المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌جيد النقد بعبارة الكشاف والسعد - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ١٢

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌بحث في الصلاة على النبي صلي الله عليه وآله وسلم

- ‌سؤال وجواب عن الصلاة المأثورة على رسول الله صلي الله عليه وسلم

- ‌طيب الكلام في تحقيق لفظ الصلاة على خير من حملته الأقدام

- ‌بحث في الأذكار الواردة في التسبيح

- ‌نزهة الأبصار في التفاضل بين الأذكار

- ‌الاجتماعُ على الذكرِ والجهرِ بهِ

- ‌سؤال وجواب عن أذكار النوم

- ‌ اللغة العربية وعلومها

- ‌جواب الشوكاني على الدماميني

- ‌سؤال: عن الفَرْقِ بينَ الجِنْسِ واسْمِ الجِنْسوبينَهما وبينَ عَلَمِ الجِنْسِ.وبينَ اسمِ الجِنْسِ واسْمِ الجمْعِوبينَ اسْمِ الجمْعِمع الجواب للشوكاني

- ‌بحث في تبادر اللفظ عند الإطلاق

- ‌نُزهةُ الأحداق في علم الاشتقاق

- ‌كلام في فن المعاني والبيان(تعليق من الشوكاني على كلام صاحب الفوائد الغياثية)

- ‌الروضُ الوسيع في الدليل المنيع على عدم انحصارِ علمِ البديع

- ‌بحث في الرد على الزمخشري في استحسان المُرِبَّةَ

- ‌فتح القدير في الفرق بين المعذرة والتعذير

- ‌الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعدعلى ما قاله الشريف من اجتماع الاستعارةالتمثيلية والتبعية في قوله تعالى:{(أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}

- ‌جيد النقد بعبارة الكشاف والسعد

- ‌القول الصادق في ترتيب الجزاء على السابق

- ‌فائق الكسا في جواب عالم الحسا

- ‌فَتْحُ الخَلَاّقِ في جواب مسائل الشيخ العلامة عبد الرزاق الهندي

- ‌بحث فيما زاده الشوكاني من أبيات شعرية صالحة للاستشهاد بها في المحاورات وعند المخاصمات وأضافها إلى ما يصلح لهذه الأغراض في ديوان ابن سناء الملك

- ‌بحث في سيحون وجيحون وما ذكره أئمة اللغة في ذلك ويليه مناقشة لبعض أهل العلم في البحث السابق ثم جواب المناقشة السابقة

- ‌الحد التام والحد الناقص (بحث في المنطق)

الفصل: ‌جيد النقد بعبارة الكشاف والسعد

(208)

29/ 3

‌جيد النقد بعبارة الكشاف والسعد

تأليف

محمد بن علي الشوكاني

حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه

محمد صبحي بن حسن حلاق

أبو مصعب

ص: 6183

وصف المخطوط:

1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: جيد النقد بعبارة الكشاف والسعد.

2 ـ موضوع الرسالة: لغة العربية.

3 ـ أول الرسالة: سيدي المالك القدير العلامة الأوحد عزَّ الإسلام وزينه الأنام محمد بن علي حفظه الله، وأمتع بحياته وعليه أفضل السلام ورحمة الله وبركاته

4 ـ آخر الرسالة: بما لا يبقي بعده ريبٌ لمرتاب إن شاء الله.

حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله له في صباح يوم الأربعاء من ربيع الآخر سنة 1224هـ.

5 ـ نوع الخط: خط نسخي عادي.

6 ـ عدد الصفحات: 8 صفحات.

7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرًا.

8 ـ عدد الكلمات في السطر: 10 ـ 13 كلمة.

9 ـ الناسخ: محمد بن علي الشوكاني للجواب، وعلى هاجر للسؤال.

10 ـ الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

ص: 6185

[السؤال]

الحمد لله .. سيدي المالك القدير العلامةَ الأوحدَ، عزَّ الإسلام، وزينةَ الأنام، محمدَ بن علي ـ حفظه الله ـ وأمتع بحياته وعليه أفضل السلام ورحمة الله وبركاتهُ، أشكلَ على المحبِّ على هاجر قولُ صاحب الكشاف (1) في تفسير قوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (2) فقال: ما تركنا وما أغُفلنا في الكتاب في اللوحِ المحفوظِ من شيء من ذلك لم نكتُبْهُ، ولم نُثْبِتْ ما وجبَ أن يَثْبِتُ مما يختصُّ به.

وقال سعد الدين في الحاشية عليه: قولُه نختصُّ به (بالنون)، وضير (به) لما، ويروى بالياء، والمستكِنُّ (لما)، وضميرُ بهِ للكتابِ، وكيف ما كان فهو بيانٌ لما وجب فيه احترازٌ عما يتعلَّق بقدرة العباد وإرادتِهم، فإنها لا تكون من هذا القبيلِ، وإنما تُعْلَمُ تِبْعًا لما يقع

انتهى.

