوجودية والشيئية من الأمور الخارجية أو الذهنية؟ أولا ملازمةَ أصلاً؟ وما بين اللاشيء واللاموجود من التقابل حكمًا؟

أقول: قد أثبت القاضي أبو بكر الباقلاني، وأبو هاشم المعتزلي وإمام الحرمين

(1) في (التعريفات)(ص196).

ص: 6268

الجويني واسطةً بين الوجود والعدمِ، وهو الحال، وأوَّل من قام به أبو هاشم.

ولذا يقال حالُ البهشمي (1) فالحال على هذا القول لا موجودٌ ولا معدومٌ، وذهب الجمهور إلى أنه لا واسطةَ بين الموجود والمعدوم، لأنَّ الموجود ما له تحقٌّقٌ، والمعدوم ما ليس له كذلكَ، ولا واسطة بين النفي والإثباتِ في شيء من المفهومات ضرورةً واتفاقًا. والبحث في هذا يطول فليرجعِ السائلُ إلى المواقف العضُدية وشرحِها، والمقاصِدِ السعديةِ وشرحها، وإلى التجريد وشرحِهِ، ففي ذلك ما يغني عن التطويلِ، (2) وأمَّا كون الشيء لا يكون كليًّا ولا جزئيًا فقد تقرر أنَّ الكليةَ والجزئيةً من صفات المفاهيمِ العقليةِ، فالموجوداتُ الخارجية لا تتصف بأحد الوصفينِ، وهكذا يقال في جواب قوله: ولا عامٌّ

(1) قال أبو هاشم الجبائي أن الباري تعالى عالم بذاته بمعني أنّه ذو حالة هي صفة معلومة وراء كونه ذاتًا موجودًا. وإنما تعلم الصفة على الذات لا بانفرادها. فأثبت أحوالاً هي صفات لا موجودة ولا معدومة، ولا معلومة ولا مجهولة، أي هي على حالها لا تعرف كذلك بل مع الذات. قال ـ أبو هاشم ـ والعقل يدرك فرقًا ضروريًّا بين معرفة الشيء مطلقًا وبين معرفته على صفة، فليس من عرف الذات عرف كونه عالمًا، ولا من عرف الجوهر عرف كونه متحيزًا قابلاً للعرض

).

انظر: (الملل والنحل)(1/ 92 ـ 93).

قال الإسفراييني في (التبصير في الدين)(ص87): وكان من جهالته ـ أبو هاشم بن الجياني ـ قوله بالأحوال حتى كان يقول: إن العالم له حال يفارق به من ليس بعالم، وللقادر حال به يفارق حال العلم ثم كان يقول: إن الحال ليس بموجودة ولا معدومة ولا مجهولة وإن العالم يعلم على حالة ولا يعلم حال العالم ولا حال القادر، ولا يمكن الفرق بين حال العالم وبين حال القادر. إذ لا يعلم حال حيث قالوا: إن الصانع لا معدوم ولا موجود ولا ما من ثابت إلا وهو في الحقيقة وجود. إذ لا واسطة بين العدم والوجود، ولو ثبت بينهما واسطة لجاز أن يخرج الشيء من العدم إلى الثبوت ثم من الثبوت إلى الوجود كما جاز أن يخرج من القيام إلى القعود، ثم من القعود إلى الاضطجاع إذ القعود واسطة بين الطرفين.

(2)

انظر (منهاج السنة النبوية)(1/ 269 ـ 271).

(بغية المرتاد)(ص413 ـ 417).

ص: 6269

ولا خاصٌّ، فإنَّ العموم والخصوص من خصائص الكلياتِ، وهي التي يكون بينها النسبُ الأربعُ، فالموجودات الخارجية لا تتصفُ بعموم ولا خصوصٍ، ويمكن الجواب عن هذا السؤال بالماهيّةِ، فإنه ذكر الشريف في التعريفات أنها لا موجودةٌ، ولا معدومةٌ، ولا كليةٌ [7أ]، ولا جزئية، ولا عامةٌ، ولا خاصَّةٌ. ولكنَّ ما قدمنا أقربُ إلى الصواب، وأمَّا قوله: وهل يدخل في مسمَّى الشيء؟ فمن جعل الشيءَ هو الموجودَ لم يدخلْ، ومن جعله المعدومَ وهو الجاحظُ والبصريّةُ من المعتزلةِ صحَّ وصفُه بالشيئية، (1) وأمَّا على قول من قال هو للجسمِ، وقول من قال هو حقيقةٌ في الموجود، ومجازٌ في المعدوم، فالتخريج على هذه الأقوال واضحٌ لا يخفى.

وقد يجوز في الكتب الكلامية، وفي علم اللطيف بحث كون المعدومِ شيئًا أم لا، حتى قال المحقق العضُدُ من أمهاتِ المسائل الكلامية، إذ يتفرع عليها أحكام كثيرةٌ جدًّا. وبهذا يعرف جوابَ قولِه: وهل معنى لا شيءَ ولا موجودَ متحدٌ.

وأمَّا السؤال عنه بأيٍّ فيصبحُ إذا كان المطلوبُ تمييزَه عن مشاركاتهِ على القول بأنَّ له مشاركاتٍ لا على غيرهِ، وأمَّا قولُه: وهل التلازمُ بين الوجودي والشيئية من الأمور الخارجيةِ، أو الذاتية، أو لا ملازمةَ أصلاً؟ فجوابه أنَّ لفظ الشيء عند الأشاعرةِ (2) يطلق على الموجود فقط، (3) فكلُّ شيء عندهم موجود، وكل موجود شيء، هكذا حكى عنهم جماعةٌ من محققيهم، وبهذا يتقرر التلازمُ بين الوجودية والشيئيةِ، وبين الوجود

(1) يعرف هذا لدى المعتزلة بشيئية المعدوم. أي أن الأشياء كانت قبل أن تخرج إلى الوجود موجودة قائمة، فالجواهر كانت جواهرًا والأعراض كانت أعراضًا. وأول من ابتدع هذه المقالة في الإسلام هو أبو عثمان الشحام شيخ أبو على الجبائي وتبعه عليها طوائف من القدرية المبتدعة ومن المعتزلة والرافضة.

(2)

تقدم التعريف بهم.

(3)

انظر: (مجموعة الرسائل والمسائل) لابن تيمية (1/ 19 ـ 20).

ص: 6270

والشيء ذاتًا وخارجًا.

