الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعد
على ما قاله الشريف من اجتماع الاستعارة
التمثيلية والتبعية في قوله تعالى:
{(أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}
…
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حقَّقته وعلَّقت عليه وخرَّجت أحاديثه
محفوظة بنت علي شرف الدين
أم الحسن
وصف المخطوط:
1 ـ عنوان الرسالة من المخطوط: الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعد على ما قاله الشريف من اجتماع الاستعارة التمثيلية والتبعية في قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} .
2 ـ موضوع الرسالة: لغة عربية.
3 ـ أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه أستعين والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله، ورضي الله عن صحبه الراشدين، وبعد
…
4 ـ آخر الرسالة: فرغ من تحريره مؤلّفه محمد بن علي الشوكاني ـ غفر الله لهما ـ في ليلة الأحد لسبع وعشرين خلتْ من شهر رجب سنة 1221. حامدًا لله، ومصليًا مسلمًا على رسوله وآله.
5 ـ نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 ـ عدد الصفحات: 25 + عنوان الرسالة. 7 ت عدد الأسطر في الصفحة: 25 سطرًا.
8 ـ عدد الكلمات في السطر: 13 ـ 14 كلمة.
9 ـ الرسالة من المجلد الثالث من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
بسم الله الرحمن الرحيم
على صفحة العنوان هذه الأبيات الشعرية في وصف الكتاب:
تسرّت وجوهُ الاستعاراتِ بالبدرِ
…
وذلك شأن البدرِ في هتكِه السِّتر
وأدركَ ثأرَ السعدِ ممن أذَّله
…
فيا لكَ من دركٍ، ويا لك من نَصْرِ
ولا شكَّ أنَّ الحقَّ فيما زبرتُه
…
بكاشفُ الأمراضُ من علل الدهر
وسمَّيْتهُ طوْدًا منيفًا وإنّما
…
مصنِّفه أولى بذلكم الذكر
فيا ليت شعري هل عقودٌ تنضَّدتْ
…
على صحفاتِ التِّبْرِ في لبةِ النحرِ
أم الغادةْ الحَسْنَا أبانتْ أقاحِيَا
…
فأسْفَرَ نورُ الفجرِ من ذاك الثغر
وما الروضةُ الغنَّاءُ غطَّ عبيرُها
…
وفاح عطرها بمختلف الزهر
بأنصعَ نَشْرٍ من سطورٍ تضمنت
…
إقامةَ سوقِ الحقِّ في خافي الأمرِ
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعينُ والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلامُ على سيدنا محمد وآله، ورضي الله عن صحبه الراشدين، وبعدُ:
فإنه لما بلغ بنا الدرسُ في الكشاف (1) مع جماعةٍ من نبلاء الطلبةِ، وأذكياء العلماء العارفين بالفنون إلى كلام الزمخشري، وأهل الحواشي على قوله تعالى:{أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2).
ومن جملةِ ما اشتمل عليه هذا المقامُ المباحثةُ المشهورةُ بين سعد الدين التفتازاني (3)، والسيِّد الشريفِ (4)، وقد اشْتُهِرَ ما وقع بينَهما في ذلك اشتهارَ النهار، حتى قيل: إن موتَ سعد الدين كان بهذا السببِ. (5)
(1)(1/ 159).
(2)
[البقرة: 5].
(3)
تقدمت ترجمته (ص719).
(4)
هو على بن محمد بن علي الجرجاني الحسيني الحنفي، ويُعرف بالسيِّد الشريف أبي الحسن، عالم حكيم مشارك في أنواع العلوم، ولد بجرجان عام 740هـ.
توفي بشيراز سنة 816هـ من تصانيفه:
ـ حاشية على شرح التنقيح للتفتازاني في الأصول.
ـ حاشية على تفسير البيضاوي.
ـ حاشية على المطوّل للتفتازاني.
انظر: ((البدر الطالع)) (1/ 488 ـ 490))، ((معجم المؤلفين)) (2/ 515).
(5)
وذلك أنَّ السعد اتصل بالسلطان تيمورلنك، وجرت بينه وبين الشريف مناظرة في مجلس السلطان في مسألة كون إرادة الانتقام سببًا للغضب أم الغضب سببًا لإرادة الانتقام، فالسعد يقول بالأول، والشريف يقول بالثاني.
قال الكارزوني: والحق مع السيد الشريف، كما جرت بينهما المناظرة المشهورة في قوله تعالى:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} ويقال بأنه حكم للشريف أيضًا، فاغتمَّ السعد ومات كمدًا. (البدر الطالع)(2/ 304).
والذي لاح لي أن الحقَّ في جانب السعدِ، وأن الصوابَ بيده، ولما كان هذا قد خفي على غالب المحصلينَ لكون الشريفَ قد أطالَ ذيلَ المقالِ، وتنوع في مسالك الجدالِ، واستكثر من الدفع والإبطالِ خصوصًا في حاشيتِه على المطوَّل، فإنه حكى هذه المباحثةَ، وأطنبَ إطنابًا لا يحتملُهُ المقامُ، ولا يقتضيه البحثُ. وليس للسعد في هذا البحثِ إلا ما تكلم به في حاشيته على الكشاف من تلك الكلماتِ المختصرةِ، وما نقله عنه خصمهُ في غضون كلامه.
وبعد الجواب الموجز طلبَ مني أولئك الأعلامُ إيضاحَ الكلامِ في هذا المقام، بل منهم من حرر سؤالاً نفيسًا، وبحثًا شريفًا، وهو سيدي العلامة يحيى بن المطهر بن إسماعيلَ (1) ـ كثر الله فوائده ـ.
وها أنا أجلُو عليك ما أفوّض أمرَهُ إليك في الترجيح والتجريح، والإبطال والتصحيح مبتديًا بنقل كلام الزمخشري، وإيضاحِ معناه، ثم كلام السعد في حاشيته على الكشاف، ثم كلامِ الشريفِ في حاشيته على الكشاف أيضًا، ثم كلامِه الطويلِ في حاشيتهِ على المطوَّلِن مبينًا لك ما ينبغي بيانُه، متعقِّبًا ما يستحقُّ التعقيبَ. ولولا الثقةُ مني بإنصاف أولئك الأعلام، وما عرفته من رسوخهم في المعارفِ، وثبوتِ أقدامهم في التحقيق، وما تحققتُه من أنهم ممن ينظر إلى القول لا إلى قائِله لم أتعرَّضْ للدخول بين هذينِ الفحلينِ، ولا سلكتُ هذا المضيقُ بين ذينكِ الجبلينِ.
فأقول: قال العلامة الزمخشري في كشافه (2) ما لفظه: ومعنى الاستعلاء في قوله: {عَلَى هُدًى} مثلٌ لتمكُّنهم من الهدى، واستقرارِهم عليه، وتمسُّكِهم به، شُبِّهَتْ حالُهم بحال منِ اعتلى الشيءَ وركبَه ونحوِه. هو على الحقِّ وعلى الباطل.
(1) تقدمت ترجمته.
(2)
(1/ 159).
وقد صرَّحوا بذلك في قولهم [1]: جعل الغوايةَ مركبًا، وامتطى الجهلَ، واقتعدَ غارِبَ الهوى
…
انتهى.
وكل ناظر يعلم أن المحكومَ عليه في كلامه هذا بكونه مثلاً هو معنى الاستعلاء، وليس في مثل هذا نزاعٌ، ولا هو بموضوع اشتباهٍ، فإنه كلام على معنى الاستعلاء الذي عَنْونَ به كلامَهُ، وعقد البحث عليه. ولا شك ولا شبهةَ أن هذا الاستعلاءَ الذي ذكره هنا وتكلَّم عليه هو متعلَّق معنى الحرف المذكور في الآية الكريمةِ، أعني (على)، وليس فيها ما يفيد هذا المعنى قطُّ غيرُهُ.
فالزمخشريُّ قد حكم على متعلَّق هذا المعنى الحرفي بأنه مَثَلٌ لتمكُّنِهم من الهدى، واستقرارهم عليه، وتمسُّكِهم به. ثم زاد المقامَ إيضاحًا وبيانًا بأن متعلِّق ذلك المعنى الحرفيِّ استعارةٌ تمثيليةٌ، فقال: شُبِّهَتْ حالُهم بحالِ منِ اعتلى الشيء وركبَه، فلم يبقَ شكٌّ حينئذٍ في مرادهِ ومعنى كلامِه، بل وضوحُه غنيٌّ عن البيان، فإنه لم يستغنِ بالحكم على المعنى الحرفي بكونِه مثلاً حتى فسَّر ذلك المثلَ بأنه تشبيهُ الحالةِ بالحالة.
وإذا تقرر لك أن المحكومَ عليه بكونه مثلاً هو متعلَّق ذلك المعنى الحرفي فأنت لا يخفى عليك أن الاستعارةَ في متعلَّق معاني الحروف تبعيةٌ، كما صرَّح به علماء البيانِ تصريحًا يستغني عن البيان. (1).
(1) قال محيي الدرويش في (إعراب القرآن الكريم وبيانه)(1/ 26): (الاستعارة التصريحية التبعيّة في قوله: {عَلَى هُدًى} تشبيهًا لحال المتقين بحال من اعتلى صهوة جواده فحذف المشبه واستعيرت كلمة (على) الدالة على الاستعلاء لبيان أنَّ شيئًا تفوق واستعلى على ما بعدها حقيقة نحو: زيد على السطح، أو حكمًا نحو: عليه دين فالدين للزومه وتحمله كأنّه ركب عليه وتحمله والدقة فيه أن الاستعارة بالحرف ويقال في إجرائها: شبه مطلق ارتباط بين هدى ومهدي بمطلق ارتباط بين مستعلٍ ومستعلى عليه بجامع التمكن في كل منها فسرى التشبيه من الكليات إلى الجزئيات ثم استعيرت (على) وهي من جزئيات المشبه به لجزئي من جزئيات المشبه على طريق الاستعارة التصريحية التبعية ومثل الآية الكريمة قوله:
لسنا وإن أحسابنا كرمت
…
يومًا على الآباء نتكل
وعند هذا تعلمُ مطابقةَ ما شرحه السعدُ في حاشيته لهذا الكلام المشروحِ، فإنه قال ما لفظه: ومعنى الاستعلاء مَثَلٌ أي: تمثيلٌ، وتصويرٌ لتمكُّنِهم من الهدى، يعني أن هذه الاستعارةَ تبعيةٌ تمثيلاً. أما التبعيةُ فَلِجَرَيانِها أولاً في متعلَّق معنى الحرف، وتبعيُتها في الحرفِ. وأما التمثيلُ فلكون كلٍّ من طرفي التشبيهِ حالةً منتزعةً من عدةِ أمورٍ، لأنه شُبِّهَتْ حالُهم في الاتصاف بالهدى على سبيل التمكُّن والاستقرارِ بحال من اعتلى الشيءَ وركبَه، فتكون الصفة بمنزلة المركوب
…
انتهى. (1)
(1) قال الشريف في حاشيته على (الكشاف)(1/ 110): اعلم أنَّ قوله: {عَلَى هُدًى} يحتمل وجوهًا ثلاثة:
الأول: ما مرَّ من تشبيه تمسُّكهم بالهدى باستعلاء الراكب.
الثاني: أنَّ تشبيه هيئة مُنتزعة من المتَّقي والهدى وتمسُّكه به بالهيئة المنتزعة من الراكب والمركوب واعتلائه عليه فيكون هناك استعارة تمثيلية مُركَّب كل من طرفيها، لكنه لم يُصرح من الألفاظ التي هي بإزاء المُشبَّه به إلَاّ بكلمة (على)، فإنَّ مدلولها هو العمدة في تلك الهيئة، وما عداه تبعٌ له يُلاحظُ معه في ضمن ألفاظ منوية، وإن لم تكن مقدَّرة في نظم الكلام، فليس حينئذٍ في (على) استعارةً أصلاً، بل هي على ما لها قبل الاستعارة، كما إذا صرَّّح بتلك الألفاظ كلها.
الثالث: أن يُشبَّه الهدى بالمركوب على طريقة الاستعارة بالكناية، وتُجعل (على) قرينة لها على عكس الأول كما اختاره الإمام السكَّاكي، وحينئذ فمن اعتبر في طرفي التشبيه تلك الهيئة الوحدانية وحكم بأنَّ الاستعارة تبعية، فقد اشتبه عليه الوجه الأول بالثاني، وقد تمادي في ذلك مَنْ ادَّعى تكرُّرَه في الكشاف وهو بريء منه، وتوهَّم أنَّ عبارة المفتاح في تقرير الاستعارة التبعية في (لعلَّ) بيِّنةٌ في اجتماع التبعية والتمثيلية فيما ادَّعاه، وليس فيها إلا أنه شبَّه حال المكلَّف بحالة المُرتجى، والحال أعمُّ من المفرد والمُركَّب، كما لا يخفى.
فإن قلت: إذا جُوِّز في التمثيل أن يكون طرفاه مفردين مع تركُّب وجهه؛ أمكن أن يُجامع الاستعارة التبعية في الحروف والأفعال.