فالمحبُّ ـ مع قصوره في علم الكلام، وعدمِ وجودِ كتاب فيه لديه ـ، أشكلَ عليه هذا التخصيصُ، فإنه ظهر عنه أن ما يتعلَّق بقدرةِ العبادِ وإرادِتهم فهو غيرُ مكتوبٍ في اللوح، ولا معلومٍ في الأزل، وإنما يُعْلَمُ بعد وقوعِه، فهذا ما فهمه الحقيرُ، وما أظن ذلك مرادَ صاحبِ الكشافِ، ولا مرادَ المحشِّي. ولعل الحقيرَ إنما أتى من قِبَلِ سوء فهمه للمرادِ.

فالمطلوبُ إزالة الإشكالِ في ذلك. وما المراد بهذا التخصيص؟ وما الملجئ إليه؟ وما المراد أيضًا بما يتعلق بقدرة العباد وإرادتهم فإنه إن كان المراد بذلك أفعالهم ونحوَها فقولُه صلي الله عليه وسلم في الحديث المشهور: «ثم يرسلُ الملَكُ، فيؤمر بأربعٍ: بكتب رزقِه، وعملِه، وأجلِه، وشقيٌّ أم

...........................................................

(1)(2/ 342 ـ 343).

(2)

[الأنعام: 38].

ص: 6189

سعيدٌ» (1) يفيدُ أن جميعَ أفعال العبادِ معلومةٌ قبل وقوعِها، وكذلك عمومُ قوله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} دليلٌ على ذلك

ولما كان معتقدُ الحقيرِ في غير نظرٍ في كتب علمِ الكلامِ أن الله سبحانه وتعالى يعلم بعلمِه السابقِ كلِّ شيء مما يختصُّ به، مما يتعلَّق بقدرةِ العبادِ من أفعالِهم وأقوالِهم وإرادتِهم وخطَراتِ قلوبِهم ولحظاتِ أعينِهم ووساوسَ نفوسِهم أشكلَ عليه هذا التخصيصُ غايةَ الإشكالِ، فالمراد إراحةُ الحقير عن هذا الإشكال، وتبيين الحق في هذه المسألةِ، وتبيين ما أراده المصنِّفُ والمحشِّي، وتوضيحُ المسألة ـ أجزل الله جزاءكم، وتولنا، ولا أخلَّ الوجود عن مثلكم ـ ولم أقل مثلك أعني به سواكَ يا بدرُ بلا مشبهةٍ، وفي حماية الله وحسن رعايته آمين [1].

(1) أخرجه أحمد (1/ 382)، والبخاري رقم (7454)، ومسلم رقم (2643)، وأبو داود رقم (4708)، والترمذي رقم (2137)، وابن ماجه رقم (76) من حديث عبد الله بن مسعود. وقد تقدم.

ص: 6190

[الجواب]

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمينِ، وآله الطاهرينَ وبعدُ:

فإنه ورد السؤالُ الملصقُ بظاهر هذه الورقةِ من السائل ـ كثر الله فوائده ـ، وقد كنت أمرتُ العلامة محمد بن علي العمراني (1) ـ عافاه الله ـ بالجواب عنه، فأجاب بجواب مفيدٍ جدًّا، ذكر فيه ما ورد في إثبات القدَرِ على الوجهِ الذي وردت بهِ الشريعةُ، وما ورد في السنة المطهرةِ من أن الله يأمر الملَكَ بكتْب رزقِ المولودِ، وأجلِهِ، وعمَلِهِ، وكونهِ شقيًّا أم سعيدًا، وذكر أيضًا ما ورد في ذمِّ القدريةِ، وأوضح أنهم من قال أنَّ الأمر أنفٌ (2) كما ثبت تعيينُهم عن السلفِ الصالحِ، وكثير من العلماء المنصفينَ، ثم تكلم بعد ذلك في خصوصِ ما سأل عنه السائل، وقرر ما فهمهُ، وأن كلام السعد غيرُ صحيح، وأن منشأَ الوهْم منه كونُه حَمَلَ الصفةَ ـ أعني قول الزمخشريِّ ـ مما يختصُّ به على التقييدِ ولو حملها على الكشفِ لم يقعْ فيما وقعَ فيه من الغلط. هذا حاصلُ جوابِه.