وأمَّا على قول غيرهم فمن قال أنَّ الشيء هو المعلومُ، فالشيء أعمُّ من الموجود مطلقًا لإطلاقه على الموجودِ والمعدومِ، بل على المستحيل، ومن قال هو للقديم دون الحادث جعلَه أخصَّ من الموجود مطلقًا، وهكذا تكون النسبةُ [7ب] عند من جعله للحادث وللجسمِ، قال القوشجي في شرح التجريدِ: ولهم تردّد في اتحاد مفهوم الوجودية والشيئية، بل ربما يدعى نفيَه، إذ يقال وجودُ الماهية من الفاعل، ولا يقال بشيئيتها من الفاعل، ويقال هي واجبةُ الوجودِ، وممكنة الوجود، ولا يقال هي واجبةُ الشيئيةِ، وممكنة الشيئيةِ. (1) انتهى.

وبهذا تعرف جوابَ قوله: وما بين اللاشيء واللاموجودِ من التقابل.

ثم نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ: هل المعدوماتُ متُمايزة أم لا؟ وما الحق في ذلك؟ وما الدليل عليه الذي لا تتطرَّقه الشبهةُ، ولا يَعْتَوِرُهُ التغوُّض؟ ثم على القول بالتمايز هل الأفراد من قسمِ المتواطئِ أو المشككِ، وما النسبة بينَهما؟ وهل يقال في المعدوم أنه ينقسم إلى قسمين: خارجي وذهني كما انقسم الموجودُ إليهما؟ وكيف يصح قولُهم معدوم خارجي، ومعدوم ذهني؟ وما الحق في الوجود الذهني؟ هل إثباته كما قال الحكماء أو نفيه كما قال غيرهم؟ وما النسبة بينه وبين الوجود الخارجي؟ وهل بينهما واسطة أم لا؟ وهل ذلك التمايُزُ الذي قال به من قال في المعدومات بحسب إدراك العقل فقط أم بغيره من الإدراكات؟ وما الأمر الذي كلَّما أدركه العقلُ كان إدراكُه غلَطًا مع كونه من المعقولات؟ وما الأمر الذي لا يتخيَّر ولا غيرُ متخيَّر، ولا يتصف بالصفات

(1) قال ابن تيمية في (مجموعة الرسائل والمسائل)(1/ 29): فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة وعامة العقلاء أن الماهيات مجعولة وأن ماهية كل شيء عين وجوده، وأنّه ليس وجود الشيء قدرًا زائدًا على ماهيته بل ليس في الخارج إلا الشيء الذي هو الشيء وهو عينه ونفسه وماهيته وحقيقته وليس وجوده وثبوته في الخارج زائدًا على ذلك.

وانظر (بغية المرتاد)(ص415).

ص: 6271

النفسية، ولا بالصفات المعنوية؟ وما أمر يصحُّ وصفهُ بالوجود تارةً وبالعدم أخرى؟ (1)

قال: مسألة: قالوا في قام زيد خمسةُ وعشرونَ وجهًا فأنعموا بالقيد؟

أقول: في كل واحد من [8أ] الفعل والفاعل مسائلُ، وفي مجموعها كذلك، وبيانه أنَّ قام كلمة موضوع مفرد جزءُ جملةٍ، فعلق ماض، ثلاثي معتل، أجوفُ، مبني، وبناؤه على الفتحِ يدلُّ على الماضي بلفظه، وعلى الحال بقيده وعلى المتقيد بقيده يقدَّم ويؤخَّر، ويحذف جوازًا، ويقتضي الإسنادَ، ويقال له مسندٌ، ويدلُّ على مصدره. وعلى الحدثِ، وعلى النسبةِ، وعلى مطلقِ الزمانِ، وعلى قيامهِ بفاعلِه، وعلى تبعية له في التخييرِ، وعلى كون له به اختصاصٌ ناعتٌ، وعلى أنه لا بدَّ له من مكان يقع فيه، وذاتٌ يقوم بها، ومشتق من المصدر، ويلاقي في الاشتقاق الكبير ما فيه حروفُه غيرَ مترتبةٍ، وفي الاشتقاق الأكبر ما وافقَه في بعضِها، ويجزم بحذف حرف علَّته، ويتكون آخره، ويسند إلى من قام به إسنادًا حقيقيًّا. وإلى من لمْ يقُمْ به إسنادًا مجازيًا، وله معانٍ حقيقيةٌ، ومعانٍ مجازيةٌ.

هل المعاني في الفعل يمكن أن يأتي فيه غيرها، فإنَّ إسناده إلى زيدٍ مسألة، وإسناده إلى عمرو مسألة، وإسناده إلى كل فرد أو أفراد مسألة، فيأتي من ذلك ما لا ينحصر من

(1) قال ابن تيمية في مجموعة (الرسائل والمسائل)(1/ 18): والذي عليه أهل السنة والجماعة عامة عقلاء بني آدم من جميع الأصناف أن المعدوم ليس في نفسه شيئًا وأن ثبوته ووجوده وحصوله شيء واحد، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع القديم، قال الله تعالى لزكريا:{وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9]، فأخبر أنه لم يك شيئًا.

وقال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] فأنكر عليهم اعتقادًا أن يكونوا خلقوا من غير شيء خلقهم أم خلقوا هم أنفسهم ولهذا قال جبير بن مطعم: لما سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم قرأ هذه السورة أحسست بفؤادي قد انصدع، ولو كان المعدوم شيئًا لم يتم الإنكار

).

ص: 6272

المسائل، وأمَّا زيد فهو كلمةٌ، موضوعٌ، منقولٌ، مفردٌ، اسم، ثلاثي، معربٌ، متصرَّف، مذكَّر، مرفوع، ممكن، مستوعب فاعلَه على قول مبتدأ على آخره، مسند إليه، جزءُ جملة، قام به الفعل، وصار له به اختصاصٌ ناعت، وتبعَه في التخيير، ويدل على الذاتِ [8ب] وعلى قابلِيَّتها لما أسند إليها، هذه المعاني في الاسم وحدَه، ويمكن أن يأتيَ فيه غيرُها، وفي مجموع الفعل والفاعل مسائلُ، فهما كلام، وجملة خبريَّة، وجملة فعليَّة، ويحتمل الصدق والكذبَ، ومسندٌ، ومسند إليه، وجملة ابتدائية، ومستأنَفَةٌ، وتقع صلةَ الموصول، وخبرَ المبتدأ، وحالاً بتقدير قد، وجوابًا لسؤال سائلٍ، وحكايةً لقول قائل، وذات محلٍّ تارة، ولا محلَّ لها أخرى، ويدلُّ على الحدوث، وعلى النقص، ووزن قامَ فَعَلَ، ووزن زيدٌ فُعْلٌ، وهو مشتقٌ من الزيادة، ويبني من كل واحد منهما على زنةٍ، فجملة هذه المسائل ستٌّ وسبعونَ مسألةً، مثلَ ما قال السائل أكثر من ثلاثِ مرَّاتٍ، ويمكن الزيادةُ عليها بكثير، وإنما هذا ما جرى به القلم بدون إطالةِ فكرهِ، ولا تروي، ثم يقال للسائل ـ كثر الله فوائده ـ: قال بعض المحققين أنه يتخرَّج من قوله ـ سبحانه ـ: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} (1) الآية مائة وخمسونَ نكتةٌ من النكات السَّريةِ المعتبرة عند أرباب المعاني والبيان والبديع، فهل من سبيل إلى سبيل استخراج هذه النكاتِ وتحريرها؟ وقال العلامة جلال الدين السيوطي في الإتقان: إنَّ شرائعَ الإسلام ثلاثُ مائةٍ وخمسَ عشرةَ فأفيدونا بإيضاحِها، فإنَّ حصرها في هذا العدد من أعجب ما يطرقُ الإسماعَ.