قلتُ: نعم، لكن الحق اسْتلزم التمثيل تركُّبُ طرفيه، فإن المتبادَرَ من قولهم: التمثيل؛ ما وجهه مُتنوعٌ من عدَّة أمور في كل من الطرفين، وإنْ أمكن أن يراد انتزاعه من أمور هى أجزاؤه كما في الهيئة المنتزعة التي تجعل مشبَّهة أو مشبَّهًا به، لا يُقال: تركُّب طرفيه واجبٌ بحسب المعنى، وأما بحسب اللقظ قلا، إذْ ربما يُطلق لفظ واحد على قصة، كقوله تعالى:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة:17]؛ لأنَّا نقول: المراد بكون المعنى مُفرَدًا: أن يُلاحظ ملاحظةٍ واحدة في ظمن لفظ واحد، سواء لم يكن له أجزاء متعدِّدة لُحظت دفعة إجمالاً، ويكون المعنى مركَّبًا: أن يلتفت إلى أشياء عدَّة؛ كل على حدة، ثم يُضمُّ بعضها إلى بعض، وتصير هيئة وحدانية، وكل معنى ذي أجزاء عُبِّر عنه بلفظ واحد لم تكن تفاصيلها ملحوظةٍ ولم تعد مركَّبًا، وأما التشبية بالمثل فلا يُعني شيئًا، فإن الحالة المختصَّة المشَّبهة إنما تُفهم من ألفاظ مقدَّرة، أي مثلهم بما ذكر من إظهار الإيمان وإبطان الكفر وما يترتَّب عليه من الخداع المستتبع للمنافع، كما أن الحالة المشبَّه بها تثقهم من جميع الألفاظ المذكورة ههنا.
قوله ـ أي الزمخشري ـ: (نحوه: هو على الحق) تجري فيه الوجوه الثلاثة؛ أي السابقة.
قوله ـ أي الزمخشري ـ: (وقد صرَّحوا بذلك
…
) لما ذكر أن كلمة (على) مستعارة للتمسُّك بالهدى؛ لوم من ذلك تشبيه الهدى ونظائره بالركوب، وربما تبادَر إلى بعض الأذهان استبعاده، فأزاله بأن هذا التشبيه فيما ذكرناه ضمني غير مقصود من الكلام، وقد صرَّحوا به في مواضع أُخَر؛ وجعلوه مقصودًا منه.
أما في صورة التشبيه كما في قولهم: جعل الغواية مركبًا، فإنه في قوة قولك: الغواية مركب؛ أي كالمركب. وأما في صورة الاستعارة كما في قولهم: اقتعد غارب الهوى، فقد شبه الهوى بالمطيَّة على طريقة الاستعارة المكنية. اهـ.
فهذا الكلام هو موافقٌ لكلام الزمخشري، مطابق للمشروح، لا يخالفُه بوجهه من الوجوه، وليس للسعد فيه زيادةٌ على ما يفيده كلامُ صاحب الكشاف إلا مجرَّدُ الإيضاح ولم يأتِ السعدُ مما يستحقُّ المؤاخذةَ عليه.
وقد تقدمه إلى مثل هذا العلويُّ (1) في حاشيته على الكشافِ فقال ما لفظه: مَثَلٌ لتمكنهم، أي هو .......................................
(1) هو السَّيد يحيى بن القاسم بن عمر بن علي العلوي الحسني اليماني الصنعاني عز الدين ولد سنة 680 هـ قرأ على مشايخ اليمن ثم ارتحل إلى بغداد والشام وخراسان وقرأ على علماء هذه الديار، أكثر الاشتغال بالكشاف. وصنَّف حاشيته المشهورة بحاشية العلي، وهو الذي يشير إليه المتأخرون بالفاضل اليمني وهو من شافعية أهل اليمن. من كتبه:(تحفة الأشراف في كشف غوامض الكشاف).
انظر: (البدر الطالع)(2/ 340) ، (الأعلام للزركلي)(8/ 163).
استعارةٌ (1) .................................................................................................
(1) الاستعارة استعمال العبارة في غير ما وضعت له في أصل اللغة على وجه النقل للإبانة.
وقيل: الاستعارة مجاز لغوي علاقته المشابهة.
وقيل: الاستعارة أن تذكر أحد طرفي التشبيه وتريد به الطرف الآخر، مدعيًا دخول المشبه في جنس المشبه به دالاً على ذلك بإثباتك ما يخص المشبه به.
وقيل: الاستعارة نقل المعنى من لفظ إلى لفظ المشاركة بينهما بسبب ما. وهذا الحد فاسد، لأن التشبيه يشارك الاستعارة فيه.
وقيل: الاستعارة تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على جهة النقل للإبانة.
وقيل الاستعارة تشبيه حذف أحد طرفيه.
وتنقسم الاستعارة من حيث ذكر أحد طرفيها إلى قسمين:
(أ) الاستعارة التصريحية: بمعنى اللفظ المستعار إن كانت مذكورة في نظم الكلام لفظًا أو تقديرًا فهي استعارة مصرّحة. أي مصرح بها. ويقال لها استعارة مصرّح بها على الأصل. واستعارة تصريحية نحو (أسد) في قولك: عندي أسدٌ يرمي. ونحو (أسد) المدلول على الجملة الواقعة فيها بنعم، الواقعة في جواب من قال: أعندك أسدٌ يرمي؟
فالأولى استعارة مصرّحة مذكورة لفظًا. والثانية مصرحة مقدرة إذ تقدير الكلام (عندي أسد يرمي) بقرينة السؤال.
وإذا لم يكن اللفظ المستعار مذكورًا سميت الاستعارة (استعارة مكنية).
(ب) استعارة مكنية:
وتنقسم الاستعارة باعتبار لفظها قسمين:
1) الاستعارة الأصلية.
2) الاستعارة التبعية.
وتنقسم الاستعارة باعتبار ملائمها إلى:
1) الاستعارة المطلقة.
2) الاستعارة المجرَّدة.
3) الاستعارة المرشحة.
وتنقسم بحسب طرفيها:
أ) الاستعارة الوفاقية.
ب) الاستعارة العنادية.
انظر مزيل تفصيل: (معجم البلاغة العربية)(ص467 ـ 470).
تمثيليةٌ (1) واقعةُ التبعيةِ، (2) يدلُّ عليهِ قِوامُ حالِهم.
(1) الاستعارة التمثيلية: مجاز مركبٌ علاقته المشابهة كقول الرمّاح بن ميّادة، وقد أراد أن يعبِّر أنّه كان مقدَّمًا عند صاحبه، ويتمنى ألَاّ يؤخره وكان مقرَّبًا فلا يبعده. ومجتبًى فلا يجتبنه فعبر عن تلك المعاني بقوله:
ألم تكَ في يُمنى يديك جعلتني
…
فلا جعلتني بعدها في شمالكا
ولو أنني أذنبتُ ما كنت هالكًا
…
على خصلةٍ من صالحات خصالكا
ومنها قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} .
ومتى اشتهرت الاستعارة التمثيلية وكثر استعمالها سارت مثلاً والأمثال لا تغير فلا يلتفت فيها إلى مضاربها إفرادًا وتثنية وجمعًا وتذكيرًا وتأنيثًا، بل يشبه المثل بموارده، فينقل لفظه كما هو بلا تصرف.
فتقول لرجال ضيعوا الفرصة على أنفسهم ثم جاءوا يطلبونها (الصيف ضيّعت اللبن) بتاء مكسورة. لأنه في الأصل خطاب لامرأة.
(معجم البلاغة العربية)(ص110).
(2)
تنقسم الاستعارة بحسب لفظها إلى استعارة أصلية، واستعارة تبعية، الاستعارة (التبعية) هي التي لا يكون المستعار فيها اسم جنس غير مشتق فيكون فعلاً أو اسمًا مشتقًا أو حرفًا.
وسميت هذه الاستعارة (تبعية) لأنها تابعة لاستعارة أخرى في المصدر، لأن الاستعارة تعتمد التشبيه والتشبيه يعتمد كون المشبه موصوفًا، والأفعال والصفات المشتقة منها بمعزل عن أن توصف.
والمحتمل للاستعارة في الأفعال والصفات المشتقة منها هي مصادرها، وفي الحروف متعلقات معانيها، فتقع الاستعارة هناك، ثم يسري فيها. *
ومتعلقات معاني الحروف ما يعبّر عنها عند تفسيرها. مثل قولنا: إن معنى (من) ابتداء الغاية. ومعنى (إلى) انتهاء الغاية.
فاستعارة الفعل نحو قول الله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} فالمعنى على الحقيقة: بل نورد الحق على الباطل فيذهبه فقد شبه الإيراد بالقذف، واستعير لفظ المشبه به للمشبه، ثم اشتق من القذف بمعنى الإيراد (قذف) بمعنى (أورد) على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.
واستعار الدفع للمحو بجامع الإذهاب في كل.
واستعارة المشتق نحو: حكم على قاتلك بالسجن، من القتل بمعنى الضرب الشديد.
واستعارة الحرف نحو قوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} فقد شبه مطلق الارتباط بين المستعلي والمستعلى عليه بمطلق الارتباط بين الظرف والمظروف بجامع التمكن أو مطلق الارتباط في كل. فسرى التشبيه من الكليين إلى الجزئيات، واستعير لفظ (في) من جزئيات المشبه به لجزيء من جزئيات المشبه على سبيل الاستعارة التبعية.
(معجم البلاغة العربية)(ص110 ـ 111)(المطوَّل)(ص380).
وتقريره أن يقال: شُبَّهَتْ حالُهم وهي تمكُّنهم من الهدى، واستقرارُهم عليه، وتمسُّكهم به بحال منِ اعتلى الشيءَ ورَكبَهُ، ثم اسْتُعيرَ للحالةِ التي هي المشبَّه بها [2] كلمةُ الاستعلاء المستعملةُ في المشبه به، وتدلك على أن الاستعارةَ التبعيةَ تمثيليةُ الاستقراء، وبه يُشعِرُ قولُ صاحب المفتاح رحمه الله في استعارة (لعلَّ) فشبَّه حالَ المكلَّف
…
إلى قوله: بحالِ المرتجي إلى آخِره انتهى. (1)
فهذا تصريحٌ بما صرح به السعدُ مع زيادةِ الاستدلالِ على أن الاستعارةَ التبعية تمثيليةٌ بالاستقراء
…
ويقولُ إمام الفنِّ السكاكي (2) صاحبُ المفتاحِ: وإذا عرفت هذا فاسمعْ ما نمليهِ عليك من كلام الشريفِ في حاشيته على الكشافِ، ثم من كلامه في حاشيته على المطوَّلِ، وسنكتُبُهُ هاهنا بحروفه ونتعقَّبه بما هو معروضٌ على معارفِ العارفينَ، مجلُوٌّ على أذهانِ الأذكياء من المتدربينَ، فقال في حاشيته على الكشاف ما لفظه: قوله: ومعنى الاستعلاء ـ يريد أن كلمة (على) هذه استعارةٌ تبعيةٌ ـ شبَّه تمسُّكَ المتقينَ بالهدى باستعلاء الراكبِ على مركوبِه في التمكُّن والاستقرارِ، فاسْتُعيرَ له الحرفُ الموضوعُ
(1) انظر (المطوّل)(ص376).
(2)
هو: يوسف بن أبي بكر بن محمد بن علي السكّاكي الخوارزمي الحنفي أبو يعقوب سراج الدين، ولد عام سنة 555هـ توفي سنة 626هـ عالم بالعربية والأدب. من كتبه:(مفتاح العلوم) في النحو والبيان والمعاني البديع
…
(الأعلام) للزركلي (8/ 222).
للاستعلاء كما شبَّه استعلاءَ المصلوبِ على الجذعِ باستقرار المظروفِ في الظرفِ بجامع الثباتِ، فاستُعيرَ له الحرفُ الموضوعُ للظرفية في قوله تعالى:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} . وإنما قال: ومعنى الاستعلاء دون معنى (على)، لان الاستعارة في الحروف تقع أولاً: في متعلَّق معناه كالاستعلاء والظرفيةِ والابتداء مثلاً، ثم تسري إليها بتبعيته.
وقوله (مَثَلٌ) تصويرٌ: إذِ المقصودُ في الاستعارةِ تصويرُ المشبه بصورة المشبَّهِ به إبرازًا لوجه الشَّبَهِ في جانب المشَّبهِ به في صورته، في جانب المشبه به مبالغةً في شأنه، كأنه هو، فإنك إذا قلت: رأيتُ أسدًا يرمي، فقد صورتَه في شجاعتِه بصورةِ الأسدِ وجُرْأَتِه، وإنما قدَّم تصويرَ التمكن والاستقرارِ ـ أعني: وجْهَ التشبيهِ ـ على تصوير التمسُّك ـ أي المشبَّه ـ لأنه المقصودُ الأصليُّ بالقياس إليه.
