الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فائق الكسا في جواب عالم الحسا
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقه وعلَّق عليه وخرَّج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
وصف المخطوط:
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: فائق الكسا في جواب عالم الحسا.
2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية.
3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم إياك نعبد وإياك نستعين، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الرسول الأمين ......
4 ـ آخر الرسالة: وعقابه أعظم وفي هذا المقدار كفاية والله وليُّ الهداية
…
حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.
5 ـ نوع الخط: خط نسخي مقبول
6 ـ عدد الصفحات: 15صفحة ما عدا صفحة العنوان.
7 ـ عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرًا.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: 9 كلمات.
9ـ الناسخ: محمد بن علي الشوكاني.
10 ـ الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
بسم الله الرحمن الرحيم
إياك نعبد وإياك نستعين، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الرسول الأمين، وآله الطاهرين، ورضي الله عن الصحابة أجمعين.
قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ: وهو العالم المباركُ عبد الله بن المبارك الوافدُ إلى صنعاءَ من ديارٍ نجدٍ، وأصلهُ من الحسا ـ زاد الله في الرجال من أمثاله ـ.
السؤال الأول:
عن تفسير قوله سبحانه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (1) فإنه يشْكلُ وجودُ اتِّصافِهم بالإيمان في حالة تلبُّسهم بالشركِ، لأنه يستدعي الجمعَ بين النقيضين في حالة واحدة، وهو باطل فليوضِّحْ لنا السبيلَ في ذلك ـ أوضح الله لنا وله واضح المسالك ـ، فإن الحاجةَ ماسَّةٌ إليه، والخاطر كثيرًا ما يقعُ عليه. انتهى.
أقول ـ مستعينًا بالله عز وجل، ومتكلاً عليه ـ أن إيضاح ما تضمنه السؤالُ يتوقف على إيضاح ما ذكره أهلُ التفاسير المعتبرة في تفسير هذه الآيةِ، وينحصر ذلك في وجوه اثني عشر، وينضم إلى ذلك ما ذكرتُه أنا فتكون الوجوهُ ثلاثةَ عَشَرَ.
الأول: إن أهل الجاهليةِ كانوا يقرون بأن الله ـ سبحانه ـ خالقُهم ورازقُهم، ويعبدون غيره من أصنامِهم وطواغيتِهم، فهذا الإقرار الصادرُ منهم بأن الله عز وجل خالِقُهم ورازقُهم هو يصدُق عليه أنه إيمانٌ بالمعنى الأعمِّ، أي تصديقٌ لا بالمعنى الاخصِّ ـ أعنى إيمانَ المؤمنين ـ فهذا الإيمان الصادرُ منهم واقعٌ في حال الشرك، فقد آمنوا حالَ كونهم مشركينَ وإلى هذا الوجهِ ذهب جمهور المفسرينَ، ولكنهم لم يذكروا ما ذكرناه هاهنا من تقريره بكونِه إيمانًا بالمعنى الأعمِّ، ولا بد من ذلك حتى يستقيمَ الكلامُ، ويصدقَ عليه مُسمَّى الإيمانَ. (2)
(1)[يوسف: 106].
(2)
انظر (روح المعاني) للألوسي (13/ 66).
الوجه الثاني: إن المرادَ بالآية المنافقونَ، لأنهم كانوا يظهرون الإيمان، ويبطنونَ الشركَ، فما كانوا يؤمنون ظاهرًا إلا وهم مشركونَ باطنًا، وروي هذا عن الحسن البصري. (1)
الوجه الثالث: أنهم أهلُ كتابِ يؤمنونَ بكتابهم، ويقلِّدون [1] علماءهم في الكفر بغيره، ويقولون: المسيحُ ابنُ الله، وعزيزٌ ابن الله، فهم يؤمنون بما أنزل الله على أنبيائهم حالَ كونهم مشركينَ. (2)
الوجه الرابع (3): إن المقصودَ بذلك ما كان يقع في تلبيةِ العرب من قولهم: (لبيك لا شريكَ لك إلا شريكٌ هو لك)(4) فقد كانوا في هذه التلبيةِ يؤمنون بالله وهم مشركونَ. روي نحوُ ذلك عن ابن عباس.
الوجه الخامس: إن المراد بهذه الآيةِ المرآؤن من هذه الأمةِ، لأن الرياء هو الشركُ المشارُ إليه بقوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «الشرك أخْفى في أمتي من دبيب
(1) ذكره ابن كثير في تفسيره (4/ 418): قال الحسن البصري في قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} قال: ذاك المنافق يعمل إذا عمل رياء الناس، وهو مشرك بعمله ذاك يعني قوله تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142].
وانظر: (الجامع لأحكام القرآن)(9/ 273).
(2)
قال الألوسي في (روح المعاني)(13/ 66): وعن ابن عباس أنهم أهل الكتاب أقروا بالله تعالى وأشركوا به من حيث كفروا بنبيه صلي الله عليه وسلم أو من حيث عبدوا عزيزًا والمسيح عليهما السلام.
وقيل: أشركوا بالنبي واتخاذهم وأحبارهم ورهبانهم أربابًا. وانظر: (الجامع لأحكام القرآن)(9/ 273).
(3)
ذكره الألوسي في (روح المعاني)(13/ 66). والقرطبي في (الجامع لأحكام القرآن)(9/ 273).
(4)
أخرج مسلم في صحيحه رقم (22/ 1185) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك قال: فيقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: «ويْلكم قدْ قدْ» فيقولون: إلَاّ شريكًا هو لك. تملكه وما ملك يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت).
النمل» (1) فالمراؤن آمنوا بالله حالَ كونهم مشركينَ بالرياء.
وأخرج الإمام أحمدُ في المسند (2) من حديث محمود بن لبيدٍ أن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ـ قال: «إن أخوف ما أخافُ عليكم الشركَ الأصغرَ» قالوا: وما الشركُ الأصغر يا رسول الله؟ قال: «الرياء يقول الله يومَ القيامة إذا جُزي الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتُم ترآؤن في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟ .. » .
الوجه السادس: (3) إن المراد بالآية من نَسِيَ ربَّه في الرخاء، وذكره عند الشدائدِ .. روي ذلك عن عطاء، وفيه أنه لا يصدقُ على ذلك أنه آمن بالله حالَ كونه مشركًا إلَاّ أن يجعلَ مجرَّدَ نسيانِ الذكرِ والدعاء عند الرخاء شركًا مجازًا، كأنه بنسيانهِ وتركِه للدعاء قد عَبدَ إلهًا آخر، وهو بعيدٌ على أنه لا يمكن اجتماعُ الأمرينِ، لأنه حالَ الذكر والدعاء غير متَّصفٍ بالنسيانِ، وتركِ الذِّكْرِ.