وقد تقدَّم من العلامةِ المقبليِّ في الأبحاثِ المسدَّدة (3) في هذا البحثِ بخصوصِه كلامٌ هذا لفظه: قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} قال في الكشاف: ما أغْفلنا في الكتاب في اللوح المحفوظِ من شيء لم نكتبْه، ولم نُثْبِتْ ما وجبَ أن يَثْبُتَ مما يختصُّ به أي مما يختصُّ به ذلك الشيءُ، لأنه فسَّر {أَمْثَالُكُمْ} بقوله: مكتوبةٌ أرزاقُها وآجالُها وأعمالُها كما كُتِبَتْ أرزاقكم وآجالكم وأعمالكم، فأراد هاهنا أي أرزاقَ كلِّ شيء في كل فردٍ، وجميعِ أحوالِه المختصةِ بهِ، وهذا أمرٌ أوضحُ من أن يُشْرَحَ.

(1) تقدمت ترجمته.

(2)

تقدم ذكره والتعليق عليه مرارًا.

(3)

(ص81 ـ 83).

ص: 6191

لكن سعدَ الدينِ قال: هو نختصُّ (بالنون) ـ ويروى (بالياء). قال: وكيف ما كان فهو بيانٌ لما وجب. ثم قال: وفيه احترازٌ عما يتعلَّق بقدرةِ العباد وإرادتِهم، فإنَّها لا تكون من هذا القبيلِ، وإنما تعلم تبعًا لما يقعُ. انتهى كلامُهُ.

وأراد بقوله: تعلمُ تِبْعًا لما يقعُ يعني مذهبَ القدريةِ الذين قالوا: الأمرُ أنفٌ، ولا شكَّ أنه مذهبُهم، فإما أن يكون قال ذلك بهتًا للمعتزلةِ ليحقِّق فيهم اسمَ القدرِ اغتنامًا لفرصةِ التلبيسِ، لأن عدمَ قولِ المعتزلة (1) لذلك معلومٌ عند كل باحث. وقد صرَّحتْ به الأشعرية (2) فضلاً عن غيرهم كابن حجرٍ في شرح الأربعين، واللقاني في شرح الجواهرِ [2]، ومن لا يُحْصَى، وإما أن يكون مثلَ أقوال بعض المغفلينَ الذين أخَذَ اسمَ القدرِ من أفواه الأشعريةِ واصطلاحِهم، ثم أخذ معناهُ من الأحاديث، فيكون السببُ عمى التعصُّبِ هو الذي أوقعَه في ذلك مع ذكائِه واطَّلاعه.

وعلى كل تقدير فقد بُهِتَ شطرُ أهل البسيطةِ، بل كل موفَّق سلَّمه الله من بدعةِ الجبْرِ فبهتَهم بأعظمِ ذنبٍ، وما عسى أن تقعَ وُرَيْقاتُهُ التي صنَّفها في جنبِ ذلك! نسأل الله العافيةَ والسلامةَ، وروايتهُ نختصُّ (بالنون) غيرُ مقبولةٍ، وحاله ما ذكر. ولو جاءت من غيرهِ لم يكن فيها شبهةٌ أيضًا

انتهى كلامُ المقبليِّ (3)

وأقول: ينبغي أن نقرِّر أولاً معنى عبارةِ الزمخشري (4) تقريرًا يتضحُ به المرادُ إيضاحًا لا يبقي فيه إشكالٌ، وبيان ذلك أنه فسَّر قوله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا} بقوله: (ما أغفلنا)، وفسر {الْكِتَابِ} باللوحِ المحفوظِ، ثم قال: من شيء لم نكتبه، ولم نثبتْ ما وجبَ أن يَثْبتَ مما يختصُّ به، أي بل كتبناه وأثبتنا ما وجبَ أن يثبتَ مما نختصُّ به، وتوضيح العبارة هكذا: لم نكتبِ الشيءَ، ولم نُثْبِتِ الذي وجبَ أن يَثْبُتَ من شيء نختصُّ نحن

(1) تقدم التعريف بها.

(2)

تقدم التعريف بها.

(3)

في (الأبحاث المسددة)(ص81 ـ 83).

(4)

في (الكشاف)(2/ 342).

ص: 6192

بذلك الشيء، أو من شيء يختصُّ ذلك الشيء بالكتاب. فما في قوله ما وجبَ مفعولٌ نثبتُ، وفاعلُ وجب قولُه أن يثْبُتَ، وفاعل أن يَثْبُتَ ضميرٌ مُسْتكنٌّ فيه، عائدٌ إلى ما في قوله: ما وجبَ، فمعنى ما فسرَّ به قولَهُ:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ما أغْفلنا شيئًا منه بتركِ كتابِته، وتركِ إثباتِ ما يجبُ إثباتُه من الأشياء التي لنا اختصاصٌ بها، أو من الأشياء التي لذلك الكتابِ اختصاصٌ بها، بل أثبتْنا في الكتاب كلَّ شيء من الأشياء التي يجبُ إثباتها، ولنا بها اختصاصٌ، هذا على أن نختصُّ بالنونِ أو من الأشياء التي للكتابِ بها اختصاصٌ، على أن يختصَّ بالياء التحتيةِ، فيحصُلُ من هذا الكلام تقييدُ ما هو ثابتٌ في اللوح المحفوظِ بقيدين:

الأول [3]: أن يكون مما يجبُ إثباته.