أقول: هكذا قال في حاشيته مفسِّرًا لكلام الزمخشري، شارحًا لمعناه. وحاصله: أن الاستعارة تبعيةٌ فقطْ، وهو وإن كان صحيحًا باعتبار معنى الحرف لكنه أهملَ بيانَ معنى قول الزمخشري: مَثَلٌ لتمكُّنهم من الهدى وأهمل أيضًا بيانَ معنى قوله: شُبِّهَتْ حالُهم بحالِ منِ اعتلَى الشيءَ وركبَه، وادَّعى أن معنى قوله مَثَلٌ هو مجرَّدُ التصويرِ، وهذه دعوى غيرُ مطابقةٍ لمصطلحِ أهل فنِّ البيان، فإنهم يستعملونَ هذا اللفظَ في الاستعارةِ التمثيليةِ كما تشهدُ به نصوصُهم في غير موضعٍ، لا سيما ما يقع من ذلك للزمخشري في الكشاف، هذا على فرض أن الزمخشريَّ لم يحققْ هذا المعنى ويوضِّحهُ، ويصرحْ به، فكيف وقد [3] قال عقبه: شُبِّهَتْ حالُهم بال منِ اعتلى الشيء وركبه! فإنه لا يبقى بعد هذا شكٌّ أن مقصودَه بيانُ الاستعارة التمثيليةِ التي حكم على معنى الاستعلاء بها حيثُ قال: ومعنى الاستعلاء في قوله: {عَلَى هُدًى} مَثَلٌ لتمكُّنهم .. إلخ ومع كون هذا هو مصطلح أهل الفنِّ هو أيضًا مستفادٌ من دليل الاستقرارِ، ومن كلام السكاكي كما قاله العلوي في كلامه المتقدم، فلم يكن هاهنا موجبٌ لتحريفِ الكلامِ، وحَمْلِهِ على خلاف معناهُ، وإخراجه عن مدلوله اللغوي والاصطلاحي.
قال: وزعم بعضُ الناس أن الاستعارةَ ها هنا تبعيةٌ تمثيليةٌ: قال: أما كونها تبعيةً فلِجَرَيانها أولاً في متعلَّق معنى الحروفِ، وتبعيتُها في الحرف، وأما كونها تمثيليةً فلكون كل من طرفي التشبيهِ حالةً منتزعةً من عدَّة أمور.
واعترض عليه بأن انتزاعَ كلَّ طرفي التشبيه من أمور عدَّة يستلزم تركُّبَه من معان متعددةٍ. ولا شكَّ لأن متعلَّق معنى الحرفِ هو الاستعلاءُ، وإنه من المعاني المفردة كالضرب وأمثالِه، فلا يكون مُشَبَّهًا به في ذلك التشبيهِ سواءٌ كان جزءًا منه أو لا، فكيفَ يسري التشبيهُ والاستعارةُ منه إلى معنى الحرف! ومحصِّلة: أن معنى كون (على) استعارةً تبعيةً يستلزم كونَ معنى الاستعلاء مشبَّهًا به، وإنَّ ترُّكبَ الطرفين يستلزمُ أن لا يكون مشبهًا به، فلا يجتمعان. فإذا جُعلت (على) تبعيةً لم تكن تمثيليةً مركَّبة الطرفين، بل كانت استعارة ً في المفرد كما بيناه.
أقول: حاصل هذا الكلام دعوى أن الاستعلاءَ الذي هو معنى الحرف من المعاني المفردةِ، ثم دعوى أن ذلك يمنعُ من أن يكون مشبَّهًا به في التشبيه الذي يركَّبُ طرفاه، وذلك ممنوع، وبيان معنى هذا المنع هو أنا نطالبُك بالدليل على كون معنى الاستعلاء الذي هو معنى الحرف مفردًا، فإن العقل والحِسَّ واللغةَ والاصطلاحَ ليس فيها شيء يستفادُ منه ما ذكرت.
أما العقلُ: فإنه لا يمتنعُ عنده أن يكون معنى لفظ من الألفاظ المفردة متعددًا، وليس هذا مما يختلف العقلاءُ في صحته حتى يبرهنَ عليه، والقائم مقامَ المنع يكفيهِ هذا القيامُ في ذلك المقام.
وأما الحِسُّ: فكلُّ ذي حِسٍّ لا ينكر أن للاستعلاء الحاصلِ من مجموعِ راكب ومركوب وركوب [4] هيئةً منتزعةً من أمور متعددة.
وأما اللغةُ: فأيُّ قائل قد قال منهم أن اللفظَ إذا كان مفردًا كان معناه غير متعدد، فإن الألفاظ المفردة التي لها معانٍ متعددةٌ موجودةٌ في كل باب من أبوابها وجودًا كثيرًا، فإن كان يعترفُ بهذا في معاني سائرِ الألفاظِ المفردة ويدَّعيه في معنى هذا اللفظ ـ أعني لفظَ الاستعلاء ـ فنحن نطالبُه بالنقل عن أهل اللغة، وما أظنه يجد إليه سبيلاً.
وأما الاصطلاح: فلم يصطلحْ على مل ذكره من التلازم أحدٌ من أهل الفنون العلميةِ فضلاً عن علماء البيان، وكيف يخفى مثل هذا! وكتبُ البيانِ مصرِّحةٌ في حد الاستعارةِ التمثيليةِ بأنها اللفظُ المستعملُ فيما شُبِّه بمعناه الأصلي، (1) كما وقع في تلخيص المفتاح (2) فإن هذا تصريحٌ بتوحيد اللفظ وتوحيد معناهُ، ولو كانت الاستعارة التمثيليةُ تتوقَّف على تَعْدادِ اللفظ أو معناه لكان هذا الحدُّ مختلاً.
قال: فأجاب بأنَّ انتزاعَ كلٍّ من طرفي التشبيهِ من عدةِ أمور لا يوجِبُ تركُّبَهُ في نفسِه، بل يقتضي تعدُّدًا في مأْخّذِه.
وردَّ عليه بأن المشبَّه مثلاً إذا كان منتزعًا من أشياء متعددةٍ، فإما أن يُنْتزَعَ بتمامه من كل واحد منها، وذلك باطلٌ، لأنه إذا أخذ بتمامه من واحد منها كان أخْذُهُ مرَّةً ثانيةٍ من شيء آخرَ لغوًا، بل تحصيلاً للحاصل.
وإما أن يُنتزعَ من كل واحد منها بعضٌ منه، فيكون مركبًا بالضرورة، وأما أن لا يكون هناك لا هذا ولا ذاك، وهو أيضًا باطلٌ، إذ لا انتزاعَ حينئذ للمشبَّه منها أصلاً، فتعيَّن القِسْمُ الثاني ولزم المطلوب.
(1) تقدم ذكره.
(2)
(التلخيص) هو للقزويني. اختصر فيه كتاب مفتاح العلوم للسكاكي.
يقول السعد في شرحه على (التلخيص): إنّا لا نسلم أن التمثيل يستلزم التركيب، بل هو استعارة مبنية على التشبيه التمثيلي قد يكون طرفاه مفردَيْن كما في قوله تعالى:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} .
(المطوَّل)(ص390ـ 391).
أقول: اعلم أن جوابَ السعد المذكورَ في غايةِ الوضوحِ والظهورِ، وما أورده عليه فجوابُه أنا نختار القِسْمَ الثاني الذي قال أنه متعيّنٌ، ونقول له: ما تريد بقولك: (فيكون مركَّبًا بالضرورة؟). هل اللفظُ أو المعنى أو شيءٌ آخَرُ؟ إن أردتَ اللفظَ فممنوعٌ.
وإن أردت المعنى فنحن نقول بموجبه (1)، ولا يضرنا ولا ينفعُك. فما معنى هذه المراوغَة! وإن أردت شيئًا آخر فما هو حتى نجيبَ عليه؟
قال: فكيف لا وقد صرح هذا الزاعم في تفسير قوله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} بأنه لا معنى لتشبيه المركبِ بالمركبِ إلا أن تنتزعَ كيفيتهُ من أمور متعددةٍ فتُشَبَّه بكيفيةٍ أخرى مثلِها، تقعُ في كل واحد من الطرفين أمورٌ متعددة
…
أقول: نعم صرَّح بهذا، فكانَ ماذا؟ فإنه ليس في كلامِه هناك ما خالف كلامَه هنا، وليس تصريحُه هنالك بأنه تقع في كل واحد من الطرفين أمورٌ متعددة يستلزمُ أن يكون التعدُّدُ في اللفظ حتى يقال: لفظ الاستعلاء مفردٌ، بل المرادُ أن يكون [5] المعنى في كل واحد من الطرفين متعدَّدًا، سواءٌ كان الدالُّ عليه لفظٌ مفردٌ أو متعدِّدٌ
…
قال: وأيضًا قد اتَّفقوا على أن وجه التشبيهِ في التمثيل يجبُ أن يكون مركَّبًا، وما ذاك إلا لكونه منتزعًا من متعدد، وأمثال ذلك مما لا يلتبس على ذي فطنة ناقدةٍ، وفكرة صائبةٍ
…
أقول: وكون مثلِ هذا الكلامِ لا ينفعهُ ولا يضرُّ السعدَ لا يلتبسُ على ذي فطنة ناقدةٍ وفكرة صائبة، فإن اتفاقهم على كونه وجْهَ الشبه في التمثيل يجبُ أن يكون مركبًا مسلَّم، وكذلك انتزاعُهُ من متعدد، ولا تعلُّق لمثل هذا الكلامِ بالمقام، فإن الانتزاعَ إنما هو من المأخذ لا من الدالِّ عليه الواقعُ في الكلام المشتملِ على الاستعارة التمثيلية.
قال: فكأنّى بك قد تطلعت نوازعَ من قلبِك إلى ما يشفي غليلَ صدرك من تحقيق
(1) في حاشية المخطوط: لكنه يبطل به قول السعد أن انتزاع طرفي التشبيه من عدة أمور لا يوجب تركبه في نفسه.
المقام الذي زلَّتْ في الأقدامُ.
فتقول ـ وبالله التوفيق ـ قوله: {عَلَى هُدًى} تحتملُ وجوهًا ثلاثةً:
الأول: أن يُشَبَّهَ التمسُّكُ بالهدى باستعلاء الراكبِ كما سلف.
الثاني: أن تُشَبَّهَ هيئةٌ منتزعةٌ من المتقي، والهدى، وتمسكه به بالهيئةِ المنتزعةِ من الراكب والمركوب، واعتلائه عليه، فتكون هناك استعارة تمثيليةٌ ترَكَّبَ كلُّ واحد من طرفيها، إلا أنك لم تصرِّحْ من اللفظ الذي هو بإزاء المشبَّه به إلا بكلمة (على)، فإن مدلولَها هو العمدةُ في تلك الهيئةِ، وما عداه تَبَعٌ له يلاحظُ معه في ضمن ألفاظ متعددةٍ، وليس حينئذ (على) استعارةً أصلاً، بل هي على حالها قبل الاستعارةِ، كما إذا صرح بتلك الألفاظ كلِّها.
الثالث: أنه يشبه الهدى بالمركوبِ على طريقةِ الاستعارةِ بالكنايةِ، وتُجْعَلُ (على) قرينةً لها على عكس الأولِ كما اختاره الإمامُ السَّكاكيُّ، وحينئذ فمن اعتبر في طرفي التشبيه بعد الهيئةِ الوحدانية، وحكَمَ بأن الاستعارة تبعيةٌ فقد اشتبه عليه الوجهِ الأول بالثاني، وقد يماري في ذلك منِ ادَّعى تكرُّرَهُ في الكشاف، وهو بريء منه. وتوهَّم أن عبارة المفتاحِ في تقرير الاستعارة التبعيةِ في (لعل) بيّنةٌ في ما ادَّعاه، وليس فيها إلا تشبيهُ حال المكلَّفِ بحال المرتجي، والحال أعمُّ من المفرد والمركب كما لا تخفى.
أقول: هذا التحقيق الحقيقُ بالقبول لم يشتملْ على شيء من البرهان المقتضي لامتناع اجتماعِ الاستعارةِ التبعيةِ والتمثيليةِ، وذلك هو محلُّ النزاع، ولكنه قد اشتمل على تكرير الدعاوى المجرَّدةِ، وهو قد اعترف بأن المقامَ صالحٌ للاستعارة التبعيةِ، وللاستعارة التمثيليةِ. وادَّعى امتناعَ اجتماعِهما، واستدل على ذلك بأن معنى الحرف مفردٌ. وهي دعوى قد عرفت بطلانِها، ثم إنه ادَّعى هاهنا دعوة هي أبعدُ مما سلف فقال: إنه لم يصرِّحْ من اللفظ الذي هو بإزاء المشبَّه به [6](1) إلَاّ بكلمة (على)، وإن ثَمَّ ألفاظًا أُخَرَ
(1) في حاشية المخطوط: ولكنه لا يخفى عليك أن القول بتركب المعنى فيما نحن فيه لا يستلزم إبطال قول السعد أن ذلك الجواز تركبه بغير ذلك لأن الكلام هنا عن التشبيه نفسه لا عن طرفيه. تمت.
معتبرةً معها ملاحظَةً في ضمن ألفاظٍ متعددة، فوقع في مضيقٍ أضيقَ من المضيقِ الأول ـ أعني دعوى أن معنى الاستعلاء مفردٌ ـ وجاء بكلام يخالفُ ما عند أهل الفن مع ما فيه من التكلُّف الذي يمجُّه كلُّ طبعٍ سليمٍ، وينفِرُ عنه كلُّ فهم قويمٍ، ثم اعتمد في دفع ما استدَّل به خصمُه من تكرُّر ذلك في الكشافِِ، وفي كلام السكاكيَّ على مجرَّد الدعوى كقوله: ليس فيها إلا تشبيهُ حالِ المكلَّف بحال المرتجي.
ثم جاء: بمغالطة بينةٍ فقال: والحالُ أعمُّ من المفرد والمركب كما لا يخفى.