وقد تقرر أن الحالَ قيدٌ في عاملها إلا أن يعتبرَ بما كان عليهِ الشيءُ، فإن ذلك أحدُ العلاقاتِ المصححةِ للتجوَّزِ. ويدل عليه قولُه تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} . (4)
الوجه السابع: إن المراد من أسْلَمَ من المشركين، فإنه كان مشركًا قبل إِيمانه. حكى ذلك الحاكمُ في تفسيره وتقريره إنَّه ما يؤمن أحدُهم بالله إلا وقد كان مشركًا قبل إيمانِه
(1) أخرجه أحمد (4/ 403).
وهو حديث حسن لغيره. وقد تقدم. من حديث أبي موسى الأشعري.
(2)
أخرجه أحمد (5/ 428)، والبيهقي في (الشعب) رقم (4831).
وهو حديث صحيح.
انظر: (تفسير القرآن العظيم) لابن كثير (4/ 420).
(3)
ذكره القرطبي في (الجامع لأحكام القرآن)(9/ 273).
(4)
[العنكبوت: 65].
[2]
. والكلامُ فيه كالكلام في الوجهِ الذي قبلَه، والجوابُ الجوابُ.
الوجه الثامن: إن المراد بالشركِ هاهنا ما تُعرض من الخواطرِ والأحوالِ حالَ الإيمان.
قاله الواسطي كما حكاه عنه البِقاعيُّ، (1) وفيه أن هذه الخواطِرَ والأحوالَ إن كانت مما يصدُقُ عليه الشركُ الأكبرُ أو الأصغر فذاك، وإن كانت خارجةً عن ذلك فهو فاسد.
الوجه التاسع: إنهم الذين يشبِّهون الله بخلقِه. رواه في الكشاف (2) عن ابن عباس، وتقريره أنهم آمنوا بالله حالَ تشبيههم له بما يكون شركًا أو يؤولُ إلى الشرك.
الوجه العاشر: هو ما تقوله القدريةُ من إثبات القدرةِ للعبد. حكاه النَّسفيُّ في مداركِ التنزيل، (3) وتقريره أنهم آمنوا بالله حالَ إثباتهم ما هو مختصٌّ به لغيره، وهو شرك أو مُنَزَّلٌ منزلَة الشِّرك.
الوجهُ الحادي عَشَرَ: ما قاله محيي الدين بن عربي في تفسيره: إن أكبر الناس إنما يؤمنون بغير اللهِ، ويكفرون بالله دائمًا، ففي بعض الأحيانِ يشركون الله ـ سبحانه ـ مع ذلك الإله الذي هم مؤمنونَ فلا يؤمن أكثرهم بالله إلا حالَ كونه مشركًا.
وفيه أن ظاهر النظم القرآني أن الإيمان بالله، والشركَ بتشريكِ غيرِه معَهُ لا بتشريكهِ مع غيرهِ، وبين المعنيينِ فرقٌ.
الوجه الثاني عشَرَ: ذكره ابن كثير في تفسيره (4) وهو أن ثَمَّ شركًا خفيًّا لا يشعر به غالبُ ممن يفعله كما روي عن حذيفةَ أنه دخلَ على مريض يزورهُ فرأى في عضدهِ سيرًا فقطعَه، أو انتزعه ثم قال: وما يؤمنُ أكثرهم بالله إلا وهم مشركونَ).
وفي الحديث الذي رواه الترمذيُّ، (5) .........................
(1) في (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور)(10/ 238 ـ 239).
(2)
(3/ 327 ـ 328).
(3)
(2/ 137 ـ 138).
(4)
: (4/ 418).
(5)
في (السنن)(1535).
وحسَّنه (1) عن ابن عمر مرفوعًا: «من حلف بغير الله فقد أشركَ» وأخرج أحمدُ (2) وأبو داودَ (3) من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «إنَّ الرّقى والتمائمَ والتولُّةَ شركٌ» . وفي لفظ لهما (4): «الطيرةُ شركٌ» وما منَّا إلَاّ ولكن الله يذهبه بالتوكُّل.
وروى أحمد في المسند (5) عن عيسى بن عبد الرحمن قال: دخلتُ على عبد الله بن حكيم [3] وهو مريضٌ فقيل له: لو تعلَّقتَ شيئًا؟ فقال: أتعلَّق شيئًا، وقد قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ:«من تعلَّق شيئًا وُكِلَ إليه» . ورواه النَّسائي (6) عن أبي هريرة. وفي المسند (7) عن عقبةَ بن عامر قال: قال رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «من علَّ تميمةً فقد أشركَ» .
وفي صحيح مسلم (8) عن أبي هريرة قال: سمعتُ رسولَ الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ يقول: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشركَ فيه غيري تركتُه وشِرْكَهُ» . وروى أحمد (9) نحوَه من حديث غيرِه .....................
(1) في (السنن)(4/ 110) وقال: هذا حديث حسن.
وهو حديث صحيح وقد تقدم.
(2)
في (المسند)(1/ 381).
(3)
في (السنن) رقم (3883). وهو حديث صحيح.
(4)
أحمد في (المسند)(1/ 389).
وأخرجه أبو داود رقم (3910). وهو حديث صحيح.
(5)
في (المسند)(4/ 310).
وأخرجه الترمذي رقم (2072). وهو حديث صحيح.
(6)
في (السنن)(7/ 112). وهو حديث ضعيف دون جملة التعليق فهي صحيحه.
(7)
في (المسند)(4/ 156). بإسناد صحيح.
(8)
في صحيحه رقم (2985).
(9)
في (المسند)(4/ 215) من حديث أبي سعيد بن أبي فضالة.
وفي المسند (1) أيضًا «من ردَّته الطِّيرة من حاجة، فقد أشرك» . قالوا: يا رسول الله، ما كفارةُ ذلك؟ قال:«أن يقول أحدهم: اللهم لا خيرَ إلا خيرُك، ولا طَيْرَ إلا طيرُك، ولا إلهَ غيرُك» .