والثاني: أن يكون مما يختصُّ به الله ـ سبحانه ـ على تقدير أن قوله نختصُّ بالنون، أو يكون مما يختصُّ به الكتابُ أي اللوحُ المحفوظُ على تقدير أن قولَه يختصُّ بالياء التحتيةِ، فهذان القيدانِ اللذانِ قيَّد الزمخشري رحمه الله كلام الله تعالى بهما لا بد أن ينتهضَ عليهما دليلٌ مرضٍ يدلُّ على أن مرادَه ـ سبحانه ـ بقوله:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} أي من الأشياء التي يجبُ إثباتها، ولنا بها اختصاصٌ، أو للكتاب بها اختصاصٌ، فإنْ وجَدْنا هذا الدليلَ فبها ونِعْمَتْ، وإن لم نجده فلا خلافَ أن كلامَ الله ـ سبحانه ـ لا يجوز تقييدُهُ لمجرَّدِ الرأي.

فإن قلت: ماذا تقول أنتَ هل لهذا التقييدِ من دليل يتعيَّن علينا قبولُه، ويلزمُنَا تقييدُ كلامِ الله بهِ؟ قلت: أما قيدُ الوجوبِ فهو إما أن يكون الوجوبُ على الله ـ سبحانه ـ أو على ملائكته، أو على سائر عباده لا يصحُّ أن يُرادَ الوجوبُ على عبادِه، لأنهم لا يتَّصلونَ باللوح المحفوظِ، فضلاً عن أن يكتبونَ فيه، فضلاً عن أن يجبَ عليهم إثبات شيء فيه، ولا يصحُّ أن يُرادَ الملائكةُ، لأنهم يفعلُون ما يؤمرون، وليس لهم من الأمرِ شيءٌ، ولا لاختيارِهم مدخلٌ في ذلك.

ص: 6193

إذا تقرر هذا فلم يبق هاهنا إلا أن يكون الوجوبُ على الله ـ سبحانه ـ.

وقد تقرر في علم الكلام أن إثباتَ الواجباتِ على الله تعالى هو مذهبٌ ذهبتْ إليه المعتزلةُ دون مَنْ عَدَاهُم (1)، على أنهم حصروا الواجباتِ على الله سبحانه في ثمانٍ مبيَّنةٍ

(1) وذلك أن المعتزلة بناء على قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين أوجبوا على الله تعالى أمورًا وحرموا عليه أخرى بمحض عقولهم قياسًا لله على العبيد وبئس القياس.

فما أوجبوا عليه، رعاية الصلاح للعباد، والثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية، وسموا ذلك عدلاً.

وخالفهم في مذهبهم هذا جماهير المسلمين فقالوا: لا يجب على الله شيء بل له أن يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد.

فقد قال الحافظ في (الفتح)(11/ 490): ـ في شرح حديث عبد الله بن مسعود وقد تقدم ـ واستدل به على أنّه لا يجب على الله رعاية الأصلح خلافًا لمن قال به من المعتزلة لأن فيه أن بعض الناس يذهب جميع عمره في طاعة الله، ثم يختم له بالكفر ـ والعياذ بالله ـ فيموت على ذلك. فيدخل النار فلو كان يجب عليه رعاية الأصلح لم يحبط جميع عمله الصالح بكلمة الكفر التي مات عليها، ولا سيما إن طال عمره وقرب موته من كفره.

قال ابن القيم في (مدارج السالكين)(2/ 338): فعليك بالفرقان في هذا الموضع الذي افترقت فيه الفرق والناس فيه ثلاث فرق: ?

فرقة رأت: أن العبد أقل وأعجز من أن يوجب على ربه حقًا، فقالت: لا يجب على الله شيئًا البتة، وأنكرت وجوب ما أوجبه الله على نفسه. ?

وفرقة رأت: أنّه سبحانه أوجب على نفسه أمورًا لعبده فظنت أن العبد أوجبها عليه بأعماله. ?

والفرقة الثالثة: أهل الهدى والصواب: قالت: لا يستوجب العبد على الله بسعيه نجاة ولا فلاحًا، ولا يدخل أحد عمله الجنة أبدًا والله تعالى بفضله وكرمه أكد إحسانه وجوده بأن أوجب لعبده عليه حقًّا بمقتضى الوعد فإن وعد الكريم إيجاب، ولو بعسى ولعل، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه عسى من الله واجب. ?