فيقال له: هذه الحالُ التي زعمت أنها أعمُّ هل هي الحال المذكورةُ في عبارة السكاكي هنا أم في غيرها؟ فإن قال بالأول فقد سلَّم أن هذه الحالَ تكون مركبةً كما تكون مفردةً، ولم يبرهنْ على أنها مفردةٌ فقطْ، فكان كلامه مصحِّحًا لما ادَّعاه خصْمُه، وليس المراد إلا وجودَ المصححِ، فإنه إذا كان ما قاله خصمُه صحيحًا بوجهٍ من الوجوه، وعلى اعتبار من الاعتبارات، لم يبقَ مسوِّغ للاعتراض عليه، ومثلُ هذا لا يخفى على مثل هذا الإمامِ.
ولكن ما عرض في المقام بينَه وبين ذلك الإمام من الخصامِ قد تسبَّب عنه مثلُ هذا، ولا سيما إذا صحَّ ما يقال من أن هذه المباحثةَ بينهما كانت بمقامِ السلطان تيمورلنك. وإن قال بالثاني فهو مع كونه خلافَ مدلول هذه الكلمةِ لغةً واصطلاحًا لا ينفعهُ ولا يضرُّ خصمَه
…
قال: فإن قلت: إذا جُوِّز في التمثيل أن يكون طرفاهُ مفردَيْن مع تركُّبِ وجهه أمكنَ أن تجامعَ الاستعارةُ التبعيةُ في الحروف والأفعال.
قلت: نعم لكنَّ الحقَّ استلزامُ التمثيلِ تركُّبَ طرفيهِ، فإن المتبادَرَ من قولهم: التمثيلُ ما وجههُ منتزعٌ من عدة أمورٍ انتزاعُ وجهِهِ من عدة أمور في كل من الطرفينِ، وإن أمكن أن يُرادَ انتزاعُهُ من أمور هي أجزاؤه كما في الهيئة المنتزعةِ التي تجعلُ مشبَّهَةُ أو
مشبهًا بها.
أقول: تدبَّر هذا المقامَ تظفرْ بالمرامِ، فإنه أورد على نفسِه أنه يجوزُ أن يكون طرفًا التمثيل مفردينِ، وأن هذا التجويزَ يجامع الاستعارةَ التبعيةَ في الحروف والأفعالِ، ثم قال في الجواب (قلتُ نعم) وهذا تسليمٌ منه يرفعُ النزاعَ، ويدفع الاعتراضَ، وينادي بأبلغِ صوتٍ، وينطق بأفصحِ لسانٍ أن كلام خَصْمِه حقٌّ، وأن اعتراضَه باطلٌ، ثم نكصَ بعد هذا التسليمِ فقال بعد قوله نعم: لكنَّ الحقّ استلزامُ التمثيل تركُّبَ طرفيه. فيقال له: هذا الاستلزام إن كان متعينًا لا يجوزُ غيرُه، فما معنى قولك نعم [7]! وإن كان غيرَ متعيَّنٍ لم يبق لاعتراضك موضعٌ، وصح كلام خصمِك باعترافِك، فليس المرادُ إلا وجودَ المصحح. ثم نقول: ما تريد بتركُّبِ الطرفينِ؟ هل تركُّبُ اللفظينِ أم تركُّبُ المعنى المستفادِ منهما؟ إن قلتَ: بالأول فذلك شيءٌ خارج عن الفن لا يقول به أحدق من أهله وإن قلتَ بالثاني كما هو صريح كلامِك سابقًا فقد تقدم ما فيه.
قال: لا يقال تركُّبُ طرفيهِ واجبُ بحسبِ المعنى، وأما بحسب اللفظ فلا، إذ ربما يُطلقُ لفظٌ واحد على قصةٍ كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي
…
} لأنا نقول: المرادُ بكون المعنى مفردًا أن يُلاحَظَ ملاحظةً واحدةً في ضمنِ لفظ واحدٍ، سواء لم تكن له أجزاءٌ أو كانت أجزاءً متعددةً لوحِظَتْ دُفعةً إجمالاً، ويكون المعنى مركَّبًا أن يلتفتَ إلى أشياءَ عدَّةٍ عنه كلٌّ على حِدّةٍ ثم تُضَّمُّ بعضُها إلى بعض وتصيرُ هيئةًً وحدانيةً، فكل معنى ذي أجزاء عُبِّرَ عنه بلفظ واحدٍ لم تكن تفاصيلُها ملحوظةً، ولم يعد مركبًا، وأما التشبيهُ بالمثلِ فلا يغني عنك شيئًا؛ فإن الحالةَ المختصَّةَ المشبَّهةَ إنما تُفُهَمُ من ألفاظٍ مقدَّرةٍ، أي مثَّلهم بما ذكر من إظهارِ الإيمانِ وإبطانِ الكفر، وما يترتب عليه من الخداعِ المستتبعِ للمنافعِ، كما أن الحالةَ المشبَّهةَ بها تفهم من جميعِ الألفاظِ المذكورةِ هاهنا.
أقول: قد أسفر بهذا الكلام الصبحُ لذي عينينِ، فإن هذا المحقَّق قد عقد بحثَه على أن معنى (على) مفردٌ، ثم لما تبيَّن له أن ذلك لا يغني من الحقِّ شيئًا أوردَ على نفسِه هذا
السؤالَ، وحاصلُه: إن التركُّبَ بحسب المعنى واجبٌ، وأما بحسب اللفظ فلا، وهو لم يتقدَّم له إلا الكلامُ على أن معنى الاستعلاء مفردٌ، وأن ذلكَ هو المانعُ، وعليه مصبُّ الاعتراضِ، لكنه تبيَّن له أن ذلك لا ينفعُه ولا يضرُّ خصمُه، فعاد إلى اعتبار تركُّبِ اللفظ ثم حقَّق معنى كون اللفظِ مفردًا ومركَّبًا بما لم يقعْ في كلامِ غيرِه من أهل العلم، فاعتبر في المفردِ أن يُلاحظَ ملاحظةً واحدةً في ضمن لفظ واحدٍ، وفي المركب أن يلتفتَ إلى أشياءَ متعددةٍ، فيقال له: على تسليم هذا الكلام الجاري على غير قوانين الأعلام، فهل ثمَّ مانعٌ في المقام الذي نحن فيه من أن يلتفت من الاستعلاءِ إلى أشياء متعددة، وهي الراكبُ [8] والمركوبُ والركوبُ، وإن قلتَ نعم فأيُّ جدوى بهذا الكلام؟ وإن قلت: لا فأخبرنا عن المانع من ذلك؟
ثم انظر كيف أورد على نفسه قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} . وكان ورودُ هذا عليه أوضحَ من الشمسِ، فإن أفرادَ الطرفينِ معلومٌ لكل أحدٍ فأجاب عنه بمراوغة لا تغني من الحقِّ شيئًا. وقال: إن الحالة المختصَّة المشبهةَ إنما تفهم من ألفاظٍ مقدرةٍ
…
إلخ.
فيقال له: فكان الاعتذارُ للسَّعدِ بمثل هذا العُذرِ، وتوجيهُ كلامِه بمثل هذا التوجيهِ يكفيك مَؤُنَةَ الاعتراضِ عليه، ويدفع عنه ما ناله بسببك من تلك القلاقلِ والزلازلِ.
فإن قلتَ: إن هذا الفهمَ من الألفاظ المقدَّرة تختصُّ ببعض الألفاظ المفردةِ، وهو لفظ المثل مثلاً دون لفظِ الاستعلاء، فما الدليل على هذا؟ هذا على فرض صحةِ هذه الدعوى، وصلاحيةِ مثلِ هذه المراوغةِ، وإن كانت من البُطلانِ بمكان لا يخفى، ومن الفساد بمحلٍّ بيِّن.
وهاهنا انتهى الكلام على كلام الشريفِ في حاشية الكشاف. وسنشرعُ الآن بمعونةِ الله في الكلام على كلامِه في هذا البحثِ في حاشيته على المطولِ، (1) وهو إن كان قد
(1)(ص391 ـ 398).
اشتمل كلامُهُ السابقُ على خلاصتِه فربَّما ينفق ما ذكره من التطويلِ، وكرَّره من التهويل على بعض الأذهانِ، فسنكتبه هاهنا ـ إن شاء الله ـ، ونستغني في دفع ما قد تقدم دفْعُهُ بالإشارة إلى ما قد تقدم.
فقال رحمه الله بعد كلامه على قول صاحب المطوَّل: اعلم أن القومَ عرفوا التشبيهَ التمثيليَّ بما وجهُه منتزعٌ من متعدِّدٍ ما لفظُهُ: ثم إنَّ هاهنا قصةً غريبة في الاستعارة التمثيليةِ، فلنقصَّها عليكَ أحسنً القصَصِ، لتزدادَ إيمانًا بما ذكرنا، وينكشفَ لك بها مآربُ أخرى في مواضعَ شتَّى ..
قال صاحب الكشاف: ومعنى الاستعلاء في قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى} مثلٌ لتمكُّنهم [9] من الهدى، واستقرارِهم عليه، وتمسُّكِهم به، فشُبِّهَتْ حالُهم بحال منِ اعتلى الشيءَ ورَكِبَهُ
…
وقال هذا الشارح ـ يعنى السعد ـ في حواشيه عليه: قولُه ومعنى الاستعلاء مثلٌ أي تمثيلٌ وتصويرٌ لتمكُّنهم من الهدى، يعني أن هذه استعارةٌ تبعيةٌ تمثيلاً، أما التبعية فلجريانها أولاً في متعلَّق الحرفِ، وتبعيتُها في الحرفِ.
وأما التمثيلُ فلكون كلٍّ من طرفي التشبيهِ حالُه منتزعةٌ من عدةِ أمورٍ، وهذه عبارتُه ..
ثم قال: وأقول: لا يخفى عليك أن متعلَّق معنى الحرفِ هاهنا أعني كلمةَ (على) هو الاستعلاء، كما أن متعلَّق معنى (من) هو الابتداءُ، ومتعلَّق معنى (إلى) هو الانتهاءُ، ومتعلَّق معنى (كي) هو الفرضيةُ على ما صرَّح به في المفتاحِ.
وقد مرت إشارةٌ إليه، ولا يلتبسُ أيضًا أن الاستعلاءَ من المعاني المفردة كالضربِ والقتلِ، ونظائرِهما، وكذلك معنى كلمة (على) مفردٌ، إذ لا يعني به في اصطلاح القومِ إلا ما دلَّ عليه بلفظ مفردٍ، وإن كان ذلك المعنى مركبًا في نفسِه بدليل أن تشبيهَ الإنسان بالأسدِ تشبيهُ مفردٍ بمفرد اتِّفاقًا، وإن كان كلٌّ منهما ذا أجزاء كثيرةٍ.
وقد تقدم في مباحثِ وجهِ التشبيهِ تصريحهُ بذلك، ونبَّهناك عليهِ، ولما صرَّح بأنَّ كل واحد في طرفي التشبيهِ هاهنا حالةٌ منتزعةٌ من عدَّةِ أمور لزمه أن يكونَ كلُّ واحد منهما
مركَّبًا، وحينئذ لا يكون معنى الاستعلاء مشبهًا به أصالةً، ولا معنى (على) مشبَّهًا به تبعًا في هذا التشبيهِ المركَّبِ الطرفينِ، لأنهما معنيان مفردانِ، وإذا لم يكن شيءٌ منهما مشبهًا به هاهنا سواءٌ جُعِلَ جزءًا من المشبَّه أو خارجًا عنه لم يكن شيء منهما أيضًا مستعارًا منه، فكيف يسري التشبيهُ والاستعارةُ من أحدِهما إلى الآخر! والحاصلُ أن كونَ كلمةِ (على) استعارةً تبيعةً يستلزمُ أن يكون متعلَّق معناها ـ أعني الاستعلاء ـ مشبهًا به، ومستعارًا منه أصالةً، وأن يكون معناها مشبهًا به ومستعارًا منه تَبَعًا، وأن كون كلِّ واحد من طرفي التشبيه هاهنا مركَّبًا يستلزمُ أن لا يكون معنى (على)، ولا متعلَّقُ معناها مشبَّهًا ولا مستعارًا منه، لا تبعًا ولا أصالةً، ومنافي اللازمينِ ملزومٌ لتنافي الملزومين، فإذا [10] جُعِلَتِ الاستعارةُ في (على) تبعيةً لم تكن تمثيليةً مركَّبةَ الطرفينِ قطعًا
…
أقول: ليس في كلامه هنا زيارةٌ على ما قدمنا من كلامه في حاشيته على الكشافِ إلا مجرَّدَ الأطنابِ، ومزيدَ الإيضاحِ، فلا حاجة لإعادة ما أسلفناه، إلا أنه هاهنا ربطَ دعوى كونِ معنى (على) مفردًا بما ذكره من اصطلاحِ القومِ أنه ما دلَّ عليه بلفظٍ مفردٍ، وإن كان المعنى مركَّبًا في نفسِه فيقال له: لا منافاةَ بين المفردِ بهذا المعنى، وبين المفرد الذي ندَّعي صلاحيتَه للاستعارةِ التمثيليةِ، إذ ليس المرادُ إلا مجرَّدَ انتزاعِ كلِّ من طرفي التشبيهِ من أمورٍ متعدِّدةٍ، وذلك لا يستلزمُ أن يكون الدالُّ على هذا المنتزَعِ مركَّبًا لا عقلاً، ولا لغةً، ولا اصطلاحًا، كما قدمنا تحقيقهَ. فإن الاستعلاء هيئةٌ حاصلةٌ من راكب ومركوب وركوب، وهذا لا يخفى قطُّ، ولا يلتبسُ على منْصفٍ. فاشتغالُه بالكلام على كون الطرفِ مفردًا تارةً معناه، وتارة لفظُه لم يربطْه بدليل قطُّ، ولا بشبهةٍ تنفقُ على بعض المحصلينَ، بل مجرَّدُ تطويلٍ وتهويلٍ. ثم هذه الكليةُ التي ذكرها ممنوعةٌ أعني قوله: إذًا لا يعني به اصطلاحِ القومِ إلا ما دلَّ عليهِ بلفظ مفرد.