وأخرج أحمد (2) من حديث أبي موسي قال: خطبَنَا رسولُ الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: ذاتَ يوم فقال: «يا أيها الناسُ اتَّقوا هذا الشركَ، فإنه أخفى من دبيبِ النملِ» ثم قالوا له: كيف نتجنَّبهُ وهو أخْفى من دبيب النمل؟ قال: «قولوا: اللهم إنا نعوذ بك أن نشركَ بك شيئًا نعلمُه، ونستغفرك لما لا نعلمُه» . وقد رُويَ من حديث غيرهِِ. (3)
إذا عرفتَ ما تضمنتْه كتبُ التفسير من الوجوهِ التي ذكرناها، وعرفت تقريرها على الوجه الذي قررناه، فاعلم أن هذه الأقوالَ إنما هي اختلافٌ في سبب النزولِ، وأما النظم القرآني فهو صالحٌ لحملهِ على كل ما يصدقُ عليه مسمَّي الإيمان مع وجودِ مسمَّى الشركِ، والاعتبارُ بما يفيده اللفظُ لا بخصوصِ السبب كما هو مقررٌ في موطِنهِ، فيقال مثلاً في أه الشرك أنه ما يؤمنُ أكثرهم بأن الله هو الخالقُ الرازقُ إلا وهو مشركٌ بالله بما يعبدهُ من الأصنام، ويقال في من كان واقعًا في شرك من الشرك الخفي وهو من المسلمينَ إنه ما يؤمن بالله إلا وهو مشركٌ بذلك الشرك الخفي. ويقال مثلاً في سائر الوجوه بنحوه هذا على التقريرِ الذي قررناه سابقًا، وهذا يصلح أن يكون وجهًا مستقلاً، وهو أوجَهُهَا وأرجَحُها فيما أحسبُ [4].وإن لم يذكرُه أحدٌ من المفسرينَ.
فما قاله السائل ـ كثر الله فوائده ـ من أنه يُشكلُ وجوهُ اتَّصافِهم بالإيمان في حالٍ
(1) في (المسند)(2/ 220).
(2)
في (المسند)(4/ 403) وهو حديث صحيح وقد تقدم.
(3)
أخرجه أحمد (1/ 9)، وأبو داود رقم (5067)، والترمذي رقم (3392)، والبيهقي في (السنن الكبرى) رقم (1/ 769) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
تلبُّسِهم بالشركِ استشكالٌ واقعٌ موقعَه، وسؤالٌ حالٌّ من محلِّهِ، وجوابُه قد ظهر مما سبق فإنه يقال مثلاً أن أهلَ الجاهليةِ كان إيمانهم المجامِعَ للشرك هو مجردُ الإقرار بأن الله الخالقَ الرازقَ، وهو لا ينافي ما هم عليه من الشركِ، وكذلك يقال إن أهل الإسلام كان يشرك من وقع منهم في شيء من الشركِ الخفي الأصغرِ غيرُ منافٍ لوجود الإيمان منهم، لأن الشرك الأصغر لا يخرجُ به فاعله عن مسمَّى الإيمان. ولهذا كانت كفارتُهُ أن يتعوَّذ بالله من أن يشركَ به، وأن يقول في الطيرة:«اللهم لا طَيْرَ إلا طيرُك، ولا إله غيرك» فقد صح بهذا أنه اجتمع الإيمان الحقيقيُّ والشركُ الخفيُّ في بعض المؤمنينَ، واجتمع الإيمان بالمعنى الأعمِّ، والشركُ الحقيقيُّ في أهل الجاهليةِ، وكذا يقال في أهل الكتاب أنه اجتمعَ فيهم الإيمان بما أنزلَ الله على أنبيائهم، والإشراكُ بجعْلِ المخلوقينَ أبناءً لله عز وجل وهكذا في بقيةِ الوجوه.
قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ
…
السؤال الثاني: عن حديثِ: «إنما الأعمالُ بالنيات» هل هو من المتواترِ كما ادَّعاه بعضٌ، أو من الغريب المشهورِ كما قال به آخرون، أو من الغير المشهورِ كما قال به جمعٌ، وهل هو في درجةِ الصحةِ أو درجةِ الضعف؟ أفيدونا ما هو الصحيحُ لديكم فإنا في حاجة إليه.
أقول: هذا الحديثُ ثابتٌ في صحيح البخاري (1) ومسلم، (2) والسننِ الأربعِ، (3) وقد رواه سائر الأئمة المشهورين (4) إلا الإمام مالكٍ فلم يَرْوِهِ في الموطَّأ، (5)، ووهم من زعمَ أنه في الموطأ، (6) ولكنه أخرجه النسائي (7) من طريق مالك. وقد جزم الترمذيُّ والنسائي، والبزَّار، وابن السكن وغيرهم (8) بأنه لم يروهِ عن النبي ـ صلي الله عليه وآله وسلم [5]ـ إلا عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه ولا رواه عن عمرَ إلا علقمةُ بن وقاص الليثي، ولا رواه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولا رواه عن محمد بن إبراهيم إلا يحيى بنُ سعدُ الأنصاري، ثم اشتهر عن يحيى، ورواه الجمعُ الجمُّ، وتلقَّاه الناس بالقَبولِ، فهو في
(1) في صحيح رقم (1).
(2)
في صحيحه رقم (1907).
(3)
أبو داود رقم (2201)، والترمذي رقم (1647)، والنسائي (1/ 58)، وابن ماجه رقم (4227).
(4)
أخرجه أحمد في (المسند)(1/ 25، 43)، والدارقطني في (السنن)(1/ 50 رقم 1)، والبيهقي في (السنن الكبرى)(1/ 41).
(5)
بل أخرجه مالك في (الموطأ)(ص341 رقم 983) برواية محمد بن الحسن الشيباني.
(6)
في حاشية المخطوط ما نصه:
قلت: قد رواه مالك في (الموطأ) رواية محمد بن الحسن الشيباني كما ذكره السيوطي متعينًا لهذا القول المتقول عن الحافظ ابن حجر وقد رأيته كذلك في موطأ محمد وعلى هذه النسخة شرح على القاري في هذا الموطأ زيادة ونقص وتقديم وتأخير.
(7)
في (السنن)(1/ 58).
(8)
ذكره الحافظ في (التلخيص)(1/ 91 ـ 92).
اصطلاح أهل علم الحديثِ غريبٌ نسبيٌّ لكونه قد تفرَّد به بعضِ رجالِ السندِ عن بعض، ولكنه لا تنافي بين الغريب والصحيحِ، سواء كان الغريبُ مطلقًا وهو ما رواه الفردُ عن الفردين أول الإسنادِ إلى آخره، أو كان الغريبُ نسبيًّا وهو ما تفرَّد به بعضُ رجال السند دون بعض.
وقد قال الخطابي (1) أنه لا يعرفُ إلا بهذا الإسنادِ بلا خلافٍ بين أهلِ الحديثِ. قال ابن حجر (2): وهو كما قال لكن بقيدينِ:
أحدهما: الصحة، لأنه ورد من طرق معلولةٍ ذكرها الدارقطنيُّ، وأبو القاسم بن منده، وغيرهما
…
ثانيهما: السياقُ لأنه ورد في معناه عِدَّةُ أحاديثَ صحَّتْ في مطلقِ النيةِ كحديثِ عائشةّ، (3) وأمِّ سلمةَ عند مسلمٍ:«يبعثون على نيَّاتِهم» (4) وحديثِ ابن عباس: «ولكنْ جهادٌ ونيَّةٌ» ، (5) وحديث أبي موسى:«من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» (6) متفق عليهما ..