ويقول ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم)(2/ 785 ـ 786): لا ريب أن الله جعل على نفسه حقًّا لعباده المؤمنين كما قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]. وكما قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، وفي الصحيحين ـ البخاري رقم (5967)، ومسلم رقم (30) ـ أنَّ النبي صلي الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل وهو رديفه:«يا معاذ ما حق الله على عباده؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حقهم عليه أن لا يعذبهم» فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق.

وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعده الصادق، وتنازعوا: هل يوجب بنفسه على نفسه؟ على قولين: ومن جوز ذلك احتج بقوله سبحانه: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وبقوله في الحديث الصحيح: «إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا» ـ تقدم تخريجه ـ.

وأمّا الإيجابُ عليه سبحانه وتعالى، والتحريم بالقياس على خلقه فهذا قول القدرية، وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول، وأهل السنة متفقون على أنّه سبحانه خالق كل شيء ومليكه وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئًا. ولهذا كان من قال على الله شيئًا، كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإنَّ الله هو المنعم على العباد بكل خير، فهو الخالق لهم، وهو المرسل إليه الرسل، وهو الميسر لهم الإيمان، والعمل الصالح

)).

ص: 6194

في ذلك العلمِ، وليس هذا الإثباتُ في اللوحِ المحفوظ منها. ثم الظاهِرُ من هذا التقييدِ أعني كونَ تلك الأشياء مما يجبُ إثباتُه أن ثَمَّ أشياءَ لا تتصفُ بالوجوبِ، وأنها لم تثبت في اللوح المحفوظِ، وهذا مدفوع بشيئين

[4]

. الأول: ما يستفاد من قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وأنَّ وقوعَ النكرةِ في سياق النفي يفيدُ العمومَ لمجرَّدِه، (1) وهو من أقوى صيغِ العموم، فكيف إذا انضمَّ إلى ذلك التأكيدُ بـ (من) المزيدةِ في قوله:(من شيء)! فكيف إذا كانت هذه النكرةُ الواقعةُ في سياق هذا النفي المؤكَّدةِ بالحرفِ المزيدِ هي لفظُ شيء! فكيف إذا كانت هذه النكرةُ الواقعةُ في سياق هذا النفي المؤكَّدةِ بالحرفِ المزيدِ هي لفظُ شيء! فإنه أعمُّ العامُّ. وقد صرَّح الزمخشريُّ نفسُه في كشَّافه (2) عند تفسير قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى ................

(1) انظر (إرشاد الفحول)(ص410) وقد تقدم مرارًا.

(2)

(1/ 311 ـ 312).

ص: 6195

شَيْءٍ} (1) فقال: وهذه مبالغةٌ عظيمة، لأن المحالَ والمعدومَ يقعُ عليها اسمُ الشيء، وإذا نُفي إطلاق اسم الشيء عليه، فقد بُولِغَ في تركِ الاعتدادِ به إلى ما ليس بعدَه، وهكذا قولُهم: أقلُّ من لا شيء

انتهى بحروفه.

فإذا كان الشيءُ يُطلقُ على المحالِ والمعدومُ فضلاً عن الموجودِ عند الزمخشري، كأن حثَّ عليه أن يقولَ في الشيء المذكور في هذه الآية ما قالَه في الشيء المذكور في تلكَ الآية، فكيف يخصَّصُه ببعض الأفرادِ!

والثاني: ما يُستفادُ من الأحاديث الصحيحةِ الثابتة عن جماعة من الصحابة، مرفوعةٍ إلى النبيِّ صلي الله عليه وسلم وموقوفةٍ، فمنها: حديث عبادةَ بن الصامتِ قال: سمعتُ رسولَ الله صلي الله عليه وسلم يقول: «إن أوَّل ما خلقَ الله القلمَ، فقال له: اكتبْ فجرى بما هو كائنٌ إلى الأبدِ

» أخرجه ابن أبي شيبة، (2) وأحمدُ، (3) والترمذيُّ، (4) وصحَّحَهُ، (5) وابن مردويهِ. (6)

ومنها حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «إنَّ أوَّل ما خلقَ الله القلمَ، قال: اكتُبْ، قال: ما أكتب؟ قال: كل شيء كائنٌ إلى يوم القيامة» أخرجهُ ابنُ جرير (7) والطبرانيُّ. (8)

(1)[البقرة: 113].

(2)

في (المصنف)(14/ 114).

(3)

في (المسند)(5/ 317).

(4)

في (السنن) رقم (2155، 3319).

(5)

في (السنن)(4/ 458).

(6)

عزاه إليه السيوطي في (الدر المنثور)(8/ 241). وهو حديث صحيح.

(7)

في (جامع البيان)(14 جـ 29/ 241).