قال: ولما أورد عليه هذه النكتةَ منقَّحةً هكذا، واضحةَ المقدِّمات، ومحققةً مبنيةٌ على القواعد البيانيةِ والمشهوراتِ، وأبتْ له عصبيتُه أن يذعِنَ لما استبانَ من الحقِّ جَحَدَها بعدما استيقَنها. فقال في الجواب:
إن انتزاع كلٍّ طرفي التشبيه من أمور متعددةٍ لا يستلزم تركُّبًا في شيء من أطرافِه بل في مأخذهما، وهذا كما ترى ظاهرُ البطلانِ من وجوه:
أحدها: أن المشبَّه بهِ مثلاً إذا انْتُزِعَ من عدَّةِ أمورٍ فلا يصحُّ أن يُنزَعَ بتمامه من كلِّ واحد [11] من تلك العدَّةِ، لأنه إذا انْتُزِعَ بتمامِه من واحد منها فقد حصلَ المقصودُ الذي هو المشبَّه بهِ، فلا معنى لانتزاعِهِ من واحد آخر مرةً أخرى، بل يجب على ذلك التقديرِ أن يكون جزءًا من المشبَّهِ بهِ، مأخوذًا من بعض تلك الأمور، وجزءًا آخَرَ من بعض آخَرَ فيلزمُ تركُّبُهُ قطْعًا.
الثاني: إنهم قد أطبقوا على أن وجه الشَّبهِ في التمثيلِ لا يكون إلا مركبًا وليس هناك ما يوجبُ تركبُه سوى كونه منتزعًا من عدة أمور، فإنهم قد عرفوا التمثيلَ بما وجهه منتزعٌ من متعددٍ، وإن كان انتزاعُ وجهِ الشَّبهِ من أمور متعددةٍ مستلزمًا لتركُّبِه كان انتزاعُ كلِّ طرفي التشبيهِ منهما مستلزمًا لتركُّبِهما، لأن المقتضي للتركيب هو الانتزاعُ من أمورٍ عدَّةٍ، وخصوصًا كونُ المنتزعِ وجهَ شبَهٍ، أو مشبَّهًا به، أو مشبَّهًا ملغاةٌ في ذلك الاقتضاء جزمًا.
الثالث: قد حكم بأن انتزاعَ كلٍّ من الطرفين من أمور عدةٍ يجب تركيبُهما حيث ردَّ على موجبِ أن يكون قولُه تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} من تشبيه المفرد بالمفردِِ، فإن قال هناك: ومنهم من قال: التشبيهُ ليس تشبيهًا مفردًا، ولا مركبًا، وإنما يكون كذلك لو كان تشبيهَ أشياءَ بأشياءَ، وليس كذلك، بل تشبيهُ شيء واحدٍ هو حالُ المنافقين بشيء واحدٍ، وهو حالُ المستوقدِ نارًا، ثم قال في الرد عليه: أقول: لا معنى للتشبيه المركَّب إلا أن تُنزعَ كيفيتُه من أمور متعددةٍ تُشبَّهُ بكيفية أخرى كذلك، فيقع في كل من الطرفين عدةُ أمورٍ، وإنما يكون التشبيهُ فيما هو ظاهر، لكن لا يُلتفتُ إليهِ، بل إلى الهيئة الحاصلةِ من المجموعِ كما في قوله: وكأنَّ أجرامَ دررٍ نُثِرتْ على بساط أزرقَ هذه عبارتُه، وهي مصرَّحةٌ بأن كلَّ واحد من طرفي التشبيه إذا كان حالُه منتزعةٌ من
أشياءَ متعددةٍ كان مركَّبًا، وبأن التشبيه المركَّب لا يكونان إلا منتزعين من أمورٍ عدةٍ، فلا فرْقَ إذنْ في وجوبِ التركيبِ بين أن يقالَ: هذا تشبيهٌ بمركَّب، وبين أن يقال: هذا تشبيهٌ منتزعٌ من عدةِ أمورٍ بمنتزعٍ آخر من أمور أخرى.
وهذا كلامُ حقٍّ لا يحومُ حولّهُ شكٌّ
…
وأما منعه هذا المعنى في هذا الجوابِ فهو بالحقيقةِ مكابرةٌ، وتلبيسٌ خوفًا من شناعةِ الإلزامِ.
أقول: قد قدمنا جوابَ الوجهِ الأولِ باختيارِ أنَّه ليس بمنتزعٍ من كل واحد منها بتمامِه، بل هو مأخوذٌ من كل واحد منها، هذا يستلزمُ تركُّبَهُ قطعًا لا يضرُّ السعدَ، فإنه يقولُ أن كلاً من طرفي التشبيهِ منتزعٌ من أمور متعددةٍ، وأن التركُّبَ كائنٌ في المأخذ لا في نفسِ الطرفِ.
فإن كان الشريفُ يريد أنه هو لفظُ الاستعلاء فلا يقول عاقلٌ أن تركُّبَ معنى الاستعلاء وهو انتزاعه من عدة أمورٍ يستلزم تركب لفظِه لا عقلاً ولا لغةً، ولا اصطلاحًا، وإن كان يريدُ به معنى الاستعلاء كما هو صريحُ كلامِه السابقِ فالسعدُ لا ينكرُ ذلك، فإن هيئةَ الاستعلاء الحاصلة [12] من المركوب والراكب والركوبِ هي متركبةٌ من هذه الحيثيةِ، أي منتزعةٌ من عدةِ أمورٍ، ولا ينكر هذا إلا مكابرٌ.
والجواب عن الوجه الثاني بتسليم ما ذكره من أن تركَّبَ وجه الشَّبهِ يستلزمُ تركُّبَ كلِّ واحد من الطرفينِ، والطرفَ في محل النزاعِ هو معنى الاستعلاء المنتزعِ من تلك الأمور لا لفظُه، كما يفهم من رسم أهل الفنِّ للتشبيه التمثيلي، فإنه قال في التلخيص: هو اللفظ المستفادُ منه.
والزمخشريُّ، وشرَّاح كلامِه إنما تكلموا في معنى الاستعلاء لا في لفظه، فقال الزمخشري: ومعنى الاستعلاء مَثَلٌ، ولم يقلْ: ولفظُ الاستعلاء مثَلٌ، وهكذا السعدُ إنما شرح كلامَ الزمخشري هذا، وهذا الظرفُ متركِّبٌ من تلك الأمورِ. وقد اضطرب كلامُ الشريفِ فتارةً يجعلُ الطرفَ اللفظَ، وتارة يجعلُه معنى اللفظ كما عرفناك سابقًا، والسعد
قد منع عليه استلزامَ انتزاعِ كلٍّ من طرفي التشبيهِ من متعدِّدٍ لتركُّبهما، ولم ينهض الشريفُ بعد هذا المنعِ بدليل تقوم به الحجةُ، بل اشتغلَ تارةً بالكلام على الطرف باعتبارِ لفظ المشبَّه به، وتارة باعتبار معناه، فاضطرب البحثُ، وتلوَّن كما أوضحناه فيما سبق.
وأما ما ذكره في الوجه الثالثِ عن السَّعدِ فليس بينه وبين كلامه هنا منافاةٌ قطُّ، لا بمطابقةٍ، ولا تضمن، ولا التزامٍ، بل ذلك كلامٌ في تحقيق التشبيه المفردِ والمرَّكبِ فتدبَّرْه. فإن قوله: فتقعُ في كلٍّ من الطرفين عدةُ أمور. الذي جعله الشريفُ حجةً له عليه، ليس فيه إلا أنَّه يعتبرُ أن يكون معنى الطرفِ كذلك، وهو يلتزمُه في معنى الاستعلاء الذي هو محلُّ النزاعِ كما صرَّح به في كلامه الذي نقلَه عنه خصمُه، ولا مخالفةَ بينه وبين ما قاله من أن تركُّبَ المأْخَذِ لا يستلزمُ تركُّبَ الطرفِ، فإنه يريدُ به هاهنا اللفظَ الواقعَ طرفًا للتشبيه
…
قال: ولعلك تشتهي الآنَ زيادةَ تحقيقٍ وتوضيحٍ في البيان.
فنقول: قولُه تعالى: {عَلَى هُدًى} يحتملُ وجوهًا ثلاثة:
أحدها: أن تشبيه الهدى بالمرْكبِ الموصلِ إلى المقصد فيثبتُ له بعض لوازمِه، وهو الاعتلاء على طريقةِ الاستعارةِ بالكناية.
وثانيهما: أن يشبَّه تمسُّكُ المتقينَ بالهدى باعتلاء الراكبِ في التمكنِ والاستقرارِ، وحينئذ تكون كلمةٌ (على) استعارةً تبعيةٌ.
الثالث: إن تشبُّهَ هيئة مركبةٍ من المتقي والهدى، وتمسُّكَهُ به ثابتًا مستقرًا عليه. لهيئةِ مركبِه من الراكبِ والمركوبِ، واعتلائِه عليه متمكِّنًا منه. وعلى هذا ينبغي أن يذْكُرَ جميعَ الألفاظِ [13] الدالةِ على الهيئةِ الثانية، ويراد بها الهيئةُ الأولى، فتكون مجموعُ تلك الألفاظ استعارةً تمثيليةً، كلُّ واحد من طرفيها منتزعٌ من أمور متعددة، ولا تكون في شيء من مفرداتِ تلك الألفاظِ تُصَرَّفُ بحسب هذه الاستعارةِ، بل هي على حالها قبل
الاستعمال، فلا تكون هناك حينئذ استعارةٌ تبعيةٌ في كلمة (على)، كما لا استعارةَ تبعيةً في الفعل في قولك:(وتقدَّم رِجْلاً وتأخَّر أخرى) إلا أنَّه اقتصر في الذكر من تلك الألفاظِ على كلمة (على)، لأن الاعتلاءَ هو العمدةُ في تلك الهيئة، إذ بعد ملاحظته تقرُّبِ الذهن إلى ملاحظة الهيئةِ، واعتبارِها، فجعلَ كلمةَ (على)، ولا مساغَ لأنْ يقال اسْتُعيرتْ كلمة (على) وحدَها من الهيئة الثانيةِ للهيئة الأولى، وذلك لأن الهيئة الثانيةَ ليست بمعنى (على)، ولا متعلَّق معناها الذي تسري الاستعارةُ منه إلى الأولى، والهيئة الأولى ليست مفهومةً منها وحدَها، فكيف تستعار هي من الثانية للأولى!
أقول: قد تقدم الكلامُ على هذا، وقد اعترف بأن محلَّ النزاع يضيق لاعتبار الاستعارةِ التمثيليةِ، وذلك مطلوب.
وأما قوله: وعلى هذا ينبغي أن يذكر جميعَ الألفاظِ
…
إلخ فهذ دعوى مجردةٌ، فإن كان عليها دليل من كلام أهل الفن فما هو؟ فإنه لم يكن في كلامهم ما يُشعرُ بتعدد الألفاظ في نص قطُّ، بل نصوصُ أكابرِ الأئمةِ كالزمخشري والسكاكي مصرِّحةٌ بخلاف ذلك كما تقدم بيانه، ومحلُّ النزاع أعني اجتماعَ الاستعارةِ التبعيةِ والتمثيليةِِ قد دل عليه الاستقراءُ كما ذكره الفاضل اليمني، فما بقي حجةٌ. فإنْ كان الشريف يوجب تعدُّدَ اللفظ في كل طرف كما يشعر به كلامُه هنا وفيما تقدَّم، وفيما سيأتي مستدلاً على ذلك بما وقع في كل طرف كما يشعر به كلامُه هنا وفيما تقدَّم، وفيما سيأتي مستدلا على ذلك بما وقع في كلام أهل الفن: إن الاستعارةَ التمثيليةَ تشبيهُ هيئة بهيئةَ، وأن الهيئة لا يتعدَّد عليها ما كان مفردًا من الألفاظ.
فاعلم أن هذا مصادرةٌ ظاهرةٌ، فإن ذلك هو محلُّ النزاع كما تقدم الكلام عليه غيرَ مرَّة، والخصمُ يقول: إن الاعتبار بتعدد المأخذِ كما تقدم، وبقول أن تعدُّدَهُ لا يستلزم تعددَُّ الدالِّ عليه، ويستدل على هذا بنصوص أئمةِ الفنِّ واستعمالاتِهم، وإن كان لا يحتاج إلى الدليل بل يكفيه قيامُه في مقام المنعِ، فإن الذي جاء بدعوى اعتبار التعدُّد فظًا،
وزعم في مثل محلِّ النزاع أن هناك ألفاظًا محذوفةً بعد اعترافه بصلاحيتِه للاستعارة التمثيليةِ هو الذي يتعيَّن عليه الاستدلالُ على ما ادَّعاه، أو يصحِّحُ النقلَ عن أئمة الفنِّ إن كان ذلك نقلاً عنهم، ولم يأت بشيء يصلحُ لذلك مجرَّد إلا الدعاوى.