قال: مسألة: قولُ الشاعر:

لا يألفُ الدرهمُ المضروبُ صُرَّتَنَا

لكن يمرُّ عليها وهو منطلقُ

لم آثر لفظ يألفُ على غيره من الألفاظ التي يؤلفُ، ولم أتى بالدرهمِ دون الدينار، وبلا دون ما ولم، ولِمَ اختار التعريفَ على التنكير، والإفرادَ على جمع التكسير، ولمَ

(1)[هود: 44] ٍ.

ص: 6273

وصفَه بالمضروب، هل الفائدةُ أوقعَ [9أ] في القلوب، ولمَ اختار لفظ الصُّرَّة على ما يقوم مقامَها؟ بيّنوا سرَّه، ولم قدَّم لفظ المرورِ على ما يرادفه مما على الألسنة يدورُ، ولم جاء به مضارعًا دون ماضٍ، وهل زمانه الحال، أو الاستقبالُ، أو الاستمرار، وما عليهما من الاعتراض، وهل المرور الانطلاق فكيفَ قيَّده به، وتقييد الشيء بنفسِه منعَه الاتفاقُ، وهل يصح الاستشهاد بهذا البيت للحشوِ والتطويلِ والإيجازِ، وأين موضع كلِّ يا نبيل؟

أقول: ما تأثير لفظ يألفُ فلدلالته على طول مدَّةِ البقاء مع المحبَّة كما هو شأن البخيلِ، فإن دِرْهَمَهُ يألفُ صرَّته إلفًا لا يتفارقان عنده إلَاّ في النادرِ الشاذ، فاثبت للممدوح صفةً تخالف صفةَ البخيل، فإنْ قلتَ: نفي الألف الذي هو طول مدة البقاء مع المحبةِ قد دلَّ على أنَّ ذلك الدرهَم يلبثُ في صرة الممدوح لبثًا ليس بالطويلِ، ومجرَّد اللبث يخالفُ الوصفَ المادحَ.

قلت: قد حصل المدح بمجرد عدم الألفِ، وفرقٌ بين من يألفُ الدرهمُ صُرَّتهُ وقتًا يسيرًا ثم يخرج في وجوه الشرفِ، وطرائق المجدِ، وأيضًا قد عقب هذا الذي قلتَ أنه تقيد لبثًا ما بما يقلعُ ذلك الفهمَ من أصله، ويجتثه من مغرسِهِ، فقال لكن يمرُّ عليها وهو منطلقُ فأشْعَرَ هذا بأنه لا لُبْثَ له ظاهر، فاندفع ما فهمتَه تلويحًا بما تعقبَّه تصريحًا.

قوله: ولمَ أتي الدرهم دون الدينارِ؟ وجه ذلك لأنه لو جاء بالدينارِ لا نكسرَ الشعرِ، ولا يطلبُ للشاعر نكتةٌ في تجنب اللفظِِ الذي ينكسِرُ به شعرُه، بل في تأثير لفظ على لفظ يفيدُه معناه، ولا ينكسر البيتُ به [9ب]، ثم لذكر الدرهمِ على تقدير أنه لا ينكسِرُ الشعر بالدينار وجهٌ واضح، وهو كونُه قد تقدم ذكر الدرهم في البيت الذي قبلَه، وهو قوله:

كأنَّا إذا اجتمعتْ يومًا دراهِمُنا

ظلَّت إلى طرقِ الخيرات تستبقُ

وقوله: وبلا دون ما ولم يجاب عنه بأنَّ لا موضوعةٌ لنفي المستقبلِ والحالِ، وهو المعنى الذي يتأدّى به المدُح بنا، لأنَّ ذلك يفيد أنه لم يألفْ صرَّتَه الدرهمُ في الحال، ولا

ص: 6274

يألفُها في مستقبل الزمانِ، وأنَّ الكرمَ قد صار له سجيَّةً وطبيعةً لا تفارقه، لا في الزمن الذي هو فيه، ولا في ما بعده من الأزمنة، ولو جاء في هذا النفي بما لم يفدْ هذا المفادَ، لأنها موضوعةٌ لنفي الحال فقط، فيكون ذلك تمدُّحًا بالحالة الحاضرةِ دون ما بعدَها، وليس في ذلك كثيرُ مدْحٍ، ولا عظيمُ فخْرٍ، ولو جاء به في هذا بِلَمْ لكان معناه نفيَ الماضي فقط، وليس في ذلك من المدح ما في نفيه بلا.

وأمَّا قوله: ولِمَ اختار التعريفَ على التنكير؟ فيجاب عنه بأنه لو جاء بالدرهم منكَّرًا لا نكسَرَ الشعر، ولا يطلب للعدول عما ينكسِرُ به الشعرُ إلى ما لا ينكسِرُ به نكتةٌ، وأيضًا لو فرضنا عدمَ انكسار الشعرِ بالمنكَّر لكان في تأثير المعرَّفِ نكتةٌ سريةٌ، ومدحةٌ جليلة، لأنَّ تحليتهَ بلام الجنس أو الاستغراقِ أو الحقيقةِ يفيدان هذا شأنُ كلِّ درهم يصلُ إليهن على أيّ صفة كان، وفي أيَّ زمان أو مكان حصلَ، ولو قال لا يألفُ درهم، لأشْعَرَ بأنه لا يألفُها إذا جاء واحدٌ منها عقبَ واحدٍ، ويمكن أن يقال أنَّ هذه النكرة الواقعةَ في سياق النفي يفيدُ العموم كما صرَّح به أئمة الأصول (1) والبيان، فيكون المعرَّفُ كالمنكَّرِ.

قلت: هما طريقتان مستويتانِ يسلك الشاعرُ أيَّهما شاء [10أ]، مع كون أحدهما ينكسرُ بها الشعر بخلاف الأخرى.

وأمَّا قوله: والإفراد على جمع التكسيرِ، فيجاب عنه بأنَّ جمعَ التكسير ينكسر به البيت، فلا يطلب للعدول عنه نكتةٌ، ولو سلمنا أنه لا ينكسر به لكان تأثيرُ الدرهم المعروفِ أكثرَ فائدةً، وأجلَّ مدحًا لما تقرر من أنَّ استغراقَ المفرد أشملُ.