وحديثِ ابن مسعود: «رب قتيلٍ بين الصفينِ الله أعلم بنيَّتِه» أخرجه أحمد، (7) وحديثِ عبادةَ:«من غزى وهو لا ينوي إلا عقالاً فله ما نوى» أخرجه النسائي. (8)
(1) ذكره الحافظ في (الفتح)(1/ 11).
(2)
في (فتح الباري)(1/ 11).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2118)، ومسلم رقم (2884).
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1864) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(5)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3077)، ومسلم رقم (85/ 1353).
(6)
أخرجه البخاري رقم 02810)، ومسلم رقم (149/ 1904).
(7)
في (المسند)(1/ 397) بإسناد ضعيف.
(8)
في (السنن)(6/ 24).
وأخرجه ابن حبان في صحيحه رقم (4619). وهو حديث حسن.
إلى غير ذلك مما يتعسَّر حصْرُهُ. وعرف بهذا غلطُ من زعم أن حديثَ عمر متواترٌ إلا أن حُمِلَ على التواتُر المعنوي فيحتمل
…
نعم قد تواتر عن يحيى بن سعيد، فقد حكى الحافظ (1) النقاش أنه رواه عن يحيى بن سعيد مئتان وخمسون نفسًا، وسرد أسماؤهم القاسمُ بن منده فجاوزَ عددُهم ثلاثمائةٍ. وروي عن الحافظ الهروي أنه قال: كتبته من حديث سبعمائة من أصحاب يحيى.
إذا عرفتَ هذا علمتَ منه جوابَ سؤال السائل ـ عافاه الله ـ فهذا [6] من قسم الغريبِ الصحيح المشهورِ المتلقَّى بالقبول، لا كما قال أبو جعفر الطبريُّ أن هذا الحديثَ قد يكون على طريقة بعضِ الناسِ مردودًا لكونه فردًا
…
انتهى. (2)
فإن هذا إنما هو إشارةٌ منه إلى قول من يقول أنه يعتبرُ في عدد الرواية ما يعتبر في عدد الشهادةِ، فلا يُقبل إلا ما رواه اثنان فصاعدًا عن اثنين فصاعدًا، وليس هذا بمعتبرٍ عن أحد من أئمة الحديثِ المعتبرينَ، وإنما قال به بعضُ أهل الأصول، وهو قول مدفوعٌ.
وأما ما رواه جماعةٌ عن البخاري أن شرطَهُ أن يروي الحديثَ عن رسول الله صلي الله عليه وسلم صحابيانِ ويروي عن الصحابيين أربعةٌ، وعن الأربعةِ ثمانيةٌ، فهذا نقلٌ، وروايةٌ مدفوعةٌ، فإن هذا الحديثَ الذي سأل عنه السائل ـ عافاه الله ـ هو أولُ حديث في البخاري. (3) وقد تفرد به واحدٌ من الصحابة عن رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ وتفرَّد به عن الصحابي الواحدِ واحدٌ من التابعينَ، وتفرد به عن التابعيِّ واحدٌ كما عرفت.
(1) ذكره الحافظ في (الفتح)(1/ 11 ـ 12).
(2)
كلام الحافظ في (الفتح)(1/ 11 ـ 12).
(3)
في صحيحه (1/ 9 رقم 1) وأطرافه (54، 2529، 3898، 5070، 6689، 6953).
قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ
…
السؤال الثالث: ما يقول القاضي في رجل قال لزوجته: (إن وطِئْتُكِ فأنت طالق) هل تطلُق لمجرد الإيلاجِ، أو بعد الإخراجِ، أو قبلَ الوْطئ؟ وإن قلتُم أنه لمجرد الإيلاجِ هل يحدُّ في إخراجه أو لا يحدُّ؟ أفتونا مأجورينَ.
أقول: تعليقُ الطلاق بالوطئ صحيحٌ عند الجمهور، (1) وخالف في ذلك البعضُ ثم اختلف القائلون بالصحةِ بماذا يقعُ الطلاقُ؟ فقيلَ يقعُ بالتقاء الختانين بناءً على أن ذلك قد صار حقيقةً عرفيةً (2) للوطئ، وقيل بكمال الإيلاج، فإذا وقع الالتقاءُ للختانينِ عند الأولينِ وقعَ الطلاق، فيكف عن الإيلاج، فإن فعل [7] كان الإيلاج رجعةً في الطلاق الرجعيِّ، وأما في البائن فقيل يجب الحدُّ
…
ولا وجه لذلك، فإن الزِّنا هو إيلاج فرجٍ، وتتمةُ الإيلاج ليست بإيلاج، بل جزءُ إيلاج. هذا عند أهل القولِ الأولِ.
وأما عند أهل القولِ الثاني وهو المعتبرون للإيلاج، فقيل: يجوزُ له النزعُ، ولا يكون آثمًا ولا زانيًا لأنه لا يمكنه الخروجُ من الحرام إلا بذلك. وقيل: يجبُ عليه الحدُّ وهو فاسدٌ لأن الزنا إيلاج فرجٍ في فرجٍ، والنَّزعُ ليس بإيلاج، والمسألة مبسوطةٌ في علم الفروع، والكلام فيها مقررٌ في مواطنه.
وعندي أنه إذا علَّق الطلاقَ بالوطئ جازَ له أن يطأها حتى يُنزلَ، لأنه يصدقُ على ذلك أنه وَطئٌ لغةً وشرعًا، وهو معروف في لغة العرب، وفي لسان الشرع، إلا أن يريدَ وطئًا يوجِبُ الغسلَ فقد ثبتَ عن الشارعِ أنه إذا لاقى الختانُ الختانَ فقد وجب الغسلُ (3)
(1) انظر (المغني)(10/ 482).
(2)
تقدم تعريفها.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (88/ 349) من حديث عائشة رضي الله عنها. ?
قال ابن قدامة في (المغني)(10/ 482): وإذا قال لامرأته: إن وطئتك فأنت طالق. انصرفت يمينه إلى جماعها.
وقال محمد بن الحسن: يمينه على الوطء بالقدم. لأنه الحقيقة. وحكى عنه أنّه لو قال: أردت به الجماع. لم يقبل في الحكم.
ولنا: أنَّ الوطء إذا أضيف إلى المرأة كان في العرف عبارةً عن الجماع.
ولهذا يفهم منه الجماع في لفظ الشارع في مثل قول النبي صلي الله عليه وسلم: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة» ـ تقدم تخريجه ـ فيجب حمله عند الإطلاق عليه، كسائر الأسماء العرفيّة، ولا يحنث حتى تغيب الحشفة في الفرج وإن حلف ليجامعها أو لا يجامعها انصرف إلى الوطء في الفرج ولم يحنث بالجماع دون الفرج، وإن أنزل، لأنَّ مبنى الأيمان على العُرف والعرف ما قلناه .... ).