انظر كيف قال في هذا المقامِ مستدلاً على ما أسلفه من تعدد الألفاظ أنه لا مساغَ لأن يُقال: اسْتُعيرتْ كلمةُ (على) وحدَها من الهيئةِ الثانيةِ للهيئة الأولى، وذلك لأنَّ الهيئةَ الثانيةَ ليست على معنى (على)، ولا متعلَّق بمعناها
…
إلخ
…
وأنت تعلمُ أن هذا هو عينُ محلِّ النزاعِ، فإن الاستعلاء الذي هو معنى (على) بالاتفاق معناهُ متعدِّدٌ كما تقدم تقريره غير مرة، وكلامُ الزمخشري وشُرَّاح كلامِه إنما هو في معنى الاستعلاء كما هو مصرح به، وهذا التعدد في المعنى لا يستلزم أن يكون الدالُّ عليه ألفاظًا متعددةً لا لغة ولا عقلاً، ولا اصطلاحًا.
وبالجملة فمن أنصف علِمَ أنه لم يكن بين يدي السيد المحققِ في هذا البحث إلا مجرَّد تكرير الدعاوى والمصادراتِ.
قال: فإن قلتَ: لما كان معنى الاستعلاء مستلزمًا لفهم المعتلي والمعتلى عليه كانت كلمةُ (على) دالةً على مجموع الهيئةِ، فلا حاجة إلى تقدير ألفاظ أُخَرَ
…
قلتُ: فَهْمُ المعتلي والمعتلى عليه من الاعتلاء، إنما يكون تبعًا لا قصدًا، وذلك لا يكفي في اعتبار الهيئة، بل لا بد أن يكون كل واحد منهما ملحوظًا قصدًا كالاعتلاء لتُعْتَبَر هيئةً مركبةً منهما، وهما من حيث إنَّهما يلاحظَانِ قصدًا مدلولاً لفظين آخرين فلا بدَّ أن يكونا مقدَّرين في الإرادة، وإما تقديرهما في نظم الكلامِ فذلك غير واجب، بل ربما كان تقديرهما موجبًا لتغيُّر نظمهِ.
أقول: لما استشعر بسقوط ما ذكرَه من أنه لا دلالةَ لمعنى (على)، ولا لمتعلَّق معناها ـ على الهيئةِ أوردَ على نفسهِ هذا السؤالَ الذي لا يتلقَّاه المنصفُ بغير التسليم والاعتراف، وتحاشي عن دفْعِه، وردِّه لكونه [15] بمكان من الظهور لا يخفى، فاعترف بفهم الهيئةِ من معنى الاعتلاء، وتخلُّص عند بدعاوى ثلاث:
الأول: أن هذا الفهمَ إنما هو تَبَعًا لا قصدًا.
الثاني: أن المعتبرَ هاهنا هو الفهمُ قصدًا.
الثالثة: أنه لا بد أن يكون كل واحد من المركب مدلولاً للفظٍ غيرِ اللفظِ الذي دلَّ على الآخر، وهذه الدعاوي لم تُرْبَطْ بدليلٍ، ولا شهد بها عقلٌ ولا نقلٌ، فيكفي في دفعها مجرَّدُ المنعِ كما لا يخفي على من له أدنى تمسُّك بعلم المناظرة
…
قال: ونظير ذلك ما صرَّحوا به من أن المشبَّه قد يُطوى ذكرُهُ في التشبيه طيَّا على سنَنِ الاستعارةِ، فلا يكون مقدَّرًا في نظم الكلام، فيلتبس بالاستعارةِ، فيُفَرَّقُ بينهما بوجهين:
أحدهما: أن لفظ المشبَّهِ به في التشبيهِ مستعملٌ في معناه الحقيقي، وفي الاستعارة في معناه المجازي.
الثاني: إن لفظ المشبَّه مقدَّر في الإرادة في صورةِ التشبيه دون الاستعارةِ كقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} (1) فإنه تشبيهٌ، إذ لم يُرِدْ بالبحرين الإسلامَ والكُفْرَ، بل أُريد البحرانِ حقيقةً، كما نشهد به سياق الآيةُ لمن له ذوقٌ سليم، وأريد تشبيهُ الإسلام والكفر بهما كأنه قيل: الإسلام بحر عذبٌ فرات، والكفر بحر مِلْحٌ أجاجٌ. فلفظ المشبَّه هاهنا مقدَّر في الإرادة دون نظم الآيةِ مغيرًا له، الشارح ـ يعني السعدَ ـ معترفًا بذلك
(1)[فاطر: 12]. قال محيي الدين الدرويش في (إعراب القرآن الكريم وبيانه)(8/ 140 ـ 141): مثل الله للمؤمن والكافر بالبحرين ثم فضل البحر الأجاج على الكافر بأنه قد شارك البحر العذب في منافع من السمك واللؤلؤ وجري الفلك بما ينفع الناس والكافر خلو من النفع فهو في طريقة قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} ثم قال: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} ويقال أيضًا إن المؤمن والكافر وإن اشتركا في بعض الصفات كالشجاعة والسخاوة لا يتساويان في الخاصية العظمى لبقاء أحدهما على فطرته الأصلية.
حيث قال في تفسير قول الكشاف: فقد جاء مطويًا ذكْرُهُ على سننِ الاستعارةِ يعني: قد يطوي في التشبيهِ ذكرُ المشبَّه كما يطوي في الاستعارةِ، بحيث لا يكون المذكور ولا يحتاج إلى تقديره في تمام الكلامِ، إلا أنه في التشبيه يكون منويًا مرادًا، وفي الاستعارة منسيًا غيرَ مراد. ومصداق الصرفِ أن اسم المشبَّه به في الاستعارة يكون مستعملاً في معنى المشبَّه مرادًا به ذلك حيث لو أقيم مقام َ اسم المشبَّه استقام الكلامُ، وفي التشبيه يكون مستعملاً في معناه الحقيقيِّ مرادًا به ذلك، ثم قال في قوله تعالي: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ
…
} إلى قوله تعالى: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} (1) دلالةٌ قطعية على أن المراد بالبحرين معناهما الحقيقيِّ فيكون تشبيهًا: أي لا يستوي الإسلام والكفر اللذان هما كالبحرينِ الموصوفينِ. وقد خفِيَ هذا [16] البيانُ على بعض الأذهان فذهبوا إلى أن هذه الآيةَ من قبيل الاستعارةِ، ولا أدري كيف يتصدَّى أمثالُ هؤلاء لشرح مثل هذا الكتابِ
…
انتهى كلامه.
فقد اتضح جوازُ كون اللفظ مرادًا منويًا وإن لم يكن مقدرًا في تركيب الكلام، وإذا تحققتَ ما تلونا عليك عرفتَ أن تمييز الوجهِ الثالثِ ـ أعني أن تكون الاستعارةُ تمثيليةً ـ على الوجه الثاني ـ أعني أن تكون الاستعارةُ تبعيةً ـ مبني على تدقيق النظر في أحوال المعاني المقصودةِ بالألفاظِ المقدرةِ، ورعاية ما تقتضيه قواعدُ علمِ البيانِ، فَمِنْ ثَمَّ زلَّتْ فيه أقدامُ فَضَلَّوا وأضلُّوا.
أقول: هذا الكلام ساقَه للاستدلال به على ما ذكره آخِرًا من جواز كون اللفظِ مرادًا منويًا
…
إلخ
…
ولا أدري كيفَ وقع مثلُ هذه التهافتاتِ لمثل هذا المحقِّقِ! فإن مجرد جواز الحذفِ في بعض المواضعِ لا يصلُحُ دليلاً لما فيه النزاعُ، فإنه يزعم أن الحذفَ فيه متعيَّنٌ لا يجوز غيره كما في الاستعارةِ التمثيليةِ، وخصمُه يخالفه ويمنعُ عليه ما قاله فهل يصلحُ في جواب هذا المنعِ المستفادِ من كلام خصمهِ أن يستدلَّ عليه بأنه قد جاز مثلُ
(1)[فاطر: 12].
ذلك في موطن من المواطنِِ؟ فإن هذا التجويزَ غايةُ ما فيه أن يكون مثلَ ذلك جائزًا في محل النزاعِ لا متعيَّنًا، فيكون هذا الدليل الذي ساقه مقتضيًا بصحةِ ما قاله خصمُه، فاندفعَ الاعتراضُ، وبطل البحثُ من أصله.
هذا على فرض أن الخصمَ يسلِّم صحةَ الحذفِ في المتنازعِ فيه، واحتمالَه لذلك، فكيف إذا كان قائمًا في مقام المنع مسنِدًا له بأن الطرفَ مذكورٌ بتمامه، وأن مأخذه متركبٌ ومعناه متعدِّد!
قال: فإن قلتَ: على أي هذه الوجوه الثلاثة يحملُ كلامَ العلامة؟ قلتُ: على الوجه الثاني، فإنه جعل المشبَّه به اعتلاء الراكبِ، ويُعْلَمُ من ذلك أن المشبَّه هو التمسُّكُ بالهدى، وأن وجهَ الشَّبِه هو التمكن والاستقرارُ.
وأما قوله مَثَلٌ فمعناه تمثيلٌ ـ أي تصويرٌ ـ فإن المقصودَ من الاستعارة تصويرُ المشبَّهِ بصورةِ المشبَّهِ بهِ، بل تصويرُ وصفِ المشبَّهِ بصورة وصفِ المشبَّهِ به.
مثلاً إذا قلتَ [17]: رأيت أسدًا يرمي فقد صوَّرتَ الشجاعَ بصورة الأسدِ، بل صورت شجاعتَه بصورة جراءته، ولما كان المقصدُ الأعلى تصويرَ ما في المشبَّه من وجه الشَّبَهِ قدَّمَ التمكُّنَ والاستقرارَ على التمسُّك الذي هو المشبَّه وإنما قال: ومعنى (على) تنبيهًا على أن استعارةَ اللفظِ تابعةٌ لاستعارة المعنى، ليكون معناها للمبالغة.
أقول: قد تقدم دفعُ هذا بما لا يحتاج إلى تكريره هنا. وقد عرفت مصطلحَ أهلِ الفنِّ إذا أطلقوا لفظَ المثلِ في مثل هذا المقامِ فافهمْ بأنهم لا يريدون به إلا الاستعارةَ التمثيليةَ. ولما كان ذلك مناديًا بصحة ما قاله السعدُ، وفسادِ ما قاله الشريفُ أبلغُ مناداةٍ حاول إخراجَه عن معنى المصطلح عليه تتميمًا لدعواهُ، وترويجًا لاعتراضه، ولا سيما بعد التصريح من قبل صاحب الكشافِ بما لا يبقي عنده شكٌّ في مراده حيث قال: شُبِّهَتْ حالُهم
…
إلخ. إن لفظَ المثل في مثل هذا الموطن محتملاً لما زعمه لكان هذا التصريحُ مانعًا من إرادة ما أراده، ودافعًا لحملِه على ذلك. ثم تأمَّل قولَه: وإنما قال: ومعنى الكشافِ ـ يعني الزمخشري ـ فإن هذا لما كان مصرِّحًا بأن المستعارَ منه هو معنى الاستعلاء لا
لفظُه حاول دفعَه ليتمَّ له ما ذكره آخرًا مع أنه لم يصرِّح في حاشية الكشافِ وحاشيةِ المطوَّل إلا بالاعتراض على أن معنى الكشاف لا يصلُحُ أن يكون طرفًا في للتمثيل حسبما قدمنا حكايةً ذلك عنه، ولكنه غيَّر كلامه، ورجع إلى الكلام على اللفظِ الدال على ذلك المعنى أحيانًا كثيرةً، هذا تكميلاً للاعتراض وتقويمًا لهذه المباحثةِ التي لم يكن بها انتهاءٌ.
قال: فإن قلت: قد تبين لنا مما قررت أن الصوابَ هو أن طرفي التشبيه [18] يتركَّبان معنى ولفظًا، فإن التركيبَ واجبٌ في الاستعارة التمثيليةِ كما صرَّح به في الإيضاح، (1) وشهد به المفتاحُ، وتبين أيضًا أن الاستعارةَ التبعيةَ في كلمة (على) لا تجامِعُ التمثيليةَ أصلاً، فما حال التبعيةِ في سائر الحروف والأفعالِ والأسماء المتصلةِ بها؟ قلت: هي لا تجامعُ التمثيليةَ في شيء منها، وذلك لأن معاني الحروف كلَّها مفرداتُ لكونها مدلولةً لألفاظ مفردةٍ، وكذلك متعلَّقاتُ معانيها من حيث إنها مفهومةٌ من تلك الحروف، ومعاني الأفعال ومصادِرُها، والأسماء المشتقة منها مفرداتٌ أيضًا لما ذكرنا، وليس شيء من هذه المعاني هيئةً مركَّبة، وحالةٌ منتزعةٌ من عدةِ أمورٍ فلا يقع شيء منها مشبَّهًا به أصالةً ولا تَبَعًا في الاستعارةِ التمثيليةِ.