وأمَّا قوله: ولم وصفه بالمضروبِ؟ هل الفائدةُ أوقعُ في القلوب؟

أقول: إن كان الدرهم لا يقال إلَاّ على المضروبِ كأنّ ذكر المضروب للكشفِ والبيانِ كما تقول العربُ في وصف الوجهِ الجميلِ كالدرهمِ المنقوشِ، مع أنَّ الدرهم لا

(1) تقدم مرارًا وانظر (إرشاد الفحول)(ص418).

ص: 6275

يكون إلَاّ منقوشًا، وإن كان الدرهم يقع على القطعةِ من الفضةِ المقدرةِ بذلك القَدْرِ ففي وصفه بالمضروبِ فائدةٌ زائدةٌ، فإنَّ النفوس على المضروب منها أحرصُ، وإليه أرغبُ، ومنه قولُهُ:

وأصغُر من ضربِ دارِ الملوكِ

يلوحُ على وجهه جعفرُ

وقول الآخر:

ووجوهٌ مثلُ الدنانيرُ مُلْسُ

ثم لا يعاب الشعرُ بالمجيء بالأوصاف الكاشفة لأجل أن يستقيمَ وزنُه، ويخرجَ عن النثر إلى النظم.

وأما قوله: ولِمَ اختار لفظَ الصُّرَّة على ما يقوم مقامَها؟ بينوا سرَّهُ. فيجاب عنه بأنَّ وجه ذلك ما تفيدُه الصّرةُ من كون الدرهمِ يُصَرُّ فيها، ويحفظ على وجه الرَّبط والشدِّ، فإنه لا يكون بهذه المنزلة في المدح بما يخالفُ حالُ البخيل، فإنَّ في ذكره الصُّرَّة إيضاحُ حالةِ البخيل ونفيُها عن الممدوح على أبلغِ وجهٍ، وليس المراد إلَاّ إثباتَ أوصافٍ للممدوح تخالِفُ أوصافَ البخيلِ، على أنَّ صنيع الناس وعملَهم أنْ يحفظوا الدرهم في الصُّرَرِ ويشدُّوها، فالشاعر جاء بما هو المعروف المألوف، فلا يلزمهُ أن يأتيَ بشيء يخالفُ ما هو العادةُ [10ب] الجاريةُ، والطريقة المستمرة، وأيضًا إذا كان درهمُه لا يألَفُ الصُّرَّةَ المستوثقَ منها بالشدِّ والرَّبط، فدم إلْفِهِ لما لم يكن كذلك ثابتٌ بفحوى الخطاب كما لا يخفى على الفَطِنِ.

وأمَّا قوله: ولم قدَّم المرورَ على ما يرادفه مما على الألسنة يدور؟

فيجاب عنه: بأنَّ هذا الذي يرادُفه إنْ كان مما لا ينكسرُ به الشعر فما هو؟ وإن كان مما ينكسر به كالمضي والسعي والإسراع ونحوِها فلا يطلبُ للعدول عنه نكتةٌ.

ثم لا يخفى أنَّ المرور قد دلَّ على وصوله إليها، وخروجه عنها، وذلك أمدح لما جُبِلَتْ عليه النفوسُ من الشُّحِّ بما قد صار في حوزةِ الإنسانِ، ووصل إليه.

ص: 6276

وأمَّا قوله: ولم جاء به مضارعًا دون ماضٍ.

فيجاب عنه: بما تقرَّر أنَّ المضارعَ يفيدُ الاستمرارَ التجدديَّ.

وأمَّا قوله: وهل زمانُه الحالُ، أو الاستقبال، أو الاستمرار، وما عليها من الاعتراض؟

فيجاب عنه: بما في كتب النحو والبيان من الأقوال في ذلك، وقد رجَّح الرضي (1) كونَه حقيقةً في الحال، مجازًا في الاستقبال، والحقُّ أنه حقيقةٌ في الاستقبال، مجاز في الحال، وعليه جمهورُ المحققينَ، ولعلَّه يريد بقوله أو الاستمرارُ الاستمرارَ التجدديَّ، لا الاستمرارَ الذي يساوق، فإنَّ ذلك مدلولُ الجملةِ الاسميةِ.

وأمَّا قوله: وما عليهما من الاعتراض فلعلَّه يشيرُ إلى ما وقع من الكلام على حجج الأقوالِ التي أشرنا إليها من أهل المذاهبِ المختلفةِ، وما اعترضِ به بعضهُم على بعض، وما أورد بعضُهم على بعض، أو إلى ما نقله الرضيُّ عن الحكماء، ودفعَه، أو إلى ما حرَّره بعض أهل الحواشي على بعض شروح الكافيةِ، (2) أو إلى ما نقله بعضُ أهل الحواشي على المطوَّل، أو [11أ] إلى جميع ذلك، فإنه مشتمل على تطويل المقال في الحال فلا نطوّل بذكرهِ.

وأمَّا قوله: وهل المرورُ الانطلاقُ فكيف قيَّده به، وتقييد الشيء بنفسه منعه الاتفاق؟

أقول: في الانطلاق مزيدةُ فائدةٍ لم تكن في المرور، فإنه يشعر بمزيد السرعةِ، فالمعنى أنه مرورٌ لا تُؤَدَةَ فيه، ولا لُبْثَ، ومعلومٌ أنك إذا قلتَ: مررتُ بزيد لمْ ينافي ذلك مشيَه حالَ المرورية مشيًا لطيفًا رفيقًا، بخلاف الانطلاق، فإنه ينافي ذلك في الجملةِ، فتقييد

الفتح 5 من أول ص6278 إلى ص

(1) في شرح كافية ابن الحاجب (4/ 12) ثم قال وهو أقوى، لأنه إذا خلا من القرائن، لم يحمل إلا على الحال، ولا يصرف إلى الاستقبال إلا لقرينة وهذا شأن الحقيقة والمجاز.

(2)

انظر: (شرح الكافية)(4/ 12 ـ 13).

ص: 6277

المرور بالانطلاقِ لدفع توهُّم ما يستفاد منه مطلقُ المرور، كما ذكرنا على أنَّا لو قدَّرنا أنه لم يأت التقييدُ بالانطلاق بمزيد فائدةٍ، بل معناه معنى المرور، لكان ما يستفادُ من التأكيد فائدةٌ جليلةٌ، وتقويةٌ نبيلة، فإنَّ التقرير معدودٌ في فوائدِ التأكيد كما عدَّ من فوائده دفعُ توهُّم التجوَّزِ، أو السهو، أو عدمُ الشمولِ. هذا على تقديرات الشاعر لم تضْطَرَّه القافية إلى المجيء بقوله منطلقُ، أمَّا لو كان قد اضطرتْه إلى ذلك ولم يحضرْ له غيرُه، ولا تحصَّل له سواهُ فلا يطلب له نكتةٌ، وليس في الإمكان أبدعُ مما كان، وبمجموع ما ذكرناه تعرف أنه لا يصحُّ الاستشهاد بالبيت للحشو والتطويل وذلك ظاهر، ولا للإيجاز أيضًا لأنَّ البيت على ما أوضحناه من قبيل المساواةِ، وأمَّا السؤال عن موضع كل منها فمعروف في علم البيان، محرر في كتبه أحسنَ تحرير، مقررٌ أبلغَ تقرير، موضح بالأمثلة من النظم والنثر.

ونقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ: ما عنده في قول المتنبي: (1)

كثيرُ حياةِ المرءِ مثلُ قليلها

يزولُ وباقي عشيِه مثلُ ذاهبِ [11ب]

لِمَ آثر لفظَ الكثيرِ والقليلِ على لفظ الطويلِ والقصيرِ؟ ولم آثر لفظَ يزولُ على لفظ يمرُّ، ولم آثر باقي على آتي؟ ولم آثر ذاهب على غابر؟ وما يفيد مفاده مما يستقيم في النظم والقافية، ولا ينكسر به الشعر؟

قال: مسالة: هل الإعراب: (2) ..................................

(1) قاله في مدح أبي القاسم طاهر بن الحسين العلوي:

(ديوان أبي الطيب المتنبي)(1/ 150) بشرح أبي البقاء العكبري المسمّى بالتّبيان في شرح الديوان.

(2)

الإعراب: هو الإبانة عن المعاني بالألفاظ، ألا ترى أنك إذا سمعت أكرم سعيد أباه وشكر سعيدًا أبوه علمت برفع أحدهما ونصب الآخر الفاعل من المفعول.

وأما لفظه: فإنّه مصدر أعربت عن الشيء إذا أوضحت عنه، وفلان معرب عمّا في نفسه أي بين له. وموضح عنه.

(الخصائص) لابن جني (1/ 35 ـ 36)، (شرح الكافية)(1/ 48 ـ 49).

ص: 6278

والبناء (1) نقيضان؟ فإن قلتم نعم. قلنا يرتفعانِ، وإن قلتم لا. فما بينهما عند ذوي الشأن، وهل هما عَرَضَانِ أو عارضانِ؟

أقول: هما متضادانِ عند من يجعل المفرداتِ قبلَ التركيب لا معربةً ولا مبنيةً، ومن جعلها من المبنيَّاتِ، حتى تُرَكَّبَ فَهُما عنده نقيضان، ولما كان الإعراب والبناء مما يبحثُ عنهما في الفنِّ كانا عَرَضَيْنِ، وقد تقدَّم أنَّ العارِضَ للشيء هو ما يكون محمولاً عليه، خارجًا عنه، وأنه أعمُّ من العرضِ، ثم نقول له هذا الإعرابُ لبعض الكلماتِ المنقولةِ عن العرب، والبناءُ لبعض آخَرَ، هل هو منقول عن العرب سماعًا ومشافهةً؟ فما الدليل على ذلك؟ أو إفادة الاستقراء أو التتبعِ ففيه أنَّا نجدُ بعضَ الكلماتِ في النظم والنثر يخرجُ عن ذلك كما يعرفُه كل عارف بلغةِ العربِ، راسخِ القدمِ في كلامِها، كثيرَ الممارسةِ لما جاء عنها من المنظوم والمنثور، ثم ما الوجهُ الذي لأجله جعلَ النحاةُ بعضَ الجمل لها محلٌّ من الإعراب، وبعضها لا محلَّ لها؟ إنْ قيل لكون بعضِها حلَّ محلَّ المفرد، وقام مقامه، وأوِّلَ به، فيقال مضمون كلِّ جملة سواءً كانت معربةً أو مبنيةً مفردٌ، فهلا كانت كلُّها من هذه الحيثية على نمطٍ واحدٍ، إمَّا معربةً أو مبنيةً، ثم ما الفائدة لوصف بعضِها بثبوت المحليةِ من الإعرابِ دون بعضٍ مع كونها كلِّها متفقةً في عدم ظهورِ أثرِه عليها، وهل هذا مجرَّد اصطلاحٍ أو تتعلَّق به فائدةٌ راجعة إلى اللغة؟

قال: مسألة [12أ]: أيُّ خبر مشتقٍّ استكنانِ ثلاثةِ ضمائرَ في الخبر المشتقِ، نحو الحسنُ وجهًا إذا وقع بعد ثلاثةٍ، ويجوز أيضًا اعتبار مثلِ ذلك في الخبر المشتقِّ

(1) البناء: لزوم آخر الكلمة ضربًا واحدًا من السكون أو الحركة. لا لشيء أحدث ذلك من العوامل. وكأنهم إنَّما سمّوه بناء لأنه لزم ضربًا واحدً فلم يتغير تغير الإعراب سمي بناء. من حيث لازم موضعه، لا يزول في مكان إلى غيره:

(الخصائص) لابن جني (1/ 37 ـ 38).

ص: 6279

المشتركِ. بين ثلاثةِ معانٍ إذا اسْتُعْمِلَ في جميعها على ما ذهب إليه طائفةً من أهل العلم. وقد جوز بعضُ متأخري النحاة أنْ تكون في الخبرينِ المشتقينِ نحو: هذا حلوٌ حامضٌ ضميرٌ دائرٌ راجعٌ إلى المبتدأ، وليس في كل واحد منهما ضميرٌ مستقل، وتعقَّبه بعض المحققينَ مصرِّحًا بمنع ذلك، طالبًا لما يشهدُ له من كلام العرب، مسندًا ذلك المنعَ بما صرَّح به المحقق الرضيُّ (1) من عدم جواز بقاء الصفةِ بلا ضميرٍ إذا لم يرفعْ ظاهرًا لقوةِ شبْهِهَا بالفعل.

ثم نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ أيُّ خبر مشتقٍّ استكنَّ فيه ثمانيةُ ضمائرَ وخمسةُ أخبارٍ مشتقةٌ ليس فيها إلا ضميرٌ دائرٌ، وهذا على ما يقتضيه كلامُه، لا على ما هو الراجح عندي؟

قال: مسألة: ما مبتدأُ رفعتَه حالٌ.

أقول: يتخرج هذا على بعض المذاهبِ لا على جميعِها، وبيانه أنَّ من قال بأنَّ المبتدأ الخبر يعملُ كلُّ منهما في الآخر فرافعُ المبتدأ هو الخبرُ، ورافع الخبر هو المبتدأُ، فإذا سدَّ مسدَّ الخبرِ حالٌ نحو: ضَربني زيدًا قائمًا كان ذلك الحالُ السادُّ مسدَّ الخبر هو الرافعَ للمبتدأ، لأنه سدَّ مسدَّ ما هو رافعٌ له، وعاملٌ فيه، وبهذا يحصلُ الحلُّ، فإذا تخرَّج في صورة أخرى لم يكن ذلك قادحًا فيما ذكرناه كما قدّمنا في المقدمة.