فيقتصر على ذلك، فإن فعل كان آثمًا.
وأما أنه يجبُ عليه الحدُّ فلا، وإن طال العملُ والنَّزع والإيلاج حتى ينزلَ، لأن الحدُود تُدْرَأُ بالشبهاتِ كما صحَّ عن الشارع. وجوازُ أولِ الفعلِ شبهةٌ توجبُ سقوطَ الحدِّ في التمام. هذا على فرض أن الطلاقَ ليس برجعيِّ، وإلا كان التمامُ رجعةً. [8].
قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ
…
السؤال الرابع: هل الصحيحُ عند القاضي جوازُ القرآنِ بالسنةِ أو المنعُ؟ (1) فإذا قلتُم بالجواز يشكُلُ قولُه سبحانه وتعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ
الآية} فإن السنة ليست بمثلِ القرآنِ ولا خيرًا منه، وإن كانت وحيًا لنسبتِها إلى الرسول، ونسبةُ القرآنِ إلى الله وإذا قلتم بالمنع أشكلَ أيضًا آيةُ: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ
…
الآية} (2) اللهمَّ إلا أن يقالَ: إن هذا من باب تخصيصِ الكتابِ بالسنة، وإلَاّ أشكلَ إبقاؤُها مع قوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ:«لا وصية لوارثٍ» (3) أفتونا بالتحقيق الذي هو إثباتُ المسألةِ بدلائلها؛ فإن الحاجة ماسَّةٌ إلى ذلك.
أقول: قد ذهب جمهورُ أهلِ الأصولِ إلى جوازِ نسخِ القرآنِ بالسنةِ المتواترةِ، (4) وخالف في ذلك الشافعيُّ، (5) وتابعه على ذلك طائفةٌ، (6) وبه قال أئمة الزيديةِ.
(1) النسخ لغةً: الإبطال والإزالة ومنه نسخت الشمسُ الظلَّ والريح آثار القوم ومنه تناسخ القرون. ويطلق ويراد به النقل والتمويل ومنه نسخت الكتاب أي نقلته ومنه قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29].
انظر: (مقاييس اللغة)(5/ 424)(14/ 121).
النسخ في الاصطلاح: هو رفع حكم شرعي بمثله مع تراخيه عنه.
(اللمع)(ص30)، و (البحر المحيط)(4/ 65).
(2)
[البقرة: 180].
(3)
أخرجه أحمد (4/ 186، 187)، وابن ماجه رقم (2712)، والنسائي (6/ 247)، والترمذي رقم (2121)، وقال: حديث حسن صحيح. من حديث عمرو بن خارجة.
وهو حديث صحيح بشواهده.
(4)
انظر (إرشاد الفحول)(ص629 ـ 630) و (البحر المحيط)(4/ 110).
(5)
انظر الرسالة (ص106).
(6)
قال الشوكاني في (إرشاد الفحول)(ص630): وذهب الشافعي في عامة كتبه كما قال ابن السَّمعاني إلى أنَّه لا يجوز نسخ القرآن بالسنة بحال وإن كانت متواترةٌ وبه جزم الصيرفيُّ والخفاف ونقله عبد الوهاب عن أكثر الشافعية. وقال أبو منصور: أجمع أصحاب الشافعي على المنع وهذا يخالف ما حكاه ابن فورك عنهم فإنه حكى عن أكثرهم القول بالجواز: ثم اختلف المانعون فمنهم من منعه عقلاً وشرعًا، ومنهم من منعه شرعًا لا عقلاً واستدل على ذلك بقوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106]. قالوا: ولا تكون السنة خيرًا من القرآن ولا مثله قالوا: ولم نجد في القرآن آية منسوخة بالسنة. وقد استنكر جماعة من العلماء ما ذهب إليه الشافعي من المنع حتى قال إلكيا الهراسي هفوات الكبار على أقدارهم، ومن عد خطؤه عظم قدره. انظر:(البحر المحيط)(4/ 112). قال أبو منصور البغدادي مطلق السنة بل أراد السنة المنقولة آحادًا واكتفى بهذا الإطلاق لأن الغالب في السنة الآحاد. وقال الزركشي في (البحر المحيط)(4/ 115): والصواب أن مقصود الشافعي أن الكتاب والسنة لا يوجدان مختلفين إلا ومع أحدهما مثله ناسخ له. وهذا تعظيم عظيم وأدب مع الكتاب والسنة ومهم لموقع أحدهما من الآخر وكل من تكلم في هذه المسألة لم يقع على مراد الشافعي بل فهموا خلاف مراده حتى غلطوه وأولوه.
واختلف المانعون، فمنهم من منعه عقلاً، كالحارث المحاسبي، وعبد الله بن سعيد القلاسي، وهو رواية عن أحمد بن حنبل، ومنهم من منعه سمعًا كالشيخ أبي حامد الإسفراييني، واحتج الجمهور بأن التكليف بمتواتر السنة كالتكليف بالآية القرآنية، وبأن ذلك قد وقع في هذه الشريعة المطهرة. واحتج الآخرون بقوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (1) وتقرير الدلالة من وجهين:
أحدهما: أن ما ينسخ به القرآن يجب أن يكون خيرًا أو مثلاً، والسنة ليست كذلك.
ثانيهما: أنه قال (نأت) والضمير لله ـ سبحانه ـ فيجب أن لا ينسخ إلا بما يأتي به الله، وهو القرآن.
وأجاب الأولون عن ذلك بأن المراد بقوله [سبحانه]: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}
(1)[البقرة: 106].
أي بحكم خير منها أو مثلِها في حق المكلَّفِ باعتبارِ الثوابِ، وهذا صحيحٌ، ولا يخالُفه الضميرُ في قوله:{نَأْتِ} فإن القرآنَ والسنةَ جميعًا من عند الله ـ سبحانه [9]ـ قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} (1) والكلامُ في المسألةِ طويلٌ، وهو مدوّن في الأصول بما لا يتَّسع المقام لبسطِه، الحقُّ عندي الجوازُ. (2) وأما نسخُ الكتاب بما صحَّ من آحادِ السنةِ فقد منعه الجمهورُ، لأن الآحاد لا تفيد القطعَ، والكتابُ مقطوعٌ به. وذهب جماعةٌ من متأخرين الحنفيةِ إلى جواز نسخ القرآنِ بالخبرِ المشهورِ، وقال في جمع الجوامع (3): إن نسخَ القرآنِ بالآحاد جائز غيرُ واقع
…
وقال أبو بكر الباقلَاّني، (4) والغزالي، (5) وأبو عبد الله البصري (6) أنّه جائزٌ في عصره ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ لا بعدّه
…
ووافَقهم الإمامُ يحيى من أئمة الزيدية. وذهب جمعٌ من الظاهرية إلى جواز ووقوعِه
…
وأقول: إنَّ النزاعَ إن كان في قطعية المتنِ فلا شك أن القرآن كذلك وما صح من آحاد السنة ليس بقطعي وإن كان النزاعُ في الدلالةِ فإن كان القرآنُ المنسوخ عمومًا أو محتملاً فدلالتُه ظنيةٌ كدلالةِ ما صحَّ من الآحادِ، والذي يصلُح أن يكون محلاًّ للنزاع هنا هو الثاني لا الأولُ، على أنه قد وقع نسخُ القطعيَّ بالظنيِّ، فإن استقبالَ بيتِ المقدسِ ثبت ثبوتًا قطعيًّا متواترًا، ثم إن أهلَ قُباءَ استدارُوا إلى الكعبةِ وهم في الصلاة بخبر واحدٍ ولم ينكر عليهم ذلك النبيُّ ـ صلي الله عليه وآله وسلم (7) ـ.