أقول: قد كان في أوائل كلامه يدعي أن الاستعلاء من المعاني المفردة، وأطال الكلام في ذلك، وكرر أنه لا بدَّ أن يكون المعنى مركبًا، ثم عاد بحثُه إلى أن لفظ الاستعلاء ونحوه لا يصلحُ بطرفيّهِ التمثيلِ لكونه مفردًا، ثم إنه هاهنا صرح بأن الصوابَ أن يكون طرفا التشبيهِ التمثيليِّ مركبين معنى ولفظًا، ثم استدلَّ على ذلك بأن التركيبَ واجبٌ في الاستعارة التمثيلية، وزعم أنه صرح بذلك في الإيضاح، وشهد له كلام المفتاح، وهذه مغالطة بيِّنةٌ، فإنه جعل الدليلَ على تركُّبِ لفظِ كلٍّ من الطرفين ومعناهُ هو كون التركيبِ واجبًا في الاستعارةِ التمثيليةِ.
(1)(ص293 ـ 294) للخطيب القزويني.
ولا نزاع في وجوب التركيبِ، إنما النزاعُ في استلزام هذا التركيب لتركيبِ كل من الطرفين لفظًا ومعنى كما سبق تقريرُه غيرَ مرَّة، ثم كمل المغالطةَ بأنه صرَّح بذلك في الإيضاحِ، (1) وشهد بهِ كلامُ المفتاحِ، وليس فيهما إلا كونُ التركيبِ واجبًا في الاستعارةِ التمثيليةِ، لا أنه لا بد أن يكون كلٌّ من طرفيها مركَّبًا لفظًا ومعنى، فإن ذلك هو محلُّ النزاع. وقد عرفت أنه وقع التصريح في المفتاح بخلافِ ما زعَمَهُ كما تقدَّم عن العلويِّ راويًا لذلك عنه في خصوص مسألةِ النزاعِ وهو اجتماعُ الاستعارة التمثيليةِ [19] والتبعيةِ، وكما يُسْتفادُ من الدليل الاستقرائي حسبما تقدم به التصريح.
والحاصل أن الخصم قائم مقام المنعِ مطالبٌ بالدليل فما هو؟ وأين هو؟ وكيف هو؟
قال: فإن قلت: قد نتخيل اجتماعَ التبعيةِ والتمثيليةِ من تقرير السكاكي: الاستعارةُ في (لعلَّ) في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} قلتُ: ذلك تخيل فاسدٌ، وكيف لا وقد صرَّح في صدر كلامه بأن المشبَّه به والمستعارَ منه أصالةً هو معنى الترجِّي، ويعلم من ذلك مع باقي كلامه أن المشبَّه والمستعارَ به أصالة هو الإرادة، ثم يسري التشبيهُ والاستعارة فيهما إلى المعنى الحقيقي لكلمة (لعلَّ)، فيصير مشبَّهًا به ومستعارًا منه تبعًا.
وإلى المعنى المقصود بها في تلك الآية ونظائِرها فيصيرُ مشبًَّهًا ومستعارًا له تبعًا، وكما أن المعنى الحقيقيَّ بهذه الكلمة غيرُ مستقلٍّ بالمفهومية، وإذا أريدَ أن يُفَسِّرَ عُبّر عنه بالترجِّي، (2) كذلك معناها المجازي المرادُ بها هاهنا غيرُ مستقلٍّ في المفهوميةِ. وإذا أريدَ
(1) انظر (الإيضاح في علوم البلاغة)(ص293).
(2)
إذا ورد الترجي في كلام الله تعالى ففيه تأويلات:
1) إن لعلَّ على بابها من الترجِّي والأطماع ولكنه بالنسبة إلى المخاطبين وقد نص على هذا التأويل سيبويه في كتابه والزمخشري في كشافه.
2) إن لعلَّ للتعليل أي اعبدوا ربكم لكي تتقوا. نص عليه قطرب واختاره الطبري في تفسيره.
3) أنها للتعرض للشيء كأنه قيل: افعلوا ذلك متعرضين لأن تتقوا. نص عليه أبو البقاء واختاره المهدويّ في تفسيره.
انظر: (إعراب القرآن الكريم وبيانه)(1/ 54 ـ 55).
أن يُفسَّرَ عُبّر عنه بالإرادة، وكل هذه المعاني ـ أعني الترجِّيَ، والإرادة، والمعنى الأصليَّ، والمعنى المراد ـ مفرداتٌ فلا يكون المشبَّه به ولا المشبَّه في هذا التشبيهِ لا أصالةً ولا تبعًا بمركَّب منتزعٍ من عِدَّة أمورٍ، فلا تكون استعارةُ (لعل) حينئذ تمثيليةً بما مرَّ من حصرِ التمثيليةِ فيما ينتزع كلُّ واحد من طرفيه من أمور متعددةٍ.
نعم لما كان استعارةُ (لعل) من معناها الحقيقيِّ المفسَّرِ بالترجي لمعناها المجازي، المفسَّرِ بإرادة الله للأفعال الاختياريةِ للعباد مبنيةً على أصول المعتزلة أودَها. وأطنبَ فيها بما هو بسطٌ لكلام الكشافِ، ثم صرَّح بالمقصود مقتفيًا له أيضًا فقال: فشبَّه حالَ المكلَّف المتمكنِ من فعل الطاعةِ والمعصيةِ مع الإرادةِ منه أن يطيعَ باختياره بحال المرتجي المخيَّرِ بين أن يفعلَ وأن لا يفعلَ، وكان الظاهرُ أن يقول: فشبَّه حالَ اللهِ الممكنِ بحالِ المرتجي، لأنه أراد بالحالِ الذي هو المشبه به المعنى الحقيقيَّ الذي يعبَّر عنه بالترجِّي، وهو حال قائمٌ بالمرتجي، متعلِّق بالمترجي.
وأراد بالحال الذي هو المشبَّه المعنى المجازي الذي يعبَّر عنه بإرادة الله تعالى، وهو حال قائم بالله تعالى، متعلِّق بالمكلف. والأولى بالحال أن يُضافَ إلى ما قام به. لكن عدلَ عن ذلك وأضافَه إلى المتعلَّق لفائدتينِ:
الأولى: رعايةُ الأدب في ترك التصريحِ بتشبيهِ حال اللهِ تعالى بحال المرتجى.
والثانية: الإشارة إلى وجه الشَّبهِ بين الترجِّي، وتلك الإرادة، فإن المشابهةَ بينهما إنما هي في أن متعلِّقَ كلِّ منها يتمثَّل بين إقدام وإحجامٍ، فقوله: مع الإرادة لله أن يطيعَ متعلِّق بالمتمكِّن لا بقوله: فتُشَبَّهُ ليؤذنَ بتركيبٍ في المشبَّه، وهذه صفتُه أعني المتمكَّن مع ما في حيِّزها تنبيهٌ على وجه الشَّبهِ في جانب المشبَّه، فكذلك قوله [20]: المخيَّر بين أن يفعلَ وأن لا يفعلَ تنبيهٌ عليه في جانب المشبَّه به، ولم يُقْصَدْ بشيء منهما تركيبٌ في أحد
الطرفين، وانتزاعُهُ من متعدد، وحينئذ قد اضمحلَّ ذلك الخيالُ، واتضح المستقيمُ من المحالِ، وإن شئت زيادةَ توضيحٍ في المقال فاعلم أن قوله:{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وأمثالَهُ يحتمل الوجوهَ الثلاثة على قياس ما تقدم.
أما التبعيةُ فقد كشفنا عنها غطاءها فأنت بها خبيرٌ، وأما التمثيليةُ فإن تشبيهَ الهيئة المركبةِ المنتزعةِ من المريدِ والمراد منه، والإرادة بالهيئة المركبة المنتزعة من المرتجى والترجي، فيكون المستعارُ مجموع الألفاظ الدالةِ على الهيئةِ المشبَّهِ بها.
وقد سبق في تحقيقها ما هو كافٍ وشافٍ لمن ألقى السَّمع وهو شهيدٌ. وأما الاستعارةُ بالكناية فبصرُك اليوم فيها حديدٌ، وهي إن كانت هي المختارةَ عند السكاكي حيث ردَّ التبعيةُ إليها مطلقًا فقد ردَّ عليه ذلك صاحب الكشاف بما لم يسبقْه به أحدٌ، وما عليه من مزيد. وسيرد عليك هذا المعنى غيرَ بعيد.
أقول: هاهنا حصحصَ الحقُّ، واتَّضح الصوابُ، وارتفع الحجابُ، فإنه قد نقل عن السكاكي في كلامه هذا أنه صرَّح بأن المشبَّه به والمستعارَ منه أصالةً هو معنى الترجِّي، وهذا متعلِّقُ معنى الحرف ـ أعني (لعل) ـ بلا شك ولا شبهةٍ، فهو بالنسبة إلى (على) الذي هو محلُّ النزاعِ.
ثم نقلَ عنه في هذا الكلامِ الذي كتبناه أنَّه بين معنى الاستعارةِ فقال: شُبِّهَ حالُ المكلَّفِ المتمكِّن من فعل الطاعةِ والمعصية مع الإرادة منه أن يطيعَ باختياره بحالِ المرتجي المخيَّر بين أن يفعلَ وأن لا يفعلَ، فهذا تصريحٌ أوضحُ من الشمس بأن هذه الاستعارةَ تمثيليةٌ، فلم يبق شكٌّ بعد ذكره لتشبيه الحالِ بالحال مع تفسيرِ كلِّ منهما بمتعدِّدٍ بأن هذه استعارةٌ تمثيليةٌ، ثم أخذ في تحريف هذا الكلامِ وإخراجِه عن معناهُ بما لا ينبغي التعرُّضُ لِدَفْعِ، بل يكفي تفويضُه إلى نظر المنصفِ العارفِ بمواقعِ الكلامِ، وأساليبِ المباحثةِ، وآداب المناظرةِ، فإنه عند من كان كذلك غنيٌّ عن البيان والله المستعان.
فأنت ـ أيها الناظر ـ إن كنت لا تقتدي بالرجال، ولا تتقيدُ بالنظر إلى من قال،
فقد حللنا عنك عِقَالَ الإشكال [21]، وإن كنت على غير هذه الصفةِ فانظر أين يقع المحققُ الشريف من العلامة صاحبِ الكشافِ، والعلامةِ السكاكي، وأتباعِهما! كالفاضل اليمني، والسعد في خصوص مسألةِ النزاعِ، ثم في هذه المسألة المماثلةِ لها ـ أعني الاستعارة في (لعل) ـ وأما تجويزه في (لعل) ما جوَّزه في (على) من الوجوه الثلاثة فجوابُه مثلُ ما تقدم، وحاصلُه أن يقال له: قد سلَّمتَ جوازَ التبعيةِ والتمثيليةِ في كلامك هذا، وادَّعيتَ أنَّهما لا يجتمعانِ، ونحن نمنع ذلك. ثم ادَّعيتَ أن التمثيليةَ هاهنا لها ألفاظٌ محذوفةٌ، والحذف خلافُ الأصلِ فما دليلكِ عليه؟
قال: ونحن نوضِّح لك الحالَ في بعض صور الأمثالِ، ليكون ذلك مثالاً تحتذيهِ، ومنارًا تنتحيهِ، فنقول:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} إنْ جُعِلَ المشبَّه به فيه المعنى المصدريُّ الحقيقي للختْمِ والمشبَّه إحداثُ حالةٍ في قلوبِهم، مانعةً من نفوذ الحق فيها كان طرفا التشبيهِ مفردينِ، والاستعارةُ تبعيةً، وهو الوجه الأول في الكشاف، وإن جُعِلَ المشبَّه به هيئةً مركَّبة منتزعةً من الشيء، والختْمُ الواردُ عليه ومنعَه صاحبُه من الانتفاعِ به، والمشبَّه هيئةٌ مركَّبة منتزعةً من القلبِ، والحالةُ الحالّة فيه، ومنعَها صاحبُه الاستنفاعَ في الأمور الدينيةِ كان طرفا التشبيهِ مركبينِ، والاستعارةُ التمثيليةُ قد اقتصرَ فيها ألفاظ المشبَّه به على ما معناه عدَّةُ أمورٍ في تصوير تلك الهيئةِ واعتبارِها، وباقي الألفاظ منويةٌ مرادةٌ، وإن لم تكن مقدَّرةً في نظم الكلام، وليس هناك استعارةٌ تبعية أصلاً على ما تقرر فيما سبق، وهو الوجه الثاني في الكشافِ، فالفائدة في الاقتصار على بعض الألفاظ الاختلافُ: في العبارةِ، وتكثير محتملاتِها بأن تُحْمَلَ تارةً على التبعيةِ، وأخرى على التمثيلِ، ولو صرَّح بالكلِّ تعيَّنتِ التمثيليةُ إلى غير ذلك من الفوائدِ التي ربما لاحتْ لك في مواردها إذا فكرتَ فيها، وإن قصدَ في الآية إلى تشبيهِ قلوبِهم بأشياء مختومةً، وجعلَ ذلك الختْمَ الذي هو من روادف المستعارِ المسكوتِ عنه تنبيهًا عليه، ورمزَ إليه كان من قبيل الاستعارةِ بالكنايةِ، والله المستعان في البداية والنهاية.