(8)

في (المعجم الكبير)(11/ 433 رقم 12227) وأورده الهيثمي في (المجمع)(7/ 128) وقال: (لم يرفعه عن حماد بن زيد إلَاّ مؤمل بن إسماعيل. قلت: ومؤمل ثقة كثير الخطأ، وقد وثقه ابن معين وغيره وضعفه البخاري وغيره وبقية رجاله ثقات). اهـ.

ص: 6196

ومنها حديثُ معاويةَ بن قُرَّةَ عن أبيه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} قالَ: «لوحٌ من نور، وقلمٌ من نور يجري بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة» أخرجه ابن جرير. (1)

ومنها حديثُ أبي هريرة قال: سمعتُ رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: «إن أوَّل شيء خلقه الله القلمِ، ثم خلق النونَ، وهي الدواة، ثم قال له: اكتبْ، قال: وما أكتبُ؟ قال ما كان، وما هو كائن إلى يوم القيامة، من عملٍ، أو أثرٍ، أو رزقٍ، أو أجلٍ، فكتب ما يكون، وما هو كائن إلى يوم القيامة» . (2)

ومنها حديثٌ آخَرةٌ عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «النون السمكةُ التي عليها قرارُ الأرضينَ، والقلمُ الذي خطَّ به ربُّنا عز وجل القدَر خيرهُ وشرَّه، وضرَّهُ ونَفْعَهُ [5]» (3) ومنها عن ابن عباس أيضًا موقوفًا قال: «إن أوَّل شيء خلقَه الله القلمَ، فقال له: اكتبْ، قال: يا ربَّ وما أكتبُ؟ قال: اكتب القدرَ، فجرى من ذلك اليومِ بما هو كائنٌ إلى أن تقوم الساعة، ثم طوى الكتابِ، ورفع القلم» أخرجه عبد الرزاق، (4) والفريابيُّ، (5) وسعيد بن منصور، (6) وعبد بن حميد، (7) وابن جرير، (8) ....................

(1) في (جامع البيان)(14/ 29\ 15 ـ 16).

(2)

عزاه السيوطي في (الدر المنثور)(8/ 24) للحكيم الترمذي.

(3)

عزاه السيوطي في (الدر المنثور)(8/ 242) لابن مردويه.

(4)

في تفسيره (2/ 307).

(5)

في (القدر) رقم (77).

(6)

عزاه إليه السيوطي في (الدر المنثور)(8/ 240).

(7)

عزاه إليه السيوطي في (الدر المنثور)(8/ 240).

(8)

في (جامع البيان)(14/جـ29/ 14).

ص: 6197

وابن المنذر، (1) وابن أبي حاتم، (2) وأبو الشيخ في العظمة، (3) والحاكم، (4) وصححه، وابن مردويه، (5) والبيهقيُّ في الأسماء والصفاتِ، (6) والخطيبُ في تاريخه، (7)، وأيضًا في المختارةِ. (8)

ومنها عنه أيضًا قال: «إن الله خلق النونَ، وهي الدواة، وخلق القلم، فقال: اكتبْ، قال: ما أكتُب؟ قال: ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة» أخرجه ابن جرير، (9) وابن المنذر. (10).

ومنها عنه أيضًا قال: «أوَّلُ ما خلقَ اللهُ القلمُ، فأخذه بيمِينه وكلِْتَا يديهِ يمينٌ، وخلق النونَ، وهي الدواءُ، وخلق اللوحَ فكتب فيه، ثم خلق السماوات والأرضَ فكتب ما يكون من حينئذٍ في الدنيا إلى أن تكون الساعةُ من خلقِ مخلوقٍ، أو عملٍ معمول، بَرِّ، أو فجورٍ، وكلَّ رزقٍ حلالٍ أو حرامٍ، رَطْبٍ أو يابسٍ» أخرجه ابن أبي شيبةَ، (11) وابن المنذر. (12)

ومنها عنه أيضًا قال: «خلق اللهُ القلمَ، فقال: أَجْرِهِ فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة» أخرجه عبد بن حميد. (13)

(1) عزاه إلي السيوطي في (الدر المنثور)(8/ 240).

(2)

في تفسيره (10/ 3364 رقم 18936).

(3)

رقم (901).

(4)

في المستدرك) (2/ 498) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

(5)

عزاه إليه السيوطي في (الدر المنثور)(8/ 240).

(6)

رقم (804).

(7)

عزاه إليه السيوطي في (الدر المنثور)(8/ 240). والخلاصة: أن أثر ابن عباس صحيح.

(8)

عزاه إليه السيوطي في (الدر المنثور)(8/ 240). والخلاصة: أن أثر ابن عباس صحيح.

(9)

في (جامع البيان)(14/جـ29/ 15).