(1)[النجم: 3 ـ 4].
(2)
انظر (إرشاد الفحول)(ص631)، (البحر المحيط)(4/ 115).
(3)
انظر: (البحر المحيط)(4/ 109).
(4)
انظر (المسودة)(ص202).
(5)
في (المستصفي)(2/ 101ـ 104).
(6)
انظر (البحر المحيط)(4/ 109 ـ 110).
(7)
تقدم ذكره. وانظر: (إرشاد الفحول)(633).
وكذلك ثبت نسخُ الوصيةِ للوالدين والأقربين بقوله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ: «لا وصية لوارث» ، (1) وكذلك نُسِخَ قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ
…
} بقول عائشة رضي الله عنها: ما توفي رسولُ الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ حتى أحلَّ الله له أن يتزوجَ من النساء ما شاءَ. ونسخ قولُهُ تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا
…
الآية} (2) بنهيهِ ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ عن أكل كلِّ ذي ناب، (3) والكلام في هذا يطولُ، ومحلُّه مطوَّلاتُ كتب الأصولِ، فإن استيفاءَ الكلام في
(1) تقدم تخريجه.
(2)
[الأنعام: 145].
(3)
أخرجه مسلم رقم (1934)، وأبو داود رقم (3803)، والنسائي (7/ 206) من حديث ابن عباس.
وهو حديث صحيح.
قال ابن الجوزي في (ناسخ القرآن ومنسوخه)(1/ 399 ـ 400)، اختلف العلماء في حكم هذه الآية على قولين:
أحدهما: أن المعنى: لا أجد محرمًا مما كنتم تستحلون في الجاهلية إلا هذا قاله طاووس ومجاهد.
ثانيهما: أنها حصرت المحرم، وليس في الحيوانات محرم إلا ما ذكر فيها ثم اختلف أرباب هذا القول.
فذهب بعضهم إلى أنها محكمة، وأن العمل على ما ذكر فيها. فكان ابن عباس لا يرى بلحوم الحمر الأهلية بأسًا. ويقرأ هذه الآية ويقول: ليس شيء حرامًا إلا ما حرمه الله في كتابه وهذا مذهب عائشة والشعبي.
وذهب آخرون إلى أنها نسخت بما ذكر في المائدة، ومن المنخنقة، والموقوذة والمتردية والنطيحة، وما أكل السبع وقد رد قوم هذا القول، بأن قالوا: كل هذا داخل في الميتة. وقد ذكرت الميتة هاهنا فلا وجه للنسخ.
وزعم قوم أنها نسخت بآية المائدة، وبالسنة من تحريم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وهذا ليس بصحيح.
أما آية المائدة فقد ذكرنا أنها داخلة في هذه الآية. وأما ما ورد في السنة فلا يجوز أن يكون ناسخًا لأن مرتبة القرآن لا يقاومها أخبار آحاد. ولو قيل: إن السنة خصت ذلك الإطلاق أو ابتدأت حكمًا كان أصح. انظر: (إرشاد الفحول)(ص632 ـ 633).
هذه المسألة يحتاجُ رسالةً مستقلةً [10].
قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ:
السؤال الخامس: ما يقول القاضي في قول النحاة مثلاً هذا في محلِّ رفع، وهذا في محل نصب، وهذا محلِّ جر، وهذا في محل جزم، وهو شيء أخذه متأخِّروهم عن أولِّيهم، هل تساهلوا في ذلك حيثُ جعلُوا الاسم مثلاً أو الفعلَ بمنزلةِ الحركةِ أو الحرفِ أو الحذفِ، وكان القياسُ أن يقولوا في محلِّ مرفوعٍ، وفي محلٍّ منصوب، وفي محل مجرور، وفي محل مجزوم، أو الاعتراضَ؟ .. وكذلك هل وقع منهم تساهلٌ في قولهم مثلاً في أول الأبوابِ حين يأخذون في حدِّ كل باب:
المبتدأ: هو الاسمُ المجردُ عن العوامل اللفظيةِ المرفوعُ، أو هو الاسم الصريح أو المؤول به المرفوعُ، أو ما ابتدأَ به مرفوعًا. والحالُ وصفٌ فعله منتصبٌ، حيث جعلوا الرفعَ في المبتدأ، أو النصبَ في الحال جزءًا من الماهية، وهو حكم من الأحكام، وهذا عندهم من جملة المردودِ، إذا إدخالُ الأحكام في الحدودِ منتقد وإن جعلوه جزءًا واحدًا لزمَ فيه الدورُ، سواء كان بمرتبةٍ كتوقُّفِ (أ) على (ب) و (ب) على (أ)، أو بمراتبَ كتوقُّفِ (أ) على (ب) و (ب) على (ج) و (ج) على (أ)، أفتنا على ماذا نعتمدُ عليه ونعوِّل عليه؟ ....
أقول: هذا قد اشتمل على سؤالينِ:
وجوابُ الأول: أنه من باب التعبيرِ بالمصدرِ عن اسم المفعولِ، وذلك واقع كثيرًا، ومنه الصورةُ التي ضربها أهلُ النحو مثالاً، وهي قولهم: الدرهمُ أو الدينارُ ضربُ الأمير أي مضروبُهُ، ومن ذلك قول النحاة (1): الكلمةُ لفظ وضعَ مفردٍ كما وقع في كافيةِ (2) ابن الحاجبِ، فإن شُرَّاحِ (3) كلامِه قالوا في الشروح: إن اللفظ هنا بمعنى الملفوظِ، ومن
(1) انظر: (شرح كافية ابن الحاجب)(1/ 21).
(2)
(1/ 21).
(3)
منهم: رضي الدين محمد بن الحسن الأستراباذي.