أقول: الكلامُ في الختْم المذكور كالكلام في الاستعارةِ، فكل واحد منهما منتزعٌ من أمور متعددةٍ هي المذكورةُ هناك وهنا، وذلك هو المعتبرُ في الاستعارةِ التمثيليةِ، وأيضًا المستعار منه هو معناهما كما تقدَّم تحقيقهُ، وبيانُ النصِّ عليه والتصريحُ به، ولا مانع من تعدُّدِه لا عقلاً ولا لغة، ولا اصطلاحًا [22] كما أنه لا تلازُمَ بين اللفظ والمعنى في التعدد لا عقلاً، ولا لغةً، ولا اصطلاحًا، بل وجودُ المعاني المتعددةِ المدلولِ عليها بالألفاظ المفردةِ معلومٌ بالضرورة كما تقدم تقريرُه غَيْرَ مرَّة
…
قال: ثم إن الشارح ـ يعني السعد ـ بعدما جرى في المباحثة في إبطالنا الاستعارةَ التمثيليةَ التبعيةَ في صورة جزئيةٍ، أعني كلمةَ (على) كما حققنا، وتشبثُه بما لا يُتشبَّثُ به كما مضى فكَّر في نفسه برهةً، وقدَّر وصوَّر ذلك الجزئيَّ في صورة كلية، وقرَّر فقال لا يقال الاستعارةُ التبعيةُ الحرفيةُ لا تكون تمثيليةً، لأنها تلتزم كونَ كلٍّ من الطرفين مركبًا ومتعلِّقُ معنى الحرف لا يكون إلا مفردًا، لأنا نقول: كلتا المقدمتينِ في حيِّز المنعِ، فإن مبنى التمثيل على تشبيهِ الحالةِ بالحالةِ، بل وصْفُ صورةٍ منتزعةٍ من عدَّةٍ أمور بوصفِ صورةٍ أخرى، وهذا لا يوجب إلا اعتبارَ التعدُّد في المأخذ لا فيه نفسِه، ولا ينافي كونَه متعلِّق معنى الحرف. ومن البيِّن في ذلك تقريرُ المفتاحِ لاستعارةِ (لعل) في:{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
هذه عبارتُه بعينها ومَيْنها، وأنت بعد خِبْرتَكَ بتحقيق ما سلفَ في وجوب إفراد متعلِّقاتِ معاني الحروفِ، ووجوبِ تركُّبِ ما يُنتزعُ من أمورٍ متعدِّدةٍ تعلَمُ بسقوط منعيهِ معًا سقوطًا لا مِريةَ فيه ولا خفاء، وعبارتُه هذه مختلَّةٌ أيضًا، فإن قوله: بل وَصْفُ صورةٍ صوابُهُ أن يقال: بل صورةٌ، فإنَّ المشبَّه مثلاً هو الصورةُ المنتزعةُ لا وصفُها، فلفظُ الوصف مُسْتَدَرَكٌ في الموضعين هاهنا بخلافِ ما في عبارة المفتاحِ حيث قال: ومن الأمثلةِ استعارةُ وصفِ إحدى صورتينِ منتزعتين من أمور لوصفِ الأخرى. وقد صرح بذلك حيث قال: شبَّه صورةَ تردُّدِهِ هذا بصورةِ تردُّدِ إنسان لم يدخلْ رومًا للمبالغةِ في
التشبيهِ، فيكسوها وصفُ المشبَّه به من غ ير تعبيرٍ فيه، وأما قوله: ومن البيِّنِ فقد بيَّنا أنه خيالٌ فاسدٌ لا يلتبسُ على من له قدَمُ صِدْقٍ في القواعد البيانية.
واعلم أن الفاضل اليمني توهَّم اجتماعَ التبعيةِ والتمثيليةِ من عبارة المفتاحِ، لكنه لم يصرحْ بأن طرفي تلك التمثيليةِ يكونان منتزعيْنِ من أمور عدَّةٍ فخفى الفسادُ في كلامه، والشارحُ قلَّده في ذلك، وزاده ما أظهر فسادَه، فتثبتْ أنت في رعايةِ القوانينِ، ولا تكن من المقلِّدين الذين يحسبونَ أنهم يحسنون صُنعًا.
أقول: لا يخفى على ذي فهم سليمٍ، وقدمٍ في العلوم قويمٍ أنَّ كلام السعد هذا في غاية [23] المتانةِ والرصانةِ والمطابقةِ لأساليبِ الجدلِ، والمناسبةِ لقواعدِ المناظرةِ، فإنه قال لا يُقالُ: الاستعارةُ التبعية الحرفيةُ لا تكون تمثيليةً، لأنها تلتزمُ كونَ كلٍّ من الطرفينِ مركبًا، ومتعلَّقُ معنى الحرف لا يكون إلا مفردًا، لأنا نقول: كلتا المقدمتينِ في حيِّز المنع فهذا الكلام لا يشكُّ مَنْ نظَرَ فيه أنه قد جرى من مسالك الإنصاف في أوضح مسلكٍ، وأبينِ طريقٍ، لأنه حاصلُ ما اعترضَ الشريفُ عليه، فإنه بنى اعتراضَهُ على دعوى كون متعلَّق معنى الحرف مفردًا، وعلى دعوى كون كلٍّ من طرفي الاستعارةِ التمثيليةِ مركَّبًا، ولا يشكُّ عارفٌ أنه يصدُقُ على كلِّ منهما اسمُ الدعوى في مصطلح علم المناظرةِ، فأجابه السعد بالمنعِ الذي هو بمعنى طلب الدليل فلم يأت الشريف في هذا الكلام الطويل الذي كتبناه وتعقبناه بشيء يكون دليلاً. ولا نَقَلَ عن أهل الفنِّ ما يشهُدُ لما ادَّعاه حتى يُحمَلَ كلامُهُ علمًا على تقليد أهل فنِّ البيان.
وغايةُ ما ساقه في هذه الأبحاثِ هو مجرَّدُ الدعاوى، كما بينه في كل موضع، ولم يأتِ هنا في جواب المنعين إلا باتهام المقصرينَ أنهما من [ .... ](1) ثم زعم أنه قد أسلفَ ما يجب العلم بسقوط هذين المنعينِ سقوطًا لا مريةَ فيه ولا خفاء، ولست أدري كيفَ وقعَ هذا المحققُ الكبير والعلامةُ النِّحرير في مثل هذه التعسُّفات الخارجة عن الأساليب المعتبرة!
(1) كلمة غير واضحة في المخطوط.
وأسعدُ الناس بالحقِّ في مثل فنِّ البيان هو من وافق القواعدَ المعتبرةَ عند أئمته، وإنَّ من أعلاهم كَعْبًا، وأرفعِهم فهمًا، وأحقَّهم بالاقتداء به، والمشي على طريقتهِ، والتقيدِ بأقواله
…
إلى تقريره الإمام السكاكي، والإمام الزمخشري. وقد حكيناه لك عنهما ما هو شاهدُ صدقٍ على أن السعد هو أسعدُ الرجلين بالحق، وأولاهما بمصطلح أهل الفن، فإن كان الاعتبارُ في فن البيان بالأكابر من أئمته فلا أكبر من هذين الإمامين فقد وقع الاتفاق على أنهما قد عضّا على دقائقِه وحقائقِه بأقوى لِحْيَيْن، وإن كان [24] الاعتبار بموافقةِ علمِ اللغةِ لكون موضوعِ هذا الفنِّ هو دقائق العربيةِ وأسرارُها فقد عرفتَ من جميع ما سلفَ أنه لم يأتِ الشريفُ في مباحثته هذه بشيء منها تقومُ به الحجةُ على خَصْمِه، وإن كان الاعتبارُ بالاصطلاحِ الواقع لأهل الفنِّ في الكتب المدوَّنة فيه.
فانظر هل تجدُ فيها شيئًا يشهدُ لما ذكره، ويدلُّ عليه! ومع هذا فالفاضلُ اليمني المعروفُ في هذه الديار بالعلويِّ قد صرَّح بما قدمنا ذِكْرَهُ من أنه قد دلَّ الاستقراءُ على أنَّ الاستعارةَ التبعيةَ تمثيليةٌ، وهو غيرُ متَّهم فيما ينقلُه عن أهل الفنِّ، فإنه من أئمته
…
فلو فرضنا أنه لم يكن في المقام شيء من هذه الأمور الشاهدةِ لما قاله السعد بالصحةِ لكان قيامُهُ قيامَ المنعِ يرتضيهِ المنصفُ على فرض عجز المانعِ عن نقض ذلك الدليل أو معارضتهِ. ثم انظر كيف صنع المحققُ الشريفُ رحمه الله في كلامه هذا، فإنه لما جعل سقوط المنعينِ أمرًا معلومًا لا مريةَ فيه ولا خفاء كرّ على مناقشة العبارةِ بما لو كان صحيحًا لم يغنِ عنه شيئًا في محل النزاعِ، مع أن هذه العبارةَ المناقشةَ لا فرقَ بينهما، وبين عبارة السكاكي، فإن لفظ عبارة السكاكي هكذا، ومن الأمثلة استعارةُ وصفِ إحدى صورتينِ منتزعتينِ لوصف صورةٍ أخرى
…
انتهى.
وهذه العبارة مثلُ عبارة السعدِ، وقد اعترفَ الشريفُ في كلامه هذه بعبارةِ وصفٍ، لكنه حذفَ لفظَ صورةٍ. ثم اعتذرَ عن نقل السعد لعبارة صاحب المفتاح بأنه خيالٌ فاسدٌ ولو كان بمثل هذه المراوغاتِ يُؤْكَلُ الكتِفُ لَدَفَعَ من شاء ما شاءَ، وتزلزلتِ المعارفُ
العلميةُ، ولم ينفعُ محقٌّ بما في يده من الحقِّ، ولا افتضحَ مبطلٌ بما يزخرفه فيه من الباطلِ. فعليك أيُّها الناظر في هذا المقام بتدبُّر ما اشتملتْ عليه هذه المباحثةُ بين هذين الإمامينِ، فقد أسفر الصبحُ لذي عينين. (1)
(1) قال الألوسي في (روح المعاني)(1/ 124){عَلَى هُدًى} استعارة تمثيلية تبعية حيث شبهت حال أولئك ـ وهي تمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به بحال من اعتلى الشيء وركبه ثم استعير للحال التي هي المشبه المتروك كلمة الاستعلاء المستعملة في المشبه به وإلى ذلك ذهب السعد.
وأنكر السيد اجتماع التمثيلية والتبعية لأن كونها تبعية يقتضي كون كل من الطرفين معنى مفردًا لأن المعاني الحرفية مفردة وكونها تمثيلية يستدعي انتزاعها من أمور متعددة وهو يستلزم تركبه، وأبدى في الآية ثلاثة أوجه:
1) أنها استعارة تبعية مفردة بأن شبه تمسك المتقين بالهدى باستعلاء الراكب على مركوبه في التمكين والاستقرار فاستعير له الحرف الموضوع للاستعلاء.
2) أن يشبه هيئة منتزعة من المتقي والهدى وتمسكه به بالهيئة المنتزعة من الراكب والمركوب واعتلائه عليه فيكون هناك استعارة تمثيلية تركب من كل طرفيها لكن لم يصرح من الألفاظ التي بإزاء المشبه به إلا بكلمة (على) فإن مدلولها هو العمدة في تلك الهيئة وما عداه تابع له ملاحظ في ضمن ألفاظ منوية وإن لم تقدر في نظم الكلام فليس في (على) استعارة أصلاً بل هي على حالها قبل الاستعارة كما إذا صرح بتلك الألفاظ كلها.
3) أن يشبه الهدى بالمركوب عن طريق الاستعارة بالكناية وتجعل كلمة (على) قرينة لها على عكس الوجه الأول.
وهذا الخلاف بين الشيخين في هذه المسألة مما سارت به الركبان وعقدت له المجالس وصنفت فيه الرسائل. وأول ما وقع بينهما في مجلس تيمور وكان الحَكَمُ نعمان الخوارزمي المعتزلي فَحَكَمَ والظاهر أنه لأمر ما للسيد والعلماء إلى اليوم فريقان في ذلك ولا يزالون مختلفين فيه إلا أن الأكثر مع السعد.
وأجابوا عن شبهة السيد بأن انتزاع شيء من أمور متعددة يكون على وجوه شتى فقد يكون من مجموع تلك الأمور كالوحدة الاعتبارية وقد يكون من أمر بالقياس إلى آخر كالإضافات وقد يكون بعضه من أمر وبعضه من آخر وعلى الأولين، لا يقتضي تركيبه بل تعدد مأخذه فيجوز حينئذ أن يكون المدلول الحرفي لكونه أمرًا إضافيًا كالاستعلاء حالة منتزعة من أمور متعددة تمثيلية ولعل اختيار القوم في تعريف التمثيلية لفظ الانتزاع دون التركيب يرشد المنصف إلى عدم اشتراط التركيب في طرفيه وإلا لكان الأظهر لفظ التركيب وقد أشبعنا القول في ذلك وذكرنا ما له وما عليه في كتابنا
ـ الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية.
فرغ من تحريره مؤلّفه محمد بن علي الشوكاني ـ غفر الله لهما ـ في ليلة الأحد لسبع وعشرين خلتْ من شهر رجب سنة 1221. حامدًا لله، ومصليًا مسلمًا على رسوله وآله.