(10)

انظر (جامع البيان)(14/جـ 29/ 15 ـ 16).

(11)

في (المصنف)(14/ 101).

(12)

عزاه إليه السيوطي في (الدر المنثور)(8/ 240).

(13)

عزاه إليه السيوطي في (الدر المنثور)(8/ 240).

ص: 6198

ومنها عنه أيضًا قال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ما تركنا شيئًا إلا وقد كتبناهُ في أمِّ الكتاب. (1)

ومنها عن عبيدِ الله بن زياد البكري قال: دخلتُ على ابني بشرِ المارِّبيين صاحبي رسول الله صلي الله عليه وسلم فقلت: يرحمُكُما الله

الرجلُ يركُبُ منّا الدابةَ فيضربُها بالسوطِ، أو يكبحُها باللّجامِ، فهل سمعتُما من رسول الله صلي الله عليه وسلم في ذلك شيئًا؟ فقالا: لا. قال عبيد الله: فنادتْني امرأة من الداخل فقالتْ: يا هذا، إن الله يقول في كتابه:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} فقالا: هذا أختُنا، وهي أكبرُ منَّا، وقد أدركتْ رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم. (2)

وفي الباب عن جماعة من السلف آثارٌ كثيرةٌ. إذا تقرَّر لك هذا عرفتَ أن ما في اللوح المحفوظِ شاملٌ لكل شيء، لا يخرجُ عنه شيء فتقييدُ ذلك بكونه يجبُ إثباتُه إن أرادَ به إخراجَ شيء من الأشياء الداخلةِ في العموم فلا دليلَ عليه، بل هو مدفوعٌ بما ذكرنا من الأدلة، وإن أراد به عدمَ الإخراجِ فهو كلامٌ لا فائدةَ فيه، ولا ثمرةَ له على ما فيه من إثبات واجبٍ على الله ـ سبحانه [6]ـ لم تقلْ به المعتزلةُ فضلاً عن الأشعرية، فضلاً عن السلفِ الصالحِ.

وأما القيدُ الثاني وهو كونُ ذلك الشيء المثبتِ مما يختصُّ به الله ـ سبحانه ـ أو مما يختصُّ به الكتابُ، فهذا القيدُ يُسْتَفَادُ منه أن الأشياءَ التي يُعَلِّمُ بها الملائكةَ، أو الأنسَ، أو الجنَّ مما أدركوه بعقولِهم، أو بسائرِ حواسِّهم، أو بما علَّمهم الله في كتبه المنزلةِ، أو على ألْسُنِ رسلِهِ المرسلةِ لم تثبتْ في اللوحِ المحفوظِ، لأن الله ـ سبحانه ـ لم يختصَّ بعلمِها، بلْ شاركَه في ذلك بعضُ خلْقِه.

هذا على أن قولَه نختصُّ بالنون، وأما على أنه بالياء التحتيةِ أعني الكتابَ ـ أي اللوح المحفوظَ ـ يختصُّ بذلك، فإن أراد بهذا الاختصاصِ إخراجَ ما خرجَ على تقديرِ أن قولَهُ نختص بالنون فهو مثلُه، وإن أراد إخراجَ أمرٍ أخَرَ فما هو؟ وإن لم يردْ باختصاصِ وإن أرادَ إخراجَ ما ذكرناه مما يدركُهُ الملائكةُ والجِنُّ والإنسُ بعقولهم، أو بحواسِّهم، أو بتعليمِ الله لهم، فأيُّ دليل دلَّ على أن هذه الأمورَ لم تكتب في اللوح المحفوظِ، حتى تجعلَ ذلك مخصَّصًا لعموماتِ الكتاب والسنةِ! ولم أقفْ إلى الآن على مخصِّص يصلحُ للاستدلالِ به على ما ذكرنا، بل أدلةُ الكتابِ والسنةِ تدفعُ ذلك وتبطلُهُ كما عرفتَ.

وإذا تقرر لك هذا وفهمتَه كما ينبغي علمتَ أن ما ذكره المقبليُّ من إرجاع الضميرِ في قوله يختصُّ (بالياء التحتية) إلى الشيء، وزَعْمَهُ أن كلامَ الزمشخريِّ على ذلك واضحٌ لا إشكال فيه، وأن السَّعد أخطأَ وفَعَل فعلاً باطلاً من وجوه:

الأول: أنه قدح في رواية نختصُّ بالنون، بكون السعد راويها، وليس ذلك بشيء، ولا ينبغي لمنصفٍ أن يأتي بمثلِه، والسعد إنما قال بما قاله من تقدُّمِهِ من أهل العلم الذين لهم روايةٌ عن صاحب الكشاف، أو اطلاعٌ على النسخةِ التي بخطِّه، ثم لو فرضنا أنه لم يرو ذلك غيرُ السعدِ لكان أوثقَ من أن يكْذِبَ، وأجلَّ من أن يأتي بما لم يكن تنفيثًا لهؤلاء وتزييفًا لمذهب غيرِه.