ذلك قولُ ابن الحاجب بالضمةِ رفعًا، والفتحة نصبًا، والكسرة جرًّا، فإن الرَّضيَّ قال في شرحه: إن هذه المصادرَ بمعنى المفعولِ كقولهم: الفاعلُ رفعٌ أي مرفوعٌ، وهذا يقعُ كثيرًا في كلامهم، ومنه ما سألَ عنه [11] السائل ـ عافاه الله ـ
…
قال الرَّضيُّ (1) عند شرح قول ابن الحاجب: وحكمه أن يختلف آخرهُ لاختلافِ العواملِ لفظًا أو تقديرًا ما لفظُه: فلهذا يقال في نحو هؤلاء أنَّه في محلِّ رفع، أي في موضع الاسمِ المرفوعِ
…
انتهى.
وقد ذكر هذا أهلُ المعاني والبيانِ في مواضعَ، ومثَّلوه بقول الشاعر: فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ
…
أي مقبلةٌ ومدبرةٌ
…
وجواب السؤال الثاني: إن ما يذكره أهلُ العلم في الأبواب هو من باب الرسول لا من باب الحدودِ، كما حقَّق ذلك جماعةٌ من المحققين، لأن الوقوف على الذاتيات التي مدارُ الحدِّية عليها متعسِّرًا أو متعذِّرًا، وإذا كان ذلك رسمًا لا حدَّا فالمراد تمييزهُ عن مشاركاتهِ في الماهيةِ بالوجهِ لا بالكُنْهِ، ولو كان ذلك بخاصةٍ أو بعرضٍ عامٍّ، وبيانه في مثل الصورةِ التي ذكرها السائلُ ـ عافاه الله ـ إنه لما قيل في حد المبتدأ أنَّه الاسم المجردُ عن العوامل اللفظيةِ بقي كثيرٌ من الأسماء المجردةِ عن العوامل داخلاً في هذا، فلما قال المرفوعُ خرجت تلكَ المشارِكاتِ على زعم من حدَّد المبتدأَ بمثل هذا الحدِّ.
وعندي أنها لا تخرجُ جميعُ المشاركاتِ بقوله المرفوعُ، بل يبقي الخبر داخلاً في حدِّ المبتدأ فإنه اسم مجرَّدٌ عن العوامل اللفظية مرفوعٌ، فلا يصح الحدُّ إلا عند من يجعلُ المبتدأ هو العاملُ في الخبرِ كما نقلَه الأندلسيُّ عن سيبويه.
وروي عن أبي علي الفارسي وأبي الفتح ابن جنيّ. (2) وقال الكسائي والفراءُ: هما مترافعانِ. وقال خلف الأحمرُ: إن المبتدأ يرتفع بإسناد الخبر إليه. وقال بعض الكوفيين: المبتدأ مرتفعٌ بالضميرِ العائد إلى الخبرِ. وقال الزمخشريُّ والجزوليُّ: إن الابتداءَ هو العامل
(1) في (شرح الكافية)(1/ 50).
(2)
انظر (اللمع في العربية)(ص72 ـ 73)، (ضياء السالك إلى أوضح المسالك)(1/ 171).
في الخبر. (1)
وإذا تقرر هذا تبيَّن لك أن وقوعَ لفظ المرفوع في حدِّ المبتدأ ليس على ما ينبغي، فالأولى [12] في حدِّ المبتدأ ما قاله ابن الحاجب (2) أنه الاسمُ المجرد عن العوامل اللفظيةِ مسندًا إليه، فإنه بهذا يتميزُ عن الخبرِ، وإن كان الاعتراضُ باقيًا باعتبارِ قول من قال: إن عاملَ المبتدأ لفظيٌّ، لأنه حينئذٍ لا يكون مجرَّدًا عن العوامل اللفظيةِ.
وأما ما قاله السائل ـ عافاه الله ـ من كونهم جعلوا الرفْعَ والنصبَ جزءًا من الماهيةِ، وهو حكمٌ من الأحكام.
فجوابه أن ذلك إنما يراد إذا كان المذكورُ في الباب حدًّا، وأما إذا كان رسمًا كما ذكرناه فلا، فإن الرسْمَ يكون بالخاصَّةِ، وبالعرضِ العامِّ، إذ المرادُ التمييزُ بالوجه لا بالكُنْهِ، ولهذا قالوا: (إن مدارَ الحدَّيةِ على الفصلِ، ومدارَ الرسميةِ على الخاصةِ. وبهذا تعرف جوابَ ما ذكره السائل ـ عافاه الله ـ من لزوم الدورِ
…
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2)
في (شرح كافية ابن الحاجب)(1/ 196).
قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ ....
السؤال السادس: ما الفرقُ بين العكسِِ اللغويِّ والعكس الاصطلاحي؟ وذلك في مثل قولِهم: كل بليغٍ فصيحٍ ولا عكسَ، هل المرادُ به ولا عكسَ لغويٌّ أو اصطلاحيُّ؟
أقول: العكس اللغويُّ هو أن يقال مثلاً: كل بليغٍ فصيحٌ وعكسُه ليسَ كلُّ فصيحٍ بليغٍ. وأما العكسُ الاصطلاحيُّ المعروفُ عند أهل المنطقِ فهو ينقسم إلى قسمين: العكسُ المستوي، وعكسُ النقيضِ، ولكل واحد منهما بحثٌ محرر في علم المنطقِ تحريرًا يتبيَّن به كلُّ صورةٍ من صورهِ، ولا يتعلَّق بإيراد ما ذكروه هنا فائدةٌ، لأنه يغني عن ذلك الرجوعُ إلى مختصرٍ من مختصرات علمِ المنطقِ .. فمثلاً قولُه: كل بليغٍ فصيحٌ ينعكسُ بالعكسِ المستوي عند أهل المنطق إلى موجبةِ جزئيةٍ وهي بعض الفصيحِ بليغٌ، وأما عكس النقيض فهو تبديلُ نقيضِ الطرفينِ فاعرفْ هذا.
قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ ..
السؤال السابع: ما يقولُ القاضي في قولهم مثلاً: هذا كلامٌ ساذَجٌ، وهذه عبارةٌ ساذَجَةٌ؟ ماذا يريدون بالسَّاذج؟ فإنا قد طالعنا الصحاحَ والقاموسَ فلم نجد لهذا الحرفِ أصلاً فيهما، فعلى هذا فهل تكون مولَّدةً أو عربيةً؟
أقول: هذه اللفظةُ ليست من لغةِ العرب، (1)، ولكنه استعملَها كثيرٌ من المشتغلينَ بالفنون الآلية، والعلوم العقليةِ، فتارةً يريدون بالساذج ما لا معنى له، وتارة يريدون به ما لا دلالة له، وتارة يريدون به ما لا فائدةَ فيه وقد بيَّن بعضُ أهل العلم معناهُ فقال: هو مأخوذٌ من قولهم ثوبٌ ساذجٌ أي لا علامةَ فيهِ، وهذا التبيينُ ساقطٌ، فإنه إنما يحتاجُ إلى هذا في الألفاظ اللغويةِ. وأما الألفاظُ العجميةُ والمولَّدةُ فلا ضرورةَ تستدعي ذلكَ، وتقتضيه، وما أحسنَ ما قالَهُ بعضُ علماء اللغةِ في بعض الألفاظِ العجمية: (إنه عجميٌّ فالعبْ به كيفَ شِئتَ
…
).