ثّمَّ [12ب] نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ: أيُّ حال استحقَّتِ النصب وبيّنت هيئتَه، وكانت في عداد العُمَدِ لا في عداد الفَضَلاتِ؟ وأيُّ صفة رفعتْ ظاهرًا مع كونها متحملةً لضمير مستكنٍّ؟

قال: مسألة: إذا بنيت من آي على وزنِ مختالٍ كيف تجمعُه جمعَ السلامة؟ وتصغره، وتكسِّره، وترخمه على القاعدة المقامة؟

أقول: الكلام في مختال كالكلام في مختارٍ منْ صلاحيتهِ لأنْ يكون اسم الفاعلَ أو اسم

(1) انظر (شرح الكافية)(3/ 506 ـ 507).

ص: 6280

مفعول، ويتبيّن ذلك بإعلالهِ وردِّه إلى أصلهِ، وهكذا في جمعه وتصغيرِه وتكسيرهِ وترخيمهِ، فإذا بنيتَ آي على زنتهِ جئت من يماثلُه وعاملْتَه معاملتَه، وفي علم الصرف ما يوضِّح ذلك ويبينهُ فالإحالة عليه أولى من المجيء هاهنا برسم يتطرق إليه التغيير الذي يقتضيه التداولُ بين الكتَبَةِ على اختلاف أفهامِهم، وتبايُنِ رسومهم، فإنَّ مثل ذلك يكون منشأً للتغليظِ، وفيما دار بين الأصمعي والجَرْميِّ من الكلام في مثل هذا المقام، ما يتحصلَّ به المرامُ، فليراجعْه السائل ـ دامت فوائده ـ.

ثم نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ: إذا بنيتَ من أن أولم على وزن مضْطَرٍّ، كيف تجمعُه وتكسره وترخِّمه وتصغِّرهُ؟

قال: مسألة: ما حرفٌ ناب عن حرفٍ، فناب عن ذلك النائب اسمٌ ربما عُرِفَ فَعُرِفَ؟

أقول: يتخرج هذا في مثل حرفِ القسم إذا نابت عنه الهمزةُ ثم حذفتْ، وبقي الاسم مجرورًا، فإِنَّ الاسم باعتبارٍ عارضٍ من عوارضِه، وهو الجرُّ قد ناب منابَ الهمزة، الهمزة النائبةِ منابِ حرف القسمِ، [13أ] والمراد بالنيابةِ الثانيةِ انفهامُ ذلك منه، ودلالته عليه، ويصحُّ تخريج مثلِ هذا في واو رُبَّ إذا اقتضَى المقامُ حذفَ ربَّ، ثم جُرَّ الاسم بالواو، ثم حذفتْ مع بقاء الجرِّ، ويصحُّ تخريجُ هذا في مثل قولهم: اللهم، فإنَّ الميمَ نابتْ عن حرفِ النداء، فيجوز حذفُهما مع بقاء الاسم مقصودًا به النداءُ الذي أفادَهُ حرفُه، فإنْ كان عند السائل ـ دامت إفادته ـ تخريجٌ أوضحُ من هذا التخريجِ فالفائدةُ مطلوبةٌ، وليس هذا الطلب منا خاصًّا بهذه المسألةِ، بل هو عامٌّ في جميع هذه المسائل.

ثم نقول له ـ كثر الله فوائده ـ: أيُّ حرف تعيَّن حذفُه وجوبًا، وبقي عملُه؟ وأيُّ حرف حال بينَه وبين معموله حرفٌ فمنعه عن العملِ، وأيُّ حرف حالَ بينَه وبين معموله حرفٌ فعملَ.

قال: مسألة: إذا سمِّيتَ بلا كيفَ تثنيهِ، وكيف تجمعُه، وكيف تكسِّره، وكيف ترخِّمه منادي، وكيف تصغِّره؟

ص: 6281

أقول: صرَّح المحقق الرّضي (1) وغيره من المحققينَ أنَّ الكلمةَ المبنيَّةَ إذا جُعِلَتْ علمًا لغير ذلك اللفظِ أعربتْ، (2) فإنْ كان ثنائيّةً ثانيها حرفُ علَّة ضُعِّفَ حرف العلَّة فتكون تثنيتهُ على وجهينِ، إمَّا ببقاءِ الحرف الآخَرِ أو بقلبه واوًا، وكذا في جمعه وتكسيره، وأمَّا في تصغيرِه فيقلبُ واوً حتمًا.

وقال المحقق الرضيُّ (3) أيضًا ما نصُّه: ولآء زدتَ على الألفِ لا ألفًا آخَرَ، وجعلته همزةً تشبيهًا برداءِ وكساء، وربما وجب التضعيفُ، لأنك [13ب] لو أعربتَه بلا زيادة أسقطتَ حرف العلَّة للتنوينِ، فيبقي على حرف واحد ولا يجوزُ. (4) انتهى.

وأمَّا ترخيمُه فإنما يجوز عند من جوَّز بقاءَ المرخَّم على حرفينِ، وهما الأخفشُ والفرَّاء، وجماعةٌ من الكوفيينَ، لا عند من منع من ذلك، وهم مَنْ عدا من ذكرنا.

ثم نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ إذا سمَّيْتَ بلا، وهو، وهي، كيف تثنِّيها، وكيف تجمعُها، وكيف تكسِّرها، وكيف ترخِّمها؟

(1) في (شرح الكافية)(3/ 347).

(2)

قال فالواجب الإعراب وإن جعلتها اسم ذلك اللفظ بسواء كانت في الأصل اسمًا أو فعلاً، أو حرفًا فالأكثر الحكاية، كقولك:(من الاستفهامية حالها كذا) وضرب فعل ماضٍ. وليتَ تمِّن وقد يجيء معربًا نحو قولك: (ليتٌ ينصب ويرفع) قال من الخفيف:

ليتَ شعري وأين مني ليتٌ

إنَّ ليتًا وإن لوَّا عناءُ

فإن أوَّلته بالمذكر كاللفظ، فهو متصرف مطلقًا، وإن أوَّلته بالكلمة أو اللفظة فإن كان ساكن الأوسط لـ (ليت) فهو كا (هند) في الصرف وتركه، وإن كان على أكثر من ثلاثة، أو ثلاثيًا متحرك الأوسط فهو غير منصرف قطعًا.

(3)

في (شرح الكافية)(3/ 348).