الثاني: [7]: إن المقبليَّ رحمه الله قال (3) ذلك، ولو جاءت من غيرِه لم تكن فيها شبهةٌ أيضًا: وهذه مراوغةٌ ومغالطةٌ وتدليسٌ لا ينفُقُ، وتلبيسٌ لا يُقبل، وهو رحمه الله كثيرُ التحذير من هذا وأمثالِه في مصنفاتِه، وكان عليه أن يبيَّن ذلك فهو مقامُ الإشكال ومحلُّ اللَّبسِ، وموطنُ الاشتباهِ. وما أظنُّ وقوع مثل هذهِ المراوغةِ منه إلا لمحبةِ صاحبِ الكشافِ مع ذهوله عند تحرير كلامِه ذلك عن هذا كما يقعُ لغيره كثيرًا مما يكثرُ

(1) انظر: (الدر المنثور)(3/ 267)، (جامع البيان)(5/جـ7/ 188).

(2)

ذكره السيوطي في (الدر المنثور)(3/ 267).

(3)

في (الأبحاث المسددة)(ص81 ـ 83).

ص: 6199

التحذير عنه في مؤلفاته.

الثالث: أنه لا ينحلُّ عقالُ الإشكالِ بما زعمه في روايةِ يختصُّ بالياء التحتيةِ على انفرادِها، وبيانُه أنه إذا كان الثابتُ في اللوح المحفوظِ هو ما يختصُّ به ذلك الشيءُ لزمَ أن يخرج الشيءُ في نفسِه فيكون الثابتُ هو الأمورَ المختصّة به دونه.

ومعلومٌ أنَّ كلَّ شيء هو مكتوبٌ في اللوح المحفوظِ أولاً، ثم يختصُّ به ثانيًا، ثم يلزمُ خروجُ الأمور المشتركةِ بين كلِّ الأشياء أو أكثرِها أو بعضِها، فإنَّه لا يوصَفُ الاختصاصُ بمفرد منها

وإذا عرفتَ هذا وتبيَّن لك عدمُ تصحيحِ كلامِ الزمخشري بما قاله المقبليُّ فاعلم أن ما شرَحَهُ به السعدُ لا ينشرحُ به الصدرُ، ولا يقبلُه الفهمُ. وبيانُ ذلك أنه قال (وفيه احترازُ عما يتعلَّق بقدرةِ العبادِ وإرادتِهم، فإنها لا تكون من هذا القبيلِ، وإنما تُعْلَمْ تِبْعًا لما يقع) ولا يخفاكَ أن هذا لا يصحُّ لوجهين:

الأول: تخصيصُ ذلك بقدرةِ العبادِ وإرادتهِم. وقد عرفتَ أن اللازمَ من عبارة الزمخشريِّ ما هو أعمُّ من ذلك وأطمُّ كما أوضحناه.

الثاني: قوله: (وإنما يُعْلَمُ تِبْعًا لما وقعَ) فهذا فاسدٌ، وبيانُه أن النزاعَ إنما هو في المكتوب في اللوح المحفوظِ، فلا فيما هو معلومٌ لله سبحانه، فإن علْمَ الله تعالى أعمُّ وأشملُ بل لا يحيطُ به قلمٌ، ولا يحصرُهُ فمٌ، ولا يتناهى، وغايةُ ما في اللوح المحفوظِ الإحاطةُ بما هو كائن إلى يوم القيامة، كما قيَّدتْهُ الأحاديثُ والآثارُ.

ولا يَشُكُّ أحدٌ أن الله ـ سبحانه ـ قد علم بعلمٍ قديمٍ أزليٍّ ما هو كائنٌ بعد يوم القيامةِ إلى ما لا يتناهى، ولا تحيطُ به العقولُ، ولا تدركُهُ الأفهامُ كما عَلِمَ ما هو كائن إلى يوم القيامةِ، ثم قولُ السعدِ: وإنما يُعْلَمُ تِبْعًا كلامٌ فاسدٌ، وبيانٌ باطلٌ لا يصحُّ أن يكون مرادًا لله، ولا لصاحِب الكشافِ ولا لَهُ.

وإذا تبيَّن لك ما حررناه علمتَ أن كلامَ صاحبِ الكشاف في هذا المحلِّ هو منشأُ الإشكالِ، ومعدنُ الاشتباهِ. وقد أوضحنا ما هو الصوابُ بما لا يبقي بعده ريبٌ لمرتاب

ص: 6201

إن شاء الله.

حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله له في صباح يوم الأربعاء من ربيع الآخر سنة 1224هـ.

ص: 6202