(1) سذج: حجّةٌ ساذجة وساذَجَةٌ بالفتح: غير بالغة قال ابن سيده: أراها غير عربية. إنما يستعملها أهل الكلام فيما ليس ببرهان قاطع وقد تستعمل في غير الكلام والبرهان وعسى أن يكون أصلها سادَةْ فعُرّبت كما اعتيد مثل هذا في نظيره من الكلام المعرّب.
ذكره ابن منظور في (لسان العرب)(6/ 223).
قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ
…
السؤال الثامن: ما يقول القاضي في أخوين: أحدُهما بالمشرقِ والآخَرُ بالمغربِ، فتوفيَّا في يومِ جمعةٍ حين زالت الشمسُ، فهل يحكُم بتوريثِ أحدِهما من الآخَرِ أم لا؟.
أقول: إن كلامَ أهل العلم في هذه المسألةِ معروفٌ، والذي عندي أنه إذا علم خروجُ روحَيْهما في لحظةٍ واحدةٍ بدون تقدُّمٍ ولا تأخُّرٍ أصلاً فلا توارُثَ بينَهما، بل ميراثُ كلِ واحد منهما لورثتِهِ الأحياء، وإن لم يُعْلَمْ ذلك، بل الْتَبَسَ فالواجبُ أن يكون العملُ فيهما كالعملِ في الغرقاء والهدماء حسبما هو مذكور في علم المواريثِ، فيجب تقدير موتِ كلِّ واحد منهما عن ورثتِه الأحياء والأمواتِ، ثم عن ورثتهِ الأحياء فقط، ثم يفرضُ موتُ كلِّ واحد منهما عن النصيبِ الذي ورثَه من الآخرِ، هذا أرجحُ ما يقالُ في مثل ذلك، وبه يحصل الوفاءُ بما شرعهُ الله ـ سبحانه ـ من التوريثِ والسلامةِ عن الوقوعِ في الوعيد الواردِ في من قطع ميراث وارثٍ. والكلامُ في مثل هذا فقد استوفاه علماءُ الفراضِ في مؤلَّفاتهم. (1)
(1) قال ابن قدامة في (المغني)(9/ 170 ـ 171): وجملةُ ذلك أن المتوارثين إذا ماتا، فجهل أوَّلهما موتًا، فإن أحمد قال: اذهب إلى قول عمر، وعلى وشريح وإبراهيم والشَّعبيِّ: يرث بعضهم من بعض، يعني من تلادِ ماله دون طارفه وهو ما ورثه من حيث معه. وهذا وقل من ذكره الإمام أحمد، وهو قول إياس بن عبد المزنيِّ، وعطاء، والحسن، وحميد الأعرج، وعبد الله بن عتبة وابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، وشريك ويحيى بن آدم وإسحاق، وحكى ذلك عن ابن مسعود.
قال الشعبي: وقع الطاعون بالشام عام عمواس، فجعل أهل البيت يموتون عن آخرهم، فكتب في ذلك إلى عمر رضي الله عنه فكتب عمر: أنْ ورِّثوا بعضهم من بعض.
وروي عن أبي بكر الصديق وزيد، وابن عباس، ومعاذ، والحسين بن علي رضي الله عنهم آنّهم لم يورِّثوا بعضهم من بعض، وجعلوا لكل واحدٍ للأحياء من ورثته. وبه قال عمر بن عبد العزيز، وأبو الزِّناد، والزُّهري، والأوزاعي، ومالك، والشافعي رضي الله عنهم، وأبو حنيفة، وأصحابه، ويروى ذلك عن عمر، والحسن البصري وراشد بن سعد وحكيم بن عمير وعبد الرحمن بن عون. وروي عن أحمد ما يدلُّ عليه. انظر مزيد تفصيل (المغني)(9/ 171). وإذا علم خروج روحهما معًا في حال واحدة، لم يرث أحدهما صاحبه وورث كل واحدٍ الأحياء من ورثته لأنَّ توريثه مشروط بحياته بعده، وقد علم انتفاء ذلك. انظر: المصدر السابق.
قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ
…
السؤال التاسع: ماذا يقول القاضي في قول الصرفيينَ: وأبي يأبي شاذٌ وتقسيمُ الشاذِّ إلى ما هو موافقٌ للاستعمال ومخالفٌ للقياس، كمسجدٍ مقبولٍ، وبفتح الجيم عكسُه [14] مقبولٌ، وما خالفهما معًا مردودٌ، هل هذه القاعدةُ محرَّرةٌ أو هي لم تتضحْ إلى الآن
…
؟
أقول: قد ذكر علماءُ الصرف أن الشاذَّ ينقسم إلى ثلاثة أقسام: شاذٌّ مخالفٌ للقياس وهو مقبولٌ وشاذٌّ مخالفٌ للاستعمالِ وهو أيضًا مقبولٌ، وشاذ مخالف لهما وهو مردودٌ وهذه القاعدةُ محرَّرةٌ مقرَّرةٌ، ولها أمثلةٌ معروفةٌ في علم الصرفِ. وقد ذكرهما علماءُ المعاني استطرادًا، والكلام فيها معروفٍ. وقد نظمها بعضُ أهل العلم بأبياتٍ أولُها:
يشذُّ ما خالفَ القياسَ وإن
…
كان كثيرَ الورودِ في الكَلِمِ
قال السائل ـ كثر الله فوائده ـ
…
السؤال العاشر: هل الكذب على العلماء العاملينَ كالكذبِ عليه ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أم لا؟
أقول: قد ثبتَ عن رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ أنه قال: «إنَّ كذبًا عليَّ ليس ككذبٍ على أحدكم، إنَّه من كذبَ عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» . (1)
فأفاد هذا أن الكذبَ على رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم ـ ليس كالكذب على غيره من غيرِ فرقٍ بين العلماء العاملينَ وغيرِهم، فحاصلُهُ أن الكذبَ من أعظم الذنوبِ وأشدِّها، ومن الكبائرِ العظيمةِ، ولكنه على رسول الله ـ صلي الله عليه وآله وسلم أشدُّ، وعقابه أعظم وفي هذا المقدار كفاية والله وليُّ الهداية .... .
حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1291)، ومسلم رقم (4/ 4) من حديث المغيرة.