(4)

ثم قال: وكذلك لو أوّلناه بالكلمة، أو سمَّينا به، ومنعناه من الصرف، وجب التضعيف لأنّا لا نأمن من التنكير، فيجيء التنوين إذن، وحُكي عن بعض العرب أنه يجعل الزيادة المجتلبة بعد حرف العلة الثاني همزة في كل حال. نحو (لَوءٌ) و (فيء) و (لاءٌ). والأول: أي التضعيف أولى، لكون المزيد غير أجنبي.

ص: 6282

قال: مسألة: ما اسم عوض عن نون التثنيةِ في غيرِ الإضافة العاديةِ؟

أقول: يتخرَّجُ هذا في الصفات إذا عُرِّفَتْ بالألف واللامِ الموصولةِ، وعملت فيما بعدَها، ثم حذفتْ نونُها تخفيفًا فنقولُ: الضاربا زيدًا، والضاربو زيدًا، ومنه الحافِظُو عورةَ العشيرةِ إلخ. والمسوِّغ للحذفِ هو التعريفٌ بذلك المعرَّف الاسمي، إذا لا يجوز الحذفُ مع عدمِه، فصار كالعوض عن النونِ، ويصح تخريجُ ما ذكره في اثنى عشر، فإنَّ نونَه حذفتْ لتركيب الاسمينِ لا لمجرَّد الإضافيةِ العادية. (1)

ثم نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ: ما حرفٌ ناب عن نون التثنيةِ، ونونِ الجمع فحذفتا حَتْمًا تارةً وجوازًا أخرى؟

قال: مسألة: ما حدُّ علَّة الفرق وعلِّة الاستغناءِ، وعلَّة التوكيدِ، وعلِّةِ النقيض، وعلَّة حمل المعنى على المعنى، وما علَّةُ العرب، وما علِّة الوجوبِ، وما علَّة المعادلة، وما علَّة الجواز، وما علَّة الأصل [14ب] وما علَّة التعليل، وما علَّة المشاكلة؟ وما مثال كل من هذه العلل عند النحاة؟ فأنعموا بالمثل، وما حدُّ العلة وما رَسْمُه؟ وهل يجوزُ التعليل بالعلَّة القاصرةِ وما مثالُه، وما فساد الاعتبار في علم العربية؟ ومتى تعارضَ شاذٌّ، ولغةٌ ضعيفةٌ، فهلِ ارتكاب الضعيفةِ أولى؟ أو لا تفضَّلوا بتحرير الجوابِ، ولكم جزيلُ الثواب.

أقول: سؤالُ السائل ـ كثر الله فوائده ـ اشتمل على اثنتى عَشْرَةَ علَّةً فاقتصر على بعض ما أثبته أهلُ الصناعة في ذلك، فإنهم جعلُوها اربعةً وعشرينَ نوعًا، وبعضهم جعلَها أكثرَ من ذلك.

(1) قال الرضي في (شرح الكافية)(1/ 77): أما نون المثني والمجموع فالذي يقوي عندي، أنَّه كالتنوين في الواحد في معنى كونه دالاً على تمام الكلمة وأنها غير مضافة، لكن الفرق بينهما أن التنوين مع إفادته هذا المعنى يكون على خمسة أقسام، كما مرَّ، بخلاف النون فإنه لا يشوبها من تلك المعاني شيء وإنّما يسقط التنوين مع لام التعريف لاستكراه اجتماع حرف التعريف مع حرف يكون في بعض المواضع علامة التنكير، ولا تسقط النون معها، لأنها تكون للتنكير.

ص: 6283

والحاصل: أنَّ عللَ النحويينَ (1) صنفانِ: علَّةُ نظرٍ، وعلى كلام العربِ، وتنساق على قانونِ لغتِهم، وعلَّةٌ تكشفُ عن صحةِ أغراضِهم ومقاصدِهم في موضوعاتِهم، وهم للأُولى أكْثَرُ استعمالاً، وأشدُّ تداولاً، وهي وساعةُ الشُّعب إلَاّ أن مدارَ المشهورةِ منها على اربعةٍ وعشرينَ نوعًا، أو ستة وعشرينَ نوعًا، ولنقتصر على بيان ما سأل عنه.

فنقول: أمَّا علَّة الفرقِِ (2) فلبيان الوجهِ في رفع الفاعلِ، ونصبِ المفعولِ، وكسر نونِ المثنى، وفتحِ نون الجمع، وغير ذلك مما يحتاجُ إلى التعليل، وقد صرَّح النحاة بجميع ذلك، كلُّ شيء في بابه، وأمَّا علَّة الاستغناءِ فتكون ببيان وجه استغنائهم بشيء عن شيء كاستغنائهم بتركَ عن ودَعَ.

وأمَّا علة التوكيد (3) فمثل بيانِ وجه إدخالهم النون الخفيفةَ تارةً، والثقيلةَ أخرى في فعل الأمرِ لتأكيد [14ب] إيقاعِه، وأمَّا علَّة النقيض فبيانُ الوجهِ في مثل نصْبِهم النكرةَ بلا (حملاً) على المعنى، ومنه:{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} (4) انتهى. فذكَرَ فعلَ

(1) اعلم أن علل النحويين أقرب إلى علل المتكلمين منها إلى علل المتفقهين وذلك أنهم إنّما يحيلون على الحس، ويحتجون فيه بثقل الحال أو خفتها على النفس، وليس كذلك حديث علل الفقه. وذلك أنها إنّما هي أعلام، وأمارات، لوقوع الأحكام ووجوه الحكمة فيها خفية عنا. غير بادية الصفحة لنا ألا ترى أن ترتيب مناسك الحج وفرائض الطهور والصلاة والطلاق وغير ذلك إنما يرجع في وجوبه إلى ورود الأمر بعمله، ولا تعرف علة جعل الصلوات في اليوم والليلة خمسًا دون غيرها من العدد .... )).

(الخصائص) لابن جني (1/ 48).

(2)

قال أبو إسحاق في رفع الفاعل، ونصب المفعول. إنما فعل ذلك للفرق بينهما، ثم سأل نفسه فقال: فإن قيل: فهلا عكست الحال فكانت فرقًا أيضًا؟

قيل: الذي فعلوه أحزم، وذلك أن الفعل لا يكون له أكثر من فاعل واحد وقد يكون له مفعولات كثيرة، فرفع الفاعل لقلته، ونصب المفعول لكثرته، وذلك ليقل في كلامهم ما يستثقلون، ويكثر في كلامهم ما يستخفون فجرى ذلك في وجوبه.

انظر: (الخصائص)(1/ 48 ـ 50).

(3)

انظر (اللمع)(ص141).

(4)

[البقرة: 275].

ص: 6284

الموعظةِ مذكَّرًا حملاً لها على الوعْظِ.

وأمَّا علة القرب (1) والجواز فبيان الوجهِ في مثل الجرِّ بالقرب والجِوارِ، كقولهم: جِحْرُ ضبٍّ خَرِبٍ، يجر خربٍ لمجاورتِه لضبٍّ وقُرْبهِ منه، وكضمِّ لام الله في الحمد لله، لمجاورتِها للدَّالِ المضمومةِ، وأمَّا علَّة الوجوبِ فيكون بيان وجوب الشيء وتحتُّمه كرفع المبتدأ والخبر والفاعل.

وأمَّا علةُ الجواز (2) فتكون ببيان كون الشيء جائزًا غيرَ لازم، كتعليلِ الإمالة بما ذكروه، فإنه إنما يفيدُ جوازَها لا وجوبَها.

وأمَّا علة المعادلةِ فيكون ببيان كونِِ هذا معادلاً لذلك، مثل جرِّهم ما لا ينصرفُ بالفتح حملاً على النصبِ، ثم عادلوا بينهما، فحملُوا النَّصْبَ على الجرِّ في جمع المؤنثِ السالم. (3)

وأمَّا علة الأصل فيكون ببيان كون أصلِ الشيء كذا كتعليلِهم لصرفِ ما لا ينصرف.

وأمَّا علَّة التعليل فيكونُ ببيان الوجه في كون هذا الشيء معلِّلاً بكذا، أو ذلك لا يختصُّ بمادة، ولا بمسألة.

وأمَّا علة المشاكلةِ (4) فبيانُ الوجه في كون هذا الشيء مشاكِلاً لهذا، ومحمولاً عليه، كما في قوله سلاسلاً وأغلالاً.

وأمَّا قوله: وما حدُّ العلَّة وما رسْمُها ومثالُه؟

فنقول: تصوُّر احتياجِ الشيءِ [15أ] إلى غيره ضروريٌّ، فالمحتاج إليه في وجود الشيء يُسمَّى علَّةً له، والمحتاج يسمَّى معلولاً، والعلةَّ إمَّا تامًّةٌ، وأمَّا ناقصةً، والناقصةُ إمَّا

(1) انظر: (الخصائص)(2/ 218 ـ 227).

(2)

انظر: (الأصول في النحو)(3/ 160 ـ 163).

(3)

انظر (الأصول في النحو)(2/ 401 ـ 407).

(4)

انظر: (معجم البلاغة العربية)(ص316 ـ 317).

(معترك الأقران في إعجاز القرآن)(1/ 312).

ص: 6285

جزئي الشيء، أو خارجٌ عنه، والأوَّل إن كان به الشيءُ بالفعل كالهيئةِ للسريرِ فهو الصورةُ، وإن كان بالقوة كالخشبِ له فهو المادةُ، والثاني وهو الخارج عنه كالنجارِ للسرير، وهو الذي يقال له العلةُ الفاعليةَ، (1) وأمَّا لأجله الشيء كالجلوسِ عليه، وهو العلةُ الغائيَّةُ. (2)

وأمَّا العلة التامَّة فمنقسمةٌ إلى أقسام يطولُ البحث بذكرها، وهي مقررة في كتب الأصول (3) محرَّرة بحدودها ورسومِها.

وأمَّا السؤال عن حدِّها فنقولُ: العلَّة التامَّةُ هي ما يجبُ وجودُ المعلولِ عنده، وأما جواز التعليل بالعلَّة القاصرة فمنعَ ذلك أهلُ الأصولِ، واختلفَ فيه أهل النحو، قال ابن الأنباري:(4) اختلفوا في التعليلِ بالعلَّة القاصرةِ، فجوَّزها قومٌ، ولم يشترطوا التعديةَ في صحتِها، وذلك كما علَّلوا به قولَهم: ما جاءتْ حاجتُك، وعسى الغويرُ أَبْؤُسًا، فإنَّ جاءتْ وعسَى أُجْرِيَا مُجْرَى صار في هذين الموضعينِ، ولا يجوز أن يجريا مجراها في غيرهما، والحق منعُ التعليل بالعلةِ القاصرةِ كما صرَّح به جماعةٌ من محققيهم.

وأمَّ فسادُ الاعتبارات في علم ا لعربية فهو أن يعلِّل قياسٌ في العربية، ويخالِفَه السماعُ، فإنه لا اعتبار بهذا القياس، بل الاعتبارُ بالسماع. (5)

وأمَّا قوله: ومتى تعارضَ شاذٌّ ولغةٌ ضعيفةٌ، (6) فهل ارتكابُ الضعيفةِ أولى أولاً؟ فجوابُه أنهم اختلفوا في ذلك، فمنهم من رجَّح اللغةَ الضعيفةَ على الشاذِّ، ومنهم من

(1) انظر: (الكوكب المنير)(1/ 441).

(2)

نحو: كالتحلي بالخاتم، النوم على السرير.

(الكوكب المنير)(1/ 441).

(3)

انظر: تفصيل ذلك. (المدخل إلى مذهب أحمد)(ص66).

(4)

انظر: (البحر المحيط)(5/ 192).

(5)

انظر: (الخصائص)(1/ 117).

(6)

انظر: (الخصائص)(1/ 96 ـ 100).

ص: 6286

رجَّح الشاذ على اللغة الضعيفةِ، وممن رجَّح الأول [15ب] ابنُ عصفور، والحق أنَّ الشاذَّ أرجحُ إن كان مخالفًا للقياسِ فقط، أو مخالِفًا للاستعمال فقط، لا إذا كان مخالفًا لهما جميعًا فليس بأرجَح من اللغة الضعيفةِ، بل هو ضعيف مثلُها.

ثم نقول للسائل ـ كثر الله فوائده ـ قد أوضحنا ما سأل عنه من العللِ، فلتوضِحْ لنا ما بقي منها، وهي علَّة السماع، وعلةُ التشبيه، وعلةُ الاستثقالِ، وعلة التعويضِ، وعلة التضمينِ، وعلة التغليبِ، وعلةَُ الأشعارِ، وعلةُ التضادُّ، وعلة الأَوْلى، هذه العللُ باعتبار مصطلحِ النحاةِ، ولأهل الأصولِ أسماءُ العللِ معروفةٌ كثيرةُ العددِ لا معنى للسؤال عنها، لأنها موجودةٌ في الفنِّ، وإنما سألنا السائل ـ كثر الله فوائده ـ عن هذه العلل النحويةِ مشْيًا على منوالِ سؤالهِ، وجريًا على مثاله. انتهى نقل الجواب المنقولِ عن الأصل الذي بخط المجيب ـ حفظ الله أيامه، وأناله مُرَامَهُ ـ آمينَ.

وافق الفراغ من التحرير عن القدير ضحوةَ الخميس ثالثَ محرَّم الحرامِ مفتتح سنة 1241 إحدى وأربعينَ بعد المائتين والألفِ ختَمها الله تعالى ما بعدَها بخير آمين، وغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين والمؤمناتِ آمينَ اللهم آمينَ. سبحان ربك ربِّ العزة عمِّا يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين [6أ]

ص: